الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غادة بابل
5 -
بعد انقضاء أيام العيد، غادر شمشو بابل في قافلة فيها رجال ونساء ومعهم أثقال وبضائع محملة على حمير وبغال وجمال. وبينها خيام تضرب وقت حط الرحال فيلجأ إليها المسافرون إذ لا منازل أو خانات مشيدة هناك. واخذ المسافرون معهم زادا وأدوات طبخ. وكان السفر مؤنسا مطربا لاعتدال الهواء وانتعاش الطبيعة بقدوم الربيع الزاهر ووشيه الأرض بحلل سندسية وأزهار ورياحين تعطر الفضاء بشذاها.
مرت القافلة بجنان نضرة كانت في ضواحي المدينة تتخللها فسحات لزراعة البقول. وكانت تسقى تلك الزروعات من ترعة تتشعب من الفرات، إلا أن الماء لا يبلغ إلى المرتفعات من أراضي تلك الجنات عفوا بل ترفعه آلة وهي سلة مخروطة الشكل تتخذ من خوص النخل وتطلى بالقار ومربوطة بحبل يتصل طرفاه بعتلة مرتكزة على قائمة منتصفة على ضفة الترعة فتهبط السلة في الماء ثم يرفعها الرجل الساقي ويفرغها بيده في ساقية تصرف الماء إلى المزارع.
سأل شمشو أحد فلاحي تلك الديار: لمن هذه الجنينة؟
فأجابه الفلاح: أن الأرض ملك نبو صر ابني وقد أخذها منه بالمغارسة (نبوبل شماة) لمدة أربع سنوات وفي السنة الخامسة تقسم مناصفة بين الملاك والمغارس وهذه هي السنة الأخيرة من ذلك العقد.
شمشو - ولماذا ترك قسم مهم منها بورا ألا يعلم نبو بل شماة أن القسم البور يقع في حصته عند القسمة.
الفلاح - يعلم ذاك (نبوبل شماة) كل العلم ولكنه ماذا يعمل فان الفلاح الذي كان عنده قبل سنتين، فتح في إبان الفيض سدة الري فغرق بإهماله هذا مزارع الجيران فاضطر إلى أن يدفع إليهم قمحا بمقدار يناسب غلات الزارع في هذه المنطقة فكلفه ذلك ما لا مما أعلقه عن القيام بغرس هذه الأرض.
بلغت القافلة عند الهاجرة محلا وارف الظل، فاقترح شمشو على المكام (رئيس القافلة) أن يوقفها هناك هنيهة للآكل والاستراحة، فخلدوا إلى ظل شجر توت كان يغطى آلة سقي
تختلف عن تلك التي شاهدوها في الجنان القريبة.
تقوم تلك الآلة على مرتفع من الأرض لا يبلغه الماء حتى في أبان الفيضان وقد حفرة هناك بئر أو حفرة يدخلها الماء من النهر أو ينبع فيها نبعا وعلى حافة هذه البئر زرانيق أو إسناد من جذوع النخل بعدد البكرات التي تتخذ للسقي وتجمع هذه الزرانيق من أعلاها بنعامات وهي عوارض من الجذوع أيضاً تشد بحبال من ألياف النخل. وبين زرنوق وزرنوق تركب محالة أي بكرة على قبين وألقب الثقب يجري فيه المحور ويعبر على كل بكرة حبل يشد طرفه بالعرقوتين (وهما خشبتان تعرضان على الدلو كالصليب) وتتخذ الدلو من جلد مدبوغ والطرف الأخر من الرشاء يشد بثور أو ببرذون ويربط مؤخر الدلو - وهو ضيق كفوهة القربة - بسير ويمر هذا السير على نحو مغزل أو قل بكرة مرتفعة بضعة سنتيمترات عن الأرض. وينتهي إلى الثور فيرتبط به ويختلف عدد الثيران أو البراذين بعدد البكرات والدلاء. ولكل حيوان من هذه الحيوانات فلاح يداريه فينزل الفلاح مع الحيوان في حفرة منحدرة من الأرض حيال البئر فإذا بلغ منتهاها يفرغ الماء الذي في الدلو في حوض ويتسرب من هناك إلى المزارع. ثم يصعد الرجل بالحيوان إلى راس تلك الحفرة فينحدر آنئذ الدلو في البئر وتمتلئ ماء وهكذا دواليك.
وبعد أن اغتسلوا مما لحقهم من غبار الطريق وأكلوا هنيئا وشربوا مريئا استأنفوا السير فلاقوا في طريقهم قطعنا من الغنم والمعزى والبقر تسرح في المروج والحقول وشاهدوا مساكن الرعاة وهي خيام من شعر المعزى فكانوا يضربونها حيث يستريحون لانتجاع المراعي ويطوونها ويحملونها حين الظعن. ورأوا مساكن الفلاحين وهي من مدر. فنزل القفل على مقربة من تلك الجماعة وهي الرحلة الأولى من السفر.
وكان الرعاة يراقبون عن كثب قطعانهم ويزمرون لها.
كانت عيشة تلك الجماعة البدوية من الفلاحين والرعاة مشهدا من مشاهد الحياة الطبيعية الساذجة التي يصبو إليها سكان المدن من حين لأخر. فافتتن بها شمشو وتذكر أيام كانت أراضيه عامرة فشرع يجول في الحي ليسري عنه ما ألم به من الذكرى الموجعة وما اوجع ذكرى أيام الرخاء في الضيق!
فكان يلهي نفسه تارة بمشهد الحلابين والحلابات الذين يحلبون البقر والغنم وهم جاثمون
وراء تلك الحيوانات على الطريقة المألوفة عندهم يومئذ وطورا يقف عند الفلاحين الذين يخبزون أقراص الحنطة والشعير والذرة في تنور ويعدون طعام المساء في قدر كبيرة.
وبينما هو يجول قامت مشاجرة بين راع من الرعاة واحد الزراع لان الراعي ادخل قطيعه في المزرعة فاتلف شيئا غير يسير من القمح. فتسابا وتشاتما وتلا كما وتدخل في الأمر أصحاب المتخاصمين فكان فريق ينتصر لصاحبه وكادت فجوة الشر تتسع أولم يتوسط في إطفاء نار الفتنة بعض العقلاء والطاعنين في السن واتفقوا على أن يعقدوا لجنة تحكيم يرأسها شمشو الذي كان معروفا عندهم.
فاجتمعت تلك اللجنة حالا وحكم شمشو بان يعطي الراعي للزارع عشرين (جوار) من القمح لكل (جان) من الأرض ترعى غنمه فيها.
لها تلو
يوسف غنيمة