الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَوائِدْ لُغَوَيَةٌ
هل كلمة (موسيقي) عريقة في اليونانية؟
-
أن سألت علماء اللغة، من عرب وغربيين، عن أصل كلمة موسيقي، أتفق جميعهم على جواب واحد:(أنها يونانية أو إغريقية محضة. لا شبهة في ذلك).
على أن لي خاطراً عن لي قبل نحو 25 سنة ولابد من بسط مقدمة له هنا:
في أوائل شهر نيسان من سنة 1902 ذهبت لأتعهد بعض القرى المنبثة في شمالي بغداد، فزرت بهرز (وزان قنفذ) والهويدر (كأنها مصغر هادر) وبعقوبة وحديث (مصغرة) وهبهب (وزان زبرج). وبينما كنت في السمر في ليلة في بعقوبا عند صديق لي، سمعنا تغريد هزار حسن الصوت، فأردت أن أعرف أسمه عن أهل بعقوبا، فسألت الصديق عنه.
فقال: هذا المزقة (ولفظها كخبزة)
- لم أسمع حسناً. ما قلت؟
- مزقة (ولفظ الكلمة لفظاً بينا في مقطعين وتأتي في قطعهما)
- مزقة؟ (بضم الميم وسكون الزاي وفتح القاف ثم هاء)
- نعم مزقة.
- وما معنى هذه الكلمة؟
- أتسألني هذا السؤال، وأنت أخبر مني في هذا الموضوع؟
- لو كنت أخبر منك لما سألتك؟
- المزقة مأخوذ من المزق أو التمزيق لأنه يمزق في أغلب ساعات الليل.
- وهل التمزيق هو بالمعنى الشائع عند عوام بغداد أي الهزة والسخرية، أي أنه يهزأ من الناس ويسخر بهم؟
- لا لكن بمعنى الغناء والتغريد.
- أني لا أعلم لفظة بالعربية تفيد هذا المعنى. فهل أهل بعقوبا يعرفون هذه الألفاظ بهذه
المعاني التي تذكرها؟
- أني نجدي الأصل. وأتيت هنا للتجارة. ولا أعلم ما يسمي البعقوبيون هذا الطائر كما لا أدري أيسمون المزقة بهذا اللفظ أو بلفظ آخر.
ثم لاحظت أن صاحبي ضاق ذرعاً من أسئلتي والحافي في الاستفسار، فطوينا بساط هذا الحديث، وانتقلنا إلى موضوع آخر بعد أن علقت في مذكرتي ما سمعته.
وفي اليوم الثاني سألت بعض الأهالي عما يعرفونه من أمر هذا الطويئر؟ فقالوا: أسمه عندنا (بلبل هزار، أو هزار) لكننا لا نعرف المزقة بهذا المعنى كما لا نعرف ل (مزق) سوى معنى واحد وهو قطع وشقق وخرق أو بما يقارب هذا المؤدي.
ولما عدت إلى بغداد أخذت أبحث عن كلمة (مزقة) في لسان العرب فوجدته يقول: (طائر وليس بثبت) ونقرت عنها في تاج العروس فألفيت فيه هذه العبارة (المزقة بالضم طائر صغير وليس بثبت) اهـ. أما سائر المعاجم اللغوية فلم تزد شيئاً على هذا القدر.
وأما فعل (مزق) المجرد فلم أجد له في ديوان معنى يدل على الغناء بل وجدت للمزيد فيه هذا المعنى. قال في لسان العرب في مادة: م ز ق: (قال ابن بري: وحكى المفضل الضبي عن أحمد اللغوي: أن الممزق العبدي سمي بذلك لقوله:
فمن مبلغ النعمان أن ابن أخته
…
على العين يعتاد الصفا ويمزق
ومعنى يمزق: يغني، قال وهذا يقوي قول الجوهري في كسر الزاي في الممزق إلَاّ أن المعروف في هذا البيت (يمزق) بالراء والتمزيق بالراء: الغناء، فلا حجة فيه على هذا لأن الزاي فيه تصحيف) انتهى بحرفه.
فمن هذا الكلام نستنتج أن النجدي محق في ما قال: أي أن مزق عند العرب بمعنى غرد وغنى. ولا جرم أن الفعل مشتق من أسم الطائر المذكور أي أنهم عنوا بمزق: غنى؛ لأنه من عادة المزقة الغناء والتغريد. وهل من يشك في أن
مزق المزيد هو أصل ثلاثي مجرد لم يذكره اللغويون لأنه ممات؟ كما لا نرتاب في أن غنى ممات بخلاف غنى المزيد فهو مشهور المعنى. وأشتق السلف معنى مزق من المزقة كما اشتقوا (العندلة) من العندليل أو العندليب، قال في اللسان:(العندليل: طائر يصوت ألواناً، والبلبل يعندل أي يصوت وعندل الهدهد: إذا صوت، عندلة) اهـ.
وعليه أننا نرى أن مرق بالراء تصحيف مزق بالزاي وليس العكس كما ذهب إليه علماؤنا الأقدمون لأن ليس لمادة مرق بالراء معنى يثبت له الغناء بخلاف مزق بالزاي فأن اشتقاقه من المزقة الطائر المغرد أي الهزار أو العندليب هو أمر لا ينكر. فقال أجدادنا (مزق) بالزاي كما يقول الإفرنج اليوم هذا فضلاً عن أن المزقة تقارب في مادتها مادة الزقزقة.
ومن غريب ما يجب إثباته أن عوام العراق (لاحظ قولي: عوام العراق، إذن لا خواصهم) يسمون الموسيقي: مزيقة (وزان حقيقة) والحرف الذي يلي الميم هو زاي لا سين؛ فهم أقرب الناس إلى السلف البعيد واضع اللفظ من الخواص البعيدين عنهم والقريبين من الإفرنج وهم يجمعونها على مزائق كحقيقة وحقائق فهي عندهم أسم مصدر مثل نصيحة ونصائح.
وأن سألت اليونانيين أو الإغريق: من أين أتيتم بكلمة (موسيقي)؟ أجابك لغويوهم للحال هي من وباللاتينية وهي معبودات العلوم الفتانة وهن تسع وكن يرأسن تلك العلوم والفنون ولا سيما الفصاحة والشعر. وأن ألحفت في السؤال وقلت لهم: ومن أين جاءتكم كلمة (موز) المذكورة وقفوا بين يديك مكتفي الأيدي واجمين أو قبلوا أنها مشتقة من مادة أو ومعناها فكر وعلم، قلنا: وهذه المادة أيضاً بهذا المعنى ندعيها لنا وهي من (مأن)(المهموز العين) أي علم وفكر (لسان العرب)
ولهذا نقول أنكم يا أبناء الغرب أخذتم كلمتكم من أجدادنا حينما كان سلفكم يساكن سلفنا متجاورين متحابين لأن وضع الألفاظ الثنائية المقطع هو من خواص اللغات السامية ولا سيما من مزايا اللغة العربية وأغلب الألفاظ
اليونانية الوحيدة الهجاء أو الثنائية من أصل عربي ولنا أدلة على هذا الرأي وشواهد تسنده.
أما المولدون من أجدادنا فأنهم فعلوا ما يفعل اليوم بعض معاصرينا من العوام. أي أنهم يتلقون من الإفرنج ألفاظاً متفرنجة وهي في الأصل عربية، مثل كلمة مخزن فأن الإفرنج نطقوا بها مغزن أو مكازن أي واليوم يستعدونها بصورة (مغازة) جاهلين أن هذا الحرف عربي النجار والمحتد وليس للإفرنجية فيه حظ، وهناك مفردات كثيرة كلها من هذا القبيل.
فعندي أنه خير لنا أن نقول: مزق عوض دق على آلة موسيقي أو ضرب بآلة موسيقي أو عزف على آلة غناء أو غنى أو غيرها. وخير لنا أن نقول (مزيقة) من أن نقول (موسيقي)
فتلك من لساننا وهذه من محرف كلامنا. ويحق لنا أن نسمي المعبودات المعروفات بالموزات ممرقات أو ممزقات أي بالراء أو بالزاي بدون فرق أو أن نبقيها على حالتها أي الموزات، من بلب تغيير اللفظ لأحداث تغيير في المعنى.
وهنا لابد من أن نبحث عن نوع الغناء الذي خصه السلف باسم التمزيق أو التمريق وهو المرق أيضاً وأصح منه المزق (وأن لم يذكره اللغويون):
قال في لسان العرب: التمريق: الغناء. وقيل هو رفع الصوت به. قال:
ذهبت معد بالعلا ونهشل
…
من بين تالي شهره وممرق
والمرق بالسكون (أي بسكون الثاني): غناء الإماء والسفلة. وهو أسم والممرق (كمفخم) أيضاً من الغناء: الذي تغنيه السفلة والإما. ويقال للمغني نفسه: الممرق (كمحدث) وقد مرق يمرق تمريقاً: إذا غنى. وحكى ابن الأعرابي: مرق بالغناء. وأنشد:
أفي كل عام أنت مهدي قصيدة
…
يمرق مذعور بها فالنهابل
فأن كنت فاتتك العلا يا ابن ديسق
…
فدعها ولكن لا تفتك الأسافل
قال ابن بري: قال ابن خالويه: ليس أحد فسر التمريق إلَاّ أبو عمرو الزاهد قال: هو غناء السفلة والساسة. والنصب: غناء الركبان: وفي الحديث ذكر الممرق هو المغني) اهـ كلام ابن مكرم.
وقد أوردنا كل هذا الكلام ليعلم منه أن المراد بالتمريق أو المزق غناء الإماء والسفلة وأغلب هؤلاء الناس كانوا من غير العرب، لأنه كان يؤتى بالإماء من الديار المجاورة لديارهم. كما أن السفلة قوم يطرأون من بلد إلى بلد متنقلين في كل مصر وصقع، ولهذا كانوا يتغنون بأغاني الأجانب الذين كانوا يسمون هذا الغناء (المزق)(بالزاي) أي لا المرق أو التمريق، كما سرى الوهم إلى الكثيرين، إذن كان المزق ما يسميه اليوم المحدثون من الإفرنج وقد يكون في أغلب الأحيان (مخرجاً) أي تغني به جماعة، وكل واحد يذهب في غنائه مذهب صوت خاص به ومن مجموع هذه الأصوات يتقوم غناء لذيذ، أي أن هذا (المزق أو المرق المجنس أو المخرج) هو المعروف عند الفرنسيين باسم قال الزمخشري في أساسه: (مرقت السفلة والإماء تمريقاً إذا غنت، وفلان ممرق كأنه المخرج من جملة ألحان المغنين. قال:
من نوحها طوراً ومن تمريقها
…
بقبقة الصالف من تطليقها. . .
ولعل معترضاً يقول: أن ورود المرق أو المزق على ألسنة الإماء أو السفلة دليل واضح على أنه غير خاص بالعرب، ولا سيما من بعد أن اطلعنا على أن النصب أو الحداء أو غيرهما خاص بهم، أما المزق فآت من غير بلادهم. وناقلوها هم هؤلاء الإماء والسفلة وفي ذلك من وضوح نسبه إلى الأعاجم ما لا يحتاج إلى دليل آخر بشهادة السلف أنفسهم.
قلنا: إننا لا ننكر دخول المزق في ديار الناطقين بالضاد من بلاد اليونان أو الناطقين بالرومية، إنما نقول أن لفظة (المزق) من أصل عربي ولعل في القدم فأحتفظ به الأجانب. ولما عاد هذا الغناء المخرج إلى واضعي الحرف نفسه حرفوه أو صحفوه جهلاً فالعود إليه أي إلى لفظ (المزق) حسن، وأما المذهب الجديد في إخراج هذا الضرب من الغناء فعائد إلى الأجانب، ولا سيما عائد إلى اليونان لأنهم اشتهروا به من عهد عهيد، ومن المعروفين به: أبلن وأرفي ولينس وأنفيون وأريون وبان
وفي كل ذلك من غرائب الأسرار ما يحير الأفكار، فسبحان من ينير وهو هو على ممر الإعصار!