الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث في الماء يباع بأكثر من ثمنه
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
• الزيادة اليسيرة على ثمن المثل لا أثر لها.
• إذا وجد الماء بأكثر من ثمن المثل نزِّل الماء في حقه منزلة العدم؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة.
• حرمة المال مقدمة على حرمة العبادة؛ لأن الطهارة بالماء لها بدل بخلاف تلف المال، ولهذا قالوا: ما لا بدل له مقدم على ما منه بدل، فلو وجد ثوبًا وماء يباعان، وهو محتاج إليهما في الصلاة، ومعه ثمن أحدهما فقط؛ لزمه شراء الثوب؛ لأنه لا بدل له، ولا يلزمه شراء الماء للطهارة؛ لأن له بدلًا، وهو التيمم.
[م-409] إذا وجد الرجل الماء يباع، فإما أن يباع بأكثر من ثمنه، أو يباع بثمنه بدون زيادة،
فإن بيع بثمنه، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء
الرقبة في الكفارة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة
(1)
.
وقال النووي: يلزمه شراؤه بلا خلاف
(2)
.
وقيل: ليس عليه شراؤه لا بما قل ولا بما كثر، فإن اشتراه لم يجز الوضوء به، ولا الغسل، وفرضه التيمم، وله أن يشتريه للشرب إن لم يعطه بلا ثمن. وهو اختيار
ابن حزم رحمه الله
(3)
.
(962 - 39) واستدل ابن حزم رحمه الله بما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير،
عن جابر رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء
(4)
.
(963 - 40) وبما رواه ابن ماجه من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار
(5)
.
[صحيح]
(6)
.
وإنما جعل الشرع الناس شركاء في الماء، والكلأ والنار؛ لأنها أسباب الحياة: حياة
(1)
انظر: شرح العناية على الهداية (1/ 142)، بدائع الصنائع (1/ 48 - 49)، فتح القدير لابن الهمام (1/ 142)، المدونة (1/ 46)، حاشية الدسوقي (1/ 53)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 188)، منح الجليل (1/ 148)، الخرشي (1/ 189)، المجموع (2/ 293)، الإنصاف (1/ 269)، الكافي (1/ 66)، كشاف القناع (1/ 165).
(2)
المجموع (2/ 292).
(3)
المحلى (1/ 360) مسألة: 241.
(4)
صحيح مسلم (1565).
(5)
سنن ابن ماجه (2473).
(6)
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 81): «هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أبو يحيى، وثقه النسائي، وابن أبي حاتم، ومسلمة الأندلسي، والخليلي، وغيرهم، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين» .
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1304).
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 298): رواه ابن ماجه بإسناد جيد.
الإنسان، وحياة الحيوان، وما كان سببًا في حياة الناس فلا يجوز احتكاره كالهواء.
وهذه المسألة: «أعني بيع فضل الماء فيه خلاف بين الفقهاء، وقد بحثت هذه المسألة في المعاملات المالية أصالة ومعاصرة، ويكفي الإشارة في ذلك إلى الأقوال الفقهية، فأقول:
(1)
.
كما أن الماء إذا استخرجه الإنسان وحازه في إناء ونحوه جاز له بيعه، وإذا جمع الكلأ وحصده، فقد ملكه، وصح له بيعه.
ومثل الكلأ الحطب، فإذا جمعه صار مالكًا له، وجاز بيعه»
(2)
.
كما يجوز بيع البئر وحده دون الأرض، ويجوز بيع الأرض وفيها بئر،
ودليل ذلك ما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم،
قال البخاري: وقال عثمان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، فاشتراها عثمان رضي الله عنه.
(1)
المفهم (4/ 441).
(2)
عمدة القارئ للعيني (12/ 190).
فالماء إذا كان نابعًا في أرض مباحة فهو مشترك بين الناس، وإن كان نابعًا في ملك رجل، فهل يجوز بيعه، أو لايجوز، فيه خلاف، والخلاف مبني على مسألة أخرى: هل يملك أو لا يملك؟
ومذهب الجمهور على أن الإنسان إذا حاز الماء من البئر واستخرجه منه فقد ملكه، وجاز له بيعه،
(964 - 41) واستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه،
من حديث الزبير ابن العوام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلًا، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطي أم منع
(1)
.
فإذا أذن الشرع في بيع الحطب، مع أن الشرع جعل الناس شركاء في الكلأ، فيحمل ذلك على أن الأمر قبل احتطابه، فكذلك الماء، إذا استخرجه من البئر في الأرض المباحة جاز له بيعه، وإن كانت البئر في أرضه فهو أحق بالماء إذا كان محتاجًا إليه، وإن كان غير محتاج إليه وجب بذله، ولا يجوز بيعه، ما دام الماء نقعًا في البئر، والله أعلم
(2)
.
(1)
البخاري (2373).
(2)
القول الذي ذكرناه هو قول الجمهور، وأنه لا يجوز بيع الماء ما دام في البئر، مستدلين بعموم الأحاديث السابقة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الماء.
ولأن مياه الآبار في الأعم الأغلب متصلة بالمجرى العام للمياه، فهي تأتي إليه من غير أرضه إلى ملكه، فأشبه الماء الجاري في النهر يأتي إلى ملكه، فله حاجته منه، وما فضل يجب بذله، وهذا القول هو قول في مذهب الحنفية، ومذهب المالكية والحنابلة.
انظر بدائع الصنائع (6/ 188)، الذخيرة (6/ 166)، التمهيد (13/ 128)، المغني لابن قدامة (4/ 71)، الكافي في فقه أحمد (2/ 445)، المبدع (5/ 253)، المحرر (1/ 368).
وذهب الشافعية إلى أنه يجوز له أن يمنع الناس منه ما دام أن الماء قد نبع في ملكه، انظر روضة الطالبين (5/ 310)، المهذب (1/ 428)
وقال النووي في شرح مسلم (1565): واعلم أن المذهب الصحيح أن من نبع في ملكه صار مملوكًا له، وحملوا حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء، إما على أن النهي للتنزيه، أو يحمل حديث جابر على حديث أبي هريرة في مسلم (1566):«لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» فيكون معنى الحديث أن تكون لإنسان بئر مملوكة في أرض موات، لا مالك لها، وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن لأصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض؛ لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفًا على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ، وعليه قال الشافعي: يجب بذل الماء بالفلاة بشروط: الأول: أن لا يكون هناك ماء آخر يستغنى به. الثاني: أن يكون بذل الماء لحاجة الماشية، لا لسقي الزرع. الثالث: أن لا يكون مالكه محتاجًا إليه.
ومذهب الجمهور أصح، والله أعلم.
هذا فيما يتعلق بالخلاف في جواز شراء الماء للوضوء، وأن الراجح مذهب الجمهور، وهو جواز شراء الماء للوضوء، وصحة بيع الماء إذا حازه الإنسان من الآبار ونحوها. وحتى لو صححنا مذهب ابن حزم رحمه الله في عدم جواز بيع الماء للتيمم، فإن الإنسان إذا منع حقه، فاشتراه فإن له أن يتوضأ به، والإثم على من منع بذله إلا بالمال، مثله مثل ما إذا احتاج إلى كلب صيد، ولم يبذل له إلا بالمال فإن له أن يشتريه، والإثم على من منعه بذل هذا الكلب إلا بالبيع.
هذا فيما يتعلق بالخلاف فيما إذا وجد الماء يباع من غير زيادة في ثمنه.
[م-410] وإن وجد الرجل الماء يباع بأكثر من ثمنه، فهل يجب عليه شراؤه، أو يتيمم؟
اختلف أهل العلم في هذا.
فقيل: يلزمه الشراء، ولو كان بجميع ماله، ذهب إلى هذا الحسن البصري رحمه الله تعالى
(1)
.
(1)
ذكر هذا مذهبًا للحسن البصري رحمه الله كل من صاحب المجموع (2/ 293)، وبدائع الصنائع (1/ 48).
وقيل: إذا زاد ثمن الماء عن قيمته، فإن كان الغبن يسيرًا، وجب عليه شراؤه، وإن كان فاحشًا فله أن يتيمم، وهذا هو مذهب الحنفية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
ونظر المالكية إلى اعتبار المشتري، فقالوا: إن كان قليل الدراهم تيمم، أي حتى ولو عرض الماء بثمن المثل، وإن كان يقدر على الشراء فليشتره ما لم يرفعوا عليه في الثمن
(3)
.
وقيل: لا يلزمه الشراء إذا زاد عن ثمن المثل، ولو كان يسيرًا، وهذا مذهب الشافعية
(4)
، وهو وجه في مذهب الحنابلة
(5)
.
(1)
واختلف الحنفية في تفسير الفاحش، ففي النوادر: جعله في تضعيف الثمن، وقال بعضهم: هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين. انظر شرح العناية على الهداية (1/ 142)، بدائع الصنائع (1/ 48 - 49)، فتح القدير لابن الهمام (1/ 142).
(2)
قال في الإنصاف (1/ 269): «يباح له التيمم إذا وجد الماء يباع بزيادة كثيرة على ثمن مثله، هذا المذهب .... ومفهوم قوله: إلا بزيادة كثيرة، أن الزيادة لو كانت يسيرة يلزمه شراؤه، وهو الصحيح، وهذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب» . اهـ وانظر شرح منتهى الإرادات (1/ 92).
(3)
جاء في المدونة (1/ 46): «وسألت مالكًا عن الجنب لا يجد الماء إلا بثمن؟ قال: إن كان قليل الدراهم، رأيت أن يتيمم، وإن كان موسعًا عليه يقدر، رأيت أن يشتري ما لم يكثر عليه في الثمن، فإن رفعوا في الثمن يتيمم ويصلي» . اهـ
واختلف المالكية في المقدار الذي إذا رفع امتنع من الشراء، فقيل: إذا زيد عليه أكثر من الثلث، لم يلزمه، وإن كانت الزيادة من الثلث فأقل لزمه شراؤه، اختاره عبد الحق من المالكية.
وقال اللخمي: محل الخلاف إذا كان الثمن له بال، أما لو كان بمحل لا بال لثمن ما يتوضأ به فيه، كما لو كان ثمنه فلسًا فإنه يلزمه شراؤه، ولو زيد عليه في الثمن مثل ثلثيه اتفاقًا». انظر حاشية الدسوقي (1/ 53)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 188)، منح الجليل (1/ 148)، الخرشي (1/ 189). كما نص المالكية بأنه إذا كان الرجل مليًا في بلده، فعليه أن يشتري المال ولو بذمته، إن وجد من يقرضه.
(4)
قال النووي في المجموع (2/ 293): قال أصحابنا: «سواء كثرت الزيادة عن ثمن المثل أو قلت، لا يلزمه الشراء، هذا هو الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور في كل الطرق، ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم. وفيه وجه آخر أنه يجب شراؤه بزيادة يتغابن الناس بها، وبه قطع البغوي، وحكاه المتولي عن القاضي حسين بعد حكايته عن الأصحاب أنه لا فرق» . وانظر: المنثور في القواعد (2/ 183)، البحر المحيط (2/ 35).
(5)
الإنصاف (1/ 269).