الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر المصيبة: إنّا لله وإنا إليه راجعون. وفي موضع ذكر النّعمة: الحمد لله خالصا، والشّكر لله واجبا، وما شاكل ذلك. قال في «موادّ البيان» : وإذا ذكر البلوى شفعها بالاستعانة بالله تعالى والرّجوع إليه فيها، وردّ الأمر إلى حوله وقوّته. قال ابن عبد ربه «1» : فإن هذه المواضع مما يتعيّن على الكاتب أن يتفقّدها ويتحفّظ فيها، فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كلّ معنى في موضعه، ويعلّق كلّ لفظ على طبقه في المعنى.
ومما يلتحق بذلك أيضا أنه إذا ذكر الرئيس في أثناء المكاتبة، دعا له، مثل أن يقول عند ذكر السلطان: خلّد الله ملكه. وعند ذكر الأمير الكبير: عزّ نصره، أو: أعزّ الله تعالى أنصاره. وعند ذكر الحاكم: أيّد الله تعالى أحكامه، وما أشبه ذلك مما يجري هذا المجرى.
الأمر الثاني- أن يتخطّى التصريح إلى التلويح
والإشارة إذا ألجأته الحال إلى المكاتبة بما لا يجوز كشفه وإظهاره على صراحته، مما في ذكره على نصّه هتك ستر، أو في حكايته اطّراح مهابة السلطان، وإسماعه ما يلزم منه إخلال الأدب في حقه؛ كما لو أطلق عدوّه لسانه فيه بلفظ قبيح يسوءه سماعه. قال في «موادّ البيان» : فيحتاج المنشيء إلى استعمال التّورية «2» في هذه المواضع، والتلطّف في العبارة عن هذه المعاني، وإبرازها في صورة تقتضي توفية حقّ السلطان في التوقير والإجلال والإعظام، والتنزيه عن المخاطبة بما لا يجوز إمراره على سمعه، وإيصال المعنى إليه من غير خيانة في طيّ ما لا غنى به عن علمه. قال: وهذا مما لا يستقلّ به إلا المبرّز في الصناعة، المتصرّف في تأليف الكلام.
الأصل الثامن (أن يعرف مقدار فهم كل طبقة من المخاطبين في المكاتبات من اللسان فيخاطب كلّ أحد بما يناسبه من اللفظ، وما يصل إليه فهمه من الخطاب)
.
قال أبو هلال العسكري في كتابه «الصناعتين» : أوّل ما ينبغي أن تستعمل في كتابك مكاتبة كل فريق على مقدار طبقتهم في الكلام وقوّتهم في المنطق. قال:
والشاهد على ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أراد أن يكتب إلى أهل فارس، كتب إليهم بما يمكنهم ترجمته فكتب إليهم: «من محمد رسول الله إلى كسرى أبرويز عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافّة لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ
«1» فأسلم تسلم، وإن أبيت فإثم المجوس عليك» فسهّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الألفاظ غاية التسهيل حتّى لا يخفى منها شيء على من له أدنى معرفة بالعربيّة.
ولما أراد «2» أن يكتب إلى قوم من العرب، فخّم اللفظ لما عرف من قوّتهم على فهمه، وعادتهم بسماع مثله؛ فكتب لوائل «3» بن حجر الحضرميّ:
«من محمد رسول الله إلى الأقيال «4» العباهلة «5» من أهل «6» حضر موت بإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة. على التّيعة «7» الشاة، والتّيمة «8» لصاحبها، وفي السّيوب «9» الخمس، لا خلاط «10» ولا وراط «11» ولا شناق «12» ولا شغار «13» ، ومن
أجبى «1» فقد أربى، وكلّ مسكر حرام» .
وقد ذكر العسكريّ أيضا في باب الإطناب ما يحسن أن يكون شاهدا لذلك من القرآن الكريم- فقال: قد رأينا أنّ الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي كما في قوله تعالى خطابا لأهل مكة إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
«2» وقوله: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
«3» وقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
«4» في أشباه كثيرة لذلك. وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعل الكلام مبسوطا، كما في سورة طه وأشباهها، حتّى إنه قلّما تجد قصّة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطوّلة مشروحة ومكررة في مواضع معادة، لبعد فهمهم، وتأخّر معرفتهم.
قال في «موادّ البيان» : فيجب على الكاتب أن يتنقّل في استعمال الألفاظ على حسب ما تقتضيه رتب الخطاب والمخاطبين، وتوجبه الأحوال المتغايرة، والأوقات المختلفة؛ ليكون كلامه مشاكلا لكلّ منها، فإنّ أحكام الكلام تتغيّر بحكم تغيّر الأزمنة والأمكنة ومنازل المخاطبين والمكاتبين.
قال: ولتحرّي الصّدر الأوّل من الكتّاب إيقاع المناسبة بين كتبهم وبين الأشياء المتقدّمة الذكر استعمل كتّاب الدولة الأمويّة من الألفاظ العربية الفحلة، والمتينة الجزلة، ما لم تستعمل مثله الدولة العباسيّة؛ لأن كتّاب الدولة الأمويّة
قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتها، حتّى عدّت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها، والأمكنة التي نزلها ملوكهم من بلاد العرب، والرجال الذين كانت الكتب تصدر إليهم؛ وهم أهل الفصاحة واللّسن والخطابة والشّعر.
أما زمان بني العباس، فإن الهمم تقاصرت عمّا كانت مقبلة على تطلّبه فيما تقدّم من العلوم المقدّم ذكرها، وشغلت بغيرها من علوم الدين؛ ونزل ملوكهم ديار العراق وما يجاورها من بلاد فارس، وليس استفاضة لغة العرب فيها كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. ومن المعلوم أن القوم الذين كانوا يكاتبون عنهم لا يجارون تلك الطبقة في الفصاحة والمعرفة بدلالات الكلام؛ فانتقل كتّابها من اللفظ المتين الجزل، إلى اللفظ الرّقيق السّهل، وكذلك انتقل متأخّر والكتّاب عن ألفاظ المتقدّمين إلى ما هو أعذب منها وأخفّ، للمعنى المتقدّم ذكره.
قال: وحينئذ ينبغي للكاتب أن يراعى هذه الأحوال، ويوقع المشاكلة بين ما يكتبه وبينها، فإذا احتاج إلى إصدار كتاب إلى ناحية من النواحي، فلينظر في أحوال قاطنيها؛ فإن كانوا من الأدباء البلغاء العارفين بنظم الكلام وتأليفه، فليودع كتابه الألفاظ الجزلة، التي إذا حلّيت بها المعاني زادتها فخامة في القلوب، وجلالة في الصّدور، وإن كانوا ممن لا يفرّق بين خاص الكلام وعامّه، فليضمّن كتابه الألفاظ التي يتساوى سامعوها في إدراك معانيها، فإنه متى عدل عن ذلك ضاع كلامه، ولم يصل معنى ما كتب فيه إلى من كاتبه؛ لأن الكلام البليغ إنما هو موضوع بإزاء أفهام البلغاء والفصحاء، فأما العوامّ والحشوة «1» ، فإنما يصل إلى أفهامهم الكلام العاطل من حلى النّظم، العاري من كسوة التأليف، فيجب على الكاتب أن يستعمل في مخاطبة من هذه صورته أدنى رتب البلاغة وأقربها من أفهام العامة والأمم الأعجميّة إذا كتب إليهم.
ثم قال: فأما الكتب المعتدّة عن السلطان، فإنّ منها كتب الفتوحات
والسلامات ونحوها، وهي محتملة للألفاظ الفصيحة الجزلة، والإطالة القاضية بإشباع المعنى، ووصوله إلى أفهام كافّة سامعيه من الخاص والعام، ومنها كتب الخراج وجبايته وأمور المعاملات والحساب، وهي لا تحتمل اللفظ الفصيح، ولا الكلام الوجيز؛ لأنها مبنيّة على تمثيل ما يعمل عليه، وإفهام من لا يصل المعنى إلى فهمه إلا بالبيان الشافي في العبارة. ومنها مخاطبته السلطان عن نفسه، فيجب فيها مخاطبته على قدر مكانه من الخدمة من الألفاظ المتوسّطة، ولا يجوز أن يستعمل فيها الفصيحة التي لا تحتمل من تابع في حقّ متبوع؛ لما فيه من تعاطي التفاصح على سلطانه، وهو غير جائز في أدب الملوك، وكذلك لا يجوز فيه تعاطي الألفاظ المبتذلة الدائرة بين السّوقة؛ لما في ذلك من الوضع من السلطان بمقابلته إيّاه بما لا يشبه رتبته.
وأما الكتب الإخوانيّات النافذة في التّهاني والتّعازي، فإنها تحتمل الألفاظ الغريبة القويّة الأخذ بمجامع القلوب، الواقعة أحسن المواقع من النّفوس؛ لأنها مبنيّة على تحسين اللفظ، وتزيين النظم؛ وإظهار البلاغة فيها مستحسن واقع موقعه.
قلت: والذي تراعى الفصاحة والبلاغة فيه من المكاتبات عن الأبواب السلطانية في زماننا مكاتبات ملوك المغرب كصاحب تونس، وصاحب تلمسان، وصاحب فاس، وصاحب غرناطة من الأندلس، وكذلك القانات العظام من ملوك المشرق ومن يجري هذا المجرى، ممن تشتمل بلاده على العلماء بالبلاغة وصناعة الكتابة. ويظهر ذلك بالاستخبار عن بلادهم، وبالاطّلاع على كتبهم الصادرة عن ملوكهم إلى الأبواب السلطانية، بخلاف من لا عناية له بذلك كحكّام أصاغر البلدان وأصحاب اللّغات العجمية من الرّوم والفرنج والسّودان ومن في معناهم؛ فإنه يجب خطابهم بالألفاظ الواضحة، إلا أن يكون في بعض بلادهم من يتعاطى البلاغة من الكتّاب ووردت كتبهم على نهجها فإنه ينبغي مكاتبتهم على سنن البلغاء.