الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الديات
(1)
هي جمعُ ديةٍ، وأصلُها وَدْيةٌ، فالهاء عوضٌ من الواوِ، وهي مشتقةٌ من الودي، وهو دفعُ الديةِ كالزِّنةِ من الوزنِ، يقول: وديتُ القتيلَ ودْيًا وديةً، أعطيتُ دِيَتَهُ، واتديتُ إذا أخذتُ ديتَهُ.
والديةُ مصدرٌ واسمٌ للمالِ المأخوذِ عن النفسِ الحرةِ المقتولةِ، وأطرافِها المجنيِّ عليها، هذَا هوَ المدلولُ اللغويُّ.
وهي في الشرعِ كذلكَ مع اعتدادِ أَنْ يكونَ تلكَ النفسُ وأطرافُها مضمونةً
(1)"روضة الطالبين"(9/ 255).
على الجاني، واختُصَّ ما يجبُ في الجنينِ باسم الغرَّةِ وما يجبُ في العبدِ وأطرافِهِ بالقيمةِ.
والأصلُ فيها من الكتابِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الآية.
ومن السُّنَّةِ ما رواهُ النسائيُّ والحاكمُ وابنُ حبَّانَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كتبَ لعمرِو بنِ حزمٍ كتابًا إلى أهلِ اليمنِ فيهِ ذكر الفرائضِ والدياتِ (1).
والإجماعُ منعقدٌ على تعلُّق الديةِ بالقتلِ، يجبُ في قتلِ الحرِّ المستقرّ حريتُهُ، المسلم بنفسِهِ أو بالتبعيةِ، الذكرُ المضمونُ مائةٌ من الإبل مثلثةٌ في العمدِ، إذا لم يكنْ في قاتلِهِ رقٌّ، فإنْ كانَ رقيقا أو مبغَضًا لم يكنْ في قتلِ الحرِّ المسلمِ حينئذٍ مائةٌ من الإبلِ، بل الواجبُ إذا قتلهُ رقيقٌ لغيرهِ أقل الأمرينِ من قيمةِ الرقيقِ، والديةُ على أظهرِ القولينِ وكذا مكاتبُ غيرِه ومكاتبُ نفسهِ فإذا كانت القيمةُ أقلُّ من الديةِ لم تجبِ الديةُ.
وأمَّا المبعضُ المملوكُ باقِيهِ لغير القتيل وأنه يجب على المبعض لجهة الحرية القدر الَّذي يناسب الحريةُ من نصفٍ أو ثلثٍ، وأما القدرُ الرقيقُ فيتعلقُ بهِ بقدرِةِ أقلُ الأمرينِ من الحصةِ من الديةِ، والحصة من القيمةِ، فإذا كانت الحصةُ من القيمةِ أقلَّ فَهوَ الواجبُ، وأما إذا كانَ القاتلُ عبدَ القتيلِ، فلا يجبُ عليه شيءٌ منَ المالِ، ولا يتعلقُ بهِ، ولو كان مرهونًا على الأظهرِ.
(1) رواه النسائي (8/ 59 - 60) والحاكم (1/ 552) وقد اختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث، وراجع تخريجه والتعليق عليه مطولًا في تعليقي على "القواعد النورانية الفقهية" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولو أنَّ إنسانًا أعتقَ في مرضِ موتِهِ عبدًا، ثمَّ إنَّ المريضَ قتلَ العتيقَ ثم ماتَ المريضُ، ولو أوجبنا دية القتيلِ فَخَرج عنْ أن يُعتقَ شيءٌ منه، فههنا لا تجبُ الديةُ للدَّوْرِ، فيخرجُ بذلكَ من أن يكونَ مضمونًا على المريضِ في هذهِ الحالةِ.
وكلُّ من لم يكنْ مضمونًا على قاتلِهِ لا ضمانَ عليهِ، كالباغي إذا قتلَ العادلَ فِيِ حالِ القتالِ كالذي له شوكةٌ بلا تأويل، والمُرتدون الذينَ لهم شوكة كا لك على ما رَجَّحَهُ بعضهم خِلافًا للبغويِّ.
وقولُنا "المستقرُّ حريُتُه": أخرجنا به من حُكِمَ بحريتِهِ ظاهرًا كالعتيقٍ في مرضِ الموتِ، فإنه محكوم بحريته الآنَ ظاهرًا.
وإذا قتلَهُ قاتلٌ بعدَ موتِ السيدِ، ثم لم يحصلْ عتقُ شيءٍ منه لوجودِ الدَّيْنِ وعدمِ الإجازةِ من أصحابِ الديونِ، أو لم يحصُلْ عتقَ كله لعدمِ إجازةِ الوارثِ في الزائدِ على الثلثِ ونحو ذلك، أو قتل قبلَ موتِ السيدِ، وفرَّعنا على أن العتيق في المرضِ إذا لم يملك غيره إذا مات قبل موتِ المعتِقِ يكونُ رقيقًا أو مبعضًا، فلا تجبُ الديةُ في هذه الأحوالِ. فإن قلنا:"يموت حرًّا كلُّهُ" تكمَّلتْ فيه الديةُ.
واللقيطُ محكومٌ بحريتهِ بمقتضَى الظاهرِ، فإذا قتلَهُ قاتلٌ وآل الحالُ إلى المالِ وجبت عليه الديةُ الكاملةُ على المذهبِ.
وقولنا: "الذَّكرُ": يخرجُ به الأنثى والخنثى، وسيأتي ذكرُهما.
وقولنا: "المضمون": أخرجنا غيرَ المضمونِ، وقد سبقَ.
وقولنا: "مثلثة في العمد": أردنا به حيثُ لم يجبِ القصاصُ ووجبَ
المالُ، أو سقطَ ووجبَ المالُ، ولا يختصُّ التثليثُ بالنفسِ بل الأطراف يأتي فيها عندَ العمدِ المحض. . . (1) القصاص التثليثُ نصَّ عليه الشافعيُّ في "الأم"، و"مختصر المزني"، واتفق عليه الأصحاب.
والتثليثُ ثلاثون حقةً وثلاثون جذعةً وأربعون خَلِفةً، يعني حاملًا، هذا في العمدِ، فأمَّا في الخطأ فتكونُ مخمسةً على العاقلةِ، عشرونَ بنتُ مخاضٍ، وعشرون ابنَ مخاضٍ، كما هو المختارُ على أصلِ الشافعيِّ في ذلك أن التخميسَ ببني المخاض موضعُ بني اللَّبُون، ثم بعدها عشرون بنت لبون، وعشرون حقةً، وعشرون جذعةً، إلَّا أن يقعَ القتلُ الخطأ في حرمِ مكةَ، سواء أكانا فيه أو كانَ أحدُهُما فيه والآخرُ خارجُهُ، كجزاءِ الصيدِ، فتثليثُ الديةِ على العاقلةِ، ويلتحقُ بذلك ما إذا جرحَهُ والمجروحُ في الحرم، فخرجَ المجروحُ إلى الحلِّ وماتَ، وكذلك تثليثُ الديةِ على العاقلةِ إذَا وقعَ القتلُ الخطأُ في الأشهرِ الحرمِ، وهي: ذو القعدةِ وذو الحجةِ ومحرمُ ورجب، أو قتلَ خطأً ذا رحمٍ.
وإن لم يكنْ مُحْرِمًا كما نصَّ عليهِ الشافعيُّ في "الأمِّ"(2) حيثُ قالَ: (وَتَغْلِيظُ الدِّيَةِ في الْعَمْدِ وَالْعَمْدِ الْخَطَأِ وَالْقَتْلِ في الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَقَتْلِ ذِي الرَّحِمِ كَمَا تَقَدَّمَ في الْعَمْدِ غَيْرِ الْخَطَأِ لَا تَخْتَلِفُ). انتهى.
وهذا هو المعتمدُ خلافًا لما في "المنهاج" تبعًا للمحرر.
(1) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها في الأصل.
(2)
"كتاب الأم"(6/ 22).
وإذا وجبتْ على العاقلةِ ديةُ الخطأِ مخمسةً (1) أو مثلثةً كما تقدَّم فتجبُ عليهم مؤجلةً.
وإذا كانَ القتلُ عمدًا فالواجبُ الديةُ المثلثةُ، وتكونُ على الجاني معجَّلةً، وفِي شبهِ العمدِ تجبُ الديةُ المثلثةُ لكن على عاقلةِ الجاني مؤجَّلة.
ولا يؤخذُ في الديةِ مريضٌ ولا معيبٌ إلَّا أن يرضى المستحقُّ ويرجعُ في الخلفاتِ إلى قولِ أهلِ الخبرةِ، إنْ أنكرَ المستحقُّ، وأصحُّ القولينِ أن التي حملتْ قبلَ خمسِ سنين تجزئُ.
ومن لزمتهُ الديةُ من العاقلةِ أو الجاني إنْ لم يملكْ إبلًا لزمهُ تحصيلها من غالبِ إبل، البلدةِ أو القبيلةِ إن كانَ من أهلِ الباديةِ.
وإن لم يكن في البلدةِ أو القبيلة إبلٌ اعتبرَ إبلُ أقربِ البلادِ إلى بلد القاتلِ، إذا قرُبتِ، المسافةُ، ولم تعظُمْ مؤنْةُ النقل، فإنْ بعدتْ وعظمتِ المؤنةُ والمشقةُ لم يلزمْهُ، وسقطتِ المطالبةُ بالإبلِ، فذاكَ وإلَّا فالمنصوصُ وهوَ الذِي أورده أكثرُ الأصحابِ أنَّ الديةَ تؤخذُ من الصنفِ الذِي يملكُهُ المستحقُّ عليه.
وإذا تعيَّنَ نوعٌ فلا يعدل إلى غيره إلَّا بالتراضي، نظرًا إلى أن هذا استيفاء بصفةٍ زائدةٍ لا معاوضةَ.
وإذا لم توجدِ الإبلُ هناك نَقَل الأصحاب عن القديمِ: أنَّ الرجوعَ إلى ألفِ دينارٍ أو اثني عشرَ ألفَ درهمٍ، والذِي نقلهُ المزنيُّ عنِ القديمِ ليسَ فيهِ التصريحُ بذلكَ، وأنَّ كلامَهُ يشعرُ به لذكره صورةَ الإعوازِ أولًا، وساقَ فيها
(1)"مخمسة": مكررة في الأصل.
الجديدَ، ثم ذكرَ القديمَ.
قالَ شيخُنا: وقد وقعَ في خاطرِي من كلامِ المزني ما يقتضي أن القديمَ يوجبُ ما ذُكرَ منْ غيرِ نظرٍ إلى إعوازٍ ونحوِهِ، فإنَّ المزنِيُّ قال:(وَقَوْلُهُ الْقَدِيمُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرُجُوعُهُ عَنْ الْقَدِيمِ رَغْبَةٌ عَنْهُ إلَى الْجَدِيدِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ)(1)، فكانَ نقلُ المزنيِّ يقتضي أن القديمَ مقتضاهُ التيسرُ، فعلى أهلِ الذهبِ ذهبٌ، وعلى أهلِ الورقِ ورقٌ من غيرِ اعتبارِ العجزِ عن الإبلِ. انتهى.
والجديدُ أنَّه يرجَعُ إلى قيمةِ الإبلِ بالغةً ما بلغت، وتقوَّمُ بغالبِ نقدِ بلد العدم، إما العدمُ الحسيِّ، أو وجدَها تُباعُ بأكثرَ من ثمن المثلِ في بلدِهِ أو في بلدٍ قريبٍ من البلد أو في أقربِ البلادِ إلى بلدِه، ففِي هذه الصورِ يعدلُ (2) إلى القيمةِ، أمَّا إذا وجدَ النوعَ الغالبَ في البلدِ يباعُ في بلدٍ قريبٍ من البلدِ بثمنِ المثلِ فإنَّه تجبُ عليهِ الإبلُ من النوعِ الغالبِ في البلدِ حينئذٍ، ولا يعدلُ إلى القيمةِ.
وإذا وجدَ بعض الإبلِ الواجبة أخذ الموجودَ وقيمةَ الباقي.
وديةُ المرأةِ على النصفِ من ديةِ الرَّجلِ (3)، وكذا ديةُ أطرافِها وجراحاتها على النصفِ من ديةِ أطرافِ الرجلِ وجراحاته. والخنثى المشكلُ كالمرأةِ.
وديةُ اليهوديِّ والنصرانيِّ الثابت له ذلكَ بطريقِهِ ثلثُ ديةِ المسلمِ، وهي
(1)"مختصر المزني"(ص 244).
(2)
"يعدل": مكررة بالأصل.
(3)
روضة الطالبين (9/ 257).