الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَوْضَحْنَاهُ فَلْيُرَاجَعْ (وَأَيْضًا الرَّحْمَنُ لِمَنْ لَهُ رِقَّةُ الْقَلْبِ وَلَمْ يُطْلَقْ) إطْلَاقًا (صَحِيحًا إلَّا عَلَيْهِ تَعَالَى) وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْوَصْفِ بِهَا (فَلَزِمَ) كَوْنُ إطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (مَجَازًا بِلَا حَقِيقَةٍ)
قَالَ السُّبْكِيُّ: وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ صِفَاتٌ لَا أَعْلَامٌ أَمَّا إنْ جَعَلْنَاهَا أَعْلَامًا فَالْعَلَمُ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ اهـ قُلْت وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ كَالرَّازِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَأَنَّ التَّحْقِيقَ خِلَافُهُ وَعَلَيْهِ فَكَوْنُ إطْلَاقِ الرَّحْمَنِ عَلَى اللَّهِ مَجَازًا وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مِنْ الْأَعْلَامِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ الْأَوْجَهُ نَظَرًا إلَى أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي الْأَصْلِ رِقَّةُ الْقَلْبِ ظَاهِرٌ (بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ) أَيْ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ (رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ) وَقَوْلُ شَاعِرِهِمْ
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْت رَحْمَانَا
فَإِنَّهُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ إطْلَاقًا صَحِيحًا بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ وَلِمُخَالَفَتِهِ اللُّغَةَ أَوْقَعَهُمْ فِيهَا لَجَاجُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَأَيْضًا كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ) أَيْ بِلَفْظِ رَحْمَنٍ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى مُسَيْلِمَةَ الْمَعْنَى (الْحَقِيقِيَّ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ) بَلْ أَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ مَا يَخْتَصُّ بِالْإِلَهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَثْبَتُوا لَهُ مَا يَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَقَالَ السُّبْكِيُّ: جَوَابُهُ عِنْدِي أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الرَّحْمَنَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ فِي رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ وَمُنَكَّرًا فِي لَا زِلْت رَحْمَانَا وَدَعْوَانَا إنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ (قَالُوا) أَيْ الْمُلْزِمُونَ (لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ) الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ (انْتَفَتْ فَائِدَةُ الْوَضْعِ) لِأَنَّ فَائِدَتَهُ إفَادَةُ الْمَعَانِي الْمُرَكَّبَةِ فَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَمْ يَقَعْ فِي التَّرْكِيبِ فَتَنْتَفِي فَائِدَتُهُ (وَلَيْسَ) هَذَا (بِشَيْءٍ) تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ (لِأَنَّ التَّجَوُّزَ) بِاللَّفْظِ (فَائِدَةٌ لَا تَسْتَدْعِي غَيْرَ الْوَضْعِ) لَهُ لِمَعْنًى غَيْرِ الْمُتَجَوَّزِ فِيهِ فَلَا يَسْتَدْعِي لُزُومَ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ فَلَا يَسْتَدْعِي الْحَقِيقَةَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ وُقُوع الْمَجَازُ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ]
(مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ خِلَافًا للإسفراييني فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي اللُّغَةِ وَحَكَى السُّبْكِيُّ النَّفْيَ لِوُقُوعِهِ مُطْلَقًا عَنْهُ وَعَنْ الْفَارِسِيِّ وَالْإِسْنَوِيِّ عَنْهُ وَعَنْ جَمَاعَةٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَجَازَ (قَدْ يُفْضِي إلَى الْإِخْلَالِ بِغَرَضِ الْوَضْعِ) وَهُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ (لِخَفَاءِ الْقَرِينَةِ) الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيَقْضِي بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِتَبَادُرِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِ غَيْرِهِ (وَهُوَ) أَيْ خِلَافُهُ فِي وُقُوعِهِ (بَعِيدٌ عَلَى بَعْضِ الْمُمَيِّزِينَ فَضْلًا عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ (لِأَنَّ الْقَطْعَ بِهِ) أَيْ بِوُقُوعِهِ (أَثْبَتُ مِنْ أَنْ يُورَدَ لَهُ مِثَالٌ) لِكَثْرَتِهِ فِي اللُّغَةِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَيَلْزَمُهُ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلَ (نَفْيُ الْإِجْمَالِ مُطْلَقًا) لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخِلٌّ بِفَهْمِ عَيْنِ الْمُرَادِ مِنْهُ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ السُّبْكِيُّ: الْأُسْتَاذُ لَا يُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ وَأَمْثَالَهُ بَلْ يَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ الْقَرِينَةَ وَيُسَمِّيهِ حِينَئِذٍ حَقِيقَةً وَيُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ مَجَازًا وَانْظُرْ كَيْفَ عَلَّلَ بِاخْتِلَالِ الْفَهْمِ وَمَعَ الْقَرِينَةِ لَا اخْتِلَالَ فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ إِلْكِيَا (وَلِلظَّاهِرِيَّةِ فِي الثَّانِي) أَيْ الْقُرْآنِ وَكَذَا فِي الثَّالِثِ وَهُوَ الْحَدِيثُ إلَّا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُطْبِقِينَ عَلَى إنْكَارِ وُقُوعِهِ فِيهِمَا وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ الظَّاهِرِيُّ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَابْنُ الْقَاصِّ مِنْ قُدَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِإِنْكَارِهِ فِي كِتَابِ ابْنِ دَاوُد وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازُ الِاسْتِعَارَةِ وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَجَازٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي كِتَابٍ وَسُنَّةٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَجَازَ (كَذِبٌ لِصِدْقِ نَقِيضِهِ) أَيْ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يَنْفِي فَيَصِحُّ إذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّجُلِ الْبَلِيدِ حِمَارٌ لَيْسَ الرَّجُلُ الْبَلِيدُ حِمَارًا وَكُلُّ مَا يَصِحُّ نَفْيُهُ فَهُوَ كَذِبٌ فَالْمَجَازُ كَذِبٌ (فَيَصْدُقَانِ) أَيْ النَّقِيضَانِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ فِي حَقِّ رَسُولِهِ وَصِدْقُ النَّقِيضِينَ بَاطِلٌ مُطْلَقًا قَطْعًا
(قُلْنَا جِهَةُ الصِّدْقِ مُخْتَلِفَةٌ) فَمُتَعَلِّقُ الْإِثْبَاتِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَمُتَعَلِّقُ النَّفْيِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ فَلَا كَذِبَ وَلَا صِدْقَ لِلنَّقِيضَيْنِ إنَّمَا ذَلِكَ لَوْ اتَّحِدْ مُتَعَلِّقُهُمَا (وَتَحْقِيقُ صِدْقِ الْمَجَازِ صِدْقُ التَّشْبِيهِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعَلَاقَةِ) لِلْمَجَازِ بِحَسَبِ مَوَاقِعِهِ وَتَنَوُّعِ عِلَاقَتِهِ فَصَدَقَ الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ أَسَدٌ بِصِدْقِ كَوْنِهِ شَبِيهًا بِهِ فِي الشَّجَاعَةِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ (وَحِينَئِذٍ) أَيْ وَحِين كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا (هُوَ) أَيْ الْمَجَازُ (أَبْلَغُ) مِنْ الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ مِنْ بَحْثٍ يَأْتِي فِي مَسْأَلَةٍ إذَا لَزِمَ مُشْتَرَكًا إلَخْ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الظَّاهِرِيَّةِ (يَلْزَمُ) عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْمَجَازِ
فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى (وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْمُتَجَوِّزِ) لِأَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِامْتِنَاعِ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى اتِّفَاقًا فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ (قُلْنَا إنْ) لَزِمَ وَصْفُهُ بِهِ (لُغَةً مَنَعْنَاهُ بُطْلَانَ اللَّازِمِ) لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ لُغَةً (أَوْ) لَزِمَ وَصْفُهُ بِهِ (شَرْعًا مَنَعْنَا الْمُلَازَمَةَ) لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ وَهُنَا مَانِعٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُتَجَوِّزَ يُوهِمُ أَنَّهُ يَتَسَمَّحُ وَيَتَوَسَّعُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَمَا يُوهِمُ نَقْصًا لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقًا
وَلَنَا {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] فَإِنَّ النُّورَ فِي الْأَصْلِ كَيْفِيَّةٌ تُدْرِكُهَا الْبَاصِرَةُ أَوَّلًا وَبِوَاسِطَتِهَا سَائِرُ الْمُبْصِرَاتِ كَالْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنْ النَّيِّرَيْنِ عَلَى الْأَجْرَامِ الْكَثِيفَةِ الْمُحَاذِيَةِ لَهُمَا وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ كَزَيْدٍ كَرَمٍ بِمَعْنَى ذُو كَرْمٍ أَوْ عَلَى تَجَوُّزٍ بِمَعْنَى مُنَوِّرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قُرِئَ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَوَّرَهَا بِالْكَوَاكِبِ وَمَا يَفِيضُ عَنْهَا مِنْ الْأَنْوَارِ وَبِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَوْ مُدَبِّرُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ لِلرَّيِّسِ الْفَائِقِ فِي التَّدْبِيرِ: نُورُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهِ فِي الْأُمُورِ أَوْ مُوجِدُهَا فَإِنَّ النُّورَ ظَاهِرٌ بِذَاتِهِ مُظْهِرٌ لِغَيْرِهِ وَأَصْلُ الظُّهُورِ هُوَ الْوُجُودُ كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْخَفَاءِ هُوَ الْعَدَمُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ مُوجِدٌ لِمَا عَدَاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَكَرُوا {وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] لِأَنَّ الْمَكْرَ فِي الْأَصْلِ حِيلَةٌ يَجْلِبُ بِهَا غَيْرَهُ إلَى مَضَرَّةٍ فَلَا يُسْنَدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هُنَا إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ وَهُوَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أُسْنِدَ إلَيْهِ هُنَا مُشَاكَلَةً أَوْ اسْتِعَارَةً لِمَا يُنْزِلُهُ بِهِمْ مِنْ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ الِاسْتِهْزَاءِ أَوْ الْغَرَضِ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ جَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعَدٍّ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ بَلْ هُوَ عَدْلٌ وَحَقٌّ وَلَا جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ شَرْعًا وَالسَّيِّئَةُ مَا نُهِيَ عَنْهُ شَرْعًا بَلْ هُوَ حَسَنٌ فَهُمَا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِجَامِعِ الْمُجَاوِرَةِ فِي التَّخَيُّلِ أَوْ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ (وَكَثِيرٌ) إلَى أَنْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ حَدًّا يُفِيدُ الْجَزْمَ بِوُجُودِهِ وَلَا يُفِيدُ الْمَانِعِينَ تَجَشُّمُ دَفْعِ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ مَعْدُودَةٍ مِنْهَا الْمَثَلُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ لَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَالنُّورُ مَعْنَاهُ الظَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ لَا الْعَرَضُ الَّذِي شَأْنُهُ هَذَا فَيَكُونُ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ حَقِيقَةً
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ: الْمَكْرُ إيصَالُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى فِيهِ وَالِاسْتِهْزَاءُ إظْهَارُ الْإِكْرَامِ وَإِخْفَاءُ الْإِهَانَةِ فَيَجُوزُ صُدُورُهُمَا مِنْ اللَّهِ حَقِيقَةً لِحِكْمَةٍ وَقَوْلُهُ {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ اسْتِهْزَاءٍ حَقِيقَةُ الْجَهْلِ وَالِاعْتِدَاءُ إيقَاعُ الْفِعْلِ الْمُؤْلِمِ أَوْ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّيْءِ وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى الْآيَةِ كَمَا هَتَكُوا حُرْمَةَ شَيْءٍ أَيَّ حُرْمَةٍ كَانَتْ مِنْ الْحُرَمِ أَوْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ أَوْ الْعِرْضِ فَاهْتِكُوا حُرْمَةً لَهُ كَذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وَالسَّيِّئَةُ مَا يَسُوءُ مَنْ يَنْزِلُ بِهِ (وَأَمَّا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَقِيلَ) : الْقَرْيَةُ فِيهِ (حَقِيقَةٌ) وَأَمَرَ بَنُو يَعْقُوبَ عليهم السلام أَبَاهُمْ أَنْ يَسْأَلَهَا (فَتُجِيبُهُ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إنْطَاقِهَا لَا سِيَّمَا وَالزَّمَانُ زَمَانُ النُّبُوَّةِ وَخَرْقِ الْعَوَائِدِ فَلَا يَمْتَنِعُ نُطْقُهَا بِسُؤَالِ نَبِيٍّ وَضَعُفَ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا إنَّمَا يَقَعُ لِنَبِيٍّ عِنْدَ التَّحَدِّي وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ (وَقَدَّمْنَاهُ) أَيْ لَفْظَ الْقَرْيَةِ (حَقِيقَةً مَعَ حَذْفِ الْأَهْلِ)
وَيَشْهَدُ لَهُ تَخْصِيصُهُمْ الْقَرْيَةَ بِاَلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَهِيَ مِصْرُ أَوْ قَرْيَةٌ بِقُرْبِهَا لَحِقَهُمْ الْمُنَادِي فِيهَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا مِنْ الْأَحْيَاءِ الْمُدْرِكِينَ لِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يُوسُفَ لَا نَفْسُ الْقَرْيَةِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْجَمَادَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي عَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَفِي أَنَّهَا لَوْ أَجَابَتْ لَكَانَ جَوَابُهَا دَالًّا عَلَى صِدْقِهِمْ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا قَبْلَهُ (وَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ) وَهُوَ مَجَازُ الْعَلَاقَةِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَجَازِ الزِّيَادَةِ (أَلَّا يَرَى إلَى تَعْلِيلِهِمْ) أَيْ الظَّاهِرِيَّةِ بِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَازِ الزِّيَادَةِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ (وَقَدْ أُجِيبَ) أَيْضًا مِنْ قَبْلِهِمْ بِغَيْرِ هَذَا فَأُجِيبَ (تَارَةً بِأَنَّهُ) أَيْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لِنَفْيِ الشَّبِيهِ (حَقِيقَةً) فَالْكَافُ فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ
فِي مَفْهُومِهَا الْوَضْعِيِّ وَهُوَ الشَّبِيهُ (وَالْمِثْلُ يُقَالُ لِنَفْسِهِ) أَيْ لِنَفْسِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ فَيُقَالُ (لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِك) كَذَا أَيْ لَك {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أَيْ بِنَفْسِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوْ دَيْنُ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ فَالْمَعْنَى لَيْسَ كَذَاتِهِ شَيْءٌ
(وَتَمَامُهُ) أَيْ هَذَا الْجَوَابِ (بِاشْتِرَاكِ مِثْلٍ) بَيْنَ النَّفْسِ وَالشَّبِيهِ إذْ لَا رَيْبَ فِي إطْلَاقِ مِثْلٍ عَلَى الْمُمَاثِلِ وَهُوَ غَيْرُ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ ثَبَتَ الِاشْتِرَاكُ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ بَلْ كَانَ مَجَازًا (ثَبَتَ نَقِيضُ مَطْلُوبِهِمْ) أَيْ الظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ وُجُودُ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ (وَهُوَ) أَيْ الِاشْتِرَاكُ (مَمْنُوعٌ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَالْمَجَازُ أَوْلَى مِنْهُ (وَتَارَةً بِأَنَّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] حَقِيقَةٌ) فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى مِثْلٍ وَكُلٌّ مِنْهَا وَمِنْهُ غَيْرُ زَائِدٍ ثُمَّ هُوَ (إمَّا لِنَفْيِ مِثْلِ مِثْلِهِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى (وَيَلْزَمُهُ) أَيْ نَفْيُ مِثْلِ مِثْلِهِ تَعَالَى (نَفْيَ مِثْلِهِ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ نَفْيَ مِثْلِهِ (تَنَاقَضَ لِأَنَّهُ) تَعَالَى (مِثْلُ مِثْلِهِ) فَلَا يَصِحُّ نَفْيُ مِثْلِ الْمِثْلِ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ فَنَفْيُ مِثْلِهِ صَحِيحٌ وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ثُبُوتُ الْمِثْلِ فَإِنَّك إذَا قُلْت: لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَ مِثْلِ زَيْدٍ تَبَادَرَ مِنْهُ إلَى الْفَهْمِ أَنَّ لِزَيْدٍ مِثْلًا وَقَدْ نَفَيْتَ عَنْهُ أَنَّهُ يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ لَهُ تَعَالَى مِثْلٌ كَانَ هُوَ مِثْلًا لِمِثْلِهِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّفْيِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ نَفْيُهُ تَعَالَى مَعَ إثْبَاتِ مِثْلِهِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِثْلِ مَعَ ثُبُوتِ ذَاتِهِ وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ مِثْلِهِ تَعَالَى مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ مِثْلِ مِثْلِهِ فَنُفِيَ اللَّازِمُ وَجُعِلَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْمَلْزُومِ
(وَلِلُزُومِ التَّنَاقُضِ) عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ نَفْيُ مِثْلِهِ (انْتَفَى ظُهُورُهُ) أَيْ نَفْيِ مِثْلِ مِثْلِهِ (فِي إثْبَاتِ مِثْلِهِ وَبِهِ) أَيْ بِلُزُومِ التَّنَاقُضِ (يَنْدَفِعُ دَفْعُهُ) أَيْ هَذَا الْجَوَابُ وَدَافَعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ (بِاقْتِضَائِهِ) أَيْ هَذَا الْجَوَابِ (إثْبَاتَ الْمِثْلِ فِي مَقَامِ نَفْيِهِ) أَيْ الْمِثْلِ (وَظُهُورَهُ) أَيْ الْمِثْلِ (فِيهِ) أَيْ فِي إثْبَاتِ مِثْلِهِ (وَجَعَلَ هَذَا) الدَّفْعَ الَّذِي لِابْنِ الْحَاجِبِ (مُرَتَّبًا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ سَهْوًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَعَ فِي حَوَاشِي الشَّيْخِ سَعْدِ الدِّينِ الِاقْتِصَارُ عَلَى نَقْلِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لِلظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى الذَّاتِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ اعْتِرَاضَ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمَذْكُورَ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ هَذَا سَهْوٌ اهـ قُلْت: لِأَنَّ كَوْنَ الْمَعْنَى لَيْسَ كَذَاتِهِ شَيْءٌ لَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْمِثْلِ فِي مَقَامِ نَفْيِهِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى الذَّاتِ سَهْوٌ وَالصَّوَابُ وَهُوَ أَنَّ الْمِثْلَ بِمَعْنَى الذَّاتِ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْهُو (وَإِمَّا لِنَفْيِ شَبَهِ الْمِثْلِ فَيَنْتَفِي الْمِثْلُ بِأَوْلَى كَمِثْلِك لَا يَبْخَلُ وَلَا شَكَّ أَنَّ اقْتِضَاءَ شَبَهٍ صِفَتُهُ انْتِفَاءُ الْبُخْلِ أَوْلَى مِنْهُ) أَيْ مِنْ اقْتِضَاءِ شَبَهٍ صِفَتُهُ انْتِفَاءُ الْبُخْلِ (اقْتِضَاءُ صِفَتِهِ) انْتِفَاءُ الْبُخْلِ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَقْوَى فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الْمِثْلِ وَشَبَهِهِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ فَكَيْفَ الْمِثْلُ حَقِيقَةً فَيُفِيدُ الْكَلَامُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّشْرِيكِ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَعَقَّبَ هَذَا بِقَوْلِهِ (لَكِنْ لَيْسَ مِنْهُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ) لِيَنْتَفِيَ الْمِثْلُ (وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ نَفْيُ مِثْلِ مِثْلٍ لِثَابِتٍ لَهُ مِثْلٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ مِثْلُ مِثْلِ زَيْدٍ أَحَدًا اقْتَضَى) هَذَا الْقَوْلُ (ثُبُوتَ مِثْلٍ لِزَيْدٍ وَصَرَفَ) هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا (لُزُومَ التَّنَاقُضِ) اللَّازِمِ مِنْ لُزُومِ نَفْيِ مِثْلِهِ لِنَفْيِ مِثْلِ مِثْلِهِ (إلَى نَفْيِ مِثْلٍ) آخَرَ (غَيْرِ زَيْدٍ) وَحِينَئِذٍ لَا تَنَاقُضَ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ (فَلَمْ يَتَّحِدْ مَحَلُّ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ) أَيْ هَذَا الصَّرْفُ (أَظْهَرُ مِنْ صَرْفِهِ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ التَّنَاقُضَ (السَّابِقَ عَنْ ظُهُورِهِ) أَيْ الْمِثْلِ (فِي إثْبَاتِ الْمِثْلِ) إلَى نَفْيِ ذَاتِهِ وَإِثْبَاتِهِ (لِأَسْبَقِيَّةِ هَذَا) إلَى الْفَهْمِ
(مِنْ التَّرْكِيبِ فَالْوَجْهُ) فِي دَفْعٍ أَنَّهُ لِنَفْيِ مِثْلِ مِثْلِهِ اللَّازِمُ مِنْهُ نَفْيُ مِثْلِهِ (ذَلِكَ الدَّفْعُ) أَيْ دَفْعُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَقَدْ يُقَرِّرُ لُزُومَ نَفْيِ الْمِثْلِ مِنْ نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِ إنَّمَا هُوَ ذَاتُهُ تَعَالَى مَعَ وَصْفِ أَنَّهُ مِثْلُ الْمِثْلِ لِأَنَّ مِثْلَهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ إلَّا ذَاتُهُ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ مِثْلِ مِثْلِهِ نَفْيُ مِثْلِهِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ وَهُوَ أَنَّ نَفْيَ مِثْلِ مِثْلِهِ إمَّا بِانْتِفَاءِ ذَاتِهِ أَوْ بِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ مُتَقَرِّرٌ فِي الْعُقُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ وَانْتِفَاءُ الْوَصْفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمِثْلِ فِي الْعَقْلِ