الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غادة بابل
رواية تاريخية أخلاقية تصف الحياة في بابل
خرجت شميرام من قصرها في بابل تلك المدينة المطلة على الفرات. وكان هذا الصرح الشامخ في الجانب المعروف ب (خديميرا) أي باب الله. فوقفت على ضفة النهر وشرعت تنظر إلى الجانب الآخر نظرة متعجب دهش، لما ظهر لها من الأبنية المنسقة، والقصور الباذخة. والآثار الشاخصة في جانب (دنتبرا) أي محل شجرة الحياة. فأطربتها روية أشجار الصفصاف المتدلية الأغصان الوارفة الظل ومنظر النخل الباسق الذي ينطح كبد السماء ثم حان لها التفاتة إلى الجواري والوصائف اللواتي كن معها فقالت لهن: انصرفن جميعكن إلى البيت ولا يبق معي هنا إلا (نتو) نجيتي. إذ لي نذر أريد أن أقوم به في هيكل الآلهة (أنو وبل وأيا). وربما يطول مكثي فيه فتنتظركن والدتي وتستبطئكن.
ما كان منهن إلا أن رجعن على أعقابهن. تلبية لأمر سيدتهن، بعد أن قبلن يديها، وقمن بأداء فرائض الاحترام والعبودية.
انفردت شميرام بنتو نجيتها وساد السكوت بينهما. وكانت شميرام مطرقة ذاهلة كأن في خاطرها فكرا يجول وتريد أن تكتشفه لنتو. وتستطلعها على أسرار ضميرها. ولكن عاملا سريا كان يعقد لسانها.
شاهدت نتو حالة سيدتها وعرفت شيئا من اضطرابها وحيرتها غير أنها لم تجسر على أن تبادرها بالكلام أو تلقي عليها سؤالا. وما كان منهما حتى بلغتا برجا شاهقا عليه آثار الأبهة، والعظمة بادية عليه، وعلائم المجد والوقار ظاهرة فيه وهو ذو سبع طبقات كل طبقة منها مصبوغة بلون فضلا عن النقوش البديعة المتقنة التي ترى عليها مما يأخذ بمجامع القلوب ويفتن الأنظار.
كانت الطبقة الأولى مصبوغة بالأبيض والثانية بالأسود والثالثة بالقرمزي
والرابعة بالأزرق والخامسة بالأحمر والسادسة محلاة بالفضة والسابعة بالذهب. وفي قمة الطبقة السابعة تمثال من ذهب علوه عشرون قدما للإله (بل) وفي جانب هذه الزقورة مائدة من النضار. وكانت شمس بابل وأنوارها شمس بابل وأنوارها المتألقة الصافية تضرب على
تمثال الذهب فيتلألأ كأنه شعلة يملأ ضياؤه العيون وكأن الهيكل عالم الفناء يناجي عالم البقاء. وكان هذا البرج هيكلا أقيم لعبادة الآلهة السبعة.
مرت شميرام بهذا المعهد الديني ولم تحفل به. وغفلت عن القيام بفروض الخضوع والاحترام لارتباك أفكارها، والهواجس الكثيرة التي كانت تنتابها فانتهزت نتو هذه الفرصة لتقطع السكوت الذي كان سائدا بينهما وقالت لها: سيدتي اسمحي لي أن أقول لك إننا بازاء الزقورة وحضرتك المبجلة قد غفلت عن القيام بشعائر الدين وواجبات الاحترام وهذا مما ينزل عليك غضب الآلهة ويجلب إليك انتقامها منك.
فانتهرتها شميرام قائلة: دعيني يا نتو فإن الهموم قد ساورتني وغشت على بصري وبصيرتي. فأين هي الزقورة يا أمة السوء؟ فإنني لم أشاهدها ولا علم لي بمرورنا بها.
نتو - سيدتي أنى تساورك الأحزان وعلام يد الأشجان قد ضربت على أوتار قلبك بريشة اليأس حتى أن صدى الهموم يمازج نبرات صوتك فتبدو على محياك الوسيم ظواهر الغم والأسى. ويفعل الجوى في نفسك فعلا ينسيك أقدس الواجبات حتى أنه لم يفسح لك مجالا لتتقدسي بمشاهدة مهبط نعم الآلهة عند اجتيازنا بالزقورة.
شميرام - أواه! وا حسرتاه! لو أصاب ما في نفسي جبل كردو لدكه دكا وبسطه بسطا. ولو كانت نار حزني في عهد أبينا (ستنبشتم) لنشفت مياه الطوفان وأقفر العالم. اه! أيها الإله (بل) إنك حنقت على الإنسان في عهد ذلك البار وعزمت على أن تمحوه وتلاشي نسله بمياه الطوفان ولكن توسلات البار (ستنبشتم) هدأت غضبك ونالت نصيبا من عفوك ورضوانك. فقلبي الصغير معذب اليوم باعذبة مبرحة
وغارق في سيل مرمرم ما لم تنجه رحمتك وتفرج عني بعض الفرج.
أفلا تعطف على شرخ شبابي وريعان عمري؟
نتو - ماذا داهمك اليوم حتى ألقاك في هذا اليم من الحزن والكآبة لا بل قلب فرحك حزنا ورجاءك يأسا؟ عهدي بك الغنج والدلال والفرح والمرح؟ فما سر هذا الانقلاب فيك؟
شميرام - وأي رجاء لي؟ إن المنية لا حلى لي من حياة كلها مرائر. والقبر عندي أفسح فضاء وأسعد مثوى من قصور الملوك.
نتو - سيدتي العزيزة! لقد اتخذت تبرمك حتى الآن بين الجد والهزل إذ لم أجد داعيا يثير
كوامن شجاك فالآلهة قد غمرتك بنعم كثيرة ودرت عليك إخلاف إحسانها وعوارفها. انبتتك في بيت تحسده عليك البيوت إذ له مجد مؤثل، وشرف موروث وشهرة بعيدة وثروة طائلة. وقد تك من أديم الحسن والجمال والبهجة والنضارة وزينتك بكل بديع رائع.
وأنت في بيت والدتك ربة الأمر والنهي. ولا تكادين تنبسين ببنت شفة حتى تتحقق رغباتك فما تبرمك إلا بطرا، وما حزنك إلا وليد أوهام وأشباح.
كانت شميرام تسمع هذا الكلام ساخرة. هازة رأسها هزة الاستخفاف بكل هذه النعم: ولما انتهت نتو من خطابها، أجابتها بصوت يقاطعه اليأس والأسف: وهل تجهلين يا نتو أن النعمة قد تكون حينا نقمة. ويكون الشرف الرفيع عائلا على هوى القلب. وما الغنى والحب والنسب والجمال والشبيبة إلا عوامل تقيد الإنسان إن لم تخدم رغائب النفس. فللنفس سلطان شديد الشكيمة إن لم يطع يمت الجسم نحيلا.
نتو - سيدتي: خففي عنك جزعك ففي عباراتك أحاجي وألغاز يعسر على الكهنة فك غوامضها، فأنى لي كشف أسرارها فبوحي لي بما يكنه صدرك لعلي أرشدك إلى ما يسري عنك الهم، هذا وأنا رهينة إشارتك وأطوع إليك من أناملك وأفدي حياتي لسرورك وكل ما عز علي يهون لي في سبيل رضائك.
في هذه التضاعيف بلغت شميرام ونتو الهيكل فانقطع الكلام بينهما.
الهيكل بناء فخم واسع الأرجاء ثابت الأركان محكم البنيان متقن الهندسة تفنن أرباب الصناعات في إفراغه في قالب الإتقان فأتى طرفة بديعة في آثاره البابلية إذ ترى جدرانه التصاوير الناتئة وهي تمثل الحيوانات والأشجار المتضاربة الأنواع المصبوغة بالألوان الزاهية الزاهرة مما يسر النظر ويطرب الخاطر. وفي الهيكل أصنام الآلهة المختلفة وقد نحتت نحتا في الحجر والصخر وقد أجاد صانعوها كل الإجادة حتى أنهم حاكوا الطبيعة في مقوماتها وتشخيص أعضائها وتمثيل أدق أجزائها. وكان تمثال الإله (أنو) على شكل إنسان ذي لحية طويلة له ذنب كذنب النسر ورأسه رأس سمكة تسقط على كتفه وظهره وتمثال الإله (بل) بهيئة ملك جالس على عرش عظيم وللإله (ايا) أربعة أجنحة مبسوطة. وهناك غير هذه التماثيل.
كان هيكل غاصا بالزوار والمتعبدين. وفي طرف منه مذبح تقدم عليه الضحايا والقرابين.
هناك توقد النيران في مواقدها ويحرق البخور في مجامره فتندلع ألسنة نارية من الأولى تلقي هيبة وجلالا في المعهد الديني ويعطر دخان البخور بأريجه فضاء الهيكل وتتصاعد منه سحابة كأنها تريد أن تجمع بين الأرض والسماء فيؤثر هذا المشهد الفتان تأثيرا سريا في النفوس. ويزيد الكهنة المنظر بهاء بنبراتهم الدينية. فتراهم يقومون بسدانة الهيكل ويطوفون بتمثال الإله وينشدون الأناشيد بصوت رخيم وبين آونة وأخرى يتمتعون بألفاظ لا تفهم، عليها مسحة السحر وعلى محياهم علائم الرياء بادية إذ اتخذوا المين والخداع من أجل الوسائل للاستبداد بالشعب والتبسط في السلطة واحتكروا العلم والعرفان وتذرعوا بهما ليضيقوا الخناق على الشعب الجاهل ويستنزفوا ثروته.
تقدمت شميرام في الهيكل وقد ضاقت بالأحزان ذرعا. وأخذت تناجي الآلهة بلقب متلهف ولوعة محترقة واغرورقت عيناها بالدموع وهي لا تعي أفي الدنيا هي أم في عالم الأرواح وهجست في نفسها أن عاملا سريا يدفعها إلى مراقي الألوهية فقالت: أيها الإله (أنو) أبا الآلهة ورب العالم الأسفل ورب
الظلمات والكنوز الخفية المستترة يا من القدرة طوع أرادتك، والسلطان مسخر في خدمتك والكون لك مقدس والعالم لك معبد. ويا أيها الإله (بل) يا رب العالم يا من بيده مفاتيح الأقاليم ومقاليد الأصقاع والبلاد والممالك، يا من تخضع له الأرواح صاغرة، يا من يلتجئ إلى ربو بيتك العبيد والضعفاء، ويا أيها الإله (ايا) يا رب العقول ومرشد الإفهام يا رب العالم المنظور وسيد الكائنات، وينبوع العلوم ومعدن الشرف، وأصل الحياة، نستمد من أنوارك الإلهية الرشد والعون والأيد، أيتها الآلهة الثلاثة انظروا عطفا على جبلتكم وصنعة أيديكم التي ترزح تحت البلايا والمصائب ارحموها رحمة واسعة.
بينما كانت شميرام تقوم بالصلاة كان (بيروس) الكاهن الكلداني يرمقها بنظره ويحاول أن يكشف ما في نفسها ويقف على ما في ضميرها. وزاد رغبة في ذلك حين رأى عليها ملامح الحسن والجمال فصبت إليها نفسه وخفق قلبه شوقا وغراما. فأخذ يفكر طويلا في العامل الذي حمل تلك الفتاة على التنهدات والزفرات وأنت تعلم أن الكاهن الكلداني فطن لبق في استمالة الشعب وله مقدرة فريدة على إغواء القوم وقراءة مخبئات صدورهم. وكان موقف شميرام أم يدل على شيء مما في نفسها إذ كانت في الهيكل أشبه شيء بالحمامة
الساجعة على فنن الشجرة تغرد مستعطفة أليفها. فحف إليها مترنما طريا وقد أسكرته الخمرة التي شربها منذ الصباح وعبقت فيه أنفاس الحميا فمر بين الجمهور يميد ويتمايل وهو يسارق النظر إلى الغادات فتثير في قلبه ثائرات الشعور. فتقدم من شميرام وقال لها: أيتها الفتاة عدي الإله (بل) وعدا صادقا بأن تخصصي نفسك له ليلة تقضينها في هيكله في التهجد والعبادة فيزورك ويقدسك وهو يرأف بلا مرية بشيبتك وينيلك رغبات قلبك فهو شفيق رحيم ولا سيما يعطف على عبداته اللواتي يخلصن له النية. وعديني بالقرابين والضحايا وأنا ألقنك صلاة الآلهة (إشتر) إلاهة اللذات والتناسل فتشفق عليك وعلى شعورك وغرامك فتظفري بموضوع حبك.
وكانت ظواهر البشر تلوح على وجه شميرام وكل لفظة من لسان ذلك الدجال كانت تبعث وميض الرجاء في نفسها وتحيي ميت آمالها فارتاحت إلى
أقاويله وعقدت بها حبل أمانيها ولا سيما نجيتها نتو فإنها مهدت لها الطرق ووافقت على نصائح بيروس قائلة: أن الكهنة يناجون الآلهة فتوحي إليهم كل ما هو صالح للبشر، فثقي بقوله ووطدي رجاءك وأعملي بما يوصيك به. فأخذهما أنئذ بيروس ووقف بهما بين يدي تمثال الآلهة أشتر وهي معبودة عريضة الوجه واضعة يديها على صدرها ثم لقنهما صلاة تلتاها بعبادة.
ولما انتهت الصلاة غادرتا الهيكل. وتبع بيروس خطواتها. وفي مجاز الهيكل همس في أذن نتو كلاما لم تشعر به شميرام لانشغال بالها.
قالت نتو لشميرام: عسى أن الآلهة تقبل أدعيتنا وتستجيب صلواتنا لا سيما بيروس سيقدم إليها الضحايا والقرابين. وهل فكرت جيدا أيتها السيدة كيف أنه أحلك مقاما رفيعا. فتقدم إلينا لمن بين أقرانه الكهنة ووازرنا في بغيتنا. الحق يقال أن أريحيته عن كرم عنصره.
شميرام - تلك فريضة عليه وعلى فرقته الكلدان.
نتو - بينك وبين بيروس بون شاسع وبين القلبين فج عميق.
شميرام - ماذا تعنين بكلامك وإلى م تومئين؟
نتو - إن الآلهة عطفت عليك وتيمت قلبا في حبك.
شميرام - ومن ذا؟
نتو - بيروس الكاهن.
شميرام - أنا بواد والآلهة بواد. فلم تألب الكون وآلهته، والطبيعة وأربابها على اغتصاب قلبي، لا وايلو! لا اتخذ قرينا إلا شمشو، شمس الزمان وبدر الشبان. ألا تعلمين يا نتو أن بيروس متزوج بامرأتين فكيف ترضين به زوجا لي فأكون ثالثتهما.
نتو - أنى تحبين شمشو؟ وماذا يهمك زواج بيروس أنه يتخذك أعلاهما مقاما وتكونين عنده ربة الحل والعقد.
شميرام - أني لا أصبو إلى غير شمشو نجل عمتي فهو بغيتي الوحيدة.
نتو - أولا تعلمين أن شمشو مفتون بحب غيرك؟
شميرام - ألعلك تريدين أن تقولي أنه يحب حترا بنت أجيبي الصراف؟
نتو - نعم. أما بيروس فمشغوف بهواك. ويفدي كل عزيز غال في سبيل حبك.
شميرام - أن شمشو وإن كان يهوى غيري إلا أني أهواه، ومن أحق من بنت الخال بابن عمتها وسأبذل جهدي في أسر قلبه بحب غير حب ابن العمة لابنة خاله. وسيساعدني الزمان على ذلك. ومن ذا الذي يقدر أن يمحو حبه من فؤادي فلا أطمع في حب غيره. ولا مرية في أن مجرى الحب سيتصل بفؤادي ويتخذ له من القلب إلى القلب سبيلا.
نتو - لا أرى داعيا لتعلقك وهيامك بشمشو وهو مشغول عنك بعشيقته.
فخير لك أن تحبي من يهواك وتدفعي عنك عناء أنت في غنى عنه.
شميرام - اضربي صفحا عن ذكر بيروس فهذا أمر يعد تحقيقه من رابع المستحيلات ولا أمالئك عليه ولا يطاوعني قلبي أن أحبه. وهبي أني تعلقت به فدون ذلك عقبات جمة. ووالدي يقف عشرة في سبيل هذا الزواج ولا يعطيني لكاهن لما بين طبقة الإشراف والكهنة من التنافر والخصام في بابل.
نتو - مالك إلا أن تلقي زمام الموافقة في حب بيروس وهو يدبر الأمر مع والدك.
لما رأت شميرام هذا الإلحاح قطبت حاجبيها وقالت يكفيك يا عبدة السوء أن تحاولي السيادة على قلبي ولا أرضى أن تفاتحيني مرة أخرى بهذه المزعجات المكدرات.
فانزعجت نتو من هذا اللوم وانقبض صدرها من توبيخ سيدتها ولكنها كظمت الغيظ. وأنى لها أن تظهره وهي من الجواري وفي عنقها قطعة من الحديد مكتوب عليها أنها ملك شلمان كرادو (أي أبي شميرام) ولكنها أضمرت لها سوءا وفكرت في تدبير حيلة تصطادها بها.
وكانت شميرام تسرح نظرها في طرق بابل الواسعة المستقيمة وتشاهد البيوت الفخمة وقصور الملوك وتقر عينا برؤية الجنان والبساتين المحاذية البيوت وتسر بمشاهدة المروج الملاصقة قصور الأمراء والأشراف والمثرين المرصدة لزراعة البقول وشاهدت في الطريق الخيل والحمير والحمالين ينقلون أشياء
كثيرة. فالتفتت إلى نتو وقالت: ماذا يحمل هؤلاء الحمالون؟ فأجابتها: يحملون القار والزفت.
شميرام - من أين يأتون به ولأي شيء يصلح؟
نتو - يأتون به من مدينة هيت التي تبعد ثمانية أيام عن حاضرتنا. فإنه ينبجس من الأرض ويتدفق في نهر هيت فيجمع ويتخذ للبناء والتبليط.
شميرام - انظري يا نتو كيف أن النساء في الدكاكين والمخازن سافرات الوجه يقضين أوقاتهن ذهابا وإيابا في الأزقة ويحملن أولادهن على ظهورن.
نتو - نعم يا سيدتي. تلك النساء العامة أما الشريفات مثلك فإنهن سجينات البيوت لا يخرجن إلى الهيكل إلا نادرا أو لزيارة أصدقائهن محتاطات بالجواري والعبيد كأن الرجال يريدون اختطافهن وهن يتبخترن في الطريق تيها ودلالا.
شميرام - أني لا أحب هذه الفخفخة وأفضل عليها البساطة ولهذا لا أود أن يحف بي العبيد والجواري وأحب شيء إلي من ذلك كله أن أقضي أوقاتي بمسامرتك.
نتو - سيدتي أني أتشرف بمرافقتك وبعطفك علي وأتلقى كل كلمة تفوهين بها بالترحاب وإن كانت زجرا وتأنيبا. لأني أنا التي عنيت بك وقد حملتك طفلة على ذراعي. ثم حاولت نتو أن نذكرها بانتفاضها من حديثها عن بيروس غير أن سيدتها خفت مهرولة ودخلت البيت.
لبيت شميرام أو بيت شلمان كرادو كما يعرفه البابليون شهرة بعيدة لعظمته وبنائه. لأن صاحبه من الأشراف المثرين في المدينة. في مدخل هذه الدار مجاز طويل مظلم معقود بالآجر يفضي إلى ساحة واسعة الفناء مطلقة الهواء تشرق عليها الشمس فتبهجها. وحوالي هذه العرصة تقوم الأبنية. وأمام الغرف رواق مسقف ووجه البناء على هيئة طاق تسنده أعمدة. والبناء طبقة واحدة والغرف ضيقة مستطيلة الشكل. وسقوف بعضها معقودة بالآجر وغيرها مسقفة تسقيفا مسطحا بجذوع النخل. وبعض هذه الغرف مخصص بالسكنى
وبعضها بالمؤن. ولها سطح واحد يصعدون إليه بدرج مبني بالآجر والبيوت تطل بعضها على بعض.
وفي البيت سرداب لا ينفذ إليه إلا نور ضئيل يقضي فيه سكانه هاجرة الحر.
ويقسم البيت إلى ثلاثة أقسام. قسم للرجال وقسم للحريم والقسم الثالث للمطبخ والعبيد والجواري. والمطبخ مشيد باللبن. ووراء البيت جنينة وحقل للزرع. وكان الأثاث كراسي مختلفة الأشكال وحصرانا منسوجة من الخوص وخابي وأوعية وحبابا مشوية بالنار ومطلية بالألوان. وفي غرفة شلمان كرادو وامرأته سريران من خشب قوائمهما على شكل أرجل أسد وفوق كل سرير فراش وثير ولحافان. وكذا قل عن سرير شميرام. وفي غرفة شميرام أم سجادة بديعة قد نسجتها بيديها في وقت الفراغ. وهناك أوعية صغيرة للكحل والحمرة وأصباغ الوجه والشعر وغيرها من أدوات الزينة. وفي المطبخ رحى وتنور وقدور كبيرة. وفي الدار صواني ومائدة وملاعق وشوكات للأكل. كان العبيد والجواري يقومون بأشغال البيت من طحن وعجن وخبز وطبخ وغسل ثياب وغيرها.
كانت تجتمع أسرة (عائلة) شلمان كرادو يوميا للأكل معا إلا أن النساء يعتزلن الرجال في المآدب.
شبت شميرام في ذلك البيت أليفة الدلال وحليفة الشرف تقضي معظم أوقاتها في البطالة ومحادثة جاراتها من السطح وما كانت تترك السطح إلا إذا اشتدت حرارة الشمس وتعود إليه عند الشمس إلى المغيب وكانت تزور أحيانا صديقاتها في بيوتهن أو تذهب إلى التنزه أو إلى الهيكل للصلاة وقلما تعاني مشقة أشغال البيت مثل بنات الأوساط أو الفقراء. وعندما يضيمها الضجر ويلحقها السأم تعمد إلى الخياطة والتطريز وكانت حياتها على هذا الطرز من الفقر والكسل شأن كل بنات بابل المترفهات الناعمات.
لما صارت شميرام في فناء الدار رفعت نقابها وعمدت إلى كوز (تنكة) كانت معلقة بجسر الممشى وارتشفت الخمرة التي كانت فيها حتى ثمالتها واتجهت توا إلى غرفتها ومدت الحصير على الأرض واستندت إلى الوسائد الناعمة ثم أطلقت نفسها للهواجس.
يوسف غنيمة