الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 47
- بتاريخ: 20 - 06 - 1927
الحركات العربية المجهولة
تمهيد
كل من درس اللغة العربية في كتب أصولها، (أي في مؤلفات الصرفيين والنحاة)، يظن أن ليس في لساننا من الحركات سوى ثلاث: الضمة والفتحة والكسرة، كما هو شائع في المدارس، ولم يكن أبداً لسلفنا حركات أخرى.
ويظن بعضهم أن الحركات المتوسطة بين هذه الثلاث نشأت بعد الإسلام من مخالطة أجدادنا للأجانب، بعد أن طال الاحتكاك بهم فكانت النتيجة أن اتخذوا حركاتهم على اختلاف أنواعها.
قلنا: وليس الأمر كما توهموه، فإن الحركات المتوسطة التي نسميها (الضعيفة أو الضئيلة) هي في لساننا قبل الإسلام بكثير بل منذ نشوء اللغة نفسها ودونك أدلتنا:
1 -
من محاكاة الطبيعة
وأول هذه الأدلة: أن اللغة هي محاكاة أصوات الطبيعة والحال أن محاكاة هذه الأصوات متوفرة في بلادنا. فهبوب الرياح لا ينقطع، وأصوات المياه جلية وقصف الرعد شديد، وأبناؤنا يألفون الحيوان والطائر في كل ساعة بل كل
وثيقة، فلماذا لا يكون عندنا ما يشبه نطقها، على حد ما يرى في سائر الديار من همجية وحضرية. إذن القول بوجود ما يحاكي أصوات الطبيعة في لساننا هو أمر قريب من العقل، بل القول بخلافه يكاد يكون محالا.
2 -
من مقابلة اللغات الأخوات
اللغة العربية سامية النجار، فهي أخت للعبرية والأرمية والصابئية وغيرها ولهذه الألسنة حركات مختلفة غير الحركات الثلاث فيظهر أنه من المعقول أن يكون مثل تلك الحركات في كلام بني يعرب، قحطانيين كانوا أو عدنانيين، جنوبيين أو شماليين، شرقيين أو غربيين، أقدمين أو محدثين.
3 -
من اللغات في الكلمة الواحدة
في لغتنا الضادية ألفاظ تكتب بصورتين أو أكثر. مما يدل على أن هناك ألفاظا كان ينطق بها بوجه وسط أو بوجهين وسطين أو مختلفين، فيجتمع في الحرف الواحد لغتان أو ثلاث، بل ربما أكثر، ولهذا حاول بعضهم تصويرها بهيئات مختلفة، وقد ورد هذا الأمر في النكرات كما في الإعلام. فقد قالوا مثلا: قار وقير، قرثاء وقريثاء، كاء وكيء، كائة وكيئة، ومثل هذه المفردات كثيرة في لغتنا.
أما في الإعلام فكقولهم: همانية وهيمنية (وهي من قرى بغداد في سابق العهد) وفارة (بتشديد الراء المفتوحة) وفيرة (بتشديد الراء المضمومة) وهم يريدون تصوير الكلمة الإسبانية أي حديد، وهو أسم رجل جد يوسف ابن محمد الأنصاري الأندلسي. وقال بعضهم: سلوقية وآخرون سليقية. إلى غيرها. وكل ذلك ناشئ من اختلاف التلفظ بالحركات، وهو كثير بكثرة الأعلام المبهمة الحركة، تلك الحركة التي هي بين بين، إن كانت قريبة إلى الفتح أو إلى الكسر أو إلى الضم.
4 -
من تلقي أصول التجويد
تتضح هذه الحركات من تلقي أصول التجويد عن معلم خبير بالقراءة، فإن أساتذة هذا الفن يجيدون التلفظ بأنواع تلك الحركات وبدقائقها. فينجلي لك الأمر كل الجلاء وللجال يذهب عنك الوهم الذي وقع لك أي أن الحركات ثلاث لا غير.
5 -
نصوص بعض الأقدمين من الصرفيين والنحاة
قال في الأشباه والنظائر النحوية للسيوطي نقلا عن شيوخه وعن مؤلفات السلف. (قال ابن جني في باب كمية الحركات: أما ما في أيدي الناس في ظاهر الأمر، فثلاث، وهي: الضمة والكسرة والفتحة. ومحصولها على الحقيقة ست وذلك أن بين كل حركتين حركة.
(فالتي بين الفتحة والكسرة هي الفتحة قبل الألف الممالة نحو فتحة عين (عالم) و (كاتب)، كما أن الألف التي بعدها بين الألف والياء (قلنا نحن أي المقابلة الفرنسي).
(والتي بين الفتحة والضمة التي هي قبل ألف التفخيم نحو فتحة لام (الصلاة، والزكاة، والحياة) وكذلك قام وعاد (أي يقابل الحرف الفرنسي
(والتي بين الكسرة والضمة، فككسرة قاف (قيل) وسين (سير) (هذه يقابلها عند الفرنسيين
حرف فهذه الكسرة المسماة ضما، ومثلها الضمة المسماة كسرة. كنحو قاف (النقر) وضمة (مدعور ابن يور) فهذه ضمة أشربت كسرة (قلنا هي المقابلة حرف الخالي من كل حركة كالذي يتلفظ به في مثل وو الواقع في آخر هذه الكلمات الثلاث أو نحوها) كما أنها في (قيل وسير) كسرة أشربت ضماً، فهما لذلك كالصوت الواحد، لكن ليس في كلامهم ضمة مشربة فتحة ولا كسرة مشربة فتحة (قلنا: أي أن في لساننا مثل الحرف الفرنسي ممدودا ومقصورا ومثل الخالي من الحركة ويكون في لغتنا الأول وفي الوسط وفي الآخر بخلاف الفرنسية فليس فيها مثل هذا الحرف أو الحركة إلا في الآخر).
(ويدل على أن هذه الحركات معتدات امتداد سيبويه بألف الإمالة وألف التفخيم حرفين غير الألف المفتوح ما قبلها.
(وقال صاحب البسيط: (جملة الحركات المتنوعة أربع عشرة حركة: ثلاث للإعراب، وثلاث للبناء، وثلاث متوسطة بين حركتين، إحداهما: بين الضمة والفتحة، وهي الحركة التي قبل الألف المفخمة في قراءة ورش، نحو الصلاة والزكاة والحياة. والثانية بين الكسرة والضمة، وهي حركة الإتمام في نحو قيل وغيض على قراءة الكسائي، والثالثة بين الفتحة والكسرة وهي الحركة التي قبل الألف الممالة، والعاشرة: حركة إعراب تشبه حركة البناء وهي فتحة مالا ينصرف في حال الجر على مذهب من جعلها حركة إعراب.
(والحادية عشرة حركة بناء تشبه حركة الإعراب. وهي ضمة المنادى وفتحة المبني على مذهب من جعلها حركة بناء.
(والثانية عشرة: حركة الإتباع.
(والثالثة عشرة: حركة التقاء الساكنين.
(والرابعة عشرة: حركة ما قبل ياء المتكلم على مذهب من جعله معربا فإنه جيء بها لتصح الياء وليست حركة إعراب، ولا حركة بناء، قال: وإنما لقيت الحركات بهذا اللقب لأنها تطلق الحروف نحو أصلها من حروف اللين فأشبهت بذلك انطلاق المتحرك بعد سكونه. وقال المهلبي في نظم الفرائد:
عددنا جملة الحركات ستا
…
وستا بعدها ثم اثنين
فإعراب ثلاث أو بناء
…
ثلاث أو ثلاث بين بين
وشبهتان والإتباع حاجة
…
وأخرى لالتقاء الساكنين
وواحدة مذبذبة تردت
…
لدى أخواتها في حيزين
(وقال بعضهم الحركات سبع حركة إعراب وحركة بناء وحركة حكاية وحركة اتباع وحركة نقل وحركة تخلص من سكونين وحركة المضاف إلى ياء المتكلم). انتهى كلام السيوطي من كتابه الأشباه والنظائر.
6 -
من أقدم الشواهد في اللغة
ومن أدلة الإمالة منذ الزمن الواغل في القدم، اسم الفاعل الذي على وزن فعل في الأجوف وهو - ولا شك في ذلك - إمالة فاعل. فقد قالوا: سيد
(بالتشديد) وأصله سيود، وأصل هذا على ما عندي ساود. لكن بإمالة الألف إلى الياء أي سايود بمعنى سائد. وكذلك القول في كل فيعل بتقديم الياء على العين والألفاظ كثيرة من هذا القبيل وكلها مشتقة من الفعل جونا كالكيس والعين والجيد والقيم والعيل والميت إلى غيرها وتعد بالمئات. وأنت تعلم أن وزن فيعل (المكسور العين) لا وجود له في الصحيح من كلامنا. وهذا ما يدلك على أن فيعل هو إمالة فاعل الأجوف لا غيره والإمالة تكثر في كل وزن فاعل كما لا يخفى عليك وكما تلقيته عن أساتذتك.
7 -
شهادة اللغويين الواضحة
يؤخذ من عدة نصوص للصرفيين والنحاة واللغويين أن الإمالة على ضربين: إمالة محضة وإمالة بين بين، وسموا الإمالة المحضة (ثقيلة أو إضجاعا) والإمالة بين بين عرفوها باسم (الإمالة الخفيفة) أيضا - قال السيد مرتضى صاحب تاج العروس في مادة أف ف: أفي بغير إمالة (أي بالحرف الإفرنجي وافى بالإمالة المحضة (أي وقد قرأ به، وافى الإمالة بين بين (أي وقد قرأ به أيضا، والألف في الثلاثة للتأنيث) أه كلامه.
فهذا نص صريح للفظ قديم يدل أحسن دلالة على ما كان عند العرب منذ العهد العهيد على نوعي الإمالة وهو كلام نفيس يقدره العلماء حق قدره على صدق فكرتنا ورأينا.
وفي التاج أيضاً: قال ابن الأثير: قد أمالت العرب (لا) إمالة خفيفة والعوام يشبعون إمالتها فتصبر الفهايا، وهو خطأ. وهذه كلمة ترد في المحاورات كثيرا وقد جاءت في غير موضع
من الحديث، ومن ذلك في حديث بيع الثمر:(أما لا فلا تبايعوا، حتى يبدو صلاح الثمر). وفي حديث جابر: (رأى جملا نادا، فقال: لمن هذا الجمل؟ وفيه: فقال: أتبيعونه؟ قالوا: لا: بل هو لك فقال: أما لا: فأحسنوا لوليه حتى يأتي أجله؟) قال الأزهري: أراد أن لا تبيعونه فأحسنوا إليه: و (ما) صلة. والمعنى: ألا: فوكدت بما. و (أن) حرف جزاء هنا. قال أبو حاتم: العامة ربما قالوا في موضع (أفعل ذلك)(أما لا، أفعل ذلك، باري) وهو فارسي (أي كلمة باري. وهي تستعمل في بغداد إلى عهدنا هذا) مردود. والعامة تقول أيضا: (أمالي) فيضمون الألف وهو خطأ أيضا
قل والصواب (أمالا) غير ممال لأن الأدوات لا تمال.
(قلت: وتبدل العامة أيضاً الهمزة بالهاء مع ضمها. وقال الليث: قولهم: (أما لا، فافعل كذا) إنما هي على معنى: (أن لا تفعل ذلك، فأفعل ذا) ولكنهم لما جمعوا هؤلاء الأحرف فصرن في مجرى اللفظ مثقلة فصار (لا) في آخرها كأنه عجز كلمة فيها ضمير ما ذكرت لك في كلام طلبت فيه شيئا؛ فرد عليك أمرك؛ فقلت: أما لا فأفعل ذا.
(وفي المصباح: الأصل في هذه الكلمة أن الرجل يلزمه أشياء ويطلب بها فيمتنع منها، فيقنع منه ببعضها ويقال له (أما لا فأفعل هذا) أي أن لا تفعل الجميع فأفعل هذا، ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال. وزيدت (ما) على أن توكيدا لمعناها. قال بعضهم: ولهذا تمال (لا) هنا لنيابتها عن الفعل كما أميلت (بلى) و (يا) في النداء. ومثله: (من أطاعك فأكرمه ومن لا فلا تعبأ به. وقيل الصواب عدم الإمالة لأن الحروف لا تمال) انتهى الكلام على ما في الناتج في مادة ما.
8 -
شهادة علماء البلدان
قال ياقوت في معجم البلدان: حوارين (بضم أوله. ويكسر. وتخفيف الواو وكسر الراء وياء ساكنة ونون) بلدة بالبحرين افتتحها زياد. . . وقال الخوصي: حوارين. بلفظ التثنية وكسر أوله: والجيار: قريتان بالبحرين. . . واختلفوا في قول الحرث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يو
…
م الحوارين والبلاء بلاء
فروى ابن الإعرابي: الحوارين بلفظ التثنية وكسر الحاء؛ وروى غيره (الحيارين) بالياء يقال: هما بلدان، وقال آخرون (الحيارين) بكسر الحاء والراء وهو يوم من أيام العرب مشهور. أه.
وقال في خوارزم: أوله بين الضمة والفتحة والألف مسترقة مختلسة ليست بألف صحيحة. هكذا يتلفظون به. هكذا ينشد قول اللحام فيه:
ما أهل خوارزم سلالة آدم
…
ما هم وحق الله غير بهائم. انتهى.
وقال السيد مرتضى في تفليس: تفليس بالفتح وقد تكسر فيكون على وزن فعليل؛ وتجعل التاء أصلية لأن الكلمة جرجية وإن وافقت أوزان العربية ومن
فتح التاء جعل الكلمة عربية: ويكون عنده على وزن تفعيل. نقله الصاغامي وقد ذكره المصنف (أي الفيروز أبادي) رحمه الله أولا ونسب الكسر إلى العامة.
9 -
شهادة المجودين
من أجلى الأدلة على أن للعرب حركات كحركات لغة العبريين والغربيين من الإفرنج نصوص المجودين الصريحة. فقد عرفوا كلا منها تعريفا لا يبقي الريب في صدر أحد. من ذلك:
1 -
(الإشمام) قالوا هو الإشارة إلى الحركة من غير تصويت. وذلك بأن تضم الشفتان بعد الإسكان في المرفوع والمضموم للإشارة إلى الحركة من غير صوت. والفرق بينه وبين الروم أن هذا يختص بالضم وذلك لا يختص بحركة. وذاك يدركه الأعمى والبصير لأن فيه حظا للسمع وهذا لا يدركه إلا البصير إذ لاحظ للسمع فيه وإنما يتبين بحركة الشفة وهي لا تعد حركة لضعفها والحرف الذي يقع فيه الإشمام ساكن أو كالساكن. والإشمام مشتق من شم الحرف إذا أذاقه الضمة أو الكسرة بحيث لا يسمع.
2 -
(الروم) هو النطق ببعض الحركة في الوقف أو عن حركة مختلسة مخفاة وهو أكثر من الإشمام لأنه يدرك بالسمع ويختص بغير المفتوح لأن الفتحة لا تقبل التبعيض في جميع الحركات.
3 -
(الاختلاس) مصدر اختلس القارئ الحركة لم يبلغها ويقابله الإشباع.
4 -
(الإشباع) مصدر أشبع الحركة إذا بلغها حتى تصير بلفظ حرف المد.
5 -
(الإمالة أو البطح) هي أن تنجو بالألف نحو الياء وبالفتحة نحو الكسرة ولها أسباب ذكرها الصوفيون والنحاة (راجع باب الإمالة في الكتاب وفي مؤلفات أهل العربية).
6 -
(الإضجاع) والإضجاع في باب الحركات كالإمالة والخفض والتسمية من باب المجاز.
يقال أضجع الحرف أي أماله إلى الكسر.
7 -
(التسهيل) هو أن تقرأ الهمزة بين نفسها وبين حركتها أي بين الهمزة والواو إن كانت مضمومة وبين الألف إن كانت مفتوحة وبينها وبين الياء إن كانت مكسورة ويقال لها أيضا (بين بين).
8 -
(التفخيم أو التفشي) هو، على رأي الحكمي، أن تقرأ القرآن
قراءة الرجال؛ ولا يخضع الصوت فيه ككلام النساء؛ قال ولا يدخل في هذا كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض القراء.
9 -
(الترقيق) هو خلاف التفخيم.
10 -
(الشوب) استعمل بعض النحويين الشوب في الحركات. فقال أما الفتحة المشوبة بالكسرة فالفتحة التي قبل الإمالة؛ نحو فتحة عين عابد وعارف قال: وذلك أن الإمالة إنما هي أن تنجو بالفتحة نحو الكسرة فتميل الألف نحو الياء لضرب من تجانس الصوت، فكما أن الحركة ليست بفتحة محضة كذلك الألف التي بعدها ليست ألفا محضة وهذا هو القياس لأن الألف تابعة للفتحة فكما أن الفتحة مشوبة فكذلك الألف اللاحقة لها.
10 -
شهادة الشعراء
قال الفرزدق:
فما حل من جهل حيا حلمائنا
…
ولا قائل المعروف فينا يعنف
أراد (حل) على ما لم يسم فاعله؛ فطرح كسرة اللام على الحاء - قال الأخفش سمعنا من ينشده كذا، قال وبعضهم لا يكسر الحاء ولكن يشمها الكسر كما يروم في (قيل)(وتلفظ على الوجه الفرنسي) الضم وكذلك لغتهم في المضعف مثل رد وشد (هذا الكلام من أول خزفه إلى آخره عن لسان العرب لابن مكرم)
وقال الراجز:
ليت! وهل تنفع شيئا ليت؟
…
ليت شبابا (بوغ) فاشتريت!
(راجع الأشموني على حاشية الصبان 43: 2) قال وتعزى هذه اللغة لبني فقمس وبني دير) أه. وفي ابن عقيل (ص115 من طبعة بيروت) وهما من نصحاء بني أسد. والإشمام هو الإتيان بحركة بين الضم والكسر ولا يظهر ذلك إلا في اللفظ ولا يظهر في الخط).
قلنا: ولا يظهر في الخط لأن العرب أجدادنا لم يضعوا له علامة: وإلا فالعبريون والغربيون قد اصطلحوا على وضع علامة تدل عليه.
وعندنا غير هذه الشواهد وهي كثيرة تكاد تقع في عشر صفحات من هذه المجلة فاكتفينا بما ذكرنا لكي لا نحرج الصدور على ما لا زيادة فائدة فيه.