الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
[مَسْأَلَةٌ الْوَاحِدُ فِي الْحَدِّ مَقْبُولٌ]
(مَسْأَلَةٌ الْوَاحِدُ فِي الْحَدِّ مَقْبُولٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْجَصَّاصِ) خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَالْبَصْرِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ) مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَنَارِ لِلْكَاكِيِّ وَعَزَا الْأَوَّلُ فِي شَرْحِهِ لِأُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ إلَى جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا (لَنَا عَدْلٌ ضَابِطٌ جَازِمٌ فِي عَمَلِيٍّ فَيُقْبَلُ كَغَيْرِهِ) أَيْ كَمَا فِي غَيْرِ الْحَدِّ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ (قَالُوا تَحَقَّقَ الْفَرْقُ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ (بِقَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم «ادْرَءُوا أَيْ ادْفَعُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» أَخْرَجَهُ أَبُو حَنِيفَةَ (وَفِيهِ) أَيْ خَبَرِ الْوَاحِدِ (شُبْهَةٌ) وَهِيَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ بِخَبَرِهِ (قُلْنَا الْمُرَادُ) بِالشُّبْهَةِ الَّتِي يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ الشُّبْهَةُ (فِي نَفْسِ السَّبَبِ لَا الْمُثْبِتِ) لِلسَّبَبِ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الشُّبْهَةَ فِي مُثْبِتِ السَّبَبِ (انْتَفَتْ الشَّهَادَةُ وَظَاهِرُ الْكِتَابِ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِّ لِانْتِفَاءِ الْقَطْعِ فِيهَا إذْ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ وَإِرَادَةُ غَيْرِ ظَاهِرِ الْكِتَابِ فِيهِ مِنْ تَخْصِيصٍ وَإِضْمَارٍ وَمَجَازٍ قَائِمٌ لَكِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِهِمَا اتِّفَاقًا (وَإِلْزَامُهُ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ (بِالْقِيَاسِ) أَيْضًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ ثَابِتٌ بِدَلَائِلَ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالشَّهَادَةِ (مُلْتَزَمٌ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ) وَعِنْدَهُمْ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ (وَالْفَرْقُ لَهُمْ) بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فِي هَذَا (بِأَنَّهُ) أَيْ الْحَدَّ (مَلْزُومٌ لِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ لَا يَدْخُلُهَا الرَّأْيُ) فَامْتَنَعَ إثْبَاتُهَا بِهِ بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ كَلَامُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَإِلَيْهِ إثْبَاتُ كُلِّ حُكْمٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ
(تَقْسِيمٌ لِلْحَنَفِيَّةِ) لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ وُرُودِهِ أَيْ مَا جُعِلَ الْخَبَرُ فِيهِ حُجَّةً (مَحَلُّ وُرُودِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَشْرُوعَاتٌ لَيْسَتْ حُدُودًا كَالْعِبَادَاتِ) مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَمَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا مِمَّا لَيْسَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً كَالْأُضْحِيَّةِ أَوْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَابِعٌ كَالْعُشْرِ أَوْ لَيْسَ بِخَالِصٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ (وَالْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمَشْرُوطُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ فِي الرَّاوِي (حُجَّةٌ فِيهَا خِلَافًا لِشَارِطِي الْمُثَنَّى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هَذَا التَّقْسِيمُ فِي ذَيْلِهَا لَكِنْ إنْ كَانَ الْخَبَرُ حَدِيثًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَلَا شَاذًّا وَلَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَا سَيَأْتِي (وَحُدُودٌ وَفِيهَا مَا تَقَدَّمَ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْخِلَافِ فِي قَبُولِ الْوَاحِدِ فِيهَا بِشُرُوطِهِ الْمَاضِيَةِ وَأَمَّا ثُبُوتُ مُبَاشَرَةِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْمُبَاشِرِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ (فَإِنْ كَانَ) مَحَلُّ وُرُودِ الْخَبَرِ (حُقُوقًا لِلْعِبَادِ فِيهَا إلْزَامٌ مَحْضٌ كَالْبُيُوعِ وَالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ مِنْ هِبَةٍ وَغَيْرِهَا وَالْأَشْيَاءِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْأَمْوَالِ كَالْآجَالِ وَالدُّيُونِ (فَشَرْطُهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ الشَّرْعِيِّ (الْعَدَدُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ) مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَالْبَصَرِ وَأَنْ لَا يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ مَغْنَمًا وَلَا يَدْفَعَ عَنْهَا مَغْرَمًا وَمَعَ الذُّكُورَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْعَدَدِ (اُحْتِيطَ لِمَحَلِّيَّتِهِ) أَيْ الْخَبَرِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ (لِدَوَاعٍ) إلَى التَّزْوِيرِ وَالْحِيَلُ فِي هَذَا النَّوْعِ (لَيْسَتْ فِيمَا عَنْ الشَّارِعِ) تَقْلِيلًا لِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهَا (وَمِنْهُ) أَيْ هَذَا الْقِسْمِ (الْفِطْرُ) لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ بِهِلَالِ الْفِطْرِ الْعَدَدُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ مَعَ سَائِرِ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَفِي التَّلْوِيحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ إثْبَاتِ الْحُقُوقِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ لِأَنَّ الْفِطْرَ مِمَّا يُخَافُ فِيهِ التَّلْبِيسُ وَالتَّزْوِيرُ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ يَنْتَفِعُونَ بِالْفِطْرِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِهِمْ
وَيَلْزَمُهُمْ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّوْمِ يَوْمَ الْفِطْرِ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِالصَّوْمِ أَكْثَرُ وَإِلْزَامَهُمْ فِيهِ أَظْهَرُ مَعَ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ اهـ وَأُورِدَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَرَ الْهِلَالَ يُفْطِرُونَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ فَإِنَّ هَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفِطْرَ غَيْرُ ثَابِتٍ بِشَهَادَتِهِمْ بَلْ بِالْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَمَضَانَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْسِلَاخُهُ بِمُضِيِّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَشَهَادَتُهُ أَفْضَتْ لَهُ
كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى النَّسَبِ أَفَضْت إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ ابْتِدَاءً ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَوْلُهُ (إلَّا إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُلْزَمُ بِهِ مُسْلِمًا فَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ) اسْتِثْنَاءً مِمَّا تَضَمَّنَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِيهِ وَقَوْلُهُ (إلَّا مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْبَكَارَةِ وَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ فِي الْعَوْرَةِ) اسْتِثْنَاءً مِنْ الْعَدَدِ فَلِذَا قَالَ (فَلَا عَدَدَ) وَقَوْلُهُ (وَذُكُورَةٌ) اسْتِطْرَادٌ (وَإِنْ) كَانَ مَحَلُّ الْخَبَرِ حُقُوقًا لِلْعِبَادِ (بِلَا إلْزَامٍ) لِلْغَيْرِ (كَالْإِخْبَارِ بِالْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَالرِّسَالَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالشَّرِكَاتِ) وَالْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ (فَبِلَا شَرْطٍ) أَيْ فَيُقْبَلُ فِي هَذِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِلَا شَرْطِ شَيْءٍ فِيهِ (سِوَى التَّمْيِيزِ مَعَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ) فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالْعَدْلُ وَغَيْرُهُ وَالْبَالِغُ وَغَيْرُهُ إذَا كَانَ مُمَيِّزًا حَتَّى إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمْ غَيْرَهُ بِأَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ أَوْ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ جَازَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّصَرُّفِ مَعَهُ بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ ثُمَّ اشْتِرَاطُ التَّحَرِّي ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الِاسْتِحْسَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
فَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِمَا فِي الْجَامِعِ يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا أَجْمَلَ فِيهِ اعْتِمَادًا عَلَى تَفْصِيلِهِ فِي الِاسْتِحْسَانِ فَيُشْتَرَطُ وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطَ رُخْصَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ثُمَّ لَمْ يُشْتَرَطْ سِوَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ فَيَصْلُحُ مُلْزِمًا وَالْخَبَرُ هُنَا غَيْرُ مُلْزِمٍ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَيْضًا هَذِهِ حَالَةٌ مُسَالِمَةٌ وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى التَّزْوِيرِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَبَاطِيلِ دَفْعًا لَهَا وَأَيْضًا (لِلْإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ) فَإِنَّ الْأَسْوَاقَ مِنْ لَدُنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا قَائِمَةٌ بِعُدُولٍ وَفُسَّاقٍ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ أَحْرَارٍ وَغَيْرِ أَحْرَارٍ مُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالنَّاسُ يَشْتَرُونَ مِنْ الْكُلِّ وَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَ كُلِّ مُمَيِّزٍ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ «وَكَانَ عليه السلام يَقْبَلُ خَبَرَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» ) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» وَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ» وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ فَثَمَّ مَا يَشْهَدُ لَهُ كَقَبُولِ هَدِيَّةِ سَلْمَانَ وَهُوَ عَبْدٌ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ الشَّاةَ الْمَسْمُومَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَأَيْضًا (دَفْعًا لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الرَّسُولِ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَجِدُ الْمُسْلِمَ الْبَالِغَ الْحُرَّ الْعَدْلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لِيَبْعَثَهُ إلَى وَكِيلِهِ أَوْ غُلَامِهِ فَتَتَعَطَّلَ مَصَالِحُهُ لَوْ شُرِطَتْ فِي الرَّسُولِ (بِخِلَافِهِ) أَيْ اشْتِرَاطِهَا (فِي الرِّوَايَةِ) فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ لِأَنَّ فِي عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةً (وَإِنْ) كَانَ مَحَلُّ الْخَبَرِ حُقُوقًا لِلْعِبَادِ (فِيهَا) إلْزَامٌ لِلْغَيْرِ (لِغَيْرِ وَجْهٍ) دُونَ وَجْهٍ (كَعَزْلِ الْوَكِيلِ) لِأَنَّهُ إلْزَامٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُوَكِّلَ يُبْطِلُ عَمَلَ الْوَكِيلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَيْسَ بِإِلْزَامٍ لِلْوَكِيلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُوَكِّلَ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ (وَحَجْرُ الْمَأْذُونِ) لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِلْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخْرِجُ تَصَرُّفَاتِ الْعَبْدِ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَلَيْسَ بِإِلْزَامٍ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَوْلَى يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ (وَفَسْخُ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِلشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلْزِمُ كُلًّا مِنْهُمَا الْكَفَّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَيْسَ إلْزَامًا لَهُمَا لِأَنَّ الْفَاسِخَ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إذْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ كَمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِطْلَاقِ
(فَالْوَكِيلُ وَالرَّسُولُ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّوْكِيلِ وَالْإِرْسَالِ بِأَنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ أَوْ الْمَوْلَى أَوْ مَنْ بِمَعْنَاهُمَا مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ قَاضٍ أَوْ الشَّرِيكِ أَوْ رَبِّ الْمَالِ وَكَّلْتُك بِأَنْ تُخْبِرَ فُلَانًا بِالْعَزْلِ أَوْ الْحَجْرِ وَأَرْسَلْتُك إلَى فُلَانٍ لِتُبَلِّغَهُ عَنِّي هَذَا الْخَبَرَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا سِوَى التَّمْيِيزِ بِالِاتِّفَاقِ (كَمَا قَبْلَهُ) أَيْ كَمَا فِي الْمُخْبِرِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَهُوَ مَا كَانَ مَحَلُّ الْخَبَرِ فِيهِ حُقُوقَ الْعِبَادِ بِلَا إلْزَامٍ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ وَالرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ وَالْمُرْسِلِ إذْ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَالرَّسُولِ وَفِي الْمُرْسَلِ وَالْمُوَكَّلِ لَا يُشْتَرَطُ سِوَى التَّمْيِيزِ فَكَذَا فِيمَنْ قَامَ مَقَامَهُمَا (وَكَذَا) الْمُخْبِرُ (الْفُضُولِيُّ) لَا يُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ (عِنْدَهُمَا)
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى شُرُوطِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَاتِ عَزْلًا وَتَوْكِيلًا بِحَسْبِ مَا يُعْرَضُ لَهُمْ مِنْ الْحَاجَاتِ ضَرُورَةً فَلَوْ شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ تُشْتَرَطْ دَفْعًا
لِلْحَرَجِ
(وَشَرَطَ) أَبُو حَنِيفَةَ (عَدَالَتَهُ أَوْ الْعَدَدَ) أَيْ كَوْنَ الْمُخْبِرِ الْفُضُولِيِّ اثْنَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْإِخْبَارَ (لِإِلْزَامِ الضَّرَرِ) فِيهِ فَإِنَّ بَعْدَ الْعَزْلِ يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ (كَالثَّانِي) أَيْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مَحَلُّ الْخَبَرِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ (وَلِوِلَايَةِ مَنْ) يَتَوَصَّلُ الْفُضُولِيُّ (عَنْهُ فِي ذَلِكَ) التَّصَرُّفِ (كَالثَّالِثِ) أَيْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فِيهِ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ (فَتَوَسَّطْنَا) فِي الْقَوْلِ فِي هَذَا بِالِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ إعْمَالًا (لِلشَّبَهَيْنِ) لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا ثُمَّ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ الْفُضُولِيِّ إذَا كَانَ وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَشَايِخِ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهَا إذَا كَانَ اثْنَيْنِ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَيْضًا لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقَيْنِ كَخَبَرِ فَاسِقٍ فِي أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا فَلَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فَائِدَةٌ
قَالُوا وَالِاخْتِلَافُ نَشَأَ مِنْ لَفْظِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ إذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرْسِلْهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ حِجْرًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْعَبْدُ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْعَدَالَةَ لِلْمَجْمُوعِ وَبَعْضُهُمْ لِلرَّجُلِ فَقَطْ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرًا فِي الِاطْمِئْنَانِ بَلْ تَأْثِيرُهُ أَقْوَى مِنْ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ لَا يَنْفُذُ وَبِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَطَ فِي الرَّجُلَيْنِ الْعَدَالَةَ كَانَ ذِكْرُهُ ضَائِعًا وَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلٌ عَدْلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَبْسُوطِ اشْتِرَاطَ وُجُودِ سَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ الذُّكُورِيَّةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ فَلِذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَرِطَ سَائِرَ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يُقْبَلَ خَبَرُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَجَزَمَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَقِيلَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ شَرْطًا مَعَ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لَذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ مَا فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّ فِيهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إخْرَاجًا حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلٌ عَدْلٌ أَوْ امْرَأَةٌ عَدْلَةٌ أَوْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ (وَإِخْبَارُ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ قِيلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي) لُزُومِ (الْقَضَاءِ) لِمَا فَاتَهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْإِخْبَارَ إخْبَارٌ (عَنْ الشَّارِعِ بِالدِّينِ وَالْأَكْثَرُ) مِنْ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهُ (عَلَى الْخِلَافِ) الَّذِي فِي الْعَزْلِ وَالْحَجْرِ (وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ) قَالَ (الْأَصَحُّ) عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ (الْقَضَاءُ) اتِّفَاقًا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُخْبِرَ (رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بِالتَّبْلِيغِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» وَقَدْ بَيَّنَّا فِي خَبَرِ الرَّسُولِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْمُرْسَلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُرْسَلِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا اهـ.
وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَوْ صَحَّ) هَذَا (انْتَفَى اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الرُّوَاةِ) لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبْلِيغِ عَلَى هَذَا وَانْتِفَاءُ اشْتِرَاطِهَا فِيهِمْ مَمْنُوعٌ اتِّفَاقًا (فَإِنَّمَا ذَاكَ) أَيْ الرَّسُولُ الَّذِي خَبَرُهُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْمُرْسَلِ (الرَّسُولُ الْخَاصُّ بِالْإِرْسَالِ) لَا مُطْلَقًا وَهَذَا الْمُخْبِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَمُسَوِّغُ الرِّوَايَةِ التَّحَمُّلُ وَبَقَاؤُهُ) أَيْ التَّحَمُّلِ (وَهُمَا) أَيْ التَّحَمُّلُ وَبَقَاؤُهُ (عَزِيمَةٌ) وَرُخْصَةٌ (وَكَذَا الْأَدَاءُ) لَهُ عَزِيمَةٌ وَرُخْصَةٌ (فَالْعَزِيمَةُ فِي التَّحَمُّلِ أَصْلُ قِرَاءَةِ الشَّيْخِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ حِفْظٍ) عَلَيْك وَأَنْتَ تَسْمَعُ (وَقِرَاءَتُك أَوْ) قِرَاءَةُ (غَيْرِك كَذَلِكَ) أَيْ مِنْ كِتَابٍ أَوْ حِفْظٍ عَلَى الشَّيْخِ (وَهُوَ يَسْمَعُ) سَوَاءٌ كَانَ الشَّيْخُ يَحْفَظُ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ أَوْ لَا لَكِنْ مُمْسِكٌ أَصْلِهِ هُوَ أَوْ ثِقَةٌ غَيْرُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَارِئُ يَقْرَأُ فِيهِ عَلَى هَذَا عَمَلُ كَافَّةِ الشُّيُوخِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ قَالَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ وَهَكَذَا إنْ كَانَ ثِقَةٌ مِنْ السَّامِعِينَ يَحْفَظُ مَا يُقْرَأُ عَلَى الشَّيْخِ وَالْحَافِظُ لَهُ مُسْتَمِعٌ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْهُ فَذَلِكَ كَافٍ أَيْضًا (وَهِيَ) أَيْ قِرَاءَتُك أَوْ غَيْرِك عَلَى الشَّيْخِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ حِفْظٍ (الْعَرْضُ) سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ مَا يَقْرَؤُهُ كَمَا يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ أَهُوَ كَمَا قَرَأْت عَلَيْك (فَيَعْتَرِفُ) وَلَوْ بِنَعَمْ (أَوْ يَسْكُتُ وَلَا مَانِعَ) مِنْ السُّكُوتِ عَلَى مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالنُّظَّارِ (خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ)
وَهُوَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِ الْمَشْرِقِ فِي أَنَّ إقْرَارَهُ شَرْطٌ وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ (لِأَنَّ الْعُرْفَ أَنَّهُ) أَيْ السُّكُوتَ بِلَا مَانِعٍ مِنْهُ (تَقْرِيرٌ وَلِأَنَّهُ) أَيْ السُّكُوتَ بِلَا مَانِعٍ مِنْهُ (يُوهِمُ الصِّحَّةَ فَكَانَ صَحِيحًا وَإِلَّا فَغِشٌّ وَرَجَّحَهَا) أَيْ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ (أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قِرَاءَةِ الشَّيْخِ مِنْ كِتَابٍ خِلَافًا لِلْأَكْثَرِ) حَيْثُ قَالُوا قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ عَلَى الطَّالِبِ أَعْلَى لِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَإِنَّمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى ذَلِكَ (لِزِيَادَةِ عِنَايَتِهِ) أَيْ الْقَارِئِ (بِنَفْسِهِ فَيَزْدَادُ ضَبْطُ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالشَّيْخُ لِغَيْرِهِ وَالْإِنْسَانُ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَحْوَطُ مِنْهُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ وَأُورِدَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمُحَدِّثِ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا غَفْلَتُهُ عَنْ سَمَاعِ الْقَارِئِ أَيْضًا وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا أَهْوَنُ مِنْ الْخَطَأِ فِي الْقِرَاءَةِ وَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ مَا لَمْ يُمْكِنْ وَوَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْأَهَمِّ مِنْهُمَا (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَيْهِ وَالسَّمَاعَ مِنْهُ (يَتَسَاوَيَانِ) فَفِي النَّوَازِلِ وَرَوَى نُصَيْرٌ عَنْ خَلَفٍ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الصَّغَانِيِّ قَالَ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ يَقُولَانِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ سَوَاءٌ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَالْبُخَارِيِّ (فَلَوْ حَدَّثَ) الشَّيْخُ (مِنْ حِفْظِهِ تَرَجَّحَ) التَّحْدِيثُ مِنْ حِفْظِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقَارِئِ عَلَيْهِ (بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم) عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهَا رَاجِحَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ (لِلْأَمْنِ مِنْ الْقَرَارِ عَلَى الْغَلَطِ) لَوْ وَقَعَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ (وَالْحَقُّ أَنَّهُ) أَيْ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ) فَإِنَّ مَحَلَّهُ أَنْ يَرْوِيَ الرَّاوِي وَهُوَ الشَّيْخُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا أَنْ يَرْوِيَ نَفْسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَلَى هَذَا حِكَايَةُ تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِلَا هَذَا التَّفْصِيلِ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَقَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ الْخَطِيبُ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَشُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَأَبِي حَاتِمٍ فِي آخَرِينَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَخَلَّفَ عَنْهُ) أَيْ الْأَصْلِ وَهُوَ (الْكِتَابُ بِحَدَّثَنِي فُلَانٌ فَإِذَا بَلَغَك كِتَابِي هَذَا فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أَيْ عَلَى رَسْمِ الْكُتُبِ بِأَنْ يَكْتُبَ فِي عُنْوَانِهِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ ثُمَّ يَكْتُبَ فِي دَاخِلِهِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلَانٍ إلَخْ ثُمَّ يَقُولَ حَدَّثَنِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ عَنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ بِكَذَا ثُمَّ يَقُولَ فَإِذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا أَوْ إذَا بَلَغَك كِتَابِي هَذَا فَارْوِهِ عَنِّي أَوْ فَحَدِّثْهُ عَنِّي بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ فَإِذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالشُّهُودِ قَبِلَهُ وَرَوَى ذَلِكَ الْحَدِيثَ عَنْ الْكَاتِبِ بِإِسْنَادِهِ
وَفِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الصَّلَاحِ مِنْ أَقْسَامِ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَتَلَقِّيهِ الْمُكَاتَبَةُ وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إلَى الطَّالِبِ وَهُوَ غَائِبٌ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ بِخَطِّهِ أَوْ يَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ حَاضِرٌ وَيُلْتَحَقُ بِذَلِكَ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ عَنْهُ إلَيْهِ (وَالرِّسَالَةُ) أَنْ يُرْسِلَ الشَّيْخُ رَسُولًا إلَى آخَرَ وَيَقُولَ لِلرَّسُولِ (بَلِّغْهُ عَنِّي أَنَّهُ حَدَّثَنِي فُلَانُ) بْنُ فُلَانٍ عَنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى تَمَامِ الْإِسْنَادِ بِكَذَا فَإِذَا بَلَغَتْك رِسَالَتِي إلَيْك (فَارْوِهِ عَنِّي) أَوْ فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) فَشَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ عَلَى رِسَالَةِ الْمُرْسِلِ حَلَّتْ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ قَوْلُهُ فَإِذَا بَلَغَك إلَخْ فِي الْفَصْلَيْنِ إنَّمَا يَلْزَمُ (عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ وَالْإِجَازَةِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا) أَيْ الْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ (وَالْأَوْجَهُ عَدَمُهُ) أَيْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِجَازَةِ فِيهِمَا (كَالسَّمَاعِ) فَإِنَّهُ سَاقَ سَنَدًا خَاصًّا بِمَتْنٍ مُعَيَّنٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَ كِتَابُهُ وَالرَّسُولَ رَسُولُهُ صَارَ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الثُّبُوتِ عَنْهُ كَسَمَاعِهِ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَا إذْنٍ فَإِنَّ فِي السَّمَاعِ وَالْمُشَافَهَةِ لَوْ مَنَعَهُ عَنْ الرِّوَايَةِ جَازَ أَنْ يَرْوِيَ مَعَ مَنْعِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى إذْنِهِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ إجَازَةَ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَمَنْصُورٌ وَاللَّيْثُ وَأَنَّهَا الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَلْ جَعَلَهَا أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ أَقْوَى مِنْ الْإِجَازَةِ وَصَارَ إلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ قَبِيلِ الرُّخْصَةِ وَالْكِتَابَةَ،
مِنْ قَبِيلِ الْعَزِيمَةِ الْمُسْنَدِ الْمَوْصُولِ (وَهُمَا) أَيْ الْكِتَابَةُ وَالرِّسَالَةُ (كَالْخِطَابِ) شَرْعًا (لِتَبْلِيغِهِ عليه السلام بِهِمَا) أَيْ الْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ مُسْلِمٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِهِ بِالتَّبْلِيغِ مُعَاذٌ بَلْ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ (وَعُرْفًا) كَمَا فِي تَقْلِيدِ الْمُلُوكِ الْقَضَاءَ وَالْإِمَارَةَ بِهِمَا كَمَا بِالْمُشَافَهَةِ (وَيَكْفِي مَعْرِفَةُ خَطِّهِ) أَيْ الْكَاتِبِ فِي حِلِّ رِوَايَةِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَنْهُ (وَظَنُّ صِدْقِ الرَّسُولِ) كَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ (وَضَيَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ) حَيْثُ نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إلَّا (بِالْبَيِّنَةِ) كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَمَالَ الْمُصَنِّفُ إلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ (وَلَا يَلْزَمُ كِتَابُ الْقَاضِي لِلِاخْتِلَافِ) بَيْنَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَمَا نَحْنُ فِيهِ (بِالدَّاعِيَةِ) إلَى تَرْوِيجِهَا بِحَيْثُ لَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِهَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي اشْتِرَاطُهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَأَمَّا مَنْ كَتَبَ إلَيْهِ بِحَدِيثٍ فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إمَّا بِقَوْلِ ثِقَةٍ أَوْ بِعَلَامَاتٍ مِنْهُ وَخَطٍّ يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ أَنَّهُ كِتَابُهُ فَإِنَّهُ يَسَعُ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ الْكِتَابُ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ يَعْنِي الْكَاتِبَ إلَيْهِ وَلَا يَقُولُ حَدَّثَنِي (وَلَا خَفَاءَ فِي) جَوَازِ (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَسَمِعْته فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي قِرَاءَةِ الشَّيْخِ عَلَى الطَّالِبِ
(وَقَالَ) أَيْضًا مَعَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ لِي وَلَنَا وَبِدُونِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي كَوْنِهَا مَحْمُولَةً عَلَى السَّمَاعِ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْهُمَا فَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ إذَا عُلِمَ اللُّقِيُّ وَسَلِمَ الرَّاوِي مِنْ التَّدْلِيسِ لَا سِيَّمَا مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا مَا سَمِعَهُ كَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ فَرَوَى كُتُبَ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَحَمَلَهَا النَّاسُ عَنْهُ وَاحْتَجُّوا بِهَا وَخَصَّصَ الْخَطِيبُ ذَلِكَ بِمَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَأَمَّا مَنْ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ فَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى السَّمَاعِ ثُمَّ عَدَّهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ أَوْضَعِ الْعِبَارَاتِ فِي ذَلِكَ (وَغَلَبَتْ) لَفْظَةُ قَالَ (فِي الْمُذَاكَرَةِ) أَيْ فِي التَّعْبِيرِ بِهَا مَعَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمْ فِي الْمُذَاكَرَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ إنَّهُ لَائِقٌ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ وَهُوَ بِهِ أَشْبَهُ مِنْ حَدَّثَنَا وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَنْدَهْ إنَّ الْبُخَارِيَّ حَيْثُ قَالَ قَالَ لِي فُلَانٌ فَهُوَ إجَازَةٌ وَحَيْثُ قَالَ قَالَ فُلَانٌ فَهُوَ تَدْلِيسٌ.
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فَلَمْ يَقْبَلْ الْعُلَمَاءُ كَلَامَهُ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فَذَلِكَ عَنْهُ بَاطِلٌ (وَفِي الثَّانِي) أَيْ قِرَاءَةِ الطَّالِبِ عَلَى الشَّيْخِ يَقُولُ (قَرَأْت) عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ إنْ كَانَ هُوَ الْقَارِئَ (وَقُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ) إنْ كَانَ الْقَارِئُ غَيْرَهُ (وَحَدَّثَنَا بِقِرَاءَتِي) عَلَيْهِ (وَقِرَاءَةٍ) عَلَيْهِ (وَأَنْبَأَنَا وَنَبَّأَنَا كَذَلِكَ) أَيْ بِقِرَاءَتِي أَوْ قِرَاءَةٍ عَلَيْهِ (وَالْإِطْلَاقُ) لِحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِقِرَاءَتِي أَوْ قِرَاءَةٍ عَلَيْهِ (جَائِزٌ عَلَى الْمُخْتَارِ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالْبُخَارِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَمُعْظَمِ الْكُوفِيِّينَ وَالْحِجَازِيِّينَ لَا الْمَنْعَ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ
(وَقِيلَ) الْإِطْلَاقُ جَائِزٌ (فِي أَخْبَرَنَا فَقَطْ) وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمُسْلِمٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَذَكَرَ صَاحِبُ كِتَابِ الْإِنْصَافِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُحْصِيهِمْ أَحَدٌ وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَخْبَرَنَا عَلَمًا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ قَائِلِهِ أَنَا قَرَأْته عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ لَفَظَ بِهِ لِي وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا صَارَ هُوَ الشَّائِعَ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالِاحْتِجَاجُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ عَنَاءٌ وَتَكَلُّفٌ وَخَيْرُ مَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ ثُمَّ خُصِّصَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِ حَدَّثَنَا لِقُوَّةِ إشْعَارِهِ بِالنُّطْقِ وَالْمُشَافَهَةِ (وَالْمُنْفَرِدُ) يَقُولُ (حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي وَجَازَ الْجَمْعُ) أَيْ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا لِجَوَازِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا أَنَّ مَنْ مَعَهُ غَيْرُهُ يَقُولُ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَجَازَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ حَدَّثَهُ وَغَيْرَهُ وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ الْحَاكِمُ وَذَكَرَ أَنَّهُ الَّذِي عَهِدَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ شُيُوخِهِ وَأَئِمَّةِ عَصْرِهِ وَذَكَرَهُ
غَيْرُهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الرَّاوِيَ يَقُولُ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُحَدِّثِ لَفْظًا وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَفِيمَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَفِيمَا قَرَأَ عَلَى الْمُحَدِّثِ بِنَفْسِهِ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَفِيمَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَهُوَ حَاضِرٌ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهُوَ حَسَنٌ رَائِقٌ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّةً (وَفِي الْخَلَفِ) أَيْ الْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ يَقُولُ (أَخْبَرَنِي) كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِنَا
(وَقِيلَ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِيهِمَا أَخْبَرَنِي (كَحَدَّثَنِي) لِأَنَّ الْإِخْبَارَ وَالتَّحْدِيثَ وَاحِدٌ (بَلْ) يَقُولُ (كَتَبَ) إلَيَّ (وَأَرْسَلَ إلَيَّ لِعَدَمِ الْمُشَافَهَةِ قُلْنَا قَدْ اسْتَعْمَلَ) أَخْبَرَنِي (لِلْإِخْبَارِ مَعَ عَدَمِهَا) أَيْ الْمُشَافَهَةِ (كَأَخْبَرَنَا اللَّهُ لَا حَدَّثَنَا) مَعَ عَدَمِهَا إذْ لَا يُقَالُ حَدَّثَنَا اللَّهُ عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ ذَكَرَ أَنَّهُ ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَكَابِرِهِمْ مِنْهُمْ اللَّيْثُ وَمَنْصُورٌ إلَى جَوَازِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا فِي الرِّوَايَةِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ فِيهَا كَتَبَ إلَيَّ فُلَانٌ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَانٌ بِكَذَا وَقَالَ الْحَاكِمُ إنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِهِ وَأَئِمَّةُ عَصْرِهِ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَيْضًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ اللَّائِقُ بِمَذَاهِبِ أَهْلِ التَّحَرِّي وَالنَّزَاهَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِ مُكَاتَبَةً أَوْ كِتَابَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ (وَالرُّخْصَةُ) فِي التَّحَمُّلِ (وَالْإِجَازَةُ مَعَ مُنَاوَلَةِ الْمُجَازِ بِهِ) لِلْمُجَازِ لَهُ (وَدُونَهَا) أَيْ وَبِدُونِ مُنَاوَلَتِهِ لِأَنَّهَا لِتَأْكِيدِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّهَا بِدُونِ الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَالْإِجَازَةُ بِدُونِهَا مُعْتَبَرَةٌ.
ثُمَّ مِنْ صُوَرِ الْإِجَازَةِ بِدُونِ الْمُنَاوَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُخْبِرُ لِغَيْرِهِ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ فُلَانٌ إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى سَنَدِهِ وَمِنْ صُوَرِهَا مَعَ الْمُنَاوَلَةِ أَنْ يُنَاوِلَهُ شَيْئًا مِنْ سَمَاعِهِ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا مُقَابَلًا بِهِ وَيَقُولُ هَذَا مِنْ سَمَاعِي أَوْ رِوَايَتِي عَنْ فُلَانٍ إلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ فَارْوِهِ عَنِّي (وَمِنْهُ) أَيْ قِسْمِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمُنَاوَلَةِ (إجَازَةُ مَا صَحَّ مِنْ مَسْمُوعَاتِي) عِنْدَك إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ ذَكَرَ أَنَّ نَحْوَ هَذَا وَهُوَ أَجَزْت لَك مَا يَصِحُّ عِنْدَك مِنْ حَدِيثِي لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ قَالَ مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ صَكٍّ فِيهِ إقْرَارِي فَاشْهَدْ بِهِ عَلَيَّ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَسَنَذْكُرُ أَيْضًا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ مَا يُوَافِقُهُ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِنْهُ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ (قِيلَ بِالْمَنْعِ) وَهُوَ لِجَمَاعَاتٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَا كَمَا قَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ لَوْ جَازَتْ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ.
وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْخُجَنْدِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ وَأَنَّهُ قَالَ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا لَمْ تَسْمَعْ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَجَزْت لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ (وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ) وَذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ غُمُوضٌ وَيُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إذَا أَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَرْوِيَّاتِهِ فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا جُمْلَةً فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ تَفْصِيلًا وَإِخْبَارُهُ بِهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّصْرِيحِ نُطْقًا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ حُصُولُ الْإِفْهَامِ وَالْفَهْمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ (لِلضَّرُورَةِ) لِأَنَّ كُلَّ مُحَدِّثٍ لَا يَجِدُ مَنْ يُبَلِّغُ إلَيْهِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ وَلَا يَرْغَبُ كُلُّ طَالِبٍ إلَى سَمَاعِ أَوْ قِرَاءَةِ مَا عِنْدَ شَيْخِهِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ بِهَا لَأَدَّى إلَى تَعْطِيلِ السُّنَنِ وَانْقِطَاعِ أَسَانِيدِهَا
(وَالْحَنَفِيَّةُ) قَالُوا (إنْ كَانَ) الْمُجَازُ لَهُ (يَعْلَمُ مَا فِي الْكِتَابِ) الْمُجَازِ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْمُجِيزُ إنَّ فُلَانًا حَدَّثَنَا بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ بِأَسَانِيدِهِ هَذِهِ فَأَنَا أُحَدِّثُك بِهِ وَأَجَزْت لَك الْحَدِيثَ بِهِ (جَازَتْ الرِّوَايَةُ) بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ الْمُسْتَجِيزُ مَأْمُونًا بِالضَّبْطِ وَالْفَهْمِ (كَالشَّهَادَةِ عَلَى الصَّكِّ) فَإِنَّ الشَّاهِدَ إذَا وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِيهِ أَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَأَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا فَكَذَا رِوَايَةُ الْخَبَرِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجَازُ لَهُ عَالِمًا بِمَا فِي الْكِتَابِ (فَإِنْ احْتَمَلَ) الْكِتَابُ (التَّغْيِيرَ) بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ (لَمْ تَصِحَّ) الْإِجَازَةُ وَلَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالِاتِّفَاقِ (وَكَذَا) لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ) الْكِتَابُ ذَلِكَ (خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَكِتَابِ الْقَاضِي) أَيْ قِيَاسًا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي (إذْ عِلْمُ الشُّهُودِ بِمَا فِيهِ شَرْطٌ) عِنْدَهُمَا لِصِحَّةِ الشُّهُودِ (خِلَافًا لَهُ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ (وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ قَالَ
الْأَصَحُّ) عِنْدَ نَفْسِهِ (عَدَمُ الصِّحَّةِ) لِهَذِهِ الْإِجَازَةِ (اتِّفَاقَ وَتَجْوِيزُ أَبِي يُوسُفَ) الشَّهَادَةَ (فِي الْكِتَابِ) مِنْ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشُّهُودُ مَا فِيهِ (لِضَرُورَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَسْرَارِ) عَادَةً (وَيَكْرَهُ الْمُتَكَاتَبَانِ الِانْتِشَارَ) لِأَسْرَارِهِمَا (بِخِلَافِ كُتُبِ الْأَخْبَارِ) لِأَنَّ السُّنَّةَ أَصْلُ الدِّينِ وَمَبْنَاهَا عَلَى الشُّهْرَةِ فَلَا وَجْهَ لِصِحَّةِ الْأَمَانَةِ فِيهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ ذَلِكَ) أَيْ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا يَتَأَتَّى (فِي كُتُبِ الْعَامَّةِ لَا) فِي كِتَابِ (الْقَاضِي) إلَى الْقَاضِي (بِالْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَهُ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عِنْدَهُ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ تَرَدَّدَ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْخِلَافُ عَنْهُ فِيهَا مَنْصُوصًا فَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي هَذَا الْبَابِ وَوَجَّهَهُ بِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مُتَعَقِّبٌ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ بِالضَّرُورَةِ أَيْ أَنْ يُجَوِّزَ الْإِجَازَةَ عِنْدَهُ بِلَا عِلْمٍ لِلْمُجَازِ بِمَا فِي الْكِتَابِ الْمُجَازِ بِهِ كَمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي بِلَا عِلْمٍ لِلشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ بِجَامِعِ الضَّرُورَةِ بَيْنَهُمَا يَعْنِي كَمَا لَمْ يَشْرِطْ أَبُو يُوسُفَ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي عِلْمَ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ لِضَرُورَةِ إيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عِلْمُ الرَّاوِي بِمَا فِي الْكِتَابِ الْمُجَازِ بِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ عِنْدَهُ لِضَرُورَةِ أَنَّ الْمُحَدِّثَ مُحْتَاجٌ إلَى تَبْلِيغِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ إلَى الْغَيْرِ لِيَتَّصِلَ الْإِسْنَادُ وَيَبْقَى الدِّينُ وَقَدْ ظَهَرَ تَكَاسُلُ النَّاسِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَرُبَّمَا لَا يَتَيَسَّرُ لِلطَّالِبِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ وَفِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِمَا فِيهِ نَوْعُ تَعْسِيرٍ وَتَنْفِيرٍ فَجُوِّزَتْ رُخْصَةً لِهَذَا الْمَعْنَى (وَهَذَا) التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ لِلْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ (لِلِاتِّفَاقِ عَلَى النَّفْيِ) لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ (لَوْ قَرَأَ) الطَّالِبُ (فَلَمْ يَسْمَعْ الشَّيْخُ أَوْ) قَرَأَ (الشَّيْخُ) فَلَمْ يَسْمَعْ الطَّالِبُ (وَلَمْ يَفْهَمْ) فَفِي الْإِجَازَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى ثُمَّ فِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ رَفْعُ الِابْتِلَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ مُبْتَلَوْنَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فَلَوْ جُوِّزَتْ بِدُونِهِ لَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ التَّعَلُّمِ اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِدُونِهِ وَفِيهِ فَتْحُ بَابِ التَّقْصِيرِ وَالْبِدْعَةِ إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ وَلَا يُشْكِلُ هَذَا بِقَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ سَمِعَ فِي صِبَاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ (وَقَبُولُ مَنْ سَمِعَ فِي صِبَاهُ مُقَيَّدٌ بِضَبْطِهِ غَيْرَ أَنَّهُ أُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ) أَيْ الضَّبْطِ وَهِيَ التَّمْيِيزُ مَقَامَهُ (وَلِذَا) أَيْ اشْتِرَاطُ ضَبْطِ السَّامِعِ (مَنَعَتْ) صِحَّةَ الرِّوَايَةِ (لِلْمَشْغُولِ عَنْ السَّمَاعِ بِكِتَابَةٍ) كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَذَهَبَ إلَى الصِّحَّةِ مُطْلَقًا الْحَافِظُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَمَّالُ وَيُوَافِقُهُ ظَاهِرُ مَا عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْحَنْظَلِيِّ أَنَّهُ كَتَبَ عِنْدَ عَارِمٍ وَعِنْدَ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ فِي حَالَةِ السَّمَاعِ وَمَا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَتَبَ وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَا يَكْتُبُ
وَقَالَ الصِّبْغِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ يَقُولُ حَضَرْت لَا حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا (أَوْ نَوْمٌ أَوْ لَهْوٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَدَارَ) لِعَدَمِ جَوَازِ الرِّوَايَةِ (عَدَمُ الضَّبْطِ) لِلْمَرْوِيِّ (وَأُقِيمَتْ مَظِنَّتُهُ) أَيْ عَدَمِ الضَّبْطِ (نَحْوُ الْكِتَابَةِ) مَقَامَهُ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ مَعَهَا الْفَهْمُ لِمَا يَقْرَأُ حَتَّى يَكُونَ الْوَاصِلُ إلَى سَمْعِ الْكَاتِبِ كَأَنَّهُ صَوْتُ غَفَلٍ أَمَّا إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ مَعَهَا الْفَهْمُ فَلَا (لِحِكَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ) فَإِنَّهُ حَضَرَ فِي حَدَاثَتِهِ مَجْلِسَ إسْمَاعِيلَ الصَّفَّارِ فَجَلَسَ يَنْسَخُ جُزْءًا كَانَ مَعَهُ وَإِسْمَاعِيلُ يُمْلِي فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُك وَأَنْتَ تَنْسَخُ فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ خِلَافُ فَهْمِك، ثُمَّ قَالَ تَحْفَظُ كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ مِنْ حَدِيثٍ إلَى الْآنَ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَمْلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا فَعُدَّتْ الْأَحَادِيثُ فَوُجِدَتْ كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْهَا عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ وَمَتْنُهُ كَذَا وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ فُلَانٍ وَمَتْنُهُ كَذَا وَلَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ أَسَانِيدَ الْأَحَادِيثِ وَمُتُونَهَا عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْإِمْلَاءِ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُ وَلَعَلَّ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْحَنْظَلِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا بَلْ هُوَ الْأَشْبَهُ وَلَا سِيَّمَا مِنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ الصَّحِيحُ إنْ فَهِمَ الْمَقْرُوءَ صَحَّ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ وَقَالُوا لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّسْخِ مِنْ السَّامِعِ وَبَيْنَهُ مِنْ الْمَسْمُوعِ وَيَجْرِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِيمَا إذَا تَحَدَّثَ الشَّيْخُ أَوْ السَّامِعُ أَوْ أَفْرَطَ الْقَارِئُ فِي الْإِسْرَاعِ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ الْيَسِيرِ نَحْوُ الْكَلِمَةِ
وَالْكَلِمَتَيْنِ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْحَرْفِ يُدْغِمُهُ الشَّيْخُ فَلَا يُفْهَمُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ أَرْجُو أَنْ لَا تَضِيقَ رِوَايَتُهُ عَنْهُ وَفِي الْكَلِمَةِ تُسْتَفْهَمُ مِنْ الْمُسْتَفْهَمِ إنْ كَانَتْ مُجْتَمَعًا عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ سَالِمٍ مَنْعُ ذَلِكَ
(وَتَنْقَسِمُ) الْإِجَازَةُ (لِمُعَيَّنٍ فِي مُعَيَّنٍ) كَأَجَزْتُ لَك أَوْ لَكُمْ أَوْ لِفُلَانٍ وَيَصِفُهُ بِمَا يُمَيِّزُهُ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَهْرَسَتِي وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمُنَاوَلَةِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا مَحَلُّ الْخِلَافِ السَّابِقِ لَا أَنَّهَا مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهَا كَمَا زَعَمَهُ الْبَاجِيُّ (وَغَيْرِهِ) أَيْ لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ (كَمَرْوِيَّاتِي) وَمَسْمُوعَاتِي قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ وَالْخِلَافُ فِي هَذَا أَقْوَى وَأَكْثَرُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَجْوِيزِ الرِّوَايَةِ بِهَا أَيْضًا وَعَلَى إيجَابِ الْعَمَلِ بِمَا رَوَى بِهَا بِشَرْطٍ انْتَهَى، وَمِنْ الْمَانِعِينَ لِصِحَّتِهَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَقَالَ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِآخَرَ اشْهَدْ عَلَيَّ بِكُلِّ صَكٍّ تَجِدُ فِيهِ إقْرَارِي فَقَدْ أَجَزْت لَك فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ الْإِجَازَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَتَعَجَّبَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ هَذَا يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أُجِيزَ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ (وَلِغَيْرِ مُعَيَّنٍ) عَامٌّ فِي مُعَيَّنٍ وَغَيْرِ مُعَيَّنٍ نَحْوُ أَجَزْت لِكُلِّ أَحَدٍ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَرْوِيَّاتِي (لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ أَدْرَكَنِي) ثُمَّ هَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَوْجُودٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِلَى مَعْدُومٍ (وَمِنْهُ مَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ) وَمِنْ ثَمَّةَ فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ وَقَدْ قَالَ بِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ لِمَوْجُودٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عَامٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَرَجَّحَهَا ابْنُ الْحَاجِبِ وَالنَّوَوِيُّ فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ وَعَمِلَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَتِمُّ مَعَهُ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ يُقْتَدَى بِهِ الرِّوَايَةَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ مُصَحِّحِهَا جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِهَا وَأَيُّ فَائِدَةٍ لَهَا غَيْرُ الرِّوَايَةِ بِهَا وَمَنَعَهَا بَعْضُهُمْ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ حَاضِرٍ أَوْ نَحْوِهِ فَهُوَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ انْتَهَى وَمَثَّلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَجَزْتُ لِمَنْ هُوَ الْآنَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِبَلَدِ كَذَا أَوْ لِمَنْ قَرَأَ عَلَيَّ قَبْلَ هَذَا وَقَالَ فَمَا أَحْسَبُهُمْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ عِنْدَهُ الْإِجَازَةُ وَلَا رَأَيْت مَنْعَهُ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ مَوْصُوفٌ كَقَوْلِهِ لِأَوْلَادِ فُلَانٍ أَوْ إخْوَةِ فُلَانٍ وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْمَعْدُومِ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَوْجُودٍ بِالْإِجَازَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَالْخِلَافُ فِيهِ أَقْوَى وَقَدْ أَبْطَلَهَا أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ جُمْلَةً بِالْمُجَازِ فَكَمَا لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ لِلْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ الْإِجَازَةُ لَهُ انْتَهَى
وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا إذْنٌ فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا كَمَا لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ لِلْمَعْدُومِ وَأَجَازَهَا لِلْمَعْدُومِ مُطْلَقًا الْخَطِيبُ وَنَقَلَهُ عَنْ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ عَنْ مُعْظَمِ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ وَبِهَذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا انْتَهَى وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّعَهُ عَلَى جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْمَعْدُومِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَهَذَا (بِخِلَافِ) الْإِجَازَةِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ (الْمَجْهُولِ فِي مُعَيَّنٍ) كَأَجَزْتُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ رِوَايَةَ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (وَغَيْرِهِ) أَيْ وَفِي غَيْرِهِ مُعَيَّنٌ (ك) أَجَزْت لِبَعْضِ النَّاسِ رِوَايَةَ (كِتَابِ السُّنَنِ) وَهُوَ يَرْوِي عِدَّةً مِنْ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ بِذَلِكَ فَإِنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ (بِخِلَافِ) أَجَزْت لَك رِوَايَةَ (سُنَنِ فُلَانٍ) كَأَبِي دَاوُد فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَلَوْ تَرَكَ لَكَانَ أَحْسَنَ (وَمِنْهُ) أَيْ قُبَيْلَ الْإِجَازَةِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إجَازَةُ رِوَايَةِ (مَا سَيَسْمَعُهُ الشَّيْخُ) وَهِيَ بَاطِلَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عِيَاضٌ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ لِأَنَّ هَذَا يُجِيزُ مَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ بِهِ وَيَأْذَنُ لَهُ فِي الْحَدِيثِ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْدُ وَيُبِيحُ مَا لَمْ يَعْلَمْ هَلْ يَصِحُّ لَهُ الْإِذْنُ فِيهِ فَمَنْعُهُ هُوَ الصَّوَابُ (وَفِي التَّفَاصِيلِ اخْتِلَافَاتٌ) ذَكَرْنَا مُعْظَمَهَا وَيُرَاجَعُ فِي الْبَاقِي مِنْهَا الْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ (ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ) لِلْمُجَازِ فِي أَدَائِهِ (قَوْلُهُ أَجَازَ لِي وَيَجُوزُ أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي مُقَيَّدًا) بِقَوْلِهِ إجَازَةً أَوْ وَمُنَاوَلَةً أَوْ إذْنًا (وَمُطْلَقًا) عَنْ الْقَيْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (لِلْمُشَافَهَةِ فِي نَفْسِ الْإِجَازَةِ) وَعَلَى هَذَا الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَخُوهُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَذَكَرَ الْوَلِيدُ بْنُ الْخَاقَانِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ (بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِيهِمَا أَخْبَرَنِي وَلَا حَدَّثَنِي مُطْلَقًا (إذْ لَا خِطَابَ أَصْلًا) فِيهِمَا ذَكَرَهُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ
وَذَكَرَ قِوَامُ الدِّينِ الْأَتْقَانِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ أَخْبَرَنِي لِأَنَّ الْكِتَابَ
وَالرِّسَالَةَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ (وَقِيلَ يُمْنَعُ حَدَّثَنِي لِاخْتِصَاصِهِ بِسَمَاعِ الْمَتْنِ) وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَخْبَرَنِي وَعَلَى هَذَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْجُمْهُورِ وَإِيَّاهُ اخْتَارَ أَهْلُ التَّحَرِّي وَالْوَرَعِ الْمَنْعَ فِي ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْعِبَارَاتِ وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ تُشْعِرُ بِهِ بِأَنْ تُقَيَّدَ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ كَمَا تَقَدَّمَ (وَالْوَجْهُ فِي الْكُلِّ اعْتِمَادُ عُرْفِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ) فَيُؤَدِّي عَلَى مَا هُوَ عُرْفُهَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ سَالِمٍ مِنْ التَّدْلِيسِ وَخِلَافِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَالِاكْتِفَاءُ الطَّارِئُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِكَوْنِ الشَّيْخِ مَسْتُورًا) أَيْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بِالْفِسْقِ وَمَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ (وَوُجُودِ سَمَاعِهِ) مُثْبَتًا (بِخَطِّ ثِقَةٍ) غَيْرِ مُتَّهَمٍ وَبِرِوَايَتِهِ مِنْ أَصْلٍ (مُوَافِقٍ لِأَصْلِ شَيْخِهِ) كَمَا ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَسَبَقَ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ (لَيْسَ خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ) مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا فِي الرَّاوِي (لِأَنَّهُ) أَيْ الِاكْتِفَاءَ الْمَذْكُورَ (لِحِفْظِ السِّلْسِلَةِ) أَيْ لِيَصِيرَ الْحَدِيثُ مُسَلْسَلًا بِحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا (عَنْ الِانْقِطَاعِ) وَتَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةُ الَّتِي خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ شَرَفًا لِنَبِيِّنَا الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (وَذَلِكَ) أَيْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا (لِإِيجَابِ الْعَمَلِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَالْعَزِيمَةُ فِي الْحِفْظِ) حِفْظُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْخَطِّ (ثُمَّ دَاوَمَهُ إلَى) وَقْتِ (الْأَدَاءِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ السَّمَاعِ الْعَمَلُ بِالْمَسْمُوعِ وَتَبْلِيغُهُ إلَى غَيْرِهِ وَهُمَا لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ الْحِفْظِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ وَهَذَا كَانَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَاتِ جَمِيعًا وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَتُهُ وَهُوَ طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَسْنَدَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ إلَى يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ثِقَةً لَا يُحَدِّثُ إلَّا بِمَا حَفِظَهُ وَلَا يُحَدِّثُ بِمَا لَا يَحْفَظُهُ
(وَالرُّخْصَةُ) فِي الْحِفْظِ (تُذَكِّرُهُ) أَيْ الرَّاوِيَ الْمَرْوِيَّ (بَعْدَ انْقِطَاعِهِ) أَيْ الْحِفْظِ (عِنْدَ نَظَرِ الْكِتَابَةِ) سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ غَيْرِهِ مَعْرُوفٍ أَوْ مَجْهُولٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِخَطِّ الْمَجْهُولِ أَيْضًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَفِظَهُ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ حُجَّةً وَتَحِلُّ لَهُ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ بِمَنْزِلَةِ الْحِفْظِ، وَالنِّسْيَانَ الْوَاقِعَ قَبْلَهُ عَفْوٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ جُبِلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ دَوَامُ الْحِفْظِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقُوَّةِ نُورِ قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] وَسَمَّى السَّرَخْسِيُّ هَذَا عَزِيمَةً مُشَبَّهَةً بِالرُّخْصَةِ
(فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ) الرَّاوِي الْمَرْوِيَّ بِنَظَرِ الْمَكْتُوبِ (بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خَطُّهُ أَوْ خَطُّ الثِّقَةِ وَهُوَ فِي يَدِهِ) بِحَيْثُ لَا يَصِلُ يَدُ غَيْرِهِ إلَيْهِ أَوْ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ (أَوْ فِي يَدِ أَمِينٍ) عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ (حَرُمَتْ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) بِذَلِكَ (وَوَجَبَا) أَيْ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ (عِنْدَهُمَا وَالْأَكْثَرُ وَعَلَى هَذَا) الْخِلَافُ (رُؤْيَةُ الشَّاهِدِ خَطَّهُ) بِشَهَادَتِهِ (فِي الصَّكِّ) أَيْ كِتَابِ الشَّهَادَةِ (وَالْقَاضِي) خَطَّهُ أَوْ خَطَّ نَائِبِهِ بِقَضَائِهِ بِشَيْءٍ (فِي السِّجِلِّ) الَّذِي بِدِيوَانِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَلِكَ فَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الْخَطِّ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ مَا تَضَمَّنَّهُ الْمَكْتُوبُ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ لِمَعْرِفَةِ الْقَلْبِ كَالنَّظَرِ فِي الْمِرْآةِ لِلرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ إذَا لَمْ يُفِدْهُ إدْرَاكًا لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فَالنَّظَرُ فِي الْكِتَابِ إذَا لَمْ يُفِدْهُ تَذَكُّرًا يَكُونُ هَدَرًا وَهَذَا لِأَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ وَتَنْفِيذَ الْقَضَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعِلْمٍ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ شَبَهًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالتَّخْمِينِ فَبِصُورَةِ الْخَطِّ لَا يَسْتَفِيدُونَ عِلْمًا مِنْ غَيْرِ التَّذَكُّرِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) فِي رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْهُ (الْجَوَازُ فِي الرِّوَايَةِ) أَيْ جَوَازُ الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ خَطًّا مَعْرُوفًا لَا يُخَافُ تَغْيِيرُهُ عَادَةً بِأَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ أَمِينٍ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَلَا يَعُودُ بِتَغْيِيرِهِ نَفْعٌ لِأَحَدٍ وَدَوَامُ الْحِفْظِ وَالتَّذَكُّرِ مُتَعَذِّرٌ فَلَوْ اشْتَرَطْنَا التَّذَكُّرَ لِصِحَّتِهَا أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ السُّنَنِ (وَالسِّجِلُّ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ) أَيْ وَجَوَازُ عَمَلِ الْقَاضِي بِمُجَرَّدِ خَطِّهِ أَوْ خَطٍّ مَعْرُوفٍ مُفِيدٍ قَضَاءَهُ بِقَضِيَّةٍ فِي مَكْتُوبٍ مَحْفُوظٍ بِيَدِهِ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ إلَيْهِ يَدُ غَيْرِهِ أَوْ يَكُونُ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ أَوْ بِيَدِ أَمِينِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ الْقَاضِي
جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ ذِكْرًا مُتَعَذِّرٌ غَالِبًا لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْخَطِّ عِنْدَ النِّسْيَانِ أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ وَالْحَرَجِ وَهُوَ مُنْتَفٍ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ كِتَابَةُ الْقَاضِي الْوَقَائِعَ وَإِيدَاعُهَا قِمَطْرَهُ وَخَتْمُهُ بِخَاتَمِهِ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا عِنْدَ النِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ أَمِينِهِ لِلْأَمْنِ عَنْ التَّزْوِيرِ فِيهِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ التَّزْوِيرَ فِيهِ مُتَطَرِّقٌ إلَيْهِ لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْخُصُومَاتِ (لَا الصَّكِّ) أَيْ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عَمَلُ الشَّاهِدِ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ إذَا لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ لِأَنَّ مَبْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْيَقِينِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَالصَّكُّ إذَا كَانَ بِيَدِ الْخَصْمِ لَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ فِيهِ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِيَدِهِ لِلْأَمْنِ عَنْ ذَلِكَ كَالسِّجِلِّ بِيَدِ الْقَاضِي
(وَعَنْ مُحَمَّدٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ لِلْمَذْكُورِينَ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ إذَا تَيَقَّنُوا أَنَّهُ خَطُّهُمْ (فِي الْكُلِّ) أَيْ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ الصَّكُّ بِيَدِ الْخَصْمِ (تَيْسِيرًا) عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ جَرَيَانَ التَّغْيِيرِ فِيهِ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ بِالْخَطِّ وَالْخَطُّ يَنْدُرُ شِبْهُهُ بِالْخَطِّ عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا اعْتِبَارَ لِتَوَهُّمِ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ
فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ
وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِدَلِيلِهِمَا مَعَ الْأَكْثَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ (لَنَا عَمَلُ الصَّحَابَةِ بِكِتَابِهِ) صلى الله عليه وسلم (بِلَا رِوَايَةِ مَا فِيهِ) لِلْعَامِلِينَ (بَلْ لِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كَكِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) كَمَا يُفِيدُهُ مَا قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْعَدْلِ وَاجِبٌ فَجَازَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ (وَهُوَ) أَيْ عَمَلُهُمْ بِكِتَابِهِ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الْخَطِّ (شَاهِدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبُولِ كِتَابِ الشَّيْخِ إلَى الرَّاوِي) بِالتَّحْدِيثِ عَنْهُ (بِلَا شَرْطِ بَيِّنَةٍ) عَلَى ذَلِكَ (وَهُنَا) أَيْ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمَكْتُوبِ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الْخَطِّ (أَوْلَى) مِنْ عَمَلِ الرَّاوِي بِكِتَابِ الشَّيْخِ إلَيْهِ بِلَا بَيِّنَةٍ لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّزْوِيرِ فِيهِ أَبْعَدُ (وَمَا قِيلَ النِّسْيَانُ غَالِبٌ فَلَوْ لَزِمَ التَّذَكُّرُ بَطَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ) كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ بَدِيًّا عَلَى مَا قَالُوهُ (غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ مَحَلَّ النِّزَاعِ (غَلَبَةُ عَدَمِ التَّذَكُّرِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْخَطِّ وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ التَّذَكُّرِ غَالِبًا عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْخَطِّ (مَمْنُوعٌ)
(وَالْعَزِيمَةُ فِي الْأَدَاءِ) أَنْ يَكُونَ (بِاللَّفْظِ) نَفْسِهِ (وَالرُّخْصَةُ) فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَدَّى (مَعْنَاهُ بِلَا نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ لِلْعَالِمِ بِاللُّغَةِ وَمَوَاقِعِ الْأَلْفَاظِ) مِنْ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ عَلَيْهَا وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ (وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ) وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَأَتْبَاعُهُمَا (إلَّا فِي نَحْوِ الْمُشْتَرَكِ) مِنْ الْخَفِيِّ وَالْمُشْكِلِ وَإِلَّا فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَصْلًا (وَبِخِلَافِ الْعَامِّ وَالْحَقِيقَةِ الْمُحْتَمِلَيْنِ لِلْخُصُوصِ وَالْمَجَازِ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ (لِلُّغَوِيِّ الْفَقِيهِ) لَا لِلُّغَوِيِّ فَقَطْ (أَمَّا الْمُحْكَمُ) أَيْ مُتَّضِحُ الْمَعْنَى بِحَيْثُ لَا يُشْتَبَهُ مَعْنَاهُ وَلَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مُتَعَدِّدَةً عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لَا مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ فِي أَقْسَامِ الْكِتَابِ (مِنْهُمَا) أَيْ الْعَامِّ وَالْحَقِيقَةِ (فَتَكْفِي اللُّغَةُ) أَيْ مَعْرِفَتُهَا فِيهِ (وَاخْتَلَفَ مُجِيزُو الْحَنَفِيَّةِ) الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى (فِي الْجَوَامِعِ) أَيْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «بُعِثْت بِجَوَامِع الْكَلِمِ» وَلِأَحْمَدَ «أُوتِيت فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَجَوَامِعَهُ» ثُمَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إيجَازُ الْكَلَامِ فِي إشْبَاعٍ لِلْمَعَانِي يَقُولُ الْكَلِمَةَ الْقَلِيلَةَ الْحُرُوفِ فَيَنْتَظِمُ الْكَثِيرَ مِنْ الْمَعْنَى وَيَتَضَمَّنُ أَنْوَاعًا مِنْ الْأَحْكَامِ قَالُوا «كَالْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ» ) وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ «وَالْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو دَاوُد الْعَجْمَاءُ الْمُنْفَلِتَةُ الَّتِي لَا يَكُونُ مَعَهَا أَحَدٌ وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ الْجُبَارُ الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُغْرَمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ بِطُرُقِ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَتْ الْجَوَامِعُ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالسَّرَخْسِيُّ إلَى الْمَنْعِ لِإِحَاطَةِ الْجَوَامِعِ بِمَعَانٍ قَدْ تَقْصُرُ عَنْهَا عُقُولُ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مُكَلَّفٌ بِمَا فِي وُسْعِهِ (وَالرَّازِيُّ مِنْهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (وَابْنُ سِيرِينَ) وَثَعْلَبٌ فِي جَمَاعَةٍ (عَلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمُحْكَمِ أَوْ لَا، كَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَفِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّازِيِّ نَظَرٌ فَإِنَّ لَفْظَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
لَهُ قَدْ حَكَيْنَا عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَا يُحَدِّثَانِ بِالْمَعَانِي وَكَانَ غَيْرُهُمَا مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ يُحَدِّثُ بِاللَّفْظِ وَالْأَحْوَطُ عِنْدَنَا أَدَاءُ اللَّفْظِ وَسِيَاقَتُهُ عَلَى وَجْهِهِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مِثْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ فِي إتْقَانِهِمَا لِلْمَعَانِي وَالْعِبَارَاتِ إلَى مَعْنَاهَا فِقْهًا غَيْرَ فَاضِلَةٍ عَنْهَا وَلَا مُقَصِّرَةٍ وَهَذَا عِنْدَنَا إنَّمَا كَانَا يَفْعَلَانِهِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَيَكُونُ لِلْمَعْنَى عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فَيُعَبِّرَانِ تَارَةً بِعِبَارَةٍ وَتَارَةً بِغَيْرِهَا فَأَمَّا مَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّا لَا نَظُنُّ بِهِمَا أَنَّهُمَا كَانَ يُغَيِّرَانِهِ إلَى لَفْظٍ غَيْرِهِ مَعَ احْتِمَالِهِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى لَفْظِ الْأَصْلِ وَأَكْثَرُ فَسَادِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَتَنَاقُضِهَا وَاسْتِحَالَتِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِلْمَعَانِي فَيُعَبِّرُ هُوَ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ وَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيُفْسِدُهُ انْتَهَى (لَنَا) فِيمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (الْعِلْمُ بِنَقْلِهِمْ) أَيْ الصَّحَابَةِ (أَحَادِيثَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي وَقَائِعَ مُتَّحِدَةٍ) كَمَا يُحَاطُ بِهَا عِلْمًا فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ (وَلَا مُنْكِرَ) لِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ (وَمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ عليه السلام كَذَا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ) فَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ كُنْت لَا يَفُوتُنِي عَشِيَّةُ خَمِيسٍ لَا آتِي فِيهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَمَا سَمِعْته يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَتْ ذَاتَ عَشِيَّةٍ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ ثُمَّ قَالَ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ قَالَ فَأَنَا رَأَيْته وَأَزْرَارُهُ مَحْلُولَةٌ مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَحْوُهُ أَوْ شِبْهُهُ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ وَهُوَ مَوْقُوفٌ مُنْقَطِعٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ رَأَيْت أَبَا الدَّرْدَاءِ إذَا فَرَغَ مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا أَوْ نَحْوُهُ أَوْ شَكْلُهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ كَانَ أَنَسٌ إذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَرَغَ قَالَ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ (وَلَا مُنْكِرَ) عَلَى قَائِلِيهِ (فَكَانَ) الْمَجْمُوعُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَعَدَمِ إنْكَارِ غَيْرِهِمْ (إجْمَاعًا) عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى (وَبَعْثُهُ) أَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الرُّسُلَ) إلَى النَّوَاحِي بِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ (
بِلَا إلْزَامِ لَفْظٍ
) مَخْصُوصٍ بَلْ كَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا الْمَبْعُوثَ إلَيْهِمْ بِلُغَتِهِمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقَاتِهَا (وَمَا رَوَى الْخَطِيبُ) فِي كِتَابِ الْكِفَايَةِ فِي مَعْرِفَةِ أُصُولِ عِلْمِ الرِّوَايَةِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا لَهُ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا إنَّا لَنَسْمَعُ مِنْك الْحَدِيثَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى تَأْدِيَتِهِ كَمَا سَمِعْنَاهُ مِنْك قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمُوا حَلَالًا وَأَصَبْتُمْ الْمَعْنَى فَلَا بَأْسَ» وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَدِيثُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ لَوْلَا هَذَا مَا حَدَّثَنَا وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْحَلَبِيُّ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ بَلْ هُوَ تَابِعِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا يُفِيدُهُ تَجْرِيدُ الذَّهَبِيِّ وَالصُّحْبَةُ لِسُلَيْمَانَ فَيَكُونُ مُرْسَلًا انْتَهَى وَسَتَعْلَمُ أَنَّ الْإِرْسَالَ غَيْرُ ضَائِرٍ فِي الْإِسْنَادِ مِنْ الثِّقَةِ بَلْ هِيَ مِنْهُ زِيَادَةٌ مَقْبُولَةٌ
(وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال) لِلْجُمْهُورِ (بِتَفْسِيرِهِ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ (بِالْعَجَمِيَّةِ) فَإِنَّهُ إذْ جَازَ تَفْسِيرُهُ بِهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَتَرْجَمَتِهَا بِهَا أَقَلُّ مِمَّا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَجَمِيَّةِ (فَمَعَ الْفَارِقِ) أَيْ قِيَاسٌ مَعَهُ (إذْ لَوْلَاهُ) أَيْ تَفْسِيرُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ (امْتَنَعَ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ لِلْجَمِّ الْغَفِيرِ) لِأَنَّ الْعَجَمِيَّ لَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّ إلَّا بِالتَّفْسِيرِ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى وَلِهَذَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ الْأَلْسُنِ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ (وَأَيْضًا) مِنْ الْأَدِلَّةِ (عَلَى تَجْوِيزِهِ: الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى) لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِهِ لَا بِاللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْجِزٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ (وَهُوَ) أَيْ الْمَعْنَى (حَاصِلٌ) فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ (وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ) السَّابِقَ (لِأَنَّهُ) أَيْ النَّقْلَ
بِالْمَعْنَى لِلْمُشْتَرَكِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ (تَأْوِيلُهُ) أَيْ الرَّاوِي لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ (وَلَيْسَ) تَأْوِيلُهُ (حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ كَقِيَاسِهِ) لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ (بِخِلَافِ الْمُحْكَمِ) فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْأَمْنِ عَنْ الْغَلَطِ (وَالْمُحْتَمِلُ لِلْخُصُوصِ مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِهِ الْمُخَصَّصِ كَعَمَلِهِ) أَيْ الرَّاوِي فِي الْمُفَسَّرِ (بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ) حَيْثُ يُحْمَلُ عَمَلُهُ بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ (عَلَى النَّاسِخِ) أَيْ سَمَاعُهُ النَّاسِخَ لِمَرْوِيِّهِ (وَيُشْكِلُ) اسْتِثْنَاءُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ (بِتَرْجِيحِ تَقْلِيدِهِ) أَيْ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّهُ يَأْتِي فِيهِ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لِاسْتِثْنَائِهِ (فَإِنْ أُجِيبَ) بِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَجَّحَ تَقْلِيدُهُ (بِحَمْلِهِ) أَيْ تَقْلِيدِهِ (عَلَى السَّمَاعِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ) أَيْ حَمْلَهُ عَلَى السَّمَاعِ ثَابِتٌ لَهُ (مَعَ إمْكَانِ قِيَاسِهِ) أَيْ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ قِيَاسًا وَاجْتِهَادًا (فَكَذَا فِي نَحْوِ الْمُشْتَرَكِ) مِنْ الْخَفِيِّ وَالْمُشْكِلِ إذَا حَمَلَهُ عَلَى بَعْضِ وُجُوهِهِ (تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ اجْتِهَادِهِ) إذَا كَانَ أَعْرَفَ بِمَا هُنَاكَ مِمَّا شَاهَدَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَ
فَإِنْ قِيلَ تَرْجِيحُ اجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَحَفِظَهَا فَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ فَالْجَوَابُ الْمَنْعُ (وَإِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ قَلَّلَهُ بِرُبَّ فَكَانَ الظَّاهِرُ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ) بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ (فِي الْفِقْهِ أَفْقَهِيَّتَهُمْ إلَّا قَلِيلًا فَيُحْمَلُ) حَالُهُمْ (عَلَى الْغَالِبِ وَالتَّحْقِيقُ لَا يُتْرَكُ اجْتِهَادٌ لِاجْتِهَادِ الْأَفْقَهِ وَفِي الصَّحَابَةِ لِقُرْبِ سَمَاعِ الْعِلَّةِ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُفِيدُهَا) أَيْ الْعِلَّةَ (وَعَلَى هَذَا) التَّوْجِيهِ (نُجِيزُهُ) أَيْ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى (فِي الْمُجْمَلِ وَلَا يُنَافِي) هَذَا (قَوْلَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (لَا يُتَصَوَّرُ) النَّقْلُ بِالْمَعْنَى (فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ) لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَفَوْهُ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ (لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَعْنَاهُ) فَإِنَّ الْمُجْمَلَ لَا يُسْتَفَادُ الْمُرَادُ مِنْهُ إلَّا بِبَيَانٍ سَمْعِيٍّ وَالْمُتَشَابِهُ لَا يَنَالُ مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا أَصْلًا وَالْمُصَنِّفُ يَقُولُ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ يَقُولُ إذَا رَوَاهُ بِمَعْنًى عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ أُصَحِّحُهُ حَمْلًا عَلَى السَّمَاعِ فَإِنَّا إذَا عَمِلْنَا بِتَرْكِهِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ الْمُفَسَّرِ لَحَكَمْنَا بِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ إذَا كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ فَكَذَلِكَ إذَا رَوَى الْمُجْمَلَ بِمَعْنًى مُفَسَّرٍ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ سَمِعَ تَفْسِيرَهُ إذْ كَانَ لَا يَحِلُّ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِرَأْيِهِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَقْسَامَ خَمْسَةٌ الْمُفَسَّرُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا فَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى اتِّفَاقًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْفِقْهِ وَالْحَقِيقَةُ وَالْعَامُّ الْمُحْتَمَلَانِ لِلْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصُ فَيَجُوزُ مَعَ الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ فَلَوْ انْسَدَّ بَابُ التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] وَالْمَجَازُ بِمَا يُوجِبُهُ رَجَعَ الْجَوَازُ إلَى الِاكْتِفَاءِ بِعِلْمِ اللُّغَةِ فَقَطْ لِصَيْرُورَتِهِ مُحْكَمًا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُشْتَرَكُ وَالْمُشْكِلُ وَالْخَفِيُّ فَلَا يَجُوزُ بِالْمَعْنَى أَصْلًا عِنْدَهُمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِتَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ كَقِيَاسِهِ وَحَكَمَ الْمُصَنِّفُ بِجَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ كَوْنِهِ تَأْوِيلَهُ أَوْ مَسْمُوعَهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَمُجْمَلٌ وَمُتَشَابِهٌ فَقَالُوا لَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ فَرْعُ مَعْرِفَةَ الْمَعْنَى وَلَا يُمْكِنُ فِيهِمَا وَالْمُصَنِّفُ يَقُولُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ نَقُولُ إذَا عَيَّنَ مَعْنًى أَنَّهُ الْمُرَادُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ سَمِعَهُ عَلَى وِزَانِ حُكْمِنَا فِي تَرْكِهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّاسِخَ حُكْمًا وَدَلِيلًا وَمَا هُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ كَذَا أَفَادَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَالُوا) أَيْ الْمَانِعُونَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ فَحَرَّضَ عَلَى نَقْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمِعَهُ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ نَقْلِهِ بِلَفْظِهِ لِأَنَّ أَدَاءَهُ كَمَا سَمِعَهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ بِلَفْظِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ مَا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ «نَضَّرَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ قَوْلِي ثُمَّ لَمْ يَزِدْ فِيهِ»
(قُلْنَا) قَوْلُهُ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» (حَثٌّ عَلَى الْأَوْلَى) فِي نَقْلِهِ وَهُوَ نَقْلُهُ بِصُورَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءً لَهُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَضِرًا أَيْ يُجَمِّلَهُ وَيُزَيِّنَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ نَضْرَةِ النَّعِيمِ قَالَ تَعَالَى {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] كَمَا ذَكَرَهُمَا الرامهرمزي وَقَالَ هُوَ بِتَخْفِيفِ الضَّادِ وَالْمُحَدِّثُونَ يُثَقِّلُونَهَا وَفِي الْغَرِيبَيْنِ رَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ بِالتَّشْدِيدِ وَأَبُو عُبَيْدٍ بِالتَّخْفِيفِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْمُؤَدِّبُ لَيْسَ هَذَا مِنْ الْحُسْنِ فِي الْوَجْهِ إنَّمَا مَعْنَاهُ حَسَّنَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي خَلْقِهِ