الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب ما يوجب الديةَ وما لا يوجبها غير ما سبق والعاقلةُ وكفارة القتل
(1)
صاح على صبيٍّ أو مجنونٍ أو معتوهٍ أو نائمٍ أو امرأةٍ ضعيفةٍ على طرفِ سطحٍ أو حافةِ بئرٍ أو نهرٍ، فمات منه، فدِيَةٌ مغلَّظةٌ على عاقلتِه إذا قصدَ من ذكرنا بالصياحِ، فإن صاحَ لسببٍ آخرَ فماتَ فهيَ مخففَّةٌ على العاقلةِ.
ويلتحقُ بالموتِ ما لو تلفَ بعضُ أعضائِه، فإنَّهُ يضمنهُ بأرشهِ، ولو زالَ عقلُهُ وجبتِ الديةُ على النصِّ، ولا قصاصَ على أصحِّ الوجهينِ، وقيلَ القولين.
(1)"روضة الطالبين"(9/ 313).
ولو كان بأرضٍ أو صاحَ على بالغٍ عاقلٍ متماسكٍ في وقوفِهِ فلا ديةَ على النصِّ، فإن زالَ عقلُ الصَّبيِّ بذلك وجبَ الضمانُ على مُقتضَى النصِّ ولا قصاصَ فِي البالغِ المذكور قطعًا ولا في الصبيِّ على الأصحِّ.
وحكمُ شهرِ السلاحِ حكمُ الصِّياحِ، وحكمُ المراهقِ حكمُ الصبيِّ خلافًا لمن جعلَهُ كالبالغِ في حالَةِ تيقُّظهِ؛ لأنَّ الشافعي رضي الله عنه أناطَ عدمَ الضمانِ بالبلوغِ معَ العقلِ، وأناطَ الضمانَ بالصبيِّ مع قيدِ أن يكونَ على حائطٍ ونحوه بالنسبةِ إلى غيرِ زوالِ العقلِ، وصارَ الصبيُّ وصفًا ضابطًا بحكمةٍ لا حِكمةً مجردةً لعدمِ الانضباطِ، فلا يخرجُ عن صور الصبيِّ أحدٌ أو إنْ كانَ مراهقًا، لأنَّهُ لم يكملْ عقلُه.
ولو طلبَ السُّلطانُ امرأةً أو طلبَ رجلًا عندها ففزعتْ لدخولِ الرَّسولِ أو جلبتهم، أو انتهارِهم، أو للذُّعرِ من السلطانِ فأجهضتْ ضمنَ الجنينَ، كما نصَّ عليه الشافعيُّ رضي الله عنه في "الأم"(1) في ترجمةِ جنايةُ السلطانِ، فقالَ:(وَإِذَا بَعَثَ السُّلْطَانُ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ عِنْدَ امْرَأَةٍ فَفَزِعَتْ الْمَرْأَةُ لِدُخُولِ الرُّسُلِ. .) وذكر ما تقدَّم بحروفِهِ، إلى أَنْ قالَ:(فَأَجْهَضَتْ فَعَلَى عَاقِلَةِ السُّلْطَانِ دِيَةُ جَنِينِهَا إذَا كَانَ مَا أَحْدَثَهُ الرُّسُلُ بِأَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ الرُّسُلُ أَحْدَثُوا شيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ فَذَلِكَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ دُونَ عَاقِلَةِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ مَعْرُوفًا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسْقِطُ مِنْ الْفَزَعِ) هذا نصُّه.
وعلى هَذا فلو فزَّعَ إنسانٌ امرأةً بسيفٍ ونحوه فأسقطتْ ضمن الجنينَ، ولو ماتت من الإجهاضِ ضمنَ عاقلتُهُ ديتَها، فلو طلبَها في دينٍ فأسقطتْ،
(1)"كتاب الأم"(6/ 94).
فإن كانت مُخدَّرَةً فطلبه لها تعدٍّ عليها، فيكون ضامنًا لما يسقطه بذعره.
وإنْ لم تكن محذرةً فالعادةُ جاريةٌ في أن الديونَ يتحدَّثُ فيها الحُكَّامُ الذين لا يخاف من ظلمهم، فيكونُ إسقاطُ الجنينِ بذعره مقتضيًا لضمانِهِ.
حتَّى لو كان بعضُ القضاةِ يخافُ من سطوتِهِ فحصلَ للمرأةِ الفزع بطلبِهِ فأسقطت جنينًا ضمنَهُ.
ولو وضع حرًّا في صحراءَ مُسْبِعةٍ، فأكله السبعُ فلا ضمانَ إن أمكنَهُ التخلُّصُ، فإن لم يمكنه التخلُّص ضمنَهُ بالديةِ مغلَّظةً على العاقلةِ، على الأصحِّ.
وإذا تبعَ بسيفٍ هاربًا منه فرمى نفسَهُ بماءٍ أو نارٍ أو من سطحٍ فلا ضمانَ إن كان المتبوع بالغًا عاقلًا، فإن كان صبيًّا لا يعقِلُ عَقَلَ مثلَهُ أو مجنونًا لا تمييزَ له فألقى نفسه في ماءٍ أو نارٍ ونحوَ ذلكَ ضمنَهُ التابعُ له، تفريعًا على أن عمدَ هذين خطأٌ على ما جَرَى عليه الأئمةُ.
فأما إذا كان يعقِلُ عقَلَ مثلَهُ أو كان المجنونُ له تمييزٌ فأصحُّ القولينِ أن عمدهما كعمدِ البالغِ العاقل، فلا يضمنانِ في صورةِ الماءِ والنارِ ونحوِهما، فلو سقطَ جاهلًا لعماهُ، أو لظلمةٍ، فعلى تابعِهِ الضمانُ، وكذا لو انخسفَ به سقفٌ في جريه على النصِّ (1).
ولو سلِّم صبيٌّ إلى سباحٍ يعلِّمهُ أو علَّمه الوليُّ السباحةَ أو أخذه أجنبيٌّ بنفسه برضى الصبيِّ أو بغير رضاهُ فغرق وجبتْ دِيَتهُ على السبَّاحِ، فلو رفعَ
(1)"روضة الطالبين"(9/ 316).
السباحُ يدهُ من تحتِ الصبيِّ عمدًا فغرقَ فعليه القصاصُ، لأنهُ هو الَّذي أغرقَهُ (1)(2).
وإذا سلَّم البالغُ نفسَهُ إلى السباحِ فجاءَ في الموضعِ المغرقِ رفعَ يدَهُ من تحتهِ فغرقَ البالغُ فعلى السبَّاحِ الضمانُ بالديةِ، بل بالقصاصِ، كما قاله شيخُنَا، لأنَّهُ هو الَّذي أغرقَهُ، أما لو غَرَقَ من غير قصدِ المعلمِ فلا يجبُ ضمانهُ، ويجبُ الضمانُ بحفرِ البئر عدوانًا مع دوامِ العدوانِ (3).
وإن حفرَ في مِلْكِ نفسه أو موات فلا عدوانَ، فإن حفر حفرةً واسعةً في ملكه قريبًا من أرضِ جارِهِ بحيث يؤدي إلى إضرار أرضِ جارِهِ فإنهُ يكون متعديًا ضامنًا لمن وقعَ في موضِعِ التَّعدِّي.
وإذا حفَرَ بدهليزهِ بئرًا ودعى غيره ولم يعرفْهُ البئرَ، وكانَ الداخلُ أعمى، أو كانَ الموضعُ مظلمًا أو غيرَ مظلمٍ، ولكن كانَ رأسُ البئرِ مغطَّى على وجهٍ لا يُعرفُ أنَّ هناك بئرًا فسقطَ الداخلُ فأظهر القولين أنَّه يضمنه بالديةِ.
فلو أدخل صبيًّا لا يميزُ دارَه فسقطَ في البئرِ المذكورةِ بالقيودِ السابقةِ فإنهُ يجبُ الضمانُ، بل يجبُ القصاصُ عند "الكافي" على ما تقرَّر كما جزم به شيخنا قال: وكذلك المُكْرَهُ، أو حفر بطريقٍ ضيقٍ يضرُّ المارَّةَ فالحكمُ كذلك، أو لا يضرُّ وأذنَ الإمامُ في ذلك فلا ضمانَ، وكذا لا ضمانَ إذا حفرَ بغيرِ إذن الإمامِ، ولكن أقرَّهُ الإمامُ على ذلكَ.
(1)"روضة الطالبين"(9/ 316).
(2)
في الأصل: "غرقه".
(3)
"روضة الطالبين"(9/ 316 - 317).
فإنْ حفرَ لمصلحةِ نفسهِ بغيرِ إذن الإمامِ ولم يقرَّهُ على ذلك بعدَ حفرِه فعليه الضمانُ.
وإن حفرَ لمصلحةٍ عامةٍ ولم ينههُ الإمامُ عن ذلكَ فلا ضمانَ على الجديدِ، وإنْ نهاهُ كانَ ضامنًا، ذكره أبو الفرج الزَّاز في تعليقهِ، وهوَ ظاهر، وإذا حفرَ في المسجدِ لمصلحةِ نفسهِ بإذنِ الإمامِ فعليهِ الضمانُ، وإذا حفرَ للمصلحةِ العامةِ فلا يجوزُ أيضًا، لأنَّ الواقفَ للمسجدِ إنما جعلَهُ لمصلحةِ الصلاةِ، فلا يجوزُ أن يغيرَ بمنفعةِ البئرِ ونحوِها، وإذا تعدَّى بذلك حينئذٍ فعليه الضمانُ.
وما تولَّد من جناحٍ إلى شارعٍ فمضمونٌ إن سقطَ الجناحُ أو بعضُه، فإن تولَّدَ منهُ الهلاكُ لا بسقوطه بل لأن شخصًا راكبًا شيئًا عاليًا صدمه، فإنَّهُ لا يكونُ مضمونًا (1).
قال شيخنا: ولم أرَ مَن تعرَّض لهذه، والقياسُ ما ذكرته.
ولو سقطَ من الجناحِ حيوانٌ من فأرٍ ونحوه فما يتولد منه من الهلاكِ لا يكون مضمونًا على صاحبِ الجناحِ، لأنهُ غيرُ الجناحِ، وللحيوانِ اختيار، ولم أر من تعرَّضَ لهذا أيضًا. انتهى.
ثم إن سقط الكلُّ فالواجبُ النصفُ، وإن سقطَ الخارج خاصة ضمن الكلَّ، ويجوزُ إخراج الميازيبِ إلى الشارعِ إذا كان الَّذي أخرجَهُ مسلمًا، فأمَّا الذِّمِّيُّ في بلادِ المسلمينَ فإنه لا يجوزُ له أن يخرجَ ميزابًا كما لا يخرجُ جناحًا على الأصحِّ، فلو سقطَ منهُ شيءٌ فهلكَ به إنسانٌ أو مالٌ فقولان:
(1)"روضة الطالبين"(9/ 318 - 319).
القديمُ: لا ضمانَ. والجديدُ: يضمنُ (1).
فعلى هذا إن كانَ الميزابُ كلُّه خارجًا بأنْ سمَّر عليه تعلَّق به جميع الضمان.
وإن كان بعضُه في الجدارِ وبعضه خارجًا فإن انكسرَ سقطَ الخارجُ أو بعضُه تعلق به جميعُ الضمان أيضًا.
وإن سقطَ كلُّه بأن اقْتُلِع من أصلِهِ، ثلاثة أقوال حكاها أبو حامدٍ المروروذيُّ في "جامعه":
أحدُها: يضمنُ جميع ديتِهِ.
والثاني: يضمنُ نصفَ ديتهِ.
والثالثُ: يضمنُ من الديةِ بقسط الخارجِ من الخشبةِ.
مثالُهُ: أن يكونَ طولُ الخشبةِ خمسةَ أذرعٍ، فإن كانَ الخارجُ منها ثلاثة أذرع ضمنَ ثلاثةَ أخماسِ الديةِ. قال الشافعيُّ: ولا أبالي بأيِّ طرفها أصابه؛ لأنه قتله بثقلها. انتهى.
والأرجحُ ضمانُ النِّصفِ عَلَى عاقلةِ مَن هوَ مالكٌ لهُ حالةَ الإتلافِ، ولو بنَى جدارَه مائلًا إلى الشارعِ فحكمُهُ حكمُ الجناحِ بالقيودِ السابقةِ فيه، والضمانُ على عاقلةِ مالكه حالة الإتلافِ كما تقدَّمَ، ولو بناهُ مستويًا فمالَ وسقطَ فلا ضمانَ على النصِّ.
وإن سقطَ الجدارُ الَّذي مالَ بعد بنائه مستويًا في الطريقِ فتعثَّرَ به إنسانٌ أو
(1)"روضة الطالبين"(9/ 320).
تلفَ به مالٌ فلا ضمانَ على الأرجحِ إذا لم يقصر في رفعِ الآلاتِ الساقطةِ من الجدارِ المذكورِ، فإن قصَّر في رفعِها كانَ ضامنًا لتعدِّيه بالتأخيرِ ولو طرحَ بالطريقِ دونَ العمامةِ على الأصحِّ عندَ شيخِنا.
وإذا اجتمعَ سببا هلاكٍ على التعاقبِ فالحوالةُ على الأولِ، مثالُه: حفرَ بئرًا متعديًا أو نصبَ سكينًا ووضعَ آخرَ حجرًا متعديًا، فتعثَّر إنسانٌ بالحجرِ ثم وقعَ في البئرِ، أو على السِّكينِ، وهلكَ، فالضمانُ على واضعِ الحجر إن كان من أهلِ الضمانِ، فلو تعدَّى بحفرِ البئرِ ووضعَ حربيٌّ أو سَبُع الحجرَ فلا ضمانَ على أحدٍ على الصَّحيحِ، فإنْ لَمْ يتعدَّ الواضعُ فالأرجحُ تضمينُ الحافرِ.
ولو وضع حجرًا وآخران حجرًا فالضمانُ عليهما نصفان، نصفٌ على الأولِ ونصف على الآخرين خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ، لأنَّ التعثُّرَ إنما كانَ بالحجرينِ، فالتوزيعُ عليهما لأنَّهما اللذانِ لاقيا البدنَ. (1)
ولو تعدَّى بوضعِ حجرٍ فَعَثَر به رجل فدحرجه فعثرَ به آخر ضمنه المدحرِجُ، ولو عثرَ بقاعدٍ أو نائمٍ أو واقفٍ بالطريقِ لم يتحرَّك مقبلًا، وماتا أو أحدهما فلا ضمان إنِ اتَّسعَ الطريقُ، كذا قيل، وليس هذا الخلاف بمعتمدٍ، بل تجبُ دِيَةُ الواقفِ والقاعدِ والنائمٍ على ظاهرِ النصِّ المعتمدِ (2).
وإن ضاقَ فصححَ البغويُّ إهدارَ قاعدٍ ونائمٍ لا عاثرهما، وضمان واقف لا عاثرٍ بِه، وإطلاق النص في "الأمِّ" إهدارُ الماشي وضمانُ مَن سواهُ.
* * *
(1)"روضة الطالبين"(9/ 324).
(2)
"روضة الطالبين"(9/ 325).