الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المكاتبة والمذاكرة
الشعر في مصر
لقد جاء نقدكم لفوضى الأدب في مصر بمناسبة تعليقكم على رثاء أبي شادي للفقيد الجليل الدكتور يعقوب صروف (راجع ص283 ج5 س5) - من اسطع الأدلة على حاجة الأدباء في العالم العربي إلى مجلتكم القيمة، لان هذه الشجاعة الأدبية العظيمة المحمودة التي تضيء بها سبيل المهتدين من اندر النوادر في هذا العالم العربي المنكوب (بالمحسوبية) والمحاباة والمجاملة إلى درجة مزرية بالأخلاق والشرف.
وبين الأدباء في مصر من يدهشهم تعالي أدباء العراق عنهم، ناسين أن هذا لا يرجع إلى كبرياء وغطرسة في الطبع، ولا إلى غرور ممقوت، وإنما يرجع إلى سبب خلقي معقول: فان الكثير من الصحف والمجلات المصرية تستهويه المجاملات، ويدين في باب الأدب عامة والشعر خاصة إلى نفوذ شوقي بك. وهو من نعلم جميعا في غناه غير المكتسب، وهو من أصبحنا ندرك أن حظه الأدبي في هذه الدنيا الطنطنة باسمه على حساب غيره، لا ليقال انه شاعر العالم العربي فقط بل شاعر العالم اجمع، وإلى هذه الغاية تتجه جميع حركاته وسكناته وروحاته وغدواته، وهكذا جعل أساطين الأدب ولا سيما المستشرقين يضحكون منه ومنا!!. .
يترفع إذن أدباء العراق بحق عن المشاركة في هذه السخافات ويؤلمهم أن يروا رجال الشعر في مصر من طائفة المحافظين عقبة كأداء في طريق المجددين المخلصين وان يروا نفرا ممن ينتسبون إلى التجديد يحسدون ويحاربون من هم على شاكلتهم ومن هم أولى بتعضيدهم ومؤازرتهم! وكل هذه الأحوال الشاذة الغريبة التي لا مثيل لها بهذه الدرجة في قطر عربي آخر مما يؤدي إلى
هذا التنافر، وإلى السخرية أحيانا من حالة الشعر والشعراء في مصر، ويشارك العراقيين في هذه السخرية من أحوال الديار المصرية أدباء المهجر على الأخص.
لنترك الحكيم زكي أبا شادي جانبا ولننظر إلى حالة غيره من الأدباء المجددين النابهين في مصر، لأنه إذا كان لأبي شادي من ثقته بعقيدته الأدبية ومن إيمانه بفكره ومبادئه ورسالته
الإصلاحية ما يزجيه إلى الإنتاج المفيد والإنجاب المتواصل رغم ما يلاقيه من مقاومة، فهناك كثيرون من الأدباء الناشئين الصالحين يقتل مواهبهم اليأس وجمود الجمهور وتخرب الصحف التي تقفل أنهارها في وجوههم، وهكذا يخسر الأدب العصري خسارة كبيرة من ضياع إنتاجهم، ولا تغنينا فتيلا الطنطنة بذكر شوقي وحافظ والكاشف وإضرابهم من الشعراء المحافظين. . . فالدفاع عن مواهب هؤلاء الناشئين الالباء فرض واجب على (لغة العرب) وعلى غيرها من المجلات الإصلاحية النزيهة.
ومن عجائب القدر - على ذكر كتابتكم عن أبي شادي - أن وفاة زعيم النيل الكبير سعد زغلول باشا أنطقت في مصر جميع الشعراء المطبوعين والصانعين والمقلدين والناظمين العاثرين، فكان المجددون من الشعراء المصريين اسبق إلى أداء هذا الواجب القومي الأدبي من غيرهم، وكانوا أوفر عاطفة واصدق إحساسا واغرز مادة كما دلت على ذلك قصائدهم التي نشرتها الصحف المصرية فلما جاءت حفلات الأربعين لم تنشر هذه الصحف لكبار الشعراء المحافظين شيئا باهرا على الإطلاق. . . وقد نظم أبو شادي وحده طائفة من الأناشيد التلحينية والقصيد في رثاء سعد وبينها مرثيته الحائية المتناقلة التي نظمها يوم الوفاة متأججة بالعاطفة القوية وكذلك قصيدة ذكرى الأربعين، فلم يجيء شوقي بك بمعنى يبرز به معاني أبي شادي في منظوماته بل لم يتعفف كما لم يتعفف أمثاله عن الاقتباس الكثير من معانيها ومراميها، ورغم هذا لم تخجل صحيفة (الأهرام) - أحد السنة شوقي بك المعروفة - من تصديرها بمقدمة كلها شعوذة وتهريج. . . ولا شك في أن شوقي بك - في أقصى ضميره - يعلم عجزه هذا، لأنه أولا لم يرث سعدا باخلاص، وثانيا قد حاول انه يستر ضعفه هذا بستار من اللغة كأنما نود أن نقرأ في شعره منظومة (مقامات الحريري) لا صورة فنية خالدة
للعاطفة الوطنية الحية والحسرة البالغة والألم الصادق، وبدأ - عافاه الله - قصيدته بهذا البيت العجيب:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها
…
وانحنى الشرق عليها فبكاها!
وليس هذا من براعة الاستهلال في شيء بل العكس، وما يظن فيه مراعاة للنظير إنما هو مراعاة للسخف، لان هذا البيت في مستهل القصيدة لا يناسب مجاهدا مثل سعد زغلول ولا يدرك سامعه انه رثاء لسعد بل قد يحسبه رثاء لإحدى النساء العظيمات أو لإحدى الملكات
المحسنات، وكان الأولى به أن يترك هذا الوصف المؤنث إلى موقف آخر في القصيدة يكون انسب من هذا، ولكن ذهنه الكليل أدركه الكبر كما أفسده جنون الشهرة، فعثر في أول النظم. . . وخير ما في مقدمة قصيدته بعد ذلك المطلع المخجل منظور فيه إلى قول أبي شادي:
صبغت به حمر الورود وضرجت
…
بدم بذلت مدامع لاقاح!
وتشبعت بجميل حبك غضة
…
فتجاذبت بأريجها الفياح!
والقصيدة في جملتها خالية من كل جديد ولم تبلغ حتى منزلة قصيدة حافظ بك إبراهيم بين المحافظين دع عنك قصيدة عباس محمود العقاد أو قصيدة محمود عماد بين المجددين، وبعد هذا ينتقد شوقي شعر العقاد بأنه جاف كثير الثرثرة لا حياة فيه ولا حلاوة له، ويعطف على شعر الجارم الذي جاءت مرثيته في ذكرى الأربعين خالية من كل طريف مقصورة على ألفاظ مرصوفة وعلى جملة من المعاني القديمة، وإذ شاء التجديد النسبي اقتبسه من نظم غيره مثل قوله:
وعقيدة لو هزت الاجبال من
…
ذعر لما اهتزت مع الاجبال!
فانه مأخوذ من قول أبي شادي منذ سنين:
تخر الراسيات ولا سبيل
…
إلى هدم الكريم من اعتقاد!
وبعد كل هذا يعجب أولئك السادة المحافظون لتجنب معظم أدباء العرب - وفي مقدمتهم أدباء العراق - الاشتراك في المهازل الشوقية والمجاملات الفارغة
التي لم يربح منها الأدب الصحيح أية غنيمة، بل كانت عاملا من عوامل التأخر الفكري وإساءة إلى نهضة الشعر في مصر وإلى كرامته. . .
وقد تعمد بعضهم أن يرد على مثل هذا النقد بتصغير فضل شعراء العراق زورا وبهتانا، ويكفي في مقام الرد البليغ أن نقول: أن لأولئك الشعراء العراقيين (ذاتية) عظيمة ومبادئ محمودة وإيثار شريفا وغيره أدبية صادقة يخدمون بها الأدب للأدب لا للشهرة ولا للمجد الشخصي الزائف، وحسبهم ذلك منزلة واعتبار. وليس في هذه الكلمة الصريحة الخالصة ما يؤلم اللبيب البصير فصديق المرء من صدقه لا من صدقه كما قال حكيم العرب، وسلام على من اتبع الهدى فعرف قدر نفسه.
مصر: جهينة
بين القديم والحديث
ما يزال حديث بعض الأدباء المحافظين - المرضى بالرغبة الدائمة في هدم كل جديد - المقارنة السخيفة بين نظيم شوقي ومن على شاكلته وبين شعر الطبقة الناشئة المجددة من شعراء العربية كايليا أبي ماضي وبشارة الخوري واحمد زكي أبي شادي ومحمود عماد وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران وامثالهم، محاولين دائما الحط من منزلة الأخيرين دون ما خجل رغم آثارهم الحية الغنية عن التنويه بها.
ومن اعجب غرائبهم ادعاؤهم - حبا في الإيقاع والإساءة - أن هؤلاء الذين ينتسبون إلى التجديد مفلسون، ينقل بعضهم عن كتابة البعض الآخر بغير اعتراف ولا استحياء، وان من شواهد ذلك قصيدة العقاد في سعد باشا التي عارض بها قصيدة أبي شادي في (ذكرى الأربعين) بحرا ووزنا فقد شاركه في معان بل في ألفاظ كثيرة، ولم يتعفف العقاد عن الاقتباس من مقدمة أبي شادي النثرية لرسالته الموسومة (سعد)، وان من يتصرف هذا التصرف أولى به أن لا ينقد غيره، وان كلتا القصيدتين (قصيدة أبي شادي وقصيدة العقاد) لا قيمة لها من الوجهة الأدبية بصفة عامة، ولا من الوجهة الشعرية بصفة خاصة، إلى آخر هذا الهراء. . .
ويكفي ردا على مثل هذا اللفظ - الذي هو من قبيل التخلص والدفاع
العاثر عن طريق الإحالة - أن نقول: دعونا أيها الإخوان الأفاضل، بل أيها الإخوان الأفاضل، بل أيها السادة الجهابذة، من المقارنات ما بين المجددين أنفسهم، فلن يشق على القراء أن يطلعوا ويحكموا، وتذكروا أن هذا ليس موضوع الخلاف ما بيننا. وإنما الخلاف محصور في إنكم تريدون أن يبنى الأدب على التهليل والدجل والتحزب والتضليل والمناداة بألقاب توزعونها على الشعراء والأدباء المحافظين المغرورين محتكرين لهم تقريبا وسائل النشر، ونحن نريد أن يبنى الأدب على الإنتاج المفيد والإخلاص والغيرة المثمرة والنظرات الصائبة دون مراعاة جنس أو سن أو دين أو اسم، وان تحترم حرية النشر حتى يستفيد الأدب من وراء هذه الحرية.
فهل تصرون بعد هذا على أنكم أهل الإصابة وإننا نحن الواهمون المخطئون؟!
مصر الجديدة: جهيزة
التفاوت في اللون والامت
كتب إلينا أحد أدباء البصرة يقول: استحسنت وضع كلمة التفاوت (في اللون) للإفرنجية لكن للأوربيين معنى آخر معقود بناصية تلك اللفظة نفسها وهو: الاختلاف في الشيء الواحد. فيقولون مثلا: ولهم مثل هذا المعنى أي الاختلاف الدقيق في سير الأصوات والنغمات. فما اللفظ الموافق حينئذ؟
قلنا: كما أن الإفرنج استعملوا كلمتهم للدلالة على ما أشرتم إليه، كذلك يكون استعمالنا للفظة التي ذكرناها، فنتخذ التفاوت لجميع تلك المعاني. على انه كان للسلف لفظة أخرى تؤدي احسن التأدية لما تشيرون إليه وهي (الامت) (بفتح فسكون). قال في القاموس: الامت الاختلاف في الشيء. والجمع أمات (بالكسر) وأموت (بضمتين) وكذا قال صاحب لسان العرب وأصحاب سائر الدواوين اللغوية من أقدمين ومحدثين. وأما اللوين (مصغر اللون) فليس له أدنى صلة بالكلمة الإفرنجية التي يجري الكلام عليها. واللغويون الغربيون الذين نقلوا الألفاظ العربية إلى لغاتهم ذكروا الامت في لغتهم بلفظ يؤدي الحرف العربي وان لم يذكروه بالكلمة المعهودة التي أشرنا إليها، غير انهم أصابوا المرمى. وكذا ذكرها شمس الدين سامي إلا أنها وردت مصحفة بالنون أي ذكرت بصورة (أنات) والصواب (أمات).