الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السفن والمراكب في بغداد
في عهد العباسيين
منذ قامت بغداد في جوار الفرات، وتوسدت ضفتي دجلة بعد أن نازعت دمشق أعنة السلطة واستقلت دونها بعرش الخلافة وسرير الملك، تعددت فيها السفن والمراكب وتنوعت في شطوطها الزوارق والقوارب، لاحتياج السكان إليها في الجانبين الشرقي والغربي للعبور من جهة إلى أخرى؛ فضلا عن الخروج للتفرج والتنزه، وارتياد أماكن القصف واللهو. فاتخذها كل ذي سعة وتنافس القوم في اقتنائها على اختلاف في أشكالها وضروبها. وتباين في أوضاعها ورسومها، قال البشاري:(والناس ببغداد يذهبون ويجيئون ويعبرون في السفن وترى لهم جلبة وضوضاء وثلثا طيب بغداد في ذلك الشط)(احسن التقاسيم ص124).
ولذلك اقبل المرتزقون على الملاحة وتزاحموا عليها حتى اصبحوا أمة لوحدهم بقضهم وقضيضهم. ولما اعرس المأمون ببوران قال الشابشتي (كان يجري في جملة الجرايات في كل يوم على نيف وثلاثين ألف ملاح)(برلين كتاب الديارات ع8321 ص68) وكفى بهذا القول دليلا على ما بلغت إليه الملاحة في ذلك العصر.
ولما استفحل الملك وتدفقت سيول الثروة على بغداد فأصبحت (أم الدنيا وسيدة البلاد)(مراصد الاطلاع 1: 163) عمد أهل الترف والبذخ إلى هذه السفن فتفننوا في بنائها وإتقانها وأبدعوا ما شاءت أبهة السلطان وبطر الغني في تطويرها وتزيينها فأخرجوها على صور شتى وحاكوا بها خلقة الحيوان والطير كالليث والفيل والعقاب والغراب والجراد والدلفين. وقد حفظ لنا أبو نواس بعض هذه الأسماء فقال يمدح الأمين:
ألا ترى ما أعطي الأمين
…
أعطي ما لم تره العيون
ولم تكن تظنه الظنون
…
الليث والعقاب والدلفين
ولكن لشؤم الطالع الذي تولى تاريخ الصناعات في الشرق العربي لم ينته إلينا في ما بأيدينا من كتب الأدب والتاريخ شيء من صنعة هذه المراكب وتفصيل عمارتها مع ما كان لها وقتئذ من الخطورة وجلالة الخطب وتعدد دور الصناعة لها في الإبلة ومصر وعكا وصور.
فلابد لنا من الاكتفاء ببعض الإشارات التي نلمحها في الشعر لذلك العهد وان كانت لا تدل على كبير أمر. وقد وجدت لجانب منها ذكرا لا يخلو من بعض الفائدة في شعر أبي نؤاس مرآة البيئة العباسية وهو قوله يمدح الأمين وصف به حراقتي الليث والعقاب:
سخر الله للامين مطايا
…
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سار برا
…
سار في الماء راكبا ليث غاب
أتسد باسط ذراعيه يعدو
…
أهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السوط (م)
…
ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صو
…
رة ليث يمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه
…
كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحي
…
ن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما (م)
…
استعجلوها لجيئة وذهاب
وقال يمدحه أيضاً:
قد ركب الدلفين بدر الدجى
…
مقتحما في الماء قد لججا
لم تر عيني مثله مركبا
…
احسن أن سار وان عرجا
إذا استحثته مجاذيفه
…
أعنق فوق الماء أو هملجا
قال الاصبهاني راوي الديوان قال أبو هفان (اتخذ محمد (الأمين) الدلفين والغرابية والجرادية والكوثرية) (ص671 - 771)
ومما يزيد في نكاية هذا الداء، داء سكوت الكتبة والمؤرخين عن كل ما يتعلق بالمهن والصناعات والحرف والتجارات، أنه لم يتصد أحد من المشتغلين باللغة لأفراد رسالة أو مقالة يستوعب فيها كل أسماء المراكب والسفن وأدواتها
المتخذة في الإسلام مع شدة الافتقار إلى مثلها اليوم لتفهم بعض المتون والأخبار. ولو شاء بعض رواد الآثار العربية تتبع ألفاظها المحدثة حتى في مظانها من المعاجم وكتب الدخيل والمعرب والمولد لفاته منها جانب غير يسير يراه مذكورا في بعض كتب التواريخ والبلدان والأدب على غير صحة ولا ضبط. وقد سرد منها البشاري وحده نيفا وثلاثين اسما غلب التحريف والخفاء على أكثرها ولكنه لم ينص على موضع استعمال كل منها (احسن التقاسيم ص31 - 32)
فلا بأس إذن أن انقل هنا ما يحضرني منها مما مر بي أثناء مطالعتي مقتصرا فيه على ما كان في بغداد وحدها في ما عدا ما تقدم ذكره منها وهي:
الحراقة، والطيار، والشذاة، والشذاءة، والشذاوة، والزبزب، والسميرية والسمارية، والزلال، والشبارة، والحديدي.
ومما يدل تسميها على عراقيتها (الواسطية) نسبة إلى واسط ذكرها البشاري ولاشك إنها كانت ترد أحيانا بغداد. ويلحق بها المراكب الخيطية كانت تعمل بالابلة ويركب فيها إلى الصين (كتاب البلدان لليعقوبي ص360). وهنالك أسماء آخر لم أتثبتها أو لم تتصل بنا. وكل هذا الذي نقلته منها صحيح اللفظ مضبوطه ولدي شواهد عليه لا أرى حاجة إلى إيرادها لعدم الخلاف فيها ما خلا (الحديدي) نبه عليه صاحب السعادة احمد باشا تيمور في مقالته الممتعة في تفسير الألفاظ العباسية. قال وهو نوع من السفن ولم اقف على وصفه ولا اعلم أن كان صحيح اللفظ أو محرفا (مجلة المجمع العربي 246: 1923) فاستدركه عليه حضرة الأب انستاس قال وأظن الصحيح هو الجدي (المجلة المذكورة ص382) ولذلك استميح حضرة الأب عفوا في نقل بعض الشواهد على صحة لفظ الحديدي كما حكاه التنوخي في نشوار المحاضرة (ص206)
قال محمد بن عبد الملك الهمداني في الجزء الاول من تكملة تاريخ الطبري (نسخة خزانة باريس ع 1469)
لما صار ابن رائق بالمدائن أمره الراضي بالانحدار إلى واسط وأضافها إلى أعماله من البصرة وغيرها فكان ابن ياقوت برامهرمز. عازما على التوجه إلى اصبهان
(فكوتب بالاصعاد فالتقى ابن ياقوت في طيارة وابن رائق في حديدية فسلم كل واحد منهما على صاحبه إيماء من غير قيام)(ص56)
وقال بعد ذلك:
(ودخل البريدي بغداد. . . لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 329. . . وكان معه من الزبازب، والطيارات، والحديديات، والشذاءات ما لا يحصى)(ص79)
وقال أيضاً في حوادث سنة 364:
(وراسل عضد الدولة الطائع لله بابي محمد بن معروف حتى استعاده ودخل إلى بغداد في
حديدي جلس على سطحه وخرج عضد الدولة في طياره فتلقاه قريبا من قطيعه أم جعفر وصعد الحديدي وقبل البساط ويد الطائع لله) (143)
وممن ذكر الحديدي أيضاً غير مرة ابن الفوطي في تاريخه المحفوظ في الخزانة التيمورية ومن العبث الإطالة بنقله. فيكون قد توارد ثلاثة من العلماء والمؤرخين على استعمال هذا اللفظ: التنوخي، والهمداني، وابن الفوطي. ومثل هذا الإجماع كاف في مقام الاستشهاد. ولعل الحديدي سمي كذلك لدخول الحديد في بنائه.
وقد يسبق إلى الظن أن اتخاذ السفن في بغداد كان مباحا وطلقا لمن شاء كيف شاء ولم تكن قط حسبة عليه كسائر الصناعات والحرف. ولكن يؤخذ من شهادة الشابشتي أن بناء المراكب كان مقيدا محصورا ليس في جملته فقط بل في تحديد طوله وعرضه. وهو قوله:
(اشتهى بعض ولد الرشيد التفرج والتنزه في الماء فأراد أن يبني زلالا يجلس فيه فمنعه اسحق (ابن إبراهيم الطاهري خليفة السلطان ببغداد) وقال هذا شيء لا نحب أن نعمل مثله إلا بأمر أمير المؤمنين وإذنه فكتب إلى المعتصم يستأذنه في ذلك فخرج الأمر إلى اسحق بإطلاقه له. فكتب اسحق: (ورد علي كتاب من أمير المؤمنين بإطلاق بناء زلال لم يحد لي طوله ولا عرضه فوقفت أمره إلى أن استطلع الرأي في ذلك (فكتب إليه يحمده على احتياطه ويحد له ذرع الزلال)(الديارات ص 14 - 15)
وهذا من أدل الدلائل على ما كانت عليه رسوم الولاية ونظام المعيشة والصناعات في الصدر الاول من العصر العباسي من الاحتياط والضبط وقلة الفوضى في أوقات الدعة والسكون وهو ما يبعث على التحسر والأسف أن لا يكون تعرض أحد من السلف لتدوين خصائص هذه الحضارة الباهرة التي تفردت بها على ضفافي دجلة والنيل الدولتان العباسية في بغداد والفاطمية في مصر.
افالون (فرنسة): حبيب الزيات
(لغة العرب): - من يطلع على هذه المقالة يقدر علم الكاتب. وهو من الراسخي القدم في التحقيق والتدقيق. ونحن نشكره على هذه المقالة البديعة ونستزيده في هذا الموضوع وأشباهه. أما المركب المسمى (الحديدي) فلقد أصاب حضرته المحن. وكنا نحن قد وجدنا (الجدي) في كتاب خطي كان عندنا يقول صاحبه ما هذا حرفة. قال أبو القاسم يحتاج أن
تعرف ألوان المراكب من السفن، والسميريات، والمراكب العماليات، والزبازب، والطيارات، والشذوات، والبرمات، والحراقات، والزلالات، والمالست (كذا)، والكمندوريات، والبالوع، والطبطاب، والخيطيات، والجدي، والجاسوس، والورحيات، والقوارب، والشلملي، والزو. اه
وكنا قد ظننا أن (الجدي) هي من الروايات الصحيحة، لمشابهة هذا الاسم لاسم الحيوان المعروف، لكننا نرى الآن أن الحديدي هو الصحيح ولم يبقى شك في هذه التسمية بعد أن ذكر لنا الكاتب المحقق الشهادات العديدة التي أورد نصها.
(استدراك بخصوص آل قشعم)
قلت في هذه المجلة (139: 5) أن أول ذكر عرفته عن آل قشعم في العراق لا يتعدى العقد الثاني من القرن الحادي عشر وفاتني أن كلشن خلفا الذي نقلت عنه الخبر كان قد ذكرهم قبل ذلك. وهذا تعريب ما فيه:
ولما دخلت سنة 953 (1546م) سار الوالي الوزير (اياس باشا والي بغداد قاصدا البصرة) فزار بطريقه الروضة الرضية لفاتح خيبر (علي بن أبي طالب) لاستحصال الاستعداد للفتح والظفر ثم حرك الوالي ركابه إلى البصرة بعد أن اتلف شيخ آل قشعم الذي كان قد سلك طريق الطغيان مؤذيا الناس في تلك الأنحاء. . .) اهـ
يعقوب نعوم سركيس