الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في تيمم الصحيح إذا كان محتاجًا للماء لشرب ونحوه
مدخل في ذكر الضابط الفقهي:
• كل من خاف على نفسه عطشًا، أو تلفًا أو مرضًا من استعمال الماء، فالتيمم مباح له، ولو مع وجود الماء؛ لأن العجز الشرعي كالعجز الحسي.
• المآل معتبر كالحال، فيجوز لمن معه ماء يحتاج إلى شربه في المآل أن يتيمم تنزيلًا للضرر المتوقع منزلة الواقع.
• حفظ النفس واجب ما أمكن.
• الرخص تبنى على الاحتياط.
[م-408] الرجل إذا كان معه ماء، ويحتاج إليه لشرب ونحوه، كأن يخاف على نفسه العطش، أو يخاف على رفيقه، أو على ذي حياة محترم من ذمي، أو مستأمن، أو دابة، فإنه يجب عليه التيمم، ويحرم عليه الوضوء.
وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة
(1)
،
والثوري
(2)
، وإسحاق
(3)
، وحكى ابن المنذر الإجماع على هذا.
قال ابن المنذر: «أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش، ومعه مقدار ما يتطهر به من الماء، أنه يبقي ماءه للشرب، ويتيمم»
(4)
.
ومستند هذا الإجماع قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)[النساء: 29].
وقياسًا على المريض، بجامع أن كلًا منهما خائف على نفسه.
(5)
.
فإن كانت المسألة بالاتفاق كما قال النووي فالحجة ما حكاه من قيام الاتفاق، وإن لم يكن هناك اتفاق ففي كلام النووي نظر،
(960 - 37) فقد روى البخاري من طريق أبي صالح،
(1)
انظر في مذهب الحنفية: المبسوط (1/ 114)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 554)، فتح القدير (1/ 134)، الجوهرة النيرة (1/ 21).
وفي مذهب المالكية، جاء في المدونة (1/ 46):«قال مالك: من كان معه ماء، وهو يخاف العطش إن توضأ به، قال: يتيمم، ويبقي ماؤه» . وانظر القوانين الفقهية (ص: 29).
وقال الشافعي في الأم (1/ 44): «إذا وجد الجنب ماء يغسله، وهو يخاف العطش، فهو كمن لم يجد ماء» . وانظر المجموع (2/ 281).
وفي مذهب الحنابلة: انظر مسائل الإمام أحمد رواية عبد الله (1/ 128)، ومسائل أحمد رواية
ابن هانئ (67)، المغني (1/ 165)، كشاف القناع (1/ 163)، شرح منتهى الإرادات (1/ 91).
(2)
الأوسط لابن المنذر (2/ 29).
(3)
المرجع السابق.
(4)
الأوسط (2/ 28).
(5)
المجموع (2/ 282).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا. قال: في كل كبد رطبة أجر. ورواه مسلم أيضًا
(1)
.
فعموم: (في كل كبد رطبة أجر) يشمل كل ما استثناه النووي رحمه الله تعالى.
(961 - 38) وروى البخاري من طريق عوف، عن الحسن وابن سيرين،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنَزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك. ورواه مسلم بنحوه
(2)
.
وكون المرتد يجب قتله من قبل الحاكم هذا لا يوجب أبدًا تركه يتعذب ويموت عطشًا، وربما رجع عن ردته قبل قتله، نعم في الحربي إذا خاف منه على نفسه أو على المسلمين إذا سقاه أن يتقوى على ذلك لا يجوز سقيه، دفعًا لضرره، وليس عقوبة له، وإن تمكن من قتله فهو أولى من تركه يموت عطشًا، وإن لم يخش على نفسه، ولا على المسلمين منه، وكان من بلد يتولى القتال فيها الجند، ولم يكن منهم لم يتركه يموت عطشًا، والله أعلم.
وذهب بعض المالكية بأن الكلب غير المأذون فيه والخنزير إن قدر على قتلهما وإلا ترك الماء لهما، ولا يعذبان بالعطش
(3)
. وهذا أقوى من كلام النووي رحمة الله
(1)
البخاري (2363)، ومسلم (2244).
(2)
البخاري (3331)، ومسلم (2245).
(3)
انظر حاشية العدوي على شرح الكفاية (1/ 223)، وقال الدسوقي في حاشيته (1/ 149):«ومثلهما -يعني مثل الكلب غير المأذون فيه والخنزير- الجاني إذا ثبت عند الحاكم جنايته، وحكم بقتله قصاصًا فلا يدفع إليه الماء، ويتيمم صاحبه، بل يعجل بقتله، فإن عجز عنه دفع الماء له» .
عليهما جميعًا.
والمالكية يقسمون الخوف من العطش تقسيمًا جيدًا، فيذكرون أن خوف العطش: تارة يخاف منه، ولم يتلبس به، وتارة يكون متلبسًا به،
فإن خاف العطش سواء كان الخوف متيقنًا أو غلب على ظنه العطش، وخاف هلاكًا، أو أذى شديدًا، فإنه يجب عليه التيمم، ويحبس الماء لدفع العطش.
وإن غلب على ظنه أنه يلحقه أذى، وإن لم يكن شديدًا، فإنه يجوز له التيمم، ولا يجب عليه.
وإن شك في ذلك فلا يتيمم، ومن باب أولى إن توهم ذلك.
وإن كان متلبسًا بالعطش بالفعل، وخاف الضرر عليه فإنه يتيمم مطلقًا، تحقق الضرر أو ظنه أو شك فيه أو توهمه؛ لأن التلبس بالعطش مظنة الضرر
(1)
.
ويلحق بالخوف على نفسه من العطش، الخوف على نفسه من اللصوص، أو السباع إذا خرج إلى الماء، كما أنه لا فرق بين الخوف على نفسه، أو الخوف على غيره من رفيق ودابة ونحوهما.
قيل للإمام أحمد كما في مسائل ابن هانئ: «الرجل معه إداوة من ماء لوضوئه، فيرى قومًا عطاشًا، أحب إليك أن يسقيهم، ويتيمم، أو يتوضأ؟
قال: يسقيهم، ثم ذكر عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم تيمموا، وحبسوا الماء لسقياهم»
(2)
.
ونقل هذا ابن قدامة في المغني، وعارضه بقول أبي بكر والقاضي حيث قالا: لا يلزمه بذله؛ لأنه محتاج إليه.
فتعقبه ابن قدامة بقوله: «إن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة، بدليل ما لو رأى
(1)
انظر حاشية العدوي على شرح الكافية (1/ 223).
(2)
مسائل ابن هانئ (67).
حريقًا أو غريقًا في الصلاة عند ضيق وقتها لزمه ترك الصلاة، والخروج لإنقاذه، فلأن يقدمها على الطهارة بالماء أولى»
(1)
.
وجاء في مسائل أبي داود: «قلت لأحمد: المرأة تكون في القرية، والماء عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج، أتتيمم؟ قال: لا أدري»
(2)
.
ولعل الإمام أحمد رأى أن هذا الأمر قد يكون من المرأة من قبيل توهم الخوف الذي لا حقيقة له، وإلا فإن المرأة إذا خافت على عرضها حرم عليها الخروج؛ لأن المحافظة على العرض أولى من تحصيل الطهارة بالماء، وإذا كان يشرع له التيمم إذا خاف على ماله من اللصوص، فلأن يشرع له التيمم إذا خاف على عرضه من باب أولى فأولى.
كما جاء في مسائل أحمد رحمه الله: «قلت لأحمد: الذي يخاف أن يأتي الماء أيتيمم؟ قال: مم يخاف؟ قلت: من لا شيء، خاف هو بالليل. قال: رجل يخاف السبع؟ قلت: ليس سبع. فقال أحمد: لا بد من أن يتوضأ»
(3)
.
قلت: الخوف من الليل هو نوع من المرض، والمرض يبيح التيمم، ومقصود الشرع من مشروعية التيمم رفع الحرج، وتكليف هذا الرجل بالوضوء مع مرضه هذا يلحقه أذى نفسي شديد، فلا أرى حرجًا من تيمم هذا الرجل، وأكثر من يخاف من الليل أصحاب الأمراض النفسية المسمى في عصرنا بالاكتئاب، ويصيب كبار السن أكثر من غيرهم، فتجدهم يخافون من الظلمة، وإذا سألتهم مم يخافون؟ قالوا: لا ندري، وقد يكون نتيجة تغيرات في خلايا المخ بسبب الهرم، أسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية.
* * *
(1)
المغني (1/ 165).
(2)
مسائل أبي داود (121).
(3)
مسائل أحمد برواية أبي داود (122).