الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الرِّدَّةِ
هي لغةً: الرجوعُ عن الشيءِ إلى غيرِهِ.
وشرعًا: ما سنذكرُهُ.
والأصلُ في البابِ قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ، وقوله:{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} ، وأشباه ذلك.
ومن السنَّةِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوهُ" رواه البخاريُّ (1).
وردَّةُ المسلمِ ظاهرًا إتيانُه بالكفرِ بنيةٍ، أو قول كفرٍ، أو فعل، سواء قاله استهزاءً، أو عنادًا، أو اعتقادًا.
فمن نفى الصانع أو الرسلَ أو كذَّبَ رسولًا، أو حلَّلَ محرَّمًا بالإجماعِ معلومًا
(1)"صحيح البخاري"(2854) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
من الدينِ بالضرورةِ بلا تأويلٍ، أو نفى وجوبَ مجمعٍ عليه يُعلمُ مِن دينِ الإسلامِ ضرورةً وعكسه بلا تأويلٍ أو عزمٍ على الكفرِ غدًا أو ردَّدَ فيه كفر.
والفعل المكفرُ ما تعمده استهزاءً صريحًا بالدينِ أو جحودًا له كإلقاءِ مصحفٍ بقاذورة (1) وسجود لصنمٍ، أو شمسٍ.
ولا تصحُّ ردةُ صبيٍّ ومجنونٍ ومكرهٍ، ولو ارتدَّ، ثمَّ جُنَّ ولم يستتب قبلَ الجنونِ حرم قتلُه.
فإن كانَ استتيبَ قبلَ جنونِه فلم يتبْ فإنَّهُ لا يحرُمَ قتلُه حينئذٍ.
وأصحُّ القولينِ صحَّة ردَّةِ السَّكرانِ وإسلامِه، وتقبلُ الشهادةُ بالردةِ مطلقًا، وقيل: يجب التفصيلُ.
ومحلُّ الخلافِ إذا أظهر أنَّهُ ارتدَّ عنِ الإيمانِ أو شهدَا بأنَّه كفرَ باللَّه، أما لو شهدا بأنَّهُ ارتدَّ ولم يقولا عن الإيمانِ أو كفرٍ فلا تقبلُ هذه الشهادةُ قطعًا.
ويشترطُ في البينةِ أن لا يكونَ من الخوارجِ الذين يكفِّرونَ بارتكابِ الذنوبِ، إمَّا بالكبائرِ وإما بها وبالصغائرِ، كما هو طريقُ بعضِ الخوارجِ.
فإن كان الشاهدانِ أو أحدهما من الخوارجِ فلا تقبلُ شهادةُ الخارجيِّ إلَّا مفصلَّةً قطعًا، لا يوقفُ في ذلك هذا إذا أثبتنا الخلافَ في قبول الشهادةِ بالردَّةِ كما تقدَّمَ.
فإنَّ ثبتَ الخلافُ وعلمنا بنصِّ الشافعيِّ المعتمدِ في ذلكَ أنَّه لا تقبلُ الشهادةُ بالردَّةِ إلَّا بالتفصيلِ، لا مطلقًا، فلا حاجةَ لما قيَّدناه، فإنَّه حينئذٍ لا
(1) هكذا يعبِّرُ الفقهاءُ في كتبهم، وأفادني بعضُ شيوخي الأصوليين أنَّ هذا قيدٌ غيرُ لازمٍ، فمجرد رمي المصحف كفرٌ، حتَّى لو لم يلقه في القاذورة، واللَّه أعلم.
تقبلُ الشهادةُ بالردةِ إلَّا بالتفصيلِ في كلِّ موضعٍ وقعتِ الشهادةُ فيه بالردَّةِ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِه.
ومتى شهدا ولم يفصلا (1) وأنكرَ حُكِمَ بالشهادةِ ولا يُغنيه التكذيبُ، بل يلزمه أن يأتيَ بما يصيرُ به الكافرُ مسلمًا، فإنْ أنكرَ ثمَّ تلفَّظَ بالشهادتين وبَرِئَ من كلِّ دينٍ يخالفُ دينَ الإسلامِ على مَا في هذا مِنَ الاختلافِ، فإنَّا لا نحكُمُ بالشهادة بردتهِ.
ولو قالَ: "كَنتُ مكرهًا" واقتضتهُ قرينةٌ كأسر كفارٍ صُدِّقَ بيمينهِ، وإلَّا فلا، ولو قالا لَفِظَ لَفْظَ كفرٍ، فادَّعى إكراهًا صُدِّقَ بيمينهِ، وإن كانَ هناكَ قرينةٌ تقتضي الإكراهَ، وإلَّا فلا يصدَّقُ، ولو ماتَ معروفٌ بالإسلام عن اثنين مسلمينِ، فقالَ أحدهما ارتدَّ فماتَ كافرًا، وإن بينَ سببَ كفرِه لم يرتدَّ ونصيبُهُ فيءٌ.
وإن أطلقَ فثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها يستفصلُ فإن ذكرَ ما هوَ كفر كان فيئًا وإن ذكر ما ليسَ مكفرٍ صرف إليه.
وتجبُ استتابة المرتدِّ والمرتدَّةِ فإن لم يتوبا قُتلا، وفِي قولٍ تستحبُّ استتابتهما، وتكونُ في الحالِ فإن تابا، وإلَّا قُتلَا كما تقدَّمَ، وفِي قولٍ إلى ثلاثةِ أيامٍ، فإذا أصرَّ قُتلَ، وإن أسلمَ صحَّ، وإن ارتدَّ إلى كفرٍ خفِي كزنادقةٍ وباطنيةٍ ثم أسلمَ قُبِلَ إسلامُهُ، ولا يُقبل على المنصوص (2).
(1) هذا الموضع به طمسٌ في الأصلِ، ولعلَّ المثبتُ الأقربُ للصوابِ، وراجع لهذا الموضع "الروضة"(10/ 172).
(2)
"منهاج الطالبين"(ص 293).
وولدُ المرتدِّ إنِ انعقدَ قبلَ الردَّةِ أو بعدَها وأحد أبويهِ مسلمٌ فهو مسلمٌ، أو مرتدان فمسلمٌ، وفِي قولٍ مرتدٌّ، وفِي قولٍ كافرٌ أصليٌّ، هذا إذا لم يكن لَهُ أصلٌ مسلمٌ ممن ذُكر، فإنَّه لا يأتي فيه ترجيح أنَّه مرتدٌّ ولا ترجيح أنَّه كافرٌ أصليٌّ، بل يتفق الترجيحُ على أنه مسلم.
وما وقع في "المنهاج"(1) من قوله: "قلتُ: الأظهر مرتدٌّ ونقل العراقيون الاتفاق على كفره"؛ ليس بمعتمدٍ.
وهل يزولُ ملكُ المرتدِّ عن مالِه بالردَّةِ أم لا، أم يوقفُ؟ قال شيخُنا: الذي تلخَّصُ لنا من مجموع متفرقاتِ كلامِ الشافعيِّ رضي الله عنه أن على قولِ زوالِ الملك يبقى لهُ فيهِ حَقٌّ وعُلَقٌ وتجب الزكاةُ على هذا القول إن رجعَ إلى الإسلام.
ويستوي مع قولِ الوقفِ في هذا وإنْ على قول بقاء الملك تصرفاته نافذة ما لم يحجرْ عليه الحاكمُ، وتجبُ الزكاةُ على هذا القولِ وإن لم يعدْ إلى الإسلامِ إن ثبت.
قلتُ: يعطى في النفقاتِ والغراماتِ حكم الباقي قطعًا، وفِي منعِ التصرُّفِ بعد الحجرِ حكمَ الزائلِ قطعًا. وفِي بقاءِ الملكِ مجرَّدًا عما ذكرَ ثلاثةُ أقوالٍ، وفِي الزكاةِ قولانِ: أحدُهما: تجبُ، والثاني: إن عادَ إلى الإسلامِ وجبتْ على قولِ زوالِ الملكِ والوقفِ، وإن لم يعدْ لم تجبْ.
وإنما أوجبناهَا على قولِ زوالِ الملكِ إذا عادَ إلى الإسلامِ لأنَّه ليسَ زوالًا
(1)"المنهاج"(ص 293).
إلى آدميٍّ معينٍ، ولا إلى أهلِ الفيء، حتى يتصرَّفُوا فيه، وإنما هُو زوالٌ للمرتدِّ فيه علقةٌ من نفقةٍ وغيرها، فلم يمنعْ ذلك من إيجابِ الزكاةِ عليه إذا عادَ، ولهذا لم ينصَّ الشافعيُّ في موضعٍ من المواضعِ على أنَّ الزكاةَ لا تجبُ مطلقًا، وإنما نصَّ على الوجوبِ على ما نقلوهُ أو على أنَّه إن عادَ أخذتْ منهُ، وهذا على القولينِ كما بينتُه، ولم أرَ منْ حرَّرَ هذا على ما حررتُه، وللَّهِ الحمدُ. انتهى كلامُ شيخِنا.
وإذا قلُنا بزوالِ ملكِه فيلزمُه نفقةَ زوجاتِه الموقوف نكاحهنَّ، ونفقة قريبه وغرامة ما أتلفَهُ في الردَّةِ على المنصوصِ.
والمذهب أنا نوقفُ مالَه تحتَ يدِ عدلٍ، وما فعله على قولِ الزوالِ مما يتوقفُ على ملكِه وهو مذهبُ الشافعيِّ يكون باطلًا، وما فعلهُ على قولِ بقاء الملكِ قبل إيقافِ الحاكمِ مالَه يكون نافذًا، وما فعلهُ بعد حجرِ الحاكمِ عليهِ لا يكونُ نافذًا ولوْ كانَ عتقًا أو تدبيرًا.
وأما الوصيةُ فأمرُها سهلٌ؛ لأنَّها تصحُّ من المحجورِ عليه بالسفهِ والفلسِ، والحجرِ على المرتدِّ حجر فلسٍ على الأصحِّ، وإنما وقفتُ في المرتدِّ لأنَّه إذا ماتَ انتقلَ مالُه لأهلِ الفيءِ ولا يعملُ بالوصيةِ بخلافِ المفلسِ إذا فضلَ له شيءٌ أو أجازها الغرماءُ.
وبيع المرتدِّ وهبتُه باطلانِ، وكتابتهُ موقوفةٌ على قولِ الوقفِ (1) كالخلعِ، وهو الأرجحُ، وفاقًا لما في الشرحين في الكتابة، خلافًا لما في الشرحين في
(1) كذا، ولعله:"الواقف".
الردةِ، و"المحرر" و"المنهاج" في الموضعين، وفِي القديم: موقوفةٌ، وفِي الجديد أيضًا إذا قلنا إنَّهُ وقفٌ تبين (1).
وعلى الأقوالِ يجعلُ مالُه عندَ عدلٍ وأمتُه عندَ امرأةٍ ثقةٍ، ويؤجرُ مالُه ويؤدِّي مكاتبه النجومَ إلى القاضي، وعلى قولِ بقاءِ الملكِ لا بدَّ مع ذلك من ضربِ الحجرِ عليه.
* * *
(1)"منهاج الطالبين"(ص 364).