الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستثنى من ذلك صورٌ:
أحدها: إذا وجبَ لرقيقِهِ شيءٌ قبلَ أن يكونَ رقيقًا، بأنْ جنَى مسلمٌ أو ذميٌّ أو معاهدٌ على حرٍّ ذميٍّ أو معاهدٍ بقطعِ طرفه، ثم نقضَ المجنيُّ عليه العهد، والتحقَ بدارِ الحربِ، ثم استرقَّ، ووصلَ ملكه إلى حاكمٍ فادَّعى عند الحاكمِ المذكورِ على الجاني الذي جنَى عليهِ بالجنايةِ الصَّادِرَةِ في حالِ حريَّتِهِ، فإنَّ الحاكم المذكور يسمع الدعوى، ويحكمُ على الجاني بالبيِّنةِ، أو بإقرارِهِ بما يقتضيه الحالُ. قال شيخُنا: وإنما جوزنا له ذلك؛ لأن المدعي بالنسبة إلى الجناية المذكورَةِ كحرٍّ أو عبدِ غيرِهِ، ومجردُ كونِهِ مالكًا لا يمنعُ الحكمَ في هذه الصُّورَةِ، وأطالَ شيخُنا الكلامَ على ذلكَ في تصحيح "المنهاجِ".
الثانيةُ: العبدُ الموصَى بإعتاقِهِ الخارج من الثُّلثِ إذا قلنا إنَّ كسْبَهُ له دونَ الوارث، وكان الوارثُ حاكمًا فادَّعى العبدُ عندَهُ فإنَّه تسمع دعواه، ويُحكم لهُ، فإنَّه لا حقَّ لَهُ في الكسبِ واحتمالِ أن يموتَ، فينتقلُ له بعيد لا يمنعُ من الحكمِ، وهكذا المنذورُ إعتاقُه، وهي صورةٌ ثالثةٌ.
* * *
ولا ينفذُ حكمُهُ لشريكِهِ في المشتركِ، إلَّا إذا حُكمَ له في المشتركِ بشاهدٍ ويمينه، فإنَّه يجوزُ أن يحكمَ حينئذٍ، ولا يشاركُه فيه شريكه، ولا ينفذُ حكمُهُ لأصلِهِ ولا فرعِهِ على النصِّ (1)، إلَّا في الصُّورِ التي ينفذ حكمه فيها لنفسهِ، فإنَّه ينفذُ حكمُهُ فيها لهما، ويحكمُ له ولهؤلاءِ الإمامُ أو قاضٍ آخر، أو نائبِهِ على الصحيحِ، أو المحكم، ولا يحكم على عدوِّه، والمدارُ على أنَّ القاضيَ يقضي لمن يشهدُ لَهُ، وعلى من يشهدُ عليهِ.
(1)"منهاج الطالبين"(ص 339).
وإذا أقرَّ المدعى عليهِ أو نكَلَ (1) فحلفَ المدَّعي، أو أقام بينة وسأل القاضي أن يشهدَ على إقرارِه عنده أو يمينه، أو الحكم بما ثبتَ والشهادةَ بهِ لزمَهُ، وإن سأل المدعى عليه القاضي الإشهاد بمالِهِ في مصلحةٍ فإن حلفه المدعي فسأل المدعى عليه القاضي في الإشهادِ بما جرى ليكونَ حجةً له، فلا يطالبه مرة أخرى بالحلف لزمه إجابته.
وإن سأل المدعي القاضي أن يكتبَ له محضرًا بما جرَى من غيرِ حكمٍ، أو سجلًا بما حكمَ استحبَّ إجابتُهُ، وقيل: يجبُ إذا كانَ هناكَ قرطاسٌ من بيتِ المالِ، أو أتى الطالبُ به، أو تبرَّعَ به متبرِّعٌ، وإلَّا فلا يأتي وجه الإيجابُ. ويُستحبُّ كتابةُ نسختين: إحداهما له، والأخرَى تحفَظُ في ديوانِ الحكمِ.
وإذا حكمَ بنصٍّ ثم بانَ أنَّه منسوخٌ كانَ منقوضًا، وكذا لو حكَمَ بعمومِ نصٍّ ثُمَّ بانَ أن تلكَ الصورةَ المحكومَ فيها بمقتضَى العمومِ خُصَّتْ بدليلٍ، فإنَّهُ منقوضٌ أيضًا، وكذا لو حكَمَ بالاجتهادِ، ثمَّ بانَ خلافُهُ بنصِّ كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ أو قياسٍ جليٍّ، وكذا إذا خالفَ عمومَ كتابٍ أو سنَّةٍ كانَ قضاؤهُ منقوضًا من غيرَ احتياجٍ إلى نقضٍ لكونِهِ ومعَ فِي نفسِهِ غيرَ معتبَرٍ.
ويلزمُ القاضي تعريفُ الخصمينِ صورةَ الحالِ ليترافعَا إليِهِ فيُنقضُ الحُكمُ، وإنْ عَلِمَا أنَّهُ بانَ له الخطأُ على الصَّحيحِ، هذا في حقُوقِ الآدميينَ، أمَّا ما يتعلَّقُ بحدودِ اللَّهِ تعالَى، فيبادِرُ إلى تدارُكِهِ إذا بانَ له الخطأُ (2).
وأمَّا الأبضاعُ، فإذا حكَمَ القاضي بنكاحٍ ثم بانِ له الخطأ فيهِ بواحدٍ من الطُّرقِ المذكورةِ التي يتبيَّنُ بِهَا أنَّ حُكمَهُ صدرَ باطلًا لزمَهُ المبادَرَةُ إلى التفريقِ بينَ الزوجينِ (3).
(1)"منهاج الطالبين"(ص 339).
(2)
"روضة الطالبين"(11/ 150)
(3)
نقله الرملي الكبير في حاشيته على "أسنى المطالب"(4/ 304).
وحكمُ القاضِي الإنشاء، كفسخِ النِّكاحِ، بطريقٍ من الطُّرقِ المسوغةِ، كذلكَ إنْ ترتَّبَ على أصلٍ صادقٍ ولم يكنْ في محلِّ اختلافِ المجتهدينَ فإنَّه ينفذُ ظاهرًا وباطنًا قطعًا، وإن كانَ هذا الإنشاء المترتبُ على أصلٍ صادقٍ في محلِّ اختلافِ المجتهدينَ نفذَ ظاهرًا، وكذا باطنًا على الأصحِّ، وإن ترتَّبَ على أصلٍ كاذبٍ لم ينفذ باطنًا. وإن لم يكنْ حُكمُ القاضي إنشاء، وإنما هو تنفيذٌ لما قامتْ بهِ الحُجَّةُ وكانتِ الحُجَّةُ موافقة لما في الباطنِ نفذَ ظاهرًا وباطنًا. وإن لم يكنْ موافقةً لما في الباطِنِ فإنَّه ينفذُ ظاهرًا لا باطنًا (1).
ولا يقضِي بما يعلمُ خلافَهُ، لكنْ لو أقرَّ الخصمُ عندَ القاضِي بدينٍ قد علمَ القاضِي أنَّ المقرَّ له أبرَأَهُ وكانَ ذلكَ الإبراءُ بحضورِ المقرِّ، وذكَّرَهُ القاضِي بهِ أو بغيرِ حضورِهِ وعَرَّفهُ القاضِي بالإبراءِ، فقالَ المقرُّ: أعرفُ ما صدرَ منهُ من الإبراءِ، ومع ذلكَ فدينُهُ باقٍ عليَّ، فإنَّ القاضِي يقضِي على المقرِّ بما أقرَّ بِه. وإنْ كانَ على خلافِ ما علِمَهُ القاضِي؛ لأنَّ الخصمَ قد أقرَّ بما يرفعُ علمَ القاضِي (2).
ولو رأى الحاكمُ شخصًا يزنِي، وعلم زناهُ، وقذَفَهُ شخصٌ، وثبتَ عندَ القاضِي أنَّه قذفَهُ القذفَ الموجبَ للحدِّ وطلبَ المقذوفُ من القاضِي أن يحدَّ القاذِفَ. قال شيخُنا: فالذي أجبتُ فيها أنَّ الحاكمَ يُجيبُهُ لذلكَ؛ لأنَّ القاذِفَ إذا لم يأتِ بالشهداء كاذبٌ في حكمِ اللَّهِ تعالى، فيمامُ عليه الحدُّ، وحدودُ اللَّهِ لا يقضي فيها بعلمِهِ، فيقضي فيها بخلافِ علمِهِ.
كذا استثني هاتينِ الصُّورتينِ شيخُنا، وقال: إنَّه لم يرَ مَن تعَرَّضَ لهُما.
وينبغي أَنْ يكونَ المرادُ هُنا بالعلمِ ما هو الأعمُّ من المستيقَنِ والظَّنِّ
(1)"أسنى المطالب"(4/ 304)، و"الغرر البهية"(5/ 241).
(2)
"مغني المحتاج"(6/ 296).
المؤكَّد، وآخرُ كلامِ الرَّافعيِّ يقتضي قصره على الثاني، وأظهَرُ الأقوالِ أنَّه يقضي بعلمِهِ إلَّا في عقوبةِ اللَّهِ تعالى، ويستثنى ما علمه من جهةِ التواتُرِ الظَّاهِرِ، فإنَّه يقضي فيه بعلمِهِ على الطريقةِ المقطوعِ بها، وكذلكَ الجرحُ والتَّعديلُ فإنَّه يقضِي به على الطريقةِ المقطوعِ بِها.
وإذا ظَهَرَ للقاضِي من الخصمِ في مجلسِ الحُكم (1) ما يقتضي تعزيرًا عزَّرَهُ، وهذا من القضاءِ بالعلمِ، وليسَ كما لو أقرَّ؛ لأنَّ الإقرارَ مستند الحكمِ.
وإذا صَدَرَ منهُ ما يُوجبُ الحدَّ في مجلسِ الحُكم على رءوسِ الأشهادِ فإنَّهُ يُقيمُ عليه الحدَّ كما إذا ارتدَّ في مجلسِ الحُكمِ، فإنَّ القاضِي يحكُمُ عليهِ مستندًا لإصرارِهِ على الرِّدَّةِ بعد استتابتهِ بضربِ عنقِهِ.
وكذا لو شَرِبَ الخمرَ في مجلسِ الحُكمِ، أو زنا، وكذا إذا اعترَفَ على مَن عليه الحدُّ بالحدِّ ولم يرجعْ عَن إقرارِهِ، فإنَّ القاضِي يقضي فيه بعلمِهِ سواء اعترفَ بحضرةِ الناس أم اعترفَ سرًّا.
وإذا علمَ القاضِي من مكلَّفٍ أنَّه أسلمَ وظهرَ منهُ الرِّدَّةُ فقد أفتى شيخُنا بأنَّ القاضِي يقضِي بعلمِهِ بالإسلامِ، فإنْ أسلَمَ الرجلُ فذاكَ، ويؤمرُ بقضاءِ ما فاتَ من الصلواتِ المفروضاتِ في زمنِ الرِّدَّةِ المذكورةِ، ويفرَّقُ بينَهُ وبينَ زوجَتِهِ التي لم يدخُلْ بِهَا، وكذا التي دخلَ بها إن انقضَتْ عدَّتُها في زمانِ ردَّتِهِ، ولو ماتَ له قريبٌ أو عتيقٌ أو زوجةٌ فلا ميراثَ لَهُ من واحدٍ من هؤلاءِ.
وإن لم يسلمْ وأصرَّ على الكُفرِ فيضربُ عنقُهُ بقضاءِ القاضِي بعلمه بإسلامِهِ، وذلك يقتضي بإظهارِ الكُفرِ أنَّه مرتدٌّ، فيقتلُ بكفرِهِ مترتبًا على حُكمِ القاضِي بعلمِهِ بإسلامِهِ.
(1)"نهاية المطلب"(18/ 470).
وإذا رأى ورقةً فيه حكمُهُ أو شهادتُهُ، أو شهد شاهدانِ أنَّك حكمتَ بكذَا أو شهدتَ بكذا يعملْ بِهِ، ولم يشهدْ حتَّى يتذكَّرَ هذا في حقِّ غيرِهِ، أما في حقِّ نفسِهِ فيجوزُ أن يعملَ به، وإن لم يتذكَّرْ.
فإذا رأَى ورقةً فيها حكمُهُ بعينٍ في يدِ شخصٍ، أو دينٍ على شخصٍ لأخيهِ، أو لعتيقِهِ، أولغيرهما، ممن ينفذُ حكمهُ لهُ، وماتَ المحكومُ لَهُ وورثَهُ الحاكمُ، ووجد العينَ في يدِ ذلكَ الشَّخصِ فطالبَهُ بها فأنكرَ وردَّ اليمينَ على الوارثِ الحاكمِ، فإنَّهُ يسوغُ لهُ أن يحلفَ بمقتضَى ما وجدَهُ من حكمِهِ، وكذلك لو طالب المديونَ بالدَّينِ فأنكرَ ونكَلَ عنِ اليمينِ، وردها على المدعي.
وكذلكَ لو أقامَ شاهدًا بذلكَ، فإنَّه يجوزُ أن يحلفَ معه في الصورتينِ، ولا يختصُّ ذلكَ بمن ورثَهُ، بل لو حكمَ لشخصٍ أجنبيٍّ بذلك، واشترى منهُ العينَ أو أحالَهُ بالدينِ، فإنَّه يأتِي فيه ما تقدَّم من الحلفِ عندَ النُّكولِ، ورد اليمينِ وعند شهادةِ الشَّاهدِ (1).
وكذلكَ إذا شهِدَ شاهدَانِ أنَّكَ حكمتَ بكذا أو شهدتَ بكذا، فإنَّه يجوزُ أن يحلفَ كما تقدَّمَ؛ لأنَّه أقوى من مجردِ وجودِ الورقةِ المتضمِّنة لما ذكرَ، ولَهُ الحلفُ على استحقاق حقٍّ أو أدائِه اعتمادًا على خطِّ مورثِه أو خطِّ نفسِهِ، والظنُّ المؤكَّد الحاصل من نكولِ الخصمِ، أو شهادةِ الشاهدِ الواحدِ كافٍ في ذلكَ من غير احتياجٍ إلى الخطِّ (2).
وتجوزُ روايةُ الحديثِ بخطٍّ محفوظٍ عندَهُ الأصح (3)، قاله شيخُنا، وكذا غير محفوظٍ بالمعتمدِ عندَ العلماء قديمًا، وحديثًا العملُ بما يوجدُ من
(1)"منهاج الطالبين"(ص 339).
(2)
"نهاية المحتاج"(8/ 260).
(3)
كذا، ولعلَّه:"على الأصحِّ".