الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[كتاب الجهاد]
[كان الجهادُ في عهدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فرضَ كفايةٍ، وقيل: عين، وأما بعدهُ فللكفارِ حالان: أحدُهما: يكونون ببلادِهِم ففرضُ كفايةٍ إذا فعلهُ مَن فيهم كفايةٌ سقط الحرجُ عن الباقين.
ومِن فرضِ الكفايةِ: القيامُ بإقامة الحجج وحلِّ المُشكلاتِ في الدِّينِ وبعلومِ الشرعِ كتفسيرٍ وحديثٍ، والفروع بحيثُ يصلحُ للقضاءِ، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وإحياءُ الكعبة كلَّ سنة بالزيارة، ودفعُ ضرر المسلمين: ككسوة عارٍ، وإطعامٍ جائعٍ إذا لم يندفعْ بزكاة وبيت مال، وتحملُ الشهادة وأداؤها، والحرفُ، والصنائعُ، وما تتم به المعايشُ، وجوابُ سلام على جماعة، ويسنُّ ابتداؤها لا على قاضي حاجةٍ، وآكلٍ، وفي حمامٍ، ولا جوابَ عليهم.
ولا جهادَ على صبيٍّ، ومجنونٍ، وامرأةٍ، ومريضٍ، وذي عرجٍ بيِّن، وأقطع،
وأشلَّ، وعبدٍ، وعادِمِ أُهبة قِتالٍ.
وكلُّ عذرٍ منع وجوبَ الحج منَعَ الجهادَ إلا خوفَ طريقٍ من كفار، وكذا من لصوصِ المسلمين على الصحيح.
والدَّيْنُ الحالُّ يحرمُ سفرَ جهادِهِ وغيرِهِ إلا بإذنِ غريمِهِ، والمؤجَّلُ لا، وقيل: يمنع سفرًا مخوفًا.
ويحرم جهادُ إلا بإذن أبويه إن كانا مُسلمين، وعبد بلا إذن] (1) سيده بما فيهِ من الرِّقِّ، فإنِ اجتمعُوا على الإذنِ جاهَدَ، وإنْ افترقوا فيه امتنعَ، فإن سافر يعلم فرض عينٍ أو كفايةٍ، والطريق غير مخوفٍ، فلا يحتاج إلى إذنِ أصولِهِ أو أصلِهِ المسلمين فيها، وفيه وجه في فرضِ الكفايةِ أنَّه يحتاج إلى إذنِ الأصلِ المسلمِ، هذا إذا لم يكن نفقة أصولِهِ أو أحدهمْ لازمةً لَهُ، فإنْ كانتُ ولم يستنبْ في الإنفاقِ علَى مَن ذُكِرَ من الأصولِ فإنَّه يجبُ استئذانُهُ حينئذٍ كصاحبِ الدَّينِ، لأنَّ وجوبَ نفقةِ مَن ذكر كالدَّينِ للمنفق عليه، وسواء كان مَن يلزمُهُ نفقتُهُ ممن ذكرَ مسلمًا أو كافر.
فإن أذنَ أبواهُ والغريمُ، ثم رجعُوا وجبَ الرجوعُ إنْ لمْ يحضرِ الصَّفَّ ولا خيفَ انكسارٌ على المسلمين، ولا كان خروجُهُ بجُعلٍ مع سلطان، فإن التقى الفريقانِ حرمَ الانصراف على الأصحِّ، فإن خشي انكسارَ المسلمين حرمَ الانصرافُ قطعًا.
الحالُ الثاني: أن يدخلوا بلدةً لنَا أو وصلوا إليها ولم يدخلُوا، أو نزلُوا على خرابٍ أو جبلٍ في دارِ الإسلامِ بعيد عن البلدانِ والأوطانِ، فيلزمُ أهلُها الدفعُ بالممكنِ، فإن أمكنَ تأهُّب لقتالٍ لعيالٍ وجبَ الممكنُ، ولا يجبُ على
(1) ما بين المعقوفين من "المنهاج"(ص 307).
فقيرٍ ولا ولد مدين ولا عبدٍ بلا إذنٍ على النصِّ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصلِهِ.
والمعتمدُ في الفتوَى وهو مقتضَى النصِّ أنَّهُ إنْ حصلتْ مقاومة بأحرار اشترط إذن السيِّدِ خلافًا لما جعله في "المنهاجِ" وجهًا ضعيفًا.
وإن لم يمكنِ التأهُّبِ للقتالِ، فمن قُصد دفع عن نفسِه بالممكنِ إن علم أنَّه إن أخذ قتلَ، أو علمتِ المرأةُ أنَّها لو أسرتْ امتدَّتْ إليها الأيدي، فعليها أن تدفعْ، وإن كانت تقتلُ، ويستوي في الدفعِ حينئذٍ كلُّ مكان، وإن جوَّز الأمر فلهُ أن يستسلمَ. ولو امتنعَ لقتلَ، فأمَّا إذا كان يجوزُ الأمر، ولو امتنعَ لا يقتلُ فلا يجوزُ لهُ أن يستسلمَ.
وأمَّا من ليسَ له من أهلِ تلك الناحيةِ (1) فإنْ كانَ في أهلِها كفاية، فالذين قربوا منهم، وكانُوا دونَ مسافةِ القصرِ ينزلون إن وجدوا الزادَ بمنزلةِ أهلِ الناحيةِ إذا قامَ بالدفعِ مَن فيهِ الكفايةُ، وإن لم يكنْ في أهلِ الناحيةِ كفايةٌ فيتعيَّنُ على الأقربينَ أَنْ يطيرُوا إليهم.
ومن على المسافةِ قيلَ يلزمُهُم الأقربُ فالأقربُ، والأصحُّ إنْ كَفَى أهلُهَا لم يلزمْهم، ولو أسروا مسلمًا وجبَ النُّهوضُ إليهم لخلاصِهِ إن توقعناه.
يكره الغزوُ بغيرِ إذنِ الإمامِ أو نائبِهِ إلَّا إذَا كانَ من يريدُ الغزوَ لو ذَهَبَ إلى الاستئذانِ فاتهُ المقصودُ، وإلَّا إذا عطَّلَ الإمامُ الغزوَ وأقبلَ هو وجندُهُ على أمورِ الدُّنيا وغير ذلك، وإلَّا إذا كانَ مَن يريدُ الغزوَ لا يقدِرُ على الاستئذانِ ويغلبُ على ظنِّهِ أنَّهُ لو استأذَنَ لم يؤذنْ لَهُ فلا كراهَةَ في هذهِ الصور.
ويندبُ لَهُ إذا بعثَ سريةً أَنْ يؤمِّرَ عليهم، ويأخذُ البيعةَ بالثباتِ، ولَهُ
(1) كذا بالأصلِ، وفي "الروضة" (10/ 215): وأمَّا من غير أهلِ تلك الناحيةِ.
الاستعانَةُ بكفارٍ، ويشترطُ أن يؤمِّنَ حياتَهُمْ، وأن يعرفَ الإمامُ حسنَ رأيهم في المسلمينَ، وأن يكثرَ المسلمونَ بحيثُ لو انحازَ المستعانُ بهم وانضمُّوا إلى الذين يغزونهم لأمكننا مقاومَتُهم جميعًا، وأن يكونَ في المسَلمينَ قلَّة، وتمسُّ الحاجةُ إلى الاستعانةِ.
وله الاستعانةُ بعبيدٍ بإذنِ السَّادَةِ، ومراهقينَ أقوياء ليس لهمْ أصلٌ حيٌّ مسلمٌ، وإذا حصلتْ من المميزِ غير المراهقِ إعانةٌ، ورأى الإمامُ استصحابه بما يعتبر في غيرِهِ جازَ.
فإن كانَ العبدُ موصًى بمنفعتِهِ لبيتِ المالِ أو مكاتبًا كتابةً صحيحةً فللإمامِ الاستعانةُ بهمَا، والسفر بهما بغير إذنِ سيِّدِهما، وله بدل الأهبةِ والسلاحِ من بيتِ المالِ، ومِن مالِهِ.
ولا يصحُّ استئجارُ مسلمٍ للجهادِ إلَّا إذا كانَ عبدًا وأجرة مالكه للجهادِ، ووقعتِ الإجارةُ مع الإمامِ، وإلَّا إذا كانَ الحرُّ المسلمُ غيرَ بالغٍ وأجرة وليِّه للإمامِ لأجلِ الجهاد.
* ضابطٌ: ليسَ لنَا مسلمٌ يصحُّ استئجارُهُ للجهادِ إلَّا في هذينِ الموضعينِ.
ويصحُّ للإمامِ استئجارُ ذميٍّ ومعاهَدٍ للجهادِ بالشروطِ السابقةِ في الاستعانةِ من خُمُسِ الخمسِ على النصِّ، فإن أسلمَ في أثناءِ العقدِ انفسختِ الإجارةُ كما تنفسخُ بإعتاقِ العبدِ البالغِ، وبلوغُ الصبي المسلمَيْنِ المستأجرينَ للجهادِ، ولا يجوزُ لغيرِ الإمامِ من آحادِ المسلمينَ استئجارُ ذميٍّ للجهادِ على النصِّ. وفيه وجهٌ أنَّهُ يجوزُ.
ويكرهُ للنصارَى قتلُ القريب، وقتلُ المَحْرَمِ أشدُّ كراهةً من القريبِ غيره إلَّا أن يسمعَهُ يسبُّ اللَّهَ تعالَى، أَو يسبُّ رسولَهُ صلى الله عليه وسلم، فلا كراهةَ قطعًا.
ويحرمُ صبيٍّ (1) ومجنونٍ وامرأةٍ وخنثى مشكِلٍ إلَّا أن يقاتلوا فيجوزُ قتلُهُم حينئذٍ على المنصوصِ.
ويحلُّ قتلُ راهبٍ على الأظهرِ سواءٌ كانَ فيه قتالٌ أو رأي، أو لم يكنْ، ويحلُّ قتلُ الأجيرِ على المذهبِ المقطوعِ بِهِ، وهو المعتمدُ خلافًا لمنْ أثبتَ خلافًا في ذلك، ويحلُّ قتلُ الشيخِ الضعيفِ والأعمَى والزَّمِن الذينَ لا قتالَ فيهم ولا رأيٍ على الأظهرِ، فإن كانَ منهم رأيٌ قُتلوا قطعًا، وإذا جوزنَا قتلَهُم فيسترقُّونَ وتُسبَى نساؤُهم وتغنم أموالُهُم، وإن قُلنا بالمنعِ فالمذهبُ أنَّهم يسترقونَ بنفسِ الأمرِ كالنساءِ والصِّبيانِ، وتُسبَى نساؤُهم وتُغنمُ أموالُهم.
ويجوزُ حصارُ الكفَّارِ في البلادِ والقِلاع، وإرسالُ الماءِ عليهم، ورميهم بنارٍ، ومنجنيقٍ إلَّا في مكَّةَ المشرَّفَةِ، فإنَّه لو تحصَّنَ بِهَا أو بموضعٍ من حرمِهَا طائفةٌ من الكفَّارِ الحربيينَ لم يجُزْ قتالُهُم بما يعمُّ كالمنجنيقِ وغيرِهِ إذا أمكَنَ إصلاحُ الحالِ بدونِ ذلك. ولا نصبُ الحربِ عليها كغيرِها. نصَّ على هذا الأخيرِ الشافعيُّ رضي الله عنه.
وإذا لم يكنْ بالإمامِ حاجةً إلى نصبِ المنجنيقِ عليهم وفيهم نساؤهم وذراريهم يكرَهُ نصبُ المنجنيق عليهم، لأنَّهُ ربمَا يصيبُ مَن لا يحلُّ قتلُهُ، والإمامُ مستغنٍ عن ذلكَ.
وأمَّا التحريقُ والتغريقُ، فإنْ كانُوا كلُّهم مُقاتِلةً فلا بأسَ بِهِ، وإن كانَ فيهم نساؤُهم وذرارِيهم كان أشدَّ منعًا من نصبِ المنجنيقِ.
ويجوزُ للإمامِ تبييتُهم في غفلةٍ بلا كراهةٍ إذا كانَ لَهُ بالتبييتِ حاجةٌ.
ولو كانَ في البلدِ أو القلعةِ مسلمٌ أسيرٌ أو تاجرٌ مستأمنٌ أو طائفةٌ من هؤلاءِ
(1) يعني: يحرمُ قتلُ صبيٍّ.
فيجوزُ قصدُ أهلِها بالنارِ والمنجنيقِ وما في معناهُما قطعًا إنْ كانتِ ضرورةً كخوفِ ضررهم أو لم يحصل فتح القلعةِ إلَّا بِهِ، وإن لم يكنْ ضرورةً كُره ولا يحرمُ على الأظهرِ.
ولو التحمَ حربٌ فتترسُّوا بنساء وصبيانٍ جاز رميُهم عندَ الضرورةِ، وإلَّا فالأظهرُ تركُهُم.
وإن تترَّسُوا بالمسلمينَ، ولم تدعُ ضرورةٌ إلى رميهِم تركناهم، وإن دعتِ جازَ رميهم على المنصوصِ.
ويحرمُ الانصرافُ عنِ الصفِّ إذا لم يزدِ عددُ الكفَّارِ على عددِ المسلمينَ مائة ضعفًا من مائتين من أبطالهم، أو مائة وتسعة وتسعين من أبطالهم، في الأصحِّ.
ولا يحرمُ انصرافُ متحرِّفٍ لقتالٍ أو متحيِّزٍ إلى فئةٍ يستنجدُ بِهَا وهو في حالِ القدرةِ.
وأمَّا مَن عجَزَ بمرضٍ ونحوِهِ أو لم يبقَ معهُ سلاح فلَهُ الإنصرافُ بكلِّ حالٍ.
ولو ماتَ فرسُهُ ولا يقدرُ على القتالِ راجلًا فلَهُ الانصرافُ.
والعبدُ إذَا شهِدَ القتالَ بغيرِ إذنِ سيِّد لا يحرمُ عليهِ الانصرافُ، وكذلكَ النساءُ إذا شهدنَ القتالَ ثم ولينَ فإنهنَ لا يأثَمْنَ بالتوليةِ. نصَّ عليه الشافعيُّ رضي الله عنه (1).
ويجوزُ إلى فئةٍ بعيدةٍ على النصِّ، إن غلبَ على الظن أنَّ العدوَّ بقبلِهِم، فان فرُّوا كلُّهم إلى الفئةِ البعيدةِ ليدفعوا عنهم ما غلبَ على ظنِّهم من القتلِ
(1)"كتاب الأم"(4/ 179).
فيحصلُ لهم العونُ، وإذا اتفقَ لهمْ ذلك عادوا لجهادِ عدوِّهم، جازَ.
وكذلك يجوز لبعضهم أن ينصرفَ متحيزًا إلى الفئةِ البعيدةِ، لوجودِ ما حصلَ من غلبةِ الظنِّ على الأرجحِ، ومحل الجواز إذا لم يجد من جوزنا له ذلك فئةً قريبةً يتحيزُ إليها للعونِ على الجهادِ، فإنْ وجدَ امتنعَ التحيزُ إلى الفئةِ البعيدةِ قطعًا.
ثم المتحيزُ إلى الفئةِ البعيدةِ لا يشاركُ الغانمينَ فيما يغنمونَهُ بعد المفارقةِ، ولا المتحيزُ إلى الفئة القريبةِ على النصِّ، خلافًا لما في "المنهاجِ"(1) تبعًا لأصلِهِ.
فإنْ زادوا على المثلين جازَ الانصرافُ، إلَّا أَنْ يغلبَ على ظنِّ المسلمينَ أنَّهم يغلبونَ عدوَّهُم فظاهرُ المذهبِ وجوبُ المصابرةِ.
وتجوزُ المبارزةُ، فإنْ طلبَهَا كافرٌ استحبَّ الخروجُ إليهِ، وإنما يحسنُ ممنْ جرَّبَ نفسَهُ وعرفَ قوَّتَهُ وجرأتَهُ بإذنِ الإمامِ أو أميرِ الجيشِ، وتجوزُ بغيرِ الإذنِ في الأصحِّ، وأن لا يدخلَ بقتل المبارزِ ضررٌ على المسلمينَ بهزيمةٍ تحصلُ لَهُم، إمَّا لأنَّهُ كبيرهم، أو لأنَّه أَميرُهم الذي تختلُّ بعقده أمورهم. فإن كانَ كذلكَ لمْ يجُزْ أن يبارِزَ.
ولا يستحسنُ المبارزةُ من العبدِ بغيرِ إذنِ سيِّدِه، ولا منَ الولدِ بغيرِ إذنِ أصلِهِ المسلمِ.
ويجوزُ إتلافُ نباتِهم وشجرِهم لحاجةِ القتالِ، والظفرِ بهم، فإنْ علِمنَا أنَّا لا نصلُ إلى الظفرِ بهم إلَّا بفعلِ ذلكِ وجبَ فعلُهُ، كما جزَمَ بِه الماورديُّ، وهو صوابٌ.
(1)"المنهاج"(ص 309).