الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
بابُ دعوى الدَّمِ والقسامةِ والشهادةِ على الدمِ
القسامةُ مشتقَّةٌ من القسمِ، وسميتْ بها لكثرةِ القسمِ فيها، قاله الجرجانيُّ، وهي بفتحِ القافِ. قال الجوهريُّ وابنُ فارسٍ: هي اسْمُ الأيمانِ؛ لأن في روايةٍ: "تحلفونَ خمسينَ يمينًا قَسَامةً تستحقُّونَ بها" وقالَ القاضي أبو الطيبِ وغيرُه: هي اسمٌ للحالفينَ. وهو ما ذكرَهُ الأزهريُّ والرافعيُّ عن أهلِ اللغةِ. قالَ القاضي أبو الطيبِ وغيرُه: والفقهاءُ يسمُّون الأيمانَ قسامةً. قال صاحبُ "الفائقِ": وجاءتْ على بناءِ الغرامةِ والحمالةِ لاشتراكِهم في القسمِ.
ورَوَى الدارقطنيُّ (1) والبيهقيُّ (2) عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيهِ عن جدِّه أنَّ
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 157، 218) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2)
"سنن البيهقي"(10/ 252) من حديث ابن عباس.
رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "البينةُ على المدَّعِي واليمينُ على مَن أنكرَ إلَّا في القسامة" وفِي إسنادِهِ ضعفٌ، لكنْ قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: إسنادُهُ لينٌ فخففَ أمرهُ.
وأوَّلُ مَن قضى بِها في الجاهليةِ الوليدُ بنُ المغيرةِ، كما قالَهُ ابنُ قتيبةَ، وأقرَّهُ الشارعُ في الإسلامِ.
يشترطُ أن يفصلَ ما يدعِيه من عمدٍ وشبهِ عمدٍ وخطأٍ وانفرادٍ وشركةٍ، فإنْ أطلقَ استفصلَهُ القاضي على النصِّ استحبابًا، وقيلَ يعرضُ عنهُ، ويشترط أن يُعَيِّنَ المدَّعَى عليهِ، فلو قالَ: قتلَهُ أحدُ هؤلاءِ العشرةِ ولا أعرفُ عَيْنهُ فتسمعُ الدعوى على الأصحِّ للحاجةِ، ولا يحلفهم القاضي على الأصحِّ للإبهامِ، ويجري الوجهانِ في دعوى غصبٍ وسرقةٍ وإتلافٍ وأخذِ الضالَّةِ.
والضابطُ بجريانها أن يكونَ سببُ الدعوى قد يخفى متعاطيه على المستحقِّ؛ لأنَّه مما ينفردُ به المُدَّعى عليه.
وشرطُ سماعِ الدَّعوى أن تكونَ مِن مكلَّفٍ ملتزمٍ، وتسمعُ دعوى المعاهَدِ وإن لم يكنْ ملتزمًا إذا ادَّعى بمالٍ استحقَّه على مسلمٍ أو ذميٍّ أو مستأمنٍ مثله، أو ادعى دمَ مورثه الذمي أو المستأمن.
وتُسمع دعوى الحربيِّ وإن لم يكنْ ملتزمًا للأحكامِ، فيما إذا اقترضَ منه حربيٌّ شيئًا أو اشتراهُ منه ثم أسلمَ المعترض أو المشتري، أو دخلَ إلينا بأمانٍ فإن المنصوصَ المعتمدَ أن دَيْنَ الحربيِّ باقٍ بحالِهِ.
ولو اقترضَ منهم مسلمٌ في دارِ الحربِ شيئًا أو اشتراهُ ليبعثَ إليهِم ثمنه أو أعطوهُ شيئًا ليبيعَهُ في دارِ الإسلامِ ويبعثه إليهم، فإنَّهُ يلزمه ذلكَ، وحينئذٍ فتسمعُ الدَّعوى من الحربيِّ، لكنْ يكون في أمانٍ بطلب ذلك فإنَّهُ لا يبطلُ حقه من ذلكَ.
وشرطُ المُدَّعَى عليه أن يكونَ مكلفًا فلا تُسمع الدعوى على صبيٍّ ومجنونٍ، وتسمعُ على المحجورِ عليه بالفلسِ والسَّفهِ والرقِّ، وتسمعُ الدعوى على المستأمنِ وإن لم يكنْ ملتزمًا للأحكامِ كما تقدَّم، وتسمعُ الدعوى على الحربيِّ إذا صدرَ منهُ الإتلافَ في حالِ التزامِهِ.
وإذا ادَّعى انفراده بالقتلِ، ثم ادَّعى على آخر لم تسمعِ الثانيةُ إذا لم يصدقْهُ الثاني، فإنْ صدَّقهُ الثاني سمعتِ الدعوى على الثاني، ويؤاخذُ المقر، ويُعمل بمقتضى إقراره على الأصحِّ.
ثم إن لم يقسم في الدعوى الأولى فلا يمضي حكمها، ولا يُمَكَّنُ من العودِ إليها، وإن مضى حكمها والحكمُ بالمال، فإن وجد منه ما يرفع الأولى كقوله:"ليس الأول قائلًا"، فإنَّهُ يردُّ المالَ المأخوذَ على مستحقهِ.
وإنْ وجدَ منه أنَّ الثاني شريك فيرتفعُ ذلك من أصلِهِ، وتنبني قسامةٌ على الاشتراكِ الذِي ادَّعاهُ آخرُ كما هو قياسُ البابِ.
وإن ذكر عمدًا ثم وصفَهُ لغيره لم يبطلْ أصلُ الحقِّ في الأظهرِ، ولا يحتاجُ إلى تجديدِ دَعْوَى في الأصحِّ.
ثم إنْ فسَّر العمدَ بالخطأ أو بعمدِ الخطأ فهل يقسم أم لا؟ فيه خلافٌ، قال شيخُنا: والذي عندَنا أنَّه تترتبُ صورةُ العدول منَ العمدِ إلى الخطأِ على صورةِ العدولِ من العمدِ إلى عمدِ الخطأ فإنْ قُلنا هناكَ لا يقسمُ، فهنا أوْلَى، وإنْ قُلنا هناكَ يقسمُ، فههنا وجهانِ؛ لأنَّ العمدَ قدْ يلتبسُ بعمدِ الخطأِ، بخلافِ الخطأِ المحضِ، والأصحُّ أنَّهُ يقسمُ لاشتراكِهما في الرجوعِ مِن الأغلظِ إلى الأخفِّ. انتهى.
وتثبتُ القسامةُ في القتلِ بمحلِّ لوثٍ، وهي قرينةٌ تغلبُ وتوقعُ في القلبِ
صدقَ المُدَّعِي، فإنْ وجدَ قتيلٌ أو بعضُه إذا تحققَ موتُه في محلِّةٍ أو قريةٍ صغيرةٍ لأعدائِه أو أعداءِ قبيلتِه أو تفرَّقَ عنهُ جمعٌ يعتبرُ أَنْ يكونوا على وجهٍ ينحصرُ قبلَ القتيلِ فيهم، وإنما تثبتُ القسامةُ بذلكَ حيثَ لم يعرفْ مَن قتلَهُ ببينةٍ أو بإقرارٍ أوْ بعلمِ الحاكمِ.
وأمَّا إذا وقعَ في الشبه العامِ والخاصِّ أنَّ زيدًا قتلَ فلانًا فهذا لا يثبتُ به عليهِ القتلُ ولكنَّه يكونُ لوثًا في حقِّه.
ولو تقابلَ صفَّانِ لقتالٍ، وانكشفوا عن قتيلٍ فإنِ التحمَ قتالٌ كانَ لوثًا في حقِّ الصفِّ الآخرِ لأنَّه يغلبُ عندَ التحامِ القتالِ أنَّ أهلَ كلِّ صفٍّ يطلبونَ قتلَ الآخرينَ، فإذا تفرَّقُوا عن قتيلٍ كان لوثًا في حقِّ الطالبينَ.
وإنْ لم يلتحمِ القتالُ فهو لوثٌ في حقِّ أهلِ صفِّه إذا لمْ يترامَى الصفَّانِ، فإنْ ترامَى الصفَّانِ وكان ينالُه رَميُ أضدادِهِ فإنَّه يكونُ لوثًا في حقِّ أضدادِه.
وقولُ عدلٍ فيما لا يثبتُ بشاهدٍ ويمين لوث، وكذا قولُ نساء وعبيدٍ بشرطِ التفرُّقِ على النصِّ، وليس قولُ فسقةٍ وصبيان وكفارٍ لوثًا في الأصحِّ.
ولو ظهرَ لوثٌ فقال أحدُ ابنيهِ: قتلَهُ فلانٌ، وكذَّبَهُ الآخرُ، وقد ثبتَ اللوثُ بالشاهدِ الواحدِ بعد الدعوَى، والحالُ أنَّ المدعي قتلُ شبه عمدٍ أو خطأ، فلا يبطلُ هذا اللوثُ بتكذيبِ أحدِ الولدينِ قطعًا، بناءً على أن شهادة العدلِ الواحدِ لوثٌ، ولو ثبتَ اللوثُ في حقِّ أهلِ المحلة أو الجماعةِ كما تقدَّم واتفقَ الأخَوانِ على ذلك، ولكن عيَّن الذي كذَّبَ أخاهُ آخرُ، وقالَ: هذا هو القاتلُ. ولم يكذِّبْهُ أخوهُ فيما قَالَهُ، فإنَّهُ لا يبطلُ حقُّ الذي كذَّب أخاهُ من الذي عيَّنَهُ لأنَّ المعنَى المقتضي لإبطالِ القسامةِ أنَّ اللوثَ قد انخرمَ الظنُّ به، وإنما انخرمَ الظنُّ في المعينِ لا في أصلِ اللوثِ، لاتفاقِ الأخوينِ على
اللوثِ الثابتِ بالنسبة إلى أهل المحِلَّةِ أو الجماعةِ، ولا سيما إذا كان للقتلِ المدعى به شبهُ عمدٍ أو خطأَ، وكانت عاقلةُ المعينين واحدة، كأب وابن، اختلف الوارثان في تعيينهما من أهلِ المحلةِ والجماعةِ.
وإذا كذَّبه الآخرُ ولم يثبتِ اللوثُ بشاهدٍ واحدٍ بعد الدعوَى ولا يثبتُ الموتُ في حقِّ أهلِ المحلةِ أو الجماعةِ على ما تقدَّمَ، فلا يبطلُ اللوثُ أيضًا على أصحِّ القولينِ؛ لأنَّ الشافعيُّ قطَعَ بهِ في موضعِ منَ "الأمِّ" و"مختصر المزنيِّ" واختاره المزنيُّ، وقدمهُ الشافعيُّ في كلِّ موضعٍ، وصححهُ البغويُّ، والدليلُ يعضدهُ، فهو المعتمدُ خلافًا لما في "المنهاجِ" تبعًا لأصله من تصحيح بطلان اللوثِ. وقيل: لا يبطلُ اللوثُ بتكذيبِ فاسقٍ.
ولو قالَ أحدُهما: قتلَهُ فلانٌ وآخر لا أعرفهُ، وقال الآخر: قتلهُ فلانٌ وآخرُ لا أعرفُه، حلفَ كلّ منهما على ما عيَّنُه وله ربعُ الديةِ، ولو ظهر لوثٌ تأجَّلَ قبلَ دونَ عمدٍ وخطأ، وفصل الولي سمعتِ الدعوى بلا خلافٍ، وأقسم قطعًا، ومتَى لم يفصل لم تسمعِ الدعوَى وتثبتُ القسامةُ، فإذا حلفَ الوليُّ غرَّمنا الجاني الديةَ مخففةً مؤجَّلةً في ثلاثِ سنينَ؛ لأنَّ قتلَ العمدِ لم يثبُتْ ولا شبه العمدِ، والمخففةُ أقلُّ ما يجبُ، فألزمناهُ.
قالَ شيخُنا: ولم أرَ أحدًا حرَّرَ هذا الموضعَ علَى ما ينبغي. انتهى.
ولا يقسمُ في طرفٍ وإتلافِ مالٍ إلَّا في قتلِ عبدٍ على المذهبِ، فلو جرحَ وهو عبدٌ ثمَّ أعتقَ وماتَ حرًّا ثبتتِ القسامةُ للسيدِ قطعًا، والقسامةُ أن يحلفَ الورثةُ أو السيدُ أو هُما على قتلٍ ادَّعاه خمسين يمينًا، وكذا الحكم لو ازدحمَ جماعةٌ ومنهم حاملٌ فأجهضتْ جنينًا فللمستحقِّ بالغرَّةِ أن يحلفَ كما صرَّح به الماورديُّ، وهو مقتضى كلامِ غيرِه، ولا يسمَّى هذا قتلًا، وإنما