الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غادة بابل
2 -
انفردت شميرام في مخدعها وهي أشبه شيء بنجم الصباح المتلألئ في الأفق: ربعة القوام، عبلة الساعدين، رخصة الجسد، لدنة المعاطف، جميلة الأنف كبنات جنسها الساميات، حوراء البشرة، دعجاء، وطفاء، شعرها أسود حالك جثل، قد ضفرته ضفيرتين، وعقصته حول رأسها على شكل العقال، وقد لوحتها شمس بابل، وتدفقت الخمرة على شربتها في دمها حتى سرت في عروق خديها الاسيلين، وصبغتهما صبغاً لطيفاً يخجل الورد منه، وأثر فيهما تزاحم شعرها وهاجرة النهار، فعلتهما لآلئ من العرق حتى ليظن الناظر إليها أنها حورية من حور الجنان. ثم أخذت تناجي نفسها بما يشبه هذه الأقوال:
مالك يا قلبي خافق في صدري؟ ومالك يا مخيلتي تتعبيني بالأشباح والأخيلة؟، كنت قبل اليوم لا أعرف للهم منبتاً، ولا للحزن موطناً! فما أنت أيها الحب حتى سطوت فقسوت وحكمت فبغيت؟ كنت أحب شمشو حباً هادئاً حب بنت الخال لأبن عمتها، أو حب الشقيقة لشقيقها. فأستمر ذلك الحب حتى استولى الغرام على قلب خال فاستحكم. وتكيف حب العشيرة فأصبح لواعج هوى، وأضحت كل جارحة مؤلمة، آه! أنا بنت أشرف أشراف بابل، أنا بنت الدلال والترف، من ذا الذي ينقذني من هذا المأزق؟ إذ لا قدرة لي على احتمال ذا الضيم، ولا طاقة لي على ركوب هذا المركب الخشن! فقد أربد الكون في عيني، وانسدل عليهما سجف من الظلام فلا تبصران الشمس ولا تتمتعان بالنظر إلى القمر والكواكب وهل في سماء الشبيبة شمس غير شمس شمشو. وهل في أفق بابل قمر غير حبيبي، وأنا للكواكب أن تبقى في ريع السماع ولا تتواري خجلاً من سنائه!. . أنت أنت يا شمشو علة شقائي. . . ما أسعد الشقاء في سبيل حبك. وما أسعدني لو عدمت الحياة فداء لك. ولكن بئست
السعادة التي يقضى نعيمها في البعد عنك. ما الحيلة في الاستيلاء على قلبك؟ وكيف يهون عليك أن تتركني العوبة بيد الأحزان.
وهب إن شمشو يوافقني في الحب والزواج.: لكن هناك حبيبتة حتراء فإنها تقف عقبة كؤودا في وجهنا. كيف أتخلص من مراقبتها وأدفع عني شرها؟.
ولما أتت على ذكر حتراء رقيبتها في الحب شعرت بانقباض شديد لم تتمالك من أن تتنهد وتنفس الصعداء ثم استخرطت في البكاء فتساقطت دموعها تساقط الطل على الورد وتناثرت تناثر اللآلئ على الأرجوان فكفكفت دموعها بإصبعها وسمحت خديها بقطعة من نسيج كانت بيدها تريد خياطتها. فدخلت في هذه المطاوي والدتها ريماة ولمحت آثار البكاء عليها فاستغربت منها هذه الحال وقالت لها: بنيتي ما الذي يبكيك؟
شيمرام - رأيت حلماً في الليل الماضي فأزعجني وكدرني كل الكدر فتشاءمت منه. ريماة - وما هو حلمك؟ فإن كان داعياً للقلق عمدنا إلى الكهنة والسحرة والمنجمين واتخذنا التعاويذ والطلاسم والرقى واتقينا شر الأرواح الشريرة وإلا فلا تكترثي له.
شيمرام - رأيت كلباً أسود داخل الهيكل وقلب تمثال الإله (مردوخ) وحطمه ورأيت في غرفتي هذه طفلاً بلا حنك أدخلته علي نتو.
ريماة - أن دخول الكلب الأسود في الهيكل يدل على أن أسس ذلك الهيكل غير مكينة تتداعى؛ أما سقوط التمثال وتحطمه فيشير إلى تدهور المملكة وزوال مجده؛ ويشير الطفل الذي لا حنك له إلى أن حياة الملك طويلة إلا أن البيت الذي ولد فيه ينقض حجراً حجراً. غير أني أسألك يا شيمرام: هل كان الطفل ناقص الحنكين أو أحدهما. فإذا كان حنكه الأسفل فقط ناقصاً فيدل على أن غلات هذه السنة لا تقل.
شميران - لا يا أماه أنه ناقص الحنكين. ولكن كيف تعللين وجود نتو في هذه الأمور وتوسطها في إدخال الطفل في غرفتي؟
ريماة - إن الصور التي تراءت لك في الحلم والأشباح التي ظهر تلك في النوم لو رأيتها في اليقظة، لدلت على ما فسرته لك، ولا بد من أن التفسير يختلف على ما أعتقد ما بين الحلم واليقظة، وبين الحالين فرق بين لا وسع لي على فك مغلقة. فالكهنة المنجمون الكلدان متضلعون من هذه الأسرار وتفاسيرها. فما علينا إلا الذهاب إلى بيروس الكاهن فيوقفنا على حقيقة الأمر.
ثقل وقع بيروس على مسامع شيمرام. وشعرت بضغط جديد على قلبها ولكنها تجلدت وأجابت والدتها قائلة: إني لا أركن إلى أقاويل بيروس، لا بل أنفر منه نفور الظباء من بين يدي الصياد.
ريماة - يا بنيتي، لا تستخفي بالكهنة، ولا تشكي في علمهم، وقدرتهم على معرفة الأسرار وتفسير الأحلام أشهر من أن تذكر لأن بينهم وبين الأرواح صلات مجدولة القوى وثيقة العرى. إنهم ينفعون ويضرون؛ يقيمون ويقعدون؛ يصلحون ويفسدون.
شيمرام - لا أقول شيئاً عن الكهنة وقدرتهم، ولكن لا أثق في بيروس وقد زاد الطين بلة في هذا الصباح، حتى حين كنت في الهيكل، فإنه تذرع بكل الوسائل ليسود على قلبي، لا بل طاردني مطاردة العشاق لكني وقفت في وجهه كالطود الشامخ، وإذ لم يظفر مني بأمنيته تزلف من نتو وجعلها صلة له في حاجته فأرجعتها بخفي حنين.
ريماة - لولا المخافة من حدوث شر مستطير لأبلغت الخبر إلى والدك، إذ يعز علينا نحن أشراف بابل أن نرى رجلاً يخاطب بناتنا ونسائنا بهذا المعنى، وما جزاؤه إلا القتل. غير إني أضرب صفحاً عن ذكر هذا الخبر لوالدك حقناً للدماء.
شيمرام - دعي يا والدتي اسم بيروس الدجال نسياً منسياً، فإن ابنتك عفيفة الجانب تتنزه عن المعايب ولا تشغل بالها إلا بما يرضيك.
ريماة - بنيتي! إن النصيب الذي أذخرته لك يفوق كل نصيب فأنت خطيبة شمشو ابن عمتك.
شيمرام - أنا أطوع إليك من بنانك ولكن شمشو. . . واغرورقت عيناها بالدموع ثم غصت.
ريماة - سكني من روعك واهدئي وألقي حملك علي وأنا أدبر الأمر. إن شمشو لا يحيد عن أمري وأمر أبيك لما هو عليه من الارتباك في أحواله وفي أسباب عيشه. . .
ولم تزد على هذا الكلام بل أرادت أن تلهي شيمرام عن اضطرابها وروعها واشتغالها بموضوع يعذب فكرها. فقالت لها بنيتي يجب علينا اليوم أن نعد كل شيء لأن نهار الغد هو يوم راحة للنفس (أي سبتو) فيجب أن نطبخ الطبيخ ونغير الثياب. إذ يحضر علينا القيام بمثل هذه الأمور في يوم الراحة الذي يأتينا خمساً في كل شهر، في اليوم السابع والرابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين والثامن والعشرين، كما أنه يحضر تقديم القرابين ويمنع على الملك مخاطبة الشعب وركوب المركبات أو القيام بأي عمل مدنياً كان أو عسكرياً، حتى الاستشفاء بالأدوية.
شميرام - مالنا وذكر يوم الراحة، فكل أيامنا (سبتو) فلسنا نحن الذين نطبخ في البيت ولسنا ملوكاً لنكلم الشعب أو نركب العجلات (العربات). أما ثيابي فقد غيرتها هذا الصباح. وإني قلقة البال غير مرتاحة لأن أغيرها مرة ثانية وأتزين بألبستي الجميلة. فأعد الشهور وأحصي الأيام، لأن الحياة كلها تعب، وها إننا في الشهر الثاني عشر من السنة ولم أذق لماظة من السعادة في نيسانو شهر الإلهين أنو وبل، ولا في آيارو المخصص ب (أيا) ولم يكن (سوانو) والآلهة (سن) أسعد لي منهما. ولما جاء شهر دوزو، قلت أن الآلهة آذار سيقشع هذه الغمامة عن قلبي ولكن خابت آمالي وأخذت أعلل النفس بزوال الهموم في شهر آبو وعقدت حبل رجائي بملكة القوس وهكذا توالت الشهور الولو وتسرينو وأرخ سمنا وكسليمو ولم تشفع بي آلهتها إشتر وشمش ومردوخ ونرجل وعقبها طيبتو وشباتو وهذا أدارو ولم تكن آلهتها بابسكال وريمونو الآلهة السبعة العظيمة أرفق بي من سواهم فلا
أدري أي الأيام يوم سعد لي، ولا أدري كيف يقول المنجمون إن في السنة أيام سعد وأيام نحس، فهل سنتي كلها، يا ترى، سداها بؤس ولحمتها شقاء؟ وهل كان يوم ولادتي يوم نحس وتعس؟. . .
فقاطعتها والدتها ساخرة من أقوالها وندبها حالها وقالت لها ضاحكة: إن سعادتك في شهر (أراخو مخرو) وهو الشهر الكبيس الذي يضاف كل ست سنوات إلى الإثني عشر شهراً. وسيأتي بعد السنة التالية. وأعلمي، يا شميرام، أن الفأل يختلف باختلاف العوامل التي تفعل في الحظوظ. فمن الأحلام ما هو من دواعي الهناء ومن ما هو من بواعث الشقاء، وللحيوانات والطيور والأشكال الهندسية مؤثرات في حظوظ البشر، ولا يعلم ذلك إلا الآلهة والكهنة والمنجمون الراسخون في العلم. وأزيدك علماً إنني قد استشرت السحرة والمنجمين عن طالعك وعزموا الأرواح على هذه النية فطمأنوني وقالوا إن مستقبلك سعيد وإن شمشو يكون نصيبك مهما فتلته فاتلات الحب والغرام عن غيرك. فثقي بي. وسآخذك بعد ظهر هذا اليوم إلى التنزه لترويح النفس فكوني على أهبة.
أخذت ريماة ابنتها شميرام ومعهما ثلة من العبيد والجواري إلى التنزه إلا نتو فإنها تمارضت وبقيت في البيت. سارت ريماة وشميرام وأتباعهما في طرق بابل حتى وصلوا أسوار المدينة الداخلية ومروا من باب المدينة تحت طاق معقود وما عتموا أن اجتازوا
أسوارها الخارجية وجلسوا هناك على شاطئ الفرات وكان نسيم الصبا يلعب بالنفوس فيطربها ومما كان يزيد المشهد بهجة وسحراً أغاني السفافين وأصواتهم الرخيمة فمنهم من كان ينحدر في النهر بالمقاذيف ومنهم من كان يصعده بنشر الشرع أو بالجر بالحبال. وكان العركيون يصطادون البز والشبوط والبني وهم فرحون بمسرات الحياة الشظفة كان فيهم من يصيد بالشرك ومنهم بالصنارة. . . تشاهد هناك القفف وهي سفن مدورة مصنوعة من أغصان الشجر والخوص مطلية بالقار. و (الاكلاك) وهي سفن مؤلفة من قرب أو (أجواد) منفوخة يربط بعضها ببعض بحبال من ألياف النخل وفوقها خشب وهي تحمل البضاعات والغلات والفواكه اليابسة والرخام والصخر من
نتاج بلاد الشام وفي كل كلك رجلان أو ثلاثة أو أربعة هم أصحاب ذلك المركب. وإذا نظر المرء إلى البر رأى قوافل التجار آتية من بلاد الفنيقيين حاملة العاج وأواني الخزف والأصباغ والتحف والنفائس والأثواب (والأقمشة) الغالية الأثمان.
لم تنبسط نفس شميرام برؤية هذه المشاهد، ولمة ترمقها بنظرها إلا كرها أو استخفافا. ومهما حاولت والدتها ريماة أن تلهيها أو تطربها ازدادت انقباظاً وتأوهاً وتفكرا في شمشو. فعجزت والدتها عن إفراج الهم عنها فهمت راجعة بها إلى البيت. وإذا بجلبة عظيمة وأصوات وقع حوافر خيل وبغال وقعقعة دواليب عجلات وبمناد ينادي: أفسحوا الطريق لملك الملوك، لسيد الأقوام، لسلطان الاقاليم، قفوا تعظيماً وإجلالاً لملك الرقاب، للقابض على مقدرات الشعوب، لصديق الآلهة وحبيب الأرباب.
فكان الناس يخففون السير ويلجئون إلى إحدى زوايا الجادة أو الطرق المتشبعة منها والذي لا يقوون على أحد الآمرين كانوا يصطفون صفوفاً منظمة على جانبي الطريق أو يخرون سجداً إلى الأذقان. وكان الفلاحون يتركون حقولهم ويركضون لمشاهدة الموكب الملوكي.
مر الموكب بوقار وأبهة بين تهليل وتصدية الجمهور احتفاء بالملك الراجع من القنص والصيد رجوع منتصر ظافر بعد أن غاب عن عاصمته خمسة عشر يوماً لهذه الغاية وكان أعد العدد وهيأ الأسباب لهذه الحملة أو الرحلة إلى الفرات الأوسط.
جاءت طليعة الجيش الجرار وعقبها الملك جالساً في مركبه وفوق رأسه مظلة من نسيج مطرز بالأحمر والأزرق والسائق في الجانب الأيمن يقود الجياد ويمنعها العثار وهناك
خصيان في طرفي المركبة بأيدهما مذبات لطرد الذباب وكانت مركبات الأمراء تتلو مركبة الملك فمركبات الوزراء فرهط من الخيالة حاملين القنا، فالمشاة، فالكلابون (فمربو الكلاب)، فالخدم، فالبغال وهي حاملة الأثقال والمعدات والخيام والصيد. وكان بين غنائم الصيد ثلاثة أسود وعدد من الغزلان وبعض الدببة وفرأ واحد ونعامة. وشيء كثير من الطيور كالحباري ومالك
الحزين (البلشون) وغيرها.
وبين الأسود الثلاثة أسد كبير الجثة، حي يزأر زئيراً يردد صداه فضاء بابل الواسع، وقد صاده الملك برمية قوس هدت شيئاً من قوته ثم صارعه صراعاً عظيماً، عرضت حياة الملك للخطر: فأتى إلى نجدته نفر من حاملي الرماح إلا أنه أنتهرهم شجاعة وأخذ من يد أحدهم الرمح وغرز نصل في قفا الأسد حتى شكه شكاً في الأرض وصرع الليث ثم أذن للجنود بالتقدم فأخذوا الأسد ووثقوه وقادوه إلى المعسكر وهم فرحون ببسالة ملكهم العظيم.
وعلى أثر هذا الفوز المبين والنصر الباهر قدم الملك تقدمة شكر إلى الآلهة، فوقف أمامه كاهنان وبيد كل منهما كنارة وهما متهيئان ليوقعا عليهما ترنيمة الشكر؛ ثم أتي بالأسد ووقف الملك مع حاشيته وبيده القوس فقدم إليه وزيره كأساً مترعة خمر مقدسة فذاقها ثم أفرغها على الصيد وللحال صدحت الموسيقى بترنيمة الشكر.
وكان هذا الفوز أحدوثة جميع الناس في المدن والقرى والدساكر والاندية،
مرت تلك الجموع فزحمت الطريق فضاقت بريماة فعطفت على طريق ثانية تخلصاً من هذا الازدحام. وبينما كانت سائرة أستوقف أنظارها وأنظار جماعتها السوق القائمة في أحد ميادين المدينة كانت تعرض فيها البنات للزواج؛ والسمسار يصيح بصوت جهوري واصفاً جمال هذه، وحسن تلك، ومعدداً حسنات الأخرى وأخلاقها وآدابها وتفننا في بيان مقومات الكياسة ما شاءت الفصاحة والبلاغة، فتارة يطرئ الجمال ومؤثراته في الحياة وسيادته على القلوب وما يولده فيها من الفرح والسرور وطوراً يفضل عليه الأخلاق الحميدة وجمال الآداب وما تورثه من السعادة في البيت بعد الزواج حسب البنت المعروضة في تلك السوق. ومن وقت لآخر كان ينادي معرفاً ثمن السياق (المهر) الذي يجب أ، يدفعه الشاب الراغب في تلك الابنة الجميلة أو البائنة التي تدفع عن الأخرى الدميمة الصورة للشاب الراغب في زواجها. وهناك رجل آخر يقبض مهر الجميلات ويدفع منه بائنة عن الدميمات
وقد اكتظت ساحة الميدان بالشبان الراغبين بالزواج وبالمتفرجين من جميع الطبقات وكان الشبان يطوفون على البنات وينظرون
إليهن نظرات طويلة، لا بل يتقدمون منهن ويفحصونهن فحصاً دقيقاً من قمة الرأس حتى أخمص القدم كأنهم يشترون السائمة أو الخيل.
وكانت الابنة التي تميل إلى أحد الشبان تشير إليه بغمزاتها الفتانة سراً، وتومئ إليه خلسة معربة عما يكنه فؤادها من الحب والهوى. فالجميلات منهن كن يتبخترن ويتباهين ويغازلن الرجال تائهات دلالاً وساحبات أذيال العجب آتيات سحراً حلالاً، وكانت الدميمات يخفين بلباقة خاصة بالإناث ما يذهب بتلك الدمامة فيزين وجوههن بوسائل صناعة التحسين أي بالدهن والصبغ والطلاء والكحل والخضاب، ويبتسمن ابتسامات زائفة، وحركات وسكنات كاذبة، لا تخفى على عيون الشبان الناقدين، والرجال الباصرين، حتى إنهم كانوا يسمعونهن بعض قوارص الكلام فتثور الثائرة داخلهن وتنقبض نفوسهن ألماً وجزعا من هذا الاستخفاف والاستهزاء لاعنات الطبيعة الجائرة التي حرمتهن مظاهر الجمال.
فتثاقلت شميرام في السير وهي تنظر إلى تلك السوق نظرة آسف متألم وخاطبت أمها قائلة: يؤلمني وأيم الحق حال هذه البنات اللواتي يبعن ويشترين في السوق العامة كأنهن أسيرات أو إماء (عبدات). ولا ذنب لهن سوى أنهن ولدن في طبقة العامة المعدمة، فلو كن من الطبقات العليا لما عرضن عرض السلع.
فأجابتها والدتها: ما هذه الحال فيك يا بنيتي فإنك تتبرمين من كل شيء وتنقدين المعتقدات والعادات وتنظرين إلى الدنيا وما فيها نظرة شؤم، فهل في هذا المشهد ما يؤلم أو يؤسف؟ والذي أراه أنا هو نظر كله فرح وحبور وحب وزواج وفيه تتحقق رغبات البنات والشبان وأكبر ملذات الحياة فيجب أن نضحك ونمرح في هذه السوق.
فلم تحر شميرام جواباً ولكنها لم توافق والدتها في قولها.
لندع شميرام وأمها في طريقهما ونرجع إلى بيتهما ونرى ما جرى فيه من التدابير والمؤامرات في غيابهما.
غر شيطان الطمع نتو، الخادمة الوفية والنجية المخلصة حتى اليوم فحدثتها نفسها بسوء، مدفوعة بمواعيد بيروس الخلابة. وصممت على أن تتذرع بكل
الوسائل لتحمل سيدتها
الفتاة على الاقتران بالكاهن الكلداني. فوقفت على باب الدار منتظرة مروره من هناك لتفاوضه في الطرق الموصلة إلى غايتهما. جاءها بيروس فأفضت إليه بالحديث الذي جرى بينهما وبين شميرام وأطلعته على سر الحب المستحكم في قلب سيدتها، وشغفها بابن عمتها وإعراضها عن الاقتران بكاهن له زوج غيرها وأوقفته على انشغال شمشو بحب حتراء بنت أجيبي الصراف ولكن ضيق يده عقبة كؤود تحول دون خطبته لها. وهو أبي النفس عزيز الأخلاق لا يجنح إلى مفاتحة أبيها بالأمر لئلا يسمع كلمة الرفض فتمس كرامته.
واقترحت على بيروس أن يمد شركاً يصطاد به ذلك الفتى ويبعده عن الديار إلى بلاد نازحة بأمل الربح والتجارة ويتآمر على اغتياله في الأقطار الغريبة أو يضع عقبات في سبيل رجوعه إلى الوطن وينشر أخباراً كاذبة تنعيه فإذا تقادم العهد على سفره ويئست شميرام من عودته تداعى بنيان الحب في قلبها فيسهل آنئذ إقامة صرح آخر في هذا القلب يكون بيروس الآمر الناهي فيه والسائد عليه.
كان لهذه الألفاظ وقع عظيم في نفس الكاهن الكلداني الأمارة بالسوء فودع نتو وذهب مهرولاً إلى الهيكل وهو مفكر في حل هذه المعضلة ومد شرك الهلاك لشمشو.
انقضى ذلك الليل وثلاث أرواح تتصادم في الفضاء الأوسع في نزاع وجدال وهي روح شميرام العاشقة، وروح شمشو التائهة المضطربة، وروح بيروس الظالمة العاتية.
يوسف غنيمة
القثار والقيثارة
أنكر بعضهم ورود هذين اللفظيين في كلام الأقدمين من السلف، قلنا: نعم. لكنهما جاءا في كلام مولدينا فقد ذكر القثار الشقندي (راجع مجلة المقتبس 1: 298 و 437) وذكر القيثارة المسعودي في مروج الذهب (8: 91 من طبعة باريس)، قال عنها:(لها اثنا عشر وتراً) اهـ.