الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 39]{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر: 40]{عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر: 41]{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43]{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44]{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45]{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46]{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 47] دَلِيلٌ ظَاهِرٌ (لِلْعِرَاقِيِّينَ) أَمَّا ظَاهِرُ الْأُولَى فَوَاضِحٌ وَأَمَّا ظَاهِرُ الثَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ لِإِفَادَتِهَا أَنَّ مِمَّا سَلَكَهُمْ فِي سَقَرَ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَالْإِطْعَامِ الْوَاجِبَيْنِ عَلَيْهِمْ لِاسْتِحَالَةِ التَّعْذِيبِ شَرْعًا عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ (وَخِلَافُهُ) أَيْ ظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُولَى لَا يَفْعَلُونَ مَا يُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْمُرَادُ مِنْ الثَّانِيَةِ لَمْ نَكُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُرَادُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» أَوْ لَمْ نَكُ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِقَادِ أَوْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمُصَلِّينَ غَيْرَ الْمُكَذِّبِينَ الْمَذْكُورِينَ لِاشْتِمَالِ النَّارِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَتَنَاوُلُ الْمُجْرِمِينَ الْكُلَّ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ قَوْلَ الْمَجْمُوعِ عَلَى التَّوْزِيعِ لَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ الْمُجْرِمِينَ (تَأْوِيلٌ) لَمْ يُعَيِّنْهُ دَلِيلٌ
(وَتَرْتِيبُ الدَّعْوَةِ فِي حَدِيثِ «مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ: اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ (لَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ التَّكْلِيفِ) بِوُجُوبِ أَدَاءِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ افْتِرَاضَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَلَا قَائِلَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ غَايَةً مَا فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّخْفِيفِ فِي التَّبْلِيغِ (وَأَمَّا) إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ (بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فَاتِّفَاقٌ) وَقَالُوا فِي وَجْهِ الْعُقُوبَاتِ لِأَنَّهَا تُقَامُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ لِتَكُونَ زَاجِرَةً عَنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا وَبِاعْتِقَادِ حُرْمَتِهَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَالْكُفَّارُ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي وَجْهِ الْمُعَامَلَاتِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَا مَعْنًى دُنْيَوِيٌّ وَذَلِكَ بِهِمْ أَلْيَقُ لِأَنَّهُمْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَلِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْحَاكِمِ]
(الْفَصْلُ الثَّانِي) فِي الْحَاكِمِ (الْحَاكِمُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ الْأَشْعَرِيَّةُ لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ) بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ (قَبْلَ بَعْثَةٍ) لِرَسُولٍ إلَيْهِ (وَبُلُوغِ دَعْوَةٍ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ (فَلَا يَحْرُمُ كُفْرٌ وَلَا يَجِبُ إيمَانٌ) قَبْلَ ذَلِكَ (وَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَعَلَّقُ) لَهُ تَعَالَى حُكْمٌ (مِمَّا أَدْرَكَ الْعَقْلُ فِيهِ) مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ (صِفَةَ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ لِذَاتِهِ) أَيْ الْفِعْلِ تَقْتَضِيهِمَا كَحُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الْكَذِبِ الْمُضِرِّ (عِنْدَ قُدَمَائِهِمْ وَ) عِنْدَ (طَائِفَةٍ) مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ (لِصِفَةٍ) تُوجِبُهُ فِيهِمَا بِمَعْنَى أَنَّ لَهَا مَدْخَلًا فِي ذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِدُونِ الذَّاتِ
(وَالْجُبَّائِيَّةُ) أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَتْبَاعُهُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ (لِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ) مُخْتَلِفَةٍ تُوجِبُهُ فِيهِمَا كَلَطْمِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّأْدِيبِ حَسَنٌ وَبِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ التَّعْذِيبِ قَبِيحٌ (وَقِيلَ) وَقَائِلُهُ: أَبُو الْحُسَيْنِ: مِنْهُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ (لِصِفَةٍ فِي الْقُبْحِ) فَقَطْ (وَعَدَمُهَا) أَيْ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقُبْحِ (كَافٍ فِي) ثُبُوتِ (الْحُسْنِ) وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى صِفَةٍ مُحَسِّنَةٍ (وَمَا لَمْ يُدْرِكْ فِيهِ) الْعَقْلُ صِفَةَ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ كَصَوْمِ آخَرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَفِطْرِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ (بِالشَّرْعِ وَالْمُدْرَكِ) مِنْ الصِّفَاتِ (إمَّا حُسْنُ فِعْلٍ بِحَيْثُ يَقْبُحُ تَرْكُهُ فَوَاجِبٌ) أَيْ فَذَلِكَ الْفِعْلُ وَاجِبٌ (وَإِلَّا) فَإِنْ كَانَ حُسْنُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْبُحُ تَرْكُهُ (فَمَنْدُوبٌ أَوْ) الْمُدْرَكُ حَسَنٌ (تُرِكَ عَلَى وِزَانِهِ) أَيْ الْفِعْلِ (فَحَرَامٌ) ذَلِكَ الْفِعْلُ إنْ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ الْقُبْحُ (وَمَكْرُوهٌ) إنْ لَمْ يَثْبُتْ بِفِعْلِهِ الْقُبْحُ (وَالْحَنَفِيَّةُ) قَالُوا (لِلْفِعْلِ) صِفَةُ حُسْنٍ وَقُبْحٍ (كَمَا تَقَدَّمَ) فِي ذَيْلِ النَّهْيِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا (فَلِنَفْسِهِ) أَيْ الْفِعْلِ (وَغَيْرِهِ) أَيْ الْفِعْلِ (وَبِهِ) أَيْ وَبِسَبَبِ مَا بِالْفِعْلِ مِنْ الصِّفَةِ (يُدْرِكُ الْعَقْلُ حُكْمَهُ تَعَالَى فِيهِ) أَيْ الْفِعْلِ (فَلَا حُكْمَ لَهُ) أَيْ الْعَقْلِ إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ غَيْرَ أَنَّ الْعَقْلَ (إنَّمَا اسْتَقَلَّ بَدْرِك بَعْضِ أَحْكَامِهِ تَعَالَى) فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا هُوَ عَيْنُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا كَمَا يُحَرِّفُهُ بَعْضُهُمْ (ثُمَّ مِنْهُمْ كَأَبِي مَنْصُورٍ مَنْ أَثْبَتَ وُجُوبَ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةَ
الْكُفْرِ وَنِسْبَةَ مَا هُوَ شَنِيعُ إلَيْهِ تَعَالَى كَالْكَذِبِ وَالسَّفَهِ وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعُ (وُجُوبُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَزَادَ أَبُو مَنْصُورٍ) وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ (إيجَابَهُ) أَيْ الْإِيمَانِ (عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ) الَّذِي يُنَاظِرُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ (وَنَقَلُوا عَنْهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ الْأَوْلَى التَّصْرِيحَ بِهِ (لَوْ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ لِلنَّاسِ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ وَالْبُخَارِيُّونَ لَا تَعَلُّقَ) لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بَعْثِهِ رَسُولًا إلَيْهِ وَتَبْلِيغِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ (كَالْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَحَاصِلُ مُخْتَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ) وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ (النَّفْيُ) لِوُجُوبِ أَدَاءِ الْإِيمَانِ (عَنْ الصَّبِيِّ لِرِوَايَةِ عَدَمِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ) أَيْ نِكَاحِ الْمُرَاهِقَةِ وَهِيَ الْمُقَارِبَةُ لِلْبُلُوغِ إذَا كَانَتْ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ تَحْتَ زَوْجٍ مُسْلِمٍ (بِعَدَمِ وَصْفِ الْمُرَاهِقَةِ الْإِسْلَامَ) إذَا عَقَلَتْ وَاسْتَوْصَفَتْهُ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى وَصْفِهِ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذْ لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفًا بِالْإِيمَانِ لَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا كَمَا لَوْ بَلَغَتْ غَيْرَ وَاصِفَةٍ وَلَا قَادِرَةٍ عَلَى وَصْفِهِ
وَأَمَّا نَفْسُ الْوُجُوبِ فَثَابِتٌ كَمَا يَأْتِي فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ (وَفِي الْبَالِغِ) النَّاشِئِ عَلَى شَاهِقٍ وَنَحْوِهِ إذَا (لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ لَا يُكَلَّفُ بِهِ) أَيْ الْإِيمَانِ (بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ التَّأَمُّلِ وَقَدْرُهَا) أَيْ الْمُدَّةِ مُفَوَّضٌ (إلَيْهِ تَعَالَى) إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَعْلَمُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمِنْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا قِيلَ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ مُدَّةَ التَّجْرِبَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ لِأَنَّ الْعُقُولَ مُتَفَاوِتَةٌ فَرُبَّ عَاقِلٍ يَهْتَدِي فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ غَيْرُهُ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ (فَلَوْ مَاتَ قَبْلَهَا) أَيْ الْمُدَّةِ (غَيْرَ مُعْتَقِدٍ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا لَا عِقَابَ) عَلَيْهِ (أَوْ) مَاتَ (مُعْتَقِدًا الْكُفْرَ) وَاصِفًا لَهُ أَوْ غَيْرَ وَاصِفٍ (خُلِّدَ) فِي النَّارِ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الشِّرْكِ دَلِيلُ خُطُورِ الصَّانِعِ بِبَالِهِ وَوُقُوعُ نَوْعٍ اسْتِدْلَالٌ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ (وَكَذَا) يُخَلَّدُ فِي النَّارِ (إذَا مَاتَ بَعْدَهَا) أَيْ الْمُدَّةِ (غَيْرَ مُعْتَقِدٍ) إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ لِأَنَّ الْإِمْهَالَ وَإِدْرَاكَ مُدَّةِ التَّأْمِيلِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي حَقِّ تَنْبِيهِ الْقَلْبِ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ فَلَا يُعْذَرُ (وَبِهَذَا) التَّحْرِيرِ (يَبْطُلُ الْجَمْعُ) الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ (بِأَنَّ قَوْلَ الْوُجُوبِ مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ الْعَقْلِ الْفِعْلَ وَالْحُرْمَةُ تَرْجِيحُهُ) أَيْ الْعَقْلِ (التَّرْكَ) هَذَا (بَعْدَ كَوْنِهِ) أَيْ هَذَا الْجَمْعِ (خِلَافَ الظَّاهِرِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبُخَارِيِّينَ) نَقَلَهُ فِي الْمِيزَانِ عَنْهُمْ بِلَفْظِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِ بُخَارَى وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: (نَقَلَهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ عَيْنِ الدَّوْلَةِ عَنْهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَئِمَّةُ بُخَارَى الَّذِينَ شَاهَدْنَاهُمْ كَانُوا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي قَوْلَ الْأَشَاعِرَةِ وَحَكَمُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رِوَايَةِ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي الْمُنْتَقَى ثُمَّ فِي الْمِيزَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي غَيْرِهِ كَجَامِعِ الْأَسْرَارِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (فَيَجِبُ) عَلَى هَذَا (حَمْلُ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِهِ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ السَّالِفِ (لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي) قُلْت: لَكِنَّ بَقِيَّتَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ
وَأَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَمَعْذُورٌ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَجِيءِ الشَّرْعِ لَا يُلَائِمُ حُكْمَهُمْ الْمَذْكُورَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلشَّرَائِعِ حِينَئِذٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ قَدْ خَالَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْحُكْمِ (وَكُلُّهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (عَلَى امْتِنَاعِ تَعْذِيبِ الطَّائِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ) لِذَاتِهِ (فَتَمَّتْ) مَحَالُّ النِّزَاعِ (ثَلَاثَةٌ اتِّصَافُ الْفِعْلِ) بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ (وَمَنْعُ اسْتِلْزَامِهِ) أَيْ الِاتِّصَافِ (حُكْمًا فِي الْعَبْدِ وَإِثْبَاتِهِ) أَيْ إثْبَاتِ اسْتِلْزَامِ الِاتِّصَافِ حُكْمًا فِي الْعَبْدِ وَهَذَا هُوَ الثَّانِي (وَاسْتِلْزَامِهِ) أَيْ الِاتِّصَافِ (مَنْعَهُمَا) أَيْ تَعْذِيبَ الطَّائِعِ وَتَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ (مِنْهُ) تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ (وَلَا نِزَاعَ فِي دَرْكِهِ) أَيْ الْعَقْلِ صِفَةً (لِلْفِعْلِ بِمَعْنَى صِفَةِ الْكَمَالِ) كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْحُسْنِ (وَ) صِفَةِ (النَّقْصِ) كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْقَبِيحِ (كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ) فَيُقَالُ الْعِلْمُ حَسَنٌ وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ (وَلَا فِيهِمَا بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ) أَيْ وَلَا نِزَاعَ أَيْضًا فِي إدْرَاكِ الْعَقْلِ الْحُسْنَ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحُسْنُ مِمَّا يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْمَدْحِ (فِي مَجَارِي
الْعَادَاتِ) وَالْقُبْحُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَبِيحُ مِمَّا يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الذَّمِّ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ (بَلْ) النِّزَاعُ فِي إدْرَاكِ الْعَقْلِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (فِيهِمَا) أَيْ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ أَيْ فِيمَا يُطْلَقَانِ عَلَيْهِ (بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ مَدْحِهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ) لِلْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنِ (وَمُقَابِلُهُمَا) أَيْ وَبِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ ذَمِّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ لِلْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ قَدْ يُرَادُ بِالْقَبِيحِ (لَنَا فِي الْأَوَّلِ) أَيْ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (أَنَّ قُبْحَ الظُّلْمِ وَمُقَابَلَةَ الْإِحْسَانِ بِالْإِسَاءَةِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ حَتَّى مَنْ لَا يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ) وَلَا يَقُولُ بِشَرْعٍ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَذَلِكَ (مَعَ اخْتِلَافِ عَادَاتِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ فَلَوْلَا أَنَّهُ) أَيْ اتِّصَافَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ (يُدْرَكُ بِالضَّرُورَةِ فِي الْفِعْلِ لِذَاتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ) الِاتِّفَاقُ (وَمَنْعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى كَوْنِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مُتَعَلِّقَهَا) أَيْ الْأَحْكَامِ (مِنْهُ تَعَالَى) كَمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ (لَا يَمَسُّنَا) لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ: مُجَرَّدُ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ يَسْتَلْزِمُ حُكْمًا مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوْ لَهُ بَلْ ذَهَبْنَا إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِهِ بِالسَّمْعِ
(وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ فِي دَفْعِ هَذَا الِاتِّصَافِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ قَدْ يَكُونُ (مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ الْأَغْرَاضُ وَالْعَادَاتُ وَاسْتَحَقَّ بِهِ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ فِي نَظَرِ الْعُقُولِ لِتَعَلُّقِ مَصَالِحِ الْكُلِّ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ اتِّصَافُهُ بِأَحَدِهِمَا ذَاتِيًّا (لَا يُفِيدُ) دَفْعَهُ (بَلْ هُوَ) أَيْ الِاتِّصَافُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ (الْمُرَادُ بِالذَّاتِيِّ) أَيْ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مَوْصُوفًا بِالْحُسْنِ أَوْ الْقُبْحِ لِذَاتِهِ (لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ الْيَدِ قَتْلًا ظُلْمًا لَا تَزِيدُ حَقِيقَتُهَا) أَيْ حَرَكَتُهَا بِذَلِكَ (عَلَى حَقِيقَتِهَا) أَيْ حَرَكَتِهَا قَتْلًا (عَدْلًا فَلَوْ كَانَ الذَّاتِيُّ) هُوَ مَا يَكُونُ (مُقْتَضَى الذَّاتِ اتَّحَدَ لَازِمُهُمَا) أَيْ الْحَرَكَتَيْنِ (حُسْنًا وَقُبْحًا) وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا (فَإِنَّمَا يُرَادُ) بِالذَّاتِيِّ (مَا يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ لِفِعْلٍ مِنْ الصِّفَةِ) الَّتِي هِيَ الْحُسْنُ أَوْ الْقُبْحُ (بِمُجَرَّدِ تَعَقُّلِهِ) أَيْ الْفِعْلِ حَالَ كَوْنِ هَذَا الْمَجْزُومِ بِهِ (كَأَيِّنَا عَنْ صِفَةِ نَفْسِ مَنْ قَامَ بِهِ) ذَلِكَ الْفِعْلُ (فَبِاعْتِبَارِهَا) أَيْ تِلْكَ الصِّفَةِ الْجَازِمِ بِهَا الْعَقْلُ لِلْفِعْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (يُوصَفُ) ذَلِكَ الْفِعْلُ (بِأَنَّهُ عَدْلٌ حَسَنٌ أَوْ ضِدُّهُ) أَيْ أَوْ ظُلْمٌ قَبِيحٌ (هَذَا بِاضْطِرَارِ الدَّلِيلِ) أَيْ اتِّحَادِ حَرَكَةِ الْيَدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ فِي الْقَتْلِ (وَيُوجِبُ كَوْنُهُ) أَيْ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ (لِخَارِجٍ) عَنْ الْفِعْلِ (وَمِثْلُهُ) أَيْ الِاتِّفَاقِ عَلَى اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي إفَادَةِ الْمَطْلُوبِ (تَرْجِيحُ الصِّدْقِ) أَيْ تَرْجِيحُ الْعَقْلِ إيَّاهُ عَلَى الْكَذِبِ (مِمَّنْ اسْتَوَى فِي تَحْصِيلِ غَرَضِهِ) مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ (هُوَ) أَيْ الصِّدْقُ (وَالْكَذِبُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِشَرِيعَةٍ) تُفِيدُ حُسْنَ الصِّدْقِ وَقُبْحَ الْكَذِبِ إذْ لَوْلَا أَنَّ حُسْنَ الصِّدْقِ ثَابِتٌ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ
(وَالْجَوَابُ) عَنْ هَذَا مِنْ قِبَلِ الْأَشَاعِرَةِ (بِأَنَّ الْإِيثَارَ) مِنْ الْعَقْلِ لِلصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ فِي هَذَا (لَيْسَ لِحُسْنِهِ) أَيْ الصِّدْقِ (عِنْدَهُ تَعَالَى) بَلْ إنَّمَا هُوَ لِحُسْنِهِ فِي حَقِّنَا (لَيْسَ يَضُرُّنَا) لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوْ لَهُ بَلْ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَإِنَّمَا يَضُرُّ الْمُعْتَزِلَةَ الْقَائِلِينَ بِتَعَلُّقِ أَحْكَامِ اللَّهِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَمْعٍ (نَعَمْ) يَرُدُّ (عَلَيْهِ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ (مَنْعُ التَّرْجِيحِ) لِلصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ (عَلَى التَّقْدِيرِ) أَيْ تَقْدِيرِ عَدَمِ مُسَاوَاةِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ فِي حُصُولِ الْغَرَضِ فَإِنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَدْ يُرَجِّحُ الْعَقْلُ الْكَذِبَ عَلَى الصِّدْقِ كَمَا يَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِ (قَالُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ: أَوَّلًا (لَوْ اتَّصَفَ) الْفِعْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (كَذَلِكَ) أَيْ اتِّصَافًا ذَاتِيًّا (لَمْ يَتَخَلَّفْ) كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَّا اتَّصَفَ بِهِ فِي سَائِرِ مَوَارِدِهِ (وَتَخَلَّفَ) قُبْحُ الْكَذِبِ (فِي تَعَيُّنِهِ) أَيْ الْكَذِبِ طَرِيقًا (لِعِصْمَةِ نَبِيٍّ) مِنْ ظَالِمٍ فَإِنَّهُ حَسَنٌ وَاجِبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجِبُ تَارَةً وَتَحْرُمُ أُخْرَى (وَالْجَوَابُ هُوَ) أَيْ تَعَيُّنُ الْكَذِبِ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ (عَلَى قُبْحِهِ) أَيْ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّهُ رَفَعَ الْإِثْمَ عَنْهُ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ رُخْصَةً سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَارَ حَسَنًا لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِمَا لَازَمَهُ مِنْ الْإِنْقَاذِ لِلنَّبِيِّ (وَحُسْنِ الْإِنْقَاذِ) أَيْ التَّخْلِيصِ لِلنَّبِيِّ (يَرْبُو) أَيْ يَزِيدُ (قُبْحَ تَرْكِهِ) أَيْ التَّخْلِيصِ (عَلَيْهِ) أَيْ الْكَذِبِ الَّذِي بِهِ الْإِنْقَاذُ (وَغَايَةُ مَا يَسْتَلْزِمُ) هَذَا (أَنَّهُمَا) أَيْ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِيهِ (لِخَارِجٍ لَكِنَّهُمَا) أَيْ الْحُسْنُ
وَالْقُبْحُ (مِنْ جِهَتَيْنِ) فَالْقُبْحُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَالْحَسَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ مَصْلَحَةٌ (تَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا) وَهِيَ جِهَةُ الْحُسْنِ عَلَى جِهَةِ الْقُبْحِ (وَقِيلَ هُوَ) أَيْ تَعَيُّنُ الْكَذِبِ (فَرْضُ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ إذْ لَا كَذِبَ إلَّا وَعَنْهُ مَنْدُوحَةُ التَّعْرِيضِ) أَيْ سِعَتُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُحَصِّلَ النَّجَاةَ بِأَنْ يَذْكُرَ صُورَةَ الْخَبَرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَقَصْدَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ حَسَنًا بَلْ يَبْقَى قَبِيحًا
فَإِنْ قِيلَ التَّعْرِيضُ يُوجِبُ عَدَمَ الْجَزْمِ بِفَهْمِ الْحَقِيقَةِ مِنْ لَفْظٍ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَيَرْتَفِعُ الْوُثُوقُ بِهِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ أُجِيبَ بِمَنْعِ ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرْعِ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ قَرِينَةٍ يُعْلَمُ بِهَا كَوْنُهُ تَعْرِيضًا لِئَلَّا يَكُونَ إضْلَالًا وَإِيقَاعًا لِلْعِبَادِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فَمَتَى تَجَرَّدَ كَلَامٌ عَنْ قَرِينَةِ إرَادَةِ التَّعْرِيضِ يَجْزِمُ بِالْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِسَائِرِ الِاحْتِمَالَاتِ كَالْمَجَازِ وَالْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ
(قَالُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ ثَانِيًا (لَوْ اتَّصَفَ) الْفِعْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لِذَاتِهِ (اجْتَمَعَ الْمُتَنَافِيَانِ فِي لَأَكْذِبَنَّ غَدًا لِأَنَّ صِدْقَهُ) أَيْ لَأَكْذِبَنَّ غَدًا (الَّذِي حَسَّنَهُ بِكَذِبِ غَدٍ) أَيْ فِيهِ (فَيَقْبُحُ) لِكَوْنِهِ كَذِبًا إذْ الْفَرْضُ قُبْحُ الْكَذِبِ لِذَاتِهِ فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِيهِ (وَقَلْبُهُ) أَيْ وَلِأَنَّ كَذِبَهُ بِعَدَمِ كَذِبِهِ فِي الْغَدِ إمَّا بِصِدْقِهِ فِيهِ أَوْ سُكُوتِهِ فَيَقْبُحُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي الْيَوْمِ فِي لَأَكْذِبَنَّ غَدًا وَكُلُّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكَذِبُ فِي الْيَوْمِ قَبِيحٌ فَصِدْقُهُ أَوْ سُكُوتُهُ غَدًا قَبِيحٌ وَالصِّدْقُ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ (وَمَبْنَاهُ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ (عَلَى أَنَّ الْمَلْزُومَ لِخَارِجٍ حَسَنٍ حَسَنٌ) وَالْمَلْزُومَ لِخَارِجٍ قَبِيحٍ قَبِيحٌ كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ (وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ مِنْ عَدَمِ التَّنَافِي) بَيْنَ كَوْنِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا (لِلْجِهَتَيْنِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْمُرَادِ بِالذَّاتِيِّ) فَيَحْسُنُ مِنْهُ الصِّدْقُ غَدًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صِدْقًا وَيَقْبُحُ بِاعْتِبَارِ اسْتِلْزَامِهِ الْكَذِبَ الْيَوْمَ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا بِاعْتِبَارَيْنِ (فَلَا يَنْتَهِضُ) هَذَا (عَلَى أَحَدٍ قَالُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ (ثَالِثًا لَوْ اتَّصَفَ) الْفِعْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لِذَاتِهِ (وَهُمَا) أَيْ الْحَسَنُ وَالْقُبْحُ (عَرَضَانِ قَامَ الْعَرَضُ) الَّذِي هُوَ أَحَدُهُمَا (بِالْعَرَضِ) الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ (لِأَنَّ الْحُسْنَ زَائِدٌ) عَلَى مَفْهُومِ الْفِعْلِ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ غَيْرَ زَائِدٍ بَلْ كَانَ عَيْنَ الْفِعْلِ أَوْ جُزْأَهُ (كَانَتْ عَقْلِيَّةُ الْفِعْلِ عَقْلِيَّتَهُ) أَيْ الْحُسْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ يُعْقَلُ الْفِعْلُ وَلَا يُعْقَلُ حُسْنُهُ وَلَا قُبْحُهُ (وَ) أَيْضًا الْحُسْنُ وَصْفٌ (وُجُودِيٌّ لِأَنَّ نَقِيضَهُ) أَيْ حَسَنٍ (لَا أَحْسَنَ) وَهُوَ (سَلْبٌ وَإِلَّا) لَوْ كَانَ غَيْرَ سَلْبٍ (اسْتَلْزَمَ مَحَلًّا مَوْجُودًا) لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ بِالْمَحَلِّ الْمَعْدُومِ (فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمَعْدُومِ) لَا أَحْسَنَ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ صِدْقَ اللَّا أَحْسَنَ عَلَى مَعْدُومَاتٍ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ أَحَدُ النَّقِيضَيْنِ سَلْبًا كَانَ الْآخَرُ وُجُودِيًّا ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَالْكَلَامُ فِي الْقُبْحِ كَالْكَلَامِ فِي الْحُسْنِ وَكَوْنُ الشَّيْءِ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى مَفْهُومِ الْمَوْصُوفِ وُجُودِيًّا مَعْنَى الْعَرَضِ ثُمَّ الْفَرْضُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ فَيَكُونُ قَائِمًا بِهِ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَحَلِّ الْفِعْلِ لَا لِلْفِعْلِ
(وَدُفِعَ) هَذَا الدَّلِيلُ (بِأَنَّ عَدَمِيَّةَ صُورَةِ السَّلْبِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ مَدْخُولِ الْبَاقِي وُجُودِيًّا وَإِثْبَاتُ وُجُودِيَّتِهِ) أَيْ مَدْخُولِ الْبَاقِي (بِعَدَمِيَّتِهَا) أَيْ صُورَةِ السَّلْبِ (دَوْرٌ وَعَلَيْهِ) أَيْ هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يُقَالَ (إنَّمَا أَثْبَتَهُ) أَيْ وُجُودَ مَدْخُولِ الْبَاقِي (بِاسْتِلْزَامِ مَحَلٍّ مَوْجُودٍ، ثُمَّ يَنْتَقِضُ) الدَّلِيلُ (بِإِمْكَانِ الْفِعْلِ وَنَحْوِهِ) كَامْتِنَاعِهِ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ قَدْ يَكُونُ ذَاتِيًّا لِلْفِعْلِ مَعَ إجْرَاءِ الدَّلِيلِ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ الْإِمْكَانُ ذَاتِيًّا لَزِمَ قِيَامُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى لِأَنَّ إمْكَانَ الْفِعْلِ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِهِ وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ تَعَقُّلِ الْفِعْلِ تَعَقُّلُهُ ثُمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا لِأَنَّ نَقِيضَهُ لَا إمْكَانَ وَهُوَ سَلْبٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَلْبًا لَاسْتَلْزَمَ مَحَلًّا مَوْجُودًا فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ضَرُورَةً (وَلَا يُنْتَقَضُ) هَذَا الدَّلِيلُ (بِاقْتِضَائِهِ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ فِعْلٌ بِحُسْنٍ شَرْعِيٍّ) لِلُزُومِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَإِنَّمَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ (لَيْسَ عَرَضًا
لِأَنَّهُ) أَيْ حُسْنَهُ (طَلَبُهُ تَعَالَى الْفِعْلَ) وَطَلَبُهُ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ وَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ لَا صِفَةٌ لَهُ (وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صُورَةَ السَّلْبِ قَدْ تَكُونُ وُجُودًا كَالَّلَامَعْدُومِ) إذْ مَعْنَاهُ كَوْنُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَعْدُومٍ (وَ) قَدْ تَكُونُ صُورَةُ السَّلْبِ (مُنْقَسِمًا) إلَى مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ (كَالَّلَا مُمْتَنِعٍ) فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ (وَلَوْ سُلِّمَ) أَنَّهُ لَوْ اتَّصَفَ بِأَحَدِهِمَا لِذَاتِهِ كَانَ الْعَرَضُ قَائِمًا بِالْعَرَضِ (فَقِيَامُ الْعَرَضِ) بِالْعَرَضِ (بِمَعْنَى النَّعْتِ) لِلْعَرَضِ (بِهِ) أَيْ بِالْعَرَضِ (غَيْرُ مُمْتَنِعٍ) بَلْ وَاقِعٌ كَاتِّصَافِ الْحَرَكَةِ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ (إذْ حَقِيقَتُهُ) أَيْ كَوْنِ الْعَرَضِ قَائِمًا بِالْعَرَضِ بِمَعْنَى النَّعْتِ بِهِ (عَدَمُ الْقِيَامِ) لِلْعَرَضِ بِالْعَرَضِ (خُصُوصًا وَحُسْنُ الْفِعْلِ مَعْنَوِيٌّ إذْ لَيْسَ الْمَحْسُوسُ سِوَى الْفِعْلِ قَالُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ (رَابِعًا فِعْلُ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيٌّ وَاتِّفَاقِيٌّ لِأَنَّهُ) أَيْ فِعْلَهُ إنْ كَانَ (بِلَا مُرَجِّحٍ) لِوُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ بَلْ كَانَ مِمَّا يَصْدُرُ عَنْهُ تَارَةً وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ أُخْرَى بِلَا تَجَدُّدِ أَمْرٍ فَهُوَ (الثَّانِي) أَيْ اتِّفَاقِيٌّ (وَبِهِ) أَيْ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ بِمُرَجِّحٍ لَهُ بِأَنْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَيْهِ (فَإِمَّا مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ) أَيْ كَوْنُ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْعَبْدِ (بَاطِلٌ لِلتَّسَلْسُلِ) لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ فِعْلٌ فَيَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ مِنْهُ وَهَلُمَّ جَرًّا (أَوْ) بِمُرَجِّحٍ (لَا مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْعَبْدِ (فَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْفِعْلُ مَعَهُ) أَيْ الْمُرَجِّحِ وَذَلِكَ (بِأَنْ صَحَّ تَرْكُهُ) أَيْ الْفِعْلِ كَمَا صَحَّ فِعْلُهُ (عَادَ التَّرْدِيدُ) وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ بِهِ وَمَا كَانَ بِهِ فَإِمَّا مِنْ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَأَيًّا مَا كَانَ يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ (وَإِنْ وَجَبَ) الْفِعْلُ مَعَهُ (فَاضْطِرَارِيٌّ وَلَا يَتَّصِفَانِ) أَيْ الِاضْطِرَارِيُّ وَالِاتِّفَاقِيُّ (بِهِمَا) أَيْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ اتِّفَاقًا (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلُ (مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ) أَيْ الْفِعْلَ (بِمُرَجِّحٍ مِنْهُ) أَيْ الْعَبْدِ (وَلَيْسَ الِاخْتِيَارُ بِآخَرَ) أَيْ بِاخْتِيَارٍ آخَرَ لِيَتَسَلْسَلَ (وَصُدُورُ الْفِعْلِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْمُرَجِّحِ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ لَا الْوُجُوبِ إلَّا أَبَا الْحُسَيْنِ وَلَوْ سُلِّمَ) أَنَّ الْمُرَجِّحَ مُوجِبٌ وُجُوبَ الْفِعْلِ (فَالْوُجُوبُ بِالِاخْتِيَارِ لَا يُوجِبُ الِاضْطِرَارَ الْمُنَافِيَ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ) وَصِحَّةِ التَّكْلِيفِ (وَدُفِعَ) هَذَا الدَّفْعُ بِأَنَّهُ (ثَبَتَ لُزُومُ الِانْتِهَاءِ إلَى مُرَجِّحٍ لَيْسَ مِنْ الْعَبْدِ يَجِبُ مَعَهُ الْفِعْلُ وَيَبْطُلُ اسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِهِ) أَيْ بِالْفِعْلِ (وَمِثْلُهُ) أَيْ هَذَا (عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ وَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ وَهُوَ) أَيْ دَفْعُ هَذَا الدَّفْعِ (رَدُّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ) لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ أَبَدًا بَلْ بِصِحَّتِهِ مَعَ الْمُرَجِّحِ وَلَا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ بِهِ بَلْ يَسْتَقِلُّ بِهِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ (وَلَا يَلْزَمُنَا) مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا (لِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِيَارِ) فِي الْفِعْلِ (عِنْدَنَا كَافٍ فِي الِاتِّصَافِ) أَيْ فِي اتِّصَافِهِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ
(وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ وَهَذَا الدَّفْعُ يَشْتَرِكُ بَيْنَ أَهْلِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ) وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَيْنِ الدَّوْلَةِ عَمَّنْ شَاهَدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ بُخَارَى (وَجَمْعٍ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَلَا يَنْتَهِضُ مِنْهُمْ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ (إذْ مَرْجِعُ نَظَرِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الْجَبْرُ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِلْعَبْدِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لَهُ) أَيْ لِلْعَبْدِ (فِيهِ) أَيْ الِاخْتِيَارِ (أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْكَسْبُ صَرْفُ الْقُدْرَةِ الْمَخْلُوقَةِ) لِلْعَبْدِ (إلَى الْقَصْدِ الْمُصَمِّمِ إلَى الْفِعْلِ) وَظَاهِرُ تَعَلُّقِ الْجَارِّ الْأَوَّلِ بِصَرْفِ الْقُدْرَةِ وَالْجَارِّ الثَّانِي بِالْقَصْدِ (فَأَثَرُهَا) أَيْ قُدْرَةِ اللَّهِ (فِي الْقَصْدِ وَيَخْلُقُ سُبْحَانَهُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ) أَيْ الْقَصْدِ (بِالْعَادَةِ فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ حَالًّا) أَيْ وَصْفًا (غَيْرَ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ) فِي نَفْسِهِ قَائِمًا بِمَوْجُودٍ (فَلَيْسَ) الْكَسْبُ (بِخَلْقٍ، وَعَلَيْهِ) أَيْ ثُبُوتِ الْحَالِ (جَمْعٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ) مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوَّلًا (وَعَلَى نَفْيِهِ) أَيْ الْحَالِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (فَكَذَلِكَ) أَيْ لَيْسَ الْكَسْبُ بِخَلْقٍ أَيْضًا (عَلَى مَا قِيلَ) أَيْ قَوْلِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ (الْخَلْقُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الْمَقْدُورُ لَا فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ) أَيْ لَا فِيمَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ (وَيَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِإِيجَادِ الْمَقْدُورِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالْكَسْبُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَقَعُ بِهِ) الْمَقْدُورُ (فِي مَحَلِّهَا) أَيْ الْقُدْرَةِ (وَلَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُ) أَيْ الْقَادِرِ (بِإِيجَادِهِ) أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَأَثَرُ الْخَالِقِ إيجَادُ الْفِعْلِ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ وَأَثَرُ الْكَاسِبِ صُنْعُهُ فِي فِعْلٍ قَائِمٍ بِهِ فَحَرَكَةُ زَيْدٍ مَثَلًا وَقَعَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ وَهُوَ زَيْدٌ
وَوَقَعَتْ بِكَسْبِ زَيْدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ قُدْرَةُ زَيْدٍ وَهُوَ نَفْسُ زَيْدٍ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْخَلْقِ بِالْإِنْشَاءِ وَالِاخْتِرَاعِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَعَنْ الْكَسْبِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى ظُهُورِ ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى الْجَوَارِحِ وَمِنْ هُنَا رَسَمَ بِظُهُورِ أَثَرِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ (وَلَوْ بَطَلَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ) بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ (عَلَى تَعَذُّرِهِ) أَيْ بُطْلَانِهَا (وَجَبَ تَخْصِيصُ الْقَصْدِ الْمُصَمَّمِ مِنْ عُمُومِ الْخَلْقِ بِالْعَقْلِ)
وَإِنَّمَا وَجَبَ تَخْصِيصُهُ مِنْ عُمُومِ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ كَوْنَ الْقَصْدِ الْمُصَمَّمِ مَخْلُوقًا لِلْعَبْدِ (أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَائِدَةُ خَلْقِ الْقُدْرَةِ) الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِلْعَبْدِ وَيَنْتَفِي بِهِ الْجَبْرُ (وَيُتَّجَهُ بِهِ حُسْنُ التَّكْلِيفِ الْمُسْتَعْقِبِ الْعِقَابَ بِالتَّرْكِ وَالثَّوَابِ بِالْفِعْلِ قَالُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ (خَامِسًا لَوْ حَسُنَ) الْفِعْلُ (لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ أَوْ اعْتِبَارٍ لَمْ يَكُنْ الْبَارِي سبحانه وتعالى مُخْتَارًا فِي الْحُكْمِ) وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ (يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الصِّفَةِ) لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ الْمَعْقُولُ قَبِيحٌ لَا يَصِحُّ مِنْ الْبَارِي وَفِي التَّعَيُّنِ نَفْيُ الِاخْتِيَارِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلُ (وَجْهٌ عَامٌّ) لِرَدِّ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُمْ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ (وَلَا يَلْزَمُنَا) مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحُكْمَ (إذَا كَانَ قَدِيمًا عِنْدَنَا) كَمَا عِنْدَكُمْ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ النَّفْسِيُّ (كَيْفَ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا فَهُوَ إلْزَامِيٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَدْفُوعٌ عَنْهُمْ بِأَنَّ غَايَتَهُ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ (أَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي مُوَافَقَةِ تَعَلُّقِ حُكْمِهِ لِلْحِكْمَةِ وَذَلِكَ) الِاخْتِيَارُ فِي هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ (لَا يُوجِبُ اضْطِرَارَهُ) تَعَالَى لِلْحُكْمِ (وَلَنَا فِي الثَّانِي) أَيْ عَدَمِ اسْتِلْزَامِ اتِّصَافِ الْفِعْلِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ (لَوْ تَعَلَّقَ) الْحُكْمُ بِالْفِعْلِ الْمُتَّصِفِ بِالْحُسْنِ (قَبْلَ الْبِعْثَةِ لَزِمَ التَّعْذِيبُ بِتَرْكِهِ) أَيْ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْحُكْمُ (فِي الْجُمْلَةِ) كَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهِ الْعَفْوُ (وَهُوَ) أَيْ التَّعْذِيبُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ (مُنْتَفٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] قِيلَ أَيْ وَلَا مُثِيبِينَ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الثَّوَابِ بِذَكَرِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَى التَّكْلِيفِ (وَتَخْصِيصُهُ) أَيْ الْعَذَابِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَمَا جَرَى لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ أَوْ بِمَا عَدَا الْإِيمَانِ مِنْ الشَّرَائِعِ تَخْصِيصٌ (بِلَا دَلِيلٍ) يُعَيِّنُهُ وَمِنْ الظَّاهِرِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْعَقْلَ (وَنَفْيُ التَّعْذِيبِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيَ التَّكْلِيفِ) قَطْعًا (عِنْدَ أَبِي مَنْصُورٍ) وَمُوَافِقِيهِ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عِنْدَهُمْ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِتَرْكِ مَا كُلِّفَ بِهِ (خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ) فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ قَطْعًا لِعَدَمِ تَجْوِيزِهِمْ الْعَفْوَ عَنْهُ بِتَرْكِ مَا كُلِّفَ بِهِ (لَكِنَّهُ) أَيْ نَفْيَ التَّعْذِيبِ وَالْأَحْسَنِ فَهُوَ (يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ نَفْيَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ أَبِي مَنْصُورٍ (فِي الْجُمْلَةِ) يَعْنِي وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ بَعْضِهَا (وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ) التَّعْذِيبُ (فِي مُعَيَّنٍ) مِنْ تِلْكَ التَّكْلِيفَاتِ (فَنَفْيُهُ) أَيْ التَّعْذِيبِ (مُطْلَقًا) إنَّمَا هُوَ (لِنَفْيِهِ) أَيْ التَّكْلِيفِ
(وَأَيْضًا {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} [طه: 134] الْآيَةُ) أَيْ {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَمْ يَرُدَّ عُذْرَهُمْ وَأَرْسَلَ) إلَيْهِمْ (كَيْ لَا يَعْتَذِرُوا بِهِ) أَيْ بِعَدَمِ إرْسَالِهِ (وَأَيْضًا {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحُجَّةِ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَيُفِيدُ أَمْنَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ وَهُوَ مُوجِبٌ عَدَمَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَصْلًا لِكَوْنِ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْعَذَابِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ مُطْلَقًا (قَالُوا) أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ (لَوْ لَمْ يَثْبُتْ) حُكْمٌ مَا إلَّا بِالشَّرْعِ (لَزِمَ إفْحَامُ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ عَجْزُهُمْ عَنْ إثْبَاتِ الْبَعْثَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَأَتَى بِالْمُعْجِزِ فَحِينَئِذٍ (إذَا قَالَ) النَّبِيُّ لِلْمَبْعُوثِ إلَيْهِ (اُنْظُرْ) فِي مُعْجِزِي (لِتَعْلَمَ) صِدْقِي (قَالَ لَا أَنْظُرُ) فِيهِ (مَا لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ) أَيْ وُجُوبُ النَّظَرِ (عَلَيَّ) إذْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ (وَلَا يَثْبُتُ) الْوُجُوبُ عَلَى (مَا لَمْ أَنْظُرْ) فِي مُعْجِزِكَ إذْ لَا وُجُوبَ بِالْفَرْضِ إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ النَّظَرِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الشَّرْعِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ كُلٌّ مِنْ النَّظَرِ وَوُجُوبِهِ عَلَى الْآخَرِ (أَوْ) قَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ وَهِيَ لَا يَجِبُ النَّظَرُ عَلَى (مَا لَمْ يَثْبُتْ الشَّرْعُ إلَى آخِرِهِ)
أَيْ وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ حَتَّى أَنْظُرَ وَأَنَا لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حَقًّا وَلَا سَبِيلَ لِلنَّبِيِّ إلَى دَفْعِهِ وَإِفْحَامُهُ بَاطِلٌ فَبَطَلَ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ عَقْلِيًّا إذْ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا إجْمَاعًا (وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَثْبُتُ إلَى آخِرِهِ) أَيْ الْوُجُوبِ عَلَى مَا لَمْ أَنْظُرْ وَمَا لَمْ أَنْظُرْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَيَّ (بَاطِلٌ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (بِالشَّرْعِ) نَظَرَ أَوْ لَا ثَبَتَ الشَّرْعُ أَوْ لَا لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوْ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُجُوبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ ضَرُورَةَ مُطَابِقَتِهِ إيَّاهُ وَأَيْضًا مَتَى ظَهَرَتْ الْمُعْجِزَةُ فِي نَفْسِهَا وَكَانَ صِدْقُ النَّبِيِّ فِيمَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا وَالْمَدْعُوّ مُتَمَكِّنًا مِنْ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ وَثَبَتَ وَالْمَدْعُوّ مُفْرِطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَمَّا أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِالْوُجُوبِ لِلْغَافِلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلضَّرُورَةِ أَشَارَ إلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ) وُجُوبُ النَّظَرِ قَبْلَ النَّظَرِ وَثُبُوتُ الشَّرْعِ عِنْدَهُ (تَكْلِيفُ غَافِلٍ بَعْدَ فَهْمِ مَا خُوطِبَ بِهِ) وَلَمْ يُصَدِّقْ بِهِ لِيَحْتَاجَ إلَى هَذَا الْجَوَابِ الْمَرْدُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ كَالصِّبْيَانِ أَوْ يَفْهَمُ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ كَاَلَّذِي لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دَعْوَةُ نَبِيٍّ (وَمَا قِيلَ) أَيْ وَمَا اخْتَصَّ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ (تَصْدِيقُ مَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ) بِدَعْوَاهُ إيَّاهَا وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهَا (فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ) عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ التَّكَالِيفِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ (وَاجِبٌ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَجِبْ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ (انْتَفَتْ فَائِدَةُ الْبَعْثَةِ) وَانْتِفَاءُ فَائِدَتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُنْتَفٍ وَحِينَئِذٍ (فَإِمَّا) وُجُوبُ التَّصْدِيقِ (بِالشَّرْعِ فَبِنَصٍّ) أَيْ فَمُعَرِّفٍ وُجُوبَ تَصْدِيقِهِ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا وَحِينَئِذٍ (فَوُجُوبُ تَصْدِيقِ) هَذَا الْإِخْبَارِ (الثَّانِي) الَّذِي هُوَ النَّصُّ الْمُتَوَقِّفُ وُجُوبُ تَصْدِيقِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ (لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ) لِئَلَّا يَلْزَمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ وَتَقَدُّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَصْدِيقُهُ بِغَيْرِهِ حِينَئِذٍ (فَأَمَّا بِالْأَوَّلِ) أَيْ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ (فَيَدُورُ أَوْ بِثَالِثٍ) أَيْ أَوْ بِنَصٍّ ثَالِثٍ وَالثَّالِثُ بِرَابِعٍ وَهَلُمَّ جَرًّا (فَيَتَسَلْسَلُ) وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ (فَهُوَ) أَيْ وُجُوبُ تَصْدِيقِهِ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ (بِالْعَقْلِ) وَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ عَقْلًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ حَرَامًا فَيَكُونُ قَبِيحًا عَقْلًا (وَكَذَا وُجُوبُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ) أَيْ الشَّارِعِ (لَوْ) كَانَ (بِالشَّرْعِ تَوَقَّفَ) وُجُوبُهُ (عَلَى الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ) الَّذِي هُوَ نَصٌّ ثَانٍ عَلَى ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ
(فَوُجُوبُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ) الَّذِي هُوَ النَّصُّ الثَّانِي (إنْ كَانَ بِالْأَوَّلِ دَارَ وَإِلَّا) إنْ كَانَ بِثَالِثٍ وَالثَّالِثُ بِرَابِعٍ وَهَلُمَّ جَرًّا (تَسَلْسَلَ) وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ فَوُجُوبُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ وَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحُسْنِ عَقْلًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ حَرَامًا فَيَكُونُ قَبِيحًا فَمَا قِيلَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (فَجَوَابُهُ) كَمَا هُوَ مُخْتَصَرُ مَا فِي التَّلْوِيحِ (أَنَّ اللَّازِمَ) مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ (جَزْمُ الْعَقْلِ بِصِدْقِهِ) أَيْ النَّبِيِّ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ وَبِوُجُوبِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ (اسْتِنْبَاطًا مِنْ دَلِيلِهَا) أَيْ تَصْدِيقَاتِ إخْبَارَاتِهِ وَوُجُوبَاتِ امْتِثَالَاتِ أَوَامِرِهِ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدَيْهِ (فَأَيْنَ الْوُجُوبُ عَقْلًا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ بَلْ يَتَوَقَّفُ) الْوُجُوبُ عَقْلًا بِهَذَا الْمَعْنَى (عَلَى نَصٍّ) وَعِبَارَةُ التَّلْوِيحِ وَأَمَّا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآجِلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَحْرُمُ كَذِبُهُ أَوْ يَحْكُمُ اللَّهُ الْقَدِيرُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ظُهُورَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكَلُّمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ انْتَهَتْ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ابْتِدَاءُ وُجُوبِ التَّصْدِيقِ وَحُرْمَةُ الْكَذِبِ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ الْمَذْكُورِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا شَرْعًا بِنَصِّ الشَّارِعِ سَوَاءٌ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا مَرَّ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِدَلِيلِهِ الْمَنْصُوصِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَا نَصَّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ
سِوَى إظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لِصِدْقِ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ لَيْسَ بِنَصٍّ بِمَعْنَى خِطَابِ الشَّارِعِ الْمُوجِبِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا وَلَا خَفَاءَ أَنَّ إثْبَاتَ الْمُعْجِزَةِ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُعْجِزَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَأَيْضًا نَحْنُ نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ ثُمَّ كَذَبَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ قَصْدًا بِلَا تَعْرِيضٍ مُدَّعِيًا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنَازِعَ فِي مِثْلِهِ مُكَابِرٌ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَلَى طَرَفٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قَالُوا) : أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ
(ثَانِيًا) وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمُوَافِقِيهِ أَيْضًا نَحْنُ (نَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَقْبُحُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَارِفِ بِذَاتِهِ الْمُنَزَّهَةِ وَصِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَرَدِّ شَرْعٍ أَوْ لَا فَيَحْرُمُ عَقْلًا) أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ (أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَطْعَ) الْمَذْكُورَ (لِمَا رَكَزَ فِي النُّفُوسِ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ تَنْقَطِعْ مُنْذُ بَعْثَةِ آدَمَ فَتَوَهَّمَ) بِهَذَا السَّبَبِ (أَنَّهُ) أَيْ الْقَطْعَ الْمَذْكُورَ (بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ) ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَّصِفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِخَارِجٍ وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ قَالَ (وَعَلَى أَصْلِنَا ثُبُوتُ الْقُبْحِ) لِلْفِعْلِ (فِي الْعَقْلِ) أَيْ عِنْدَ الْعَقْلِ (وَعِنْدَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَلْزِمُ عَقْلًا تَكْلِيفُهُ) بِمَنْعِهِ مِنْ الْفِعْلِ (بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ تَعَالَى تَرْكُهُ) أَيْ تَرْكُ تَكْلِيفِهِ (وَلِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الثَّالِثِ) أَيْ امْتِنَاعِ تَعْذِيبِ الطَّائِعِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَنَّهُ (ثَبَتَ بِالْقَاطِعِ اتِّصَافُ الْفِعْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ) أَيْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى (بِهِ) أَيْ بِالْقُبْحِ (تَعَالَى) اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (وَأَيْضًا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِدَرْكِهِمَا) أَيْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (بِمَعْنَى صِفَةِ الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ عَلَى مَا مَرَّ فَبِالضَّرُورَةِ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى (مَا أَدْرَكَ فِيهِ نَقْصٌ وَحِينَئِذٍ) أَيْ وَحِينَ كَانَ مُسْتَحِيلًا عَلَيْهِ مَا أَدْرَكَ فِيهِ نَقْصٌ (ظَهَرَ الْقَطْعُ بِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى (بِالْكَذِبِ وَنَحْوِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا) لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ اتِّصَافُ فِعْلِهِ بِالْقُبْحِ (يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ عَنْ صِدْقِ وَعْدِهِ وَ) صِدْقِ (خَبَرِ غَيْرِهِ) أَيْ الْوَعْدِ مِنْهُ تَعَالَى (وَ) صِدْقِ (النُّبُوَّةِ) أَيْ لَمْ يَجْزِمْ بِصِدْقِهِ أَصْلًا لَا عَقْلًا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا شَرْعًا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالسَّمْعِ لِأَنَّ حُجِّيَّةَ السَّمْعِ بَلْ ثُبُوتُهُ فَرْعُ صِدْقِهِ تَعَالَى إذْ لَوْ جَازَ كَذِبُهُ لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُ لِلنَّبِيِّ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ هَذَا صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ
وَإِذَا كَانَ السَّمْعُ مُتَوَقِّفًا عَلَى صِدْقِهِ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهُ بِهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَجْزِمَ أَيْضًا بِصِدْقِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ أَصْلًا لِجَوَازِ إظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ فَيَنْسَدُّ بَابُ النُّبُوَّةِ وَأَنْ يَرْفَعَ الثِّقَةَ عَنْ كَلَامِهِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يُفْرِدْ الْوَعِيدَ بِالذِّكْرِ كَمَا أَفْرَدَ الْوَعْدَ إمَّا اكْتِفَاءً بِدُخُولِهِ فِي خَبَرِ غَيْرِهِ وَإِمَّا مُوَافَقَةً لِلْأَشَاعِرَةِ فِي جَوَازِ الْخُلْفِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ نَقْصًا بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي حَلْبَةِ الْمُجِلِّي وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَخَبَرُ غَيْرِهِ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَاهُ (وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ كَسَائِرِ الْخَلْقِ الْقَطْعُ بِعَدَمِ اتِّصَافِهِ) تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ الْقَبَائِحِ (دُونَ الِاسْتِحَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَسَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي يُقْطَعُ فِيهَا بِأَنَّ الْوَاقِعَ أَحَدُ النَّقِيضَيْنِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحَالَةِ الْآخَرِ لَوْ قُدِّرَ) أَنَّهُ الْوَاقِعُ (كَالْقَطْعِ بِمَكَّةَ وَبَغْدَادَ) أَيْ بِوُجُودِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يُحِيلُ عَدَمُهُمَا عَقْلًا (وَحِينَئِذٍ) أَيْ وَحِينَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا (لَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْأَمَانِ) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الشَّيْءِ عَقْلًا عَدَمُ الْجَزْمِ بِعَدَمِهِ (وَالْخِلَافُ) الْجَارِي فِي الِاسْتِحَالَةِ وَالْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ لِهَذَا (جَارٍ فِي كُلِّ نَقِيصَةٍ أَقُدْرَتُهُ) تَعَالَى (عَلَيْهَا مَسْلُوبَةٌ أَمْ هِيَ) أَيْ النَّقِيصَةُ (بِهَا) أَيْ بِقُدْرَتِهِ (مَشْمُولَةٌ وَالْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ) أَيْ وَالْحَالُ الْقَطْعُ بِعَدَمِ فِعْلِ تِلْكَ النَّقِيصَةِ (وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَيْهَا مَسْلُوبَةٌ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِالْمُحَالَّاتِ (وَعَلَيْهِ فَرَّعُوا امْتِنَاعَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَ) وَامْتِنَاعَ (تَعْذِيبِ الطَّائِعِ) وَلَفْظُهُ فِي الْمُسَايَرَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمَّا اسْتَحَالُوا عَلَيْهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ فَهُمْ لِتَعْذِيبِ الْمُحْسِنِ الَّذِي اسْتَغْرَقَ عُمْرَهُ فِي الطَّاعَةِ مُخَالِفًا لِهَوَى نَفْسِهِ فِي رِضَا مَوْلَاهُ أَمْنَعُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّنْزِيهَاتِ إذْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ
الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحِكْمَةِ فِي فِطَرِ سَائِرِ الْعُقُولِ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُبْحِهِ حَيْثُ قَالَ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] فَجَعَلَهُ سَيِّئًا هَذَا فِي التَّجْوِيزِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ أَمَّا الْوُقُوعُ فَمَقْطُوعٌ بِعَدَمِهِ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لِلْوَعْدِ بِخِلَافِهِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لِذَلِكَ وَلِقُبْحِ خِلَافِهِ
(وَذَكَرْنَا فِي الْمُسَايَرَةِ) بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ (أَنَّ الثَّانِي) أَيْ أَنَّهُ يُقَدَّرُ وَلَا يُفْعَلُ قَطْعًا (أَدْخَلَ فِي التَّنْزِيهِ) فَإِنَّ الَّذِي فِي الْمُسَايَرَةِ ثُمَّ قَالَ يَعْنِي صَاحِبَ الْعُمْدَةِ مِنْ مَشَايِخِنَا وَلَا يُوصَفُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالسَّفَهِ وَالْكَذِبِ لِأَنَّ الْمُحَالَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقْدِرُ وَلَا يَفْعَلُ اهـ وَلَا شَكَّ أَنَّ سَلْبَ الْقُدْرَةِ عَمَّا ذَكَرَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا ثُبُوتُهَا ثُمَّ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُتَعَلِّقِهَا فَبِمَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ أَلْيَقُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْهَا مِنْ بَابِ التَّنْزِيهَاتِ فَيَسْبُرُ الْعَقْلُ فِي أَنَّ أَيْ الْفَصْلَيْنِ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ عَنْ الْفَحْشَاءِ أَهْوَ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ مَعَ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُخْتَارًا أَوْ الِامْتِنَاعُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِأَدْخَلِ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّنْزِيهِ اهـ (هَذَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ قَائِلٌ هُوَ) أَيْ النِّزَاعُ بَيْنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ (لَفْظِيٌّ فَقَوْلُ الْأَشَاعِرَةِ هُوَ إنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ الْعَقْلُ كَوْنَ مَنْ اتَّصَفَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْمِلْكِ لِكُلِّ شَيْءٍ مُتَّصِفًا بِالْجَوْرِ وَمَا لَا يَنْبَغِي إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ مَالِكٌ جَائِرٌ وَلَا يُحِيلُ الْعَقْلَ وُجُودُ مَالِكٍ كَذَلِكَ) أَيْ جَائِرٌ (وَلَا يَسَعُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إنْكَارَهُ وَقَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ (يَسْتَحِيلُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قُطِعَ بِهِ مِنْ ثُبُوتِ اتِّصَافِ هَذَا الْعَزِيزُ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ الْإِلَهُ بِأَقْصَى كَمَالَاتِ الصِّفَاتِ) وَظَاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِأَقْصَى مُتَعَلِّقٌ بِاتِّصَافٍ (مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْحِكْمَةِ إذْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فَلِحَظِّهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (إثْبَاتُ الضَّرُورَةِ) فِي عَدَمِ تَجْوِيزِهِمْ ذَلِكَ (بِشَرْطِ الْمَحْمُولِ فِي الْمُتَّصِفِ الْخَارِجِيِّ) أَيْ الْإِلَهِ الْمُتَّصِفِ بِأَقْصَى كَمَالَاتِ الصِّفَاتِ
(وَالْأَشْعَرِيَّةُ بِالنَّظَرِ إلَى مُجَرَّدِ مَفْهُومِ إلَهٍ وَمَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ) ثُمَّ لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْأَشَاعِرَةِ بِذِكْرِ مَسْأَلَتَيْنِ هُنَا حَاصِلُهُمَا إثْبَاتُ تَعَلُّقِ حُكْمِهِ تَعَالَى بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَكَانَ اللَّائِقُ ظَاهِرًا أَنْ يُورِدَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَعَ الْأَشَاعِرَةِ فِي إبْطَالِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَمْ يُورِدْهُمَا كَذَلِكَ بَلْ أَوْرَدَهُمَا عَلَى وَفْقِ كَلَامِهِمْ لِيُبَيِّنَ مَا فِيهِ مَهْدُ الْعُذْرِ أَوَّلًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ (وَاسْتَمَرَّ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ تَنَزَّلُوا إلَى اتِّصَافِ الْفِعْلِ) بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (وَيُبْطِلُوا مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى التَّنَزُّلِ وَنَحْنُ وَإِنْ سَاعَدْنَاهُمْ عَلَى نَفْي التَّعَلُّقِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَكُنَّا نُورِدُ كَلَامَهُمْ لِمَا فِيهِ) الْمَسْأَلَةِ (الْأُولَى شُكْرُ الْمُنْعِمِ) أَيْ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا خَلَقَ لِأَجْلِهِ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَى مُشَاهَدَةِ مَصْنُوعَاتِهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى صَانِعِهَا وَالسَّمْعِ إلَى تَلَقِّي أَوَامِرِهِ وَإِنْذَارَاتِهِ وَاللِّسَانِ إلَى التَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَى مُوَلِّيهَا وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قِيلَ وَهَذَا مَعْنَى الشُّكْرِ حَيْثُ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلِهَذَا وَصَفَ الشَّاكِرِينَ بِالْقِلَّةِ فَقَالَ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13](لَيْسَ وَاجِبًا عَقْلًا لِأَنَّهُ) أَيْ الشُّكْرَ (لَوْ وَجَبَ) بِالْعَقْلِ (فَلِفَائِدَةٍ لِبُطْلَانِ الْعَبَثِ) لِقُبْحِهِ وَإِذْ كَانَ لِفَائِدَةٍ (فَإِمَّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ وَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ (بَاطِلَةٌ لِتَعَالِيهِ) أَيْ اللَّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى (وَالْمَشَقَّةِ فِي الدُّنْيَا) لِأَنَّ مِنْ شُكْرِهِ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ مَشَقَّةٌ وَتَعَبٌ نَاجِزٌ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا (وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ) لِأَنَّهَا مِنْ الْغَيْبِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ لِلْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ
(وَانْفَصَلَ الْمُعْتَزِلَةُ) عَنْ هَذَا الِالْتِزَامِ بِأَنَّهُ لِفَائِدَةٍ (ثُمَّ أَبَانَهَا) لِلْعَبْدِ (فِي الدُّنْيَا وَهِيَ دَفْعُ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ لِلُزُومِ خُطُورِ مُطَالَبَةِ الْمَلِكِ الْمُنْعِمِ بِالشُّكْرِ) عَلَى نِعَمِهِ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ الْعِقَابِ إلَّا بِالشُّكْرِ وَالْأَمْنُ مِنْ الْعِقَابِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ وَأَوْفَرِ الْحُظُوظِ إذْ الْفَائِدَةُ كَمَا تَكُونُ جَلْبَ نَفْعٍ تَكُونُ دَفْعَ ضَرَرٍ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَبٌ نَاجِزٌ (وَمَنَعَ الْأَشْعَرِيَّةُ لُزُومَ الْخُطُورِ) عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ الشُّكْرِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ لِتَسَلُّطِ الْمَنْعِ عَلَى لُزُومِ الْخُطُورِ الْمَذْكُورِ بِبَالِ كُلِّ عَاقِلٍ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِهِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ بِشَهَادَةِ أَحْوَالِهِمْ وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِتَسْلِيمِ الْخُطُورِ لِلْبَعْضِ لِإِيجَابِهِمْ الشُّكْرَ عَلَى الْكُلِّ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ) لِلُزُومِ الْخُطُورِ الْمَذْكُورِ لِلْكُلِّ (فَمُعَارَضٌ بِأَنَّهُ) أَيْ شُكْرَ الْعَبْدِ
(تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ) بِالْأَتْعَابِ بِالْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ الشَّاقَّةِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ فَإِنَّ مَا يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى (وَبِأَنَّهُ) أَيْ شُكْرَ الْعَبْدِ النِّعْمَةَ (يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ) فَإِنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ قَدْ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلنِّعْمَةِ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَمْلَكَةِ الْمُنْعِمِ وَعَظَمَتِهِ ثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمُنْعِمِ وَنِعَمِ اللَّهِ الْفَائِضَةِ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْوُجُودِ وَالْقُوَى وَغَيْرِهَا لَيْسَ لَهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَالشُّكْرُ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ لِأَجْلِهَا لَا يَلِيقُ بِكِبْرِيَائِهِ وَمَا مَثَلُهُ إلَّا كَمَثَلِ فَقِيرٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ مَلِكٌ مَلَكَ الْبِلَادَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَعَمّ الْعِبَادَ وَهْبًا وَنَهْبًا بِلُقْمَةِ خُبْزٍ فَطَفِقَ يَذْكُرُهَا فِي الْمَجَامِعِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا بِتَحْرِيكِ أُنْمُلَتِهِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا مِنْ الْفَقِيرِ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمَلِكِ وَيُعَدُّ اسْتِهْزَاءً مِنْهُ فَكَذَا شُكْرُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَلَالِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ بَلْ اللُّقْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلِكِ وَمَا يَمْلِكُهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَمَا يَمْلِكُهُ الْمَلِكُ مُتَنَاهٍ
وَشُكْرُ الْعَبْدِ بِفِعْلِهِ أَقَلُّ قَدْرًا فِي جَنْبِ اللَّهِ مِنْ شُكْرِ الْفَقِيرِ بِتَحْرِيكِ أُصْبُعِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقَعُ لَائِقًا بِجَنَابِ الْجَبَرُوتِ فَيَكُونُ تَرْكُ الشُّكْرِ وَاجِبًا قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَقَدْ طَالَ رَوَاجُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى تَهَافُتِهَا) أَيْ مَعَ سُقُوطِهَا بَيْنَهُمْ (فَإِنَّ الْحُكْمَ بِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ) بِالْفِعْلِ عَقْلًا (تَابِعٌ لِعَقْلِيَّةِ مَا فِي الْفِعْلِ) مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (فَإِذَا عَقَلَ فِيهِ حُسْنَ) صِفَتِهِ أَنَّهُ (يَلْزَمُ بِتَرْكِ مَا) أَيْ الْفِعْلِ الَّذِي (هُوَ) أَيْ الْحَسَنُ (فِيهِ الْقُبْحُ كَحُسْنِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُسْتَلْزِمِ تَرْكُهُ) أَيْ شُكْرُهُ (قُبْحَ الْكُفْرَانِ بِالضَّرُورَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ) الْعَقْلُ (حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ الشُّكْرِ قَطْعًا وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ) عَقْلًا (بِلَا مَرَدٍّ لَمْ يَبْقَ لَنَا حَاجَةٌ فِي تَعْيِينِ فَائِدَةٍ بَلْ نَقْطَعُ بِثُبُوتِهَا) أَيْ الْفَائِدَةِ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عُلِمَ عَيْنُهَا أَوْ لَا) عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ رحمه الله: وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا قَبِيحٌ بَلْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ مَنْ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ أَمَّا مَنْ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْقُبْحِ وَلِهَذَا يَحْسُنُ مِنَّا الِاسْتِظْلَالُ بِحَائِطِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِصْبَاحُ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَالنَّظَرُ فِي مِرْآتِهِ لِحُصُولِ النَّفْعِ الْخَالِي عَنْ الضَّرَرِ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ حَاصِلٌ دَلَالَةً لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَبِيدُهُ مُضْطَرِّينَ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الطَّعَامِ وَبِحَارُ الشَّرَابِ لَا يَنْقُصُ مِنْ خَزَائِنِهِ شَيْءٌ فَالْعَادَةُ تَحْكُمُ بِالْإِذْنِ بِالتَّنَاوُلِ مِنْهَا كَيْ لَا يَهْلَكُوا بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ وَنِعَمُ اللَّهِ فِي ذَاتِهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَإِيجَادِ الْإِنْسَانِ بِقُوَاهُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ لَوْ اجْتَمَعَ الْخَلَائِقُ عَلَى تَحْصِيلِ وَاحِدٍ مِنْهَا لَعَجَزُوا فَالشُّكْرُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ لَا يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً وَكَوْنُهَا قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْدَحُ فِي عِظَمِهَا فِي ذَاتِهَا وَبِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَلَيْسَ هَذَا كَشُكْرِ الْمَلِكِ عَلَى لُقْمَةِ خُبْزٍ لِأَنَّ اللُّقْمَةَ حَقِيرَةٌ فِي الْعُرْفِ يَقْدِرُ عَلَى إعْطَاءِ أَمْثَالِهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فَكَانَ شُكْرُهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً وَلَيْسَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ كَذَلِكَ اهـ وَأَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو هَاشِمٍ: النِّعْمَةُ إذَا كَانَ لَهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَاجَاتِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِ النِّعَمِ لَا يُعَدُّ شُكْرُهَا اسْتِهْزَاءً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى مِلْكٌ يَمْلِكُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ فَقِيرًا مِائَةَ دِينَارٍ وَتَنْقَضِي حَاجَاتُهُ فِي سَنَةٍ بِهَا اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَهُ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خَزَائِنِ الْمَلِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(وَلَوْ مَنَعُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ (اتِّصَافَ الشُّكْرِ) بِالْحُسْنِ (وَالْكُفْرَانِ) بِالْقُبْحِ (لَمْ تَصِرْ مَسْأَلَةٌ عَلَى التَّنَزُّلِ) لِانْتِفَائِهِ بِمَنْعِ الِاتِّصَافِ (وَكَذَا انْفِصَالُ الْمُعْتَزِلَةِ) الْمَذْكُورُ يَمْنَعُ صَيْرُورَتَهَا مَسْأَلَةً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (فَإِنَّ دَفْعَ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ) عَلَى التَّرْكِ (إنَّمَا يَصِحُّ حَامِلًا عَلَى الْعَمَلِ) الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ (وَهُوَ) أَيْ الْخَوْفُ (بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ) لِلشُّكْرِ (بِطَرِيقِهِ) أَيْ الْعِلْمِ (وَهُوَ) أَيْ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ بِطَرِيقِهِ هُوَ (الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ وَتَسْلِيمُ لُزُومِ الْخُطُورِ وَمُعَارَضَتِهِمْ) أَيْ الْأَشَاعِرَةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ (بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إلْزَامِيٌّ) مِنْ الْأَشَاعِرَةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ (إذْ اعْتَرَفُوا) أَيْ الْأَشَاعِرَةُ (فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ حُرْمَتَهُ) أَيْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ (لَيْسَتْ عَقْلِيَّةً وَأَمَّا) مُعَارَضَتُهُمْ (بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ فَيُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ) لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَيْفَ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ شَاكِرٌ حَقِيقَةً وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَعْظِيمِ الْبَاطِنِ وَخَفْضِ الْجُنَاحِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ
انْسِدَادُ بَابِ الشُّكْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِتَطَابُقِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ ثُمَّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ حَنَفِيَّةِ بُخَارَى قَالُوا بِقَوْلِ الْأَشَاعِرَةِ فِي عَدَمِ نِسْبَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ لِلْعَقْلِ وَقَدْ تَهَافَتَ دَلِيلُهُمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يَذْكُرَ لِأَصْحَابِنَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ (وَالْوَجْهُ فِيهِ) أَيْ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِلْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَنَّهُ (لَا طَرِيقَ لِلْعَقْلِ إلَى الْحُكْمِ بِحُدُوثِ مَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالسَّمْعِ) فِي الْمَسْمُوعَاتِ (أَوْ الْبَصَرِ) فِي الْمُبْصَرَاتِ (وَالْفَرْضُ انْتِفَاؤُهُمَا) أَيْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ (فِي تَعَلُّقِ حُكْمِهِ) تَعَالَى بِالْفِعْلِ (وَدَرْكِ مَا فِي الْفِعْلِ) مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ (غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ) تَكْلِيفَهُ بِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ (إلَّا لَوْ كَانَ تَرْكُ تَكْلِيفِهِ تَعَالَى يُوجِبُ نَقْصَهُ تَعَالَى وَهُوَ مَمْنُوعٌ) قَطْعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
الْمَسْأَلَةُ (الثَّانِيَةُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةُ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ) إذْ هِيَ مَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا كَأَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَيُقَابِلُهَا الِاضْطِرَارِيَّةُ وَهِيَ مَا لَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا كَالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ وَكَانَتْ وَاقِعَةً (قَبْلَ الْبَعْثَةِ إنْ أَدْرَكَ فِيهَا جِهَةً مُحَسِّنَةً أَوْ مُقَبِّحَةً فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْسِيمِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ) مِنْ أَنَّ الْمُدْرِكَ إمَّا حُسْنُ فِعْلٍ بِحَيْثُ يَقْبُحُ تَرْكُهُ فَوَاجِبٌ وَإِلَّا فَمَنْدُوبٌ أَوْ تَرْكٌ عَلَى وِزَانِهِ فَحَرَامٌ وَمَكْرُوهٌ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُدْرِك فِيهَا جِهَةً مُحَسِّنَةً وَلَا مُقَبِّحَةً (فَلَهُمْ) أَيْ لِلْمُعْتَزِلَةِ (فِيهَا) أَيْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ (الْإِبَاحَةُ) أَيْ عَدَمُ الْحَرَجِ وَهُوَ قَوْلُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ لَا سِيَّمَا الْعِرَاقِيِّينَ قَالُوا: وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ هَدَّدَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ بِقَوْلِهِ: خِفْت أَنْ يَكُونَ آثِمًا لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ لَمْ يَحْرُمَا إلَّا بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا فَجَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَالْحُرْمَةُ تُعَارِضُ النَّهْيَ (وَالْحَظْرُ) أَيْ الْحُرْمَةُ وَثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْوَقْفُ) وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورِ الْمَاتُرِيدِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ تَفْسِيرِهِ (وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ) أَيْ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ أَنْ يُقَالَ (إنَّ الْحُكْمَ بِتَعَلُّقِ) حُكْمٍ (مُعَيَّنٍ) لِفِعْلٍ عَقْلًا (فَرْعُ مَعْرِفَةِ حَالِ الْفِعْلِ) لَهُ
فَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَكَيْفَ يُعْرَفُ حُكْمُهُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ (فَإِذَا قَالَ الْمُبِيحُ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ الْحَصْرِ) لَعَلَّهُ يُرِيدُ فِي الْمَحْظُورِ وَالْمُبَاحِ (خَلَقَ) اللَّهُ (الْعَبْدَ وَمَا يَنْفَعُهُ) مِنْ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِهَا (فَمَنَعَهُ) أَيْ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْهَا (وَلَا ضَرَرَ) عَلَيْهِ (إخْلَالٌ بِفَائِدَتِهِ) أَيْ خَلْقِهِمَا (وَهُوَ) أَيْ مَنْعُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ (الْعَبَثُ) وَجَوَابُ إذَا (فَمُرَادُهُ) أَيْ الْمُبِيحِ (وَهُوَ) أَيْ الْعَبَثُ (نَقِيصَةٌ تَمْتَنِعُ عَلَيْهِ تَعَالَى) فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ (وَالْحَاظِرُ) أَيْ وَإِذَا قَالَ الْحَاظِرُ: الْإِبَاحَةَ (تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ) بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَحْرُمُ (فَمُرَادُهُ) أَيْ الْحَاظِرِ (يُحْتَمَلُ الْمَنْعُ فَالِاحْتِيَاطُ الْعَقْلِيُّ مَنْعُهُ) أَيْ الْعَبْدِ مِنْهُ (فَانْدَفَعَ) بِهَذَا (مَا قِيلَ عَلَى الْحَظْرِ بِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بَحْرًا لَا يَنْفَدُ وَاتَّصَفَ بِغَايَةِ الْجُودِ كَيْفَ يُدْرِكُ الْعَقْلُ عُقُوبَتَهُ عَبْدَهُ بِأَخْذِ قَدْرِ سِمْسِمَةٍ) وَإِنَّمَا انْدَفَعَ بِهَذَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحَاظِرَ (لَمْ يَبْنِ الْحَظْرَ عَلَى دَرْكِ) الْعَقْلِ (ذَلِكَ بَلْ) بَنَاهُ (عَلَى احْتِمَالِهِ) أَيْ مَنْعِهِ بِاعْتِبَارِهِ (أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْمَلِكِ بِلَا إذْنِهِ فَيَحْتَاطُ بِمَنْعِهِ وَ) انْدَفَعَ أَيْضًا (مَنْعُ أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ عَقْلِيٌّ بَلْ) هُوَ (سَمْعِيٌّ وَلَوْ سَلَّمَ) أَنَّهُ عَقْلِيٌّ (فِي حَقِّ مَنْ يَتَضَرَّرُ) بِذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ (وَلَوْ سَلَّمَ) أَنَّهُ فِي حَقِّ كُلِّ مَالِكٍ (فَمُعَارَضٌ بِمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الضَّرَرِ النَّاجِزِ وَدَفْعُهُ) أَيْ الضَّرَرِ النَّاجِزِ (عَنْ النَّفْسِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَلَيْسَ تَرْكُهُ) الْفِعْلِ (لِدَفْعِ ضَرَرِ خَوْفِ الْعِقَابِ) الْحَاصِلِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ (أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ) الْمُسْتَلْزِمِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ النَّاجِزِ بَلْ اعْتِبَارُ الْعَاجِلِ أَوْلَى (مَعَ مَا فِي هَذَا) الْجَوَابِ (مِنْ كَوْنِهِ) أَيْ الْمَذْكُورِ (غَيْرَ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ) أَيْ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ (فِي نَحْوِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَرْكِهِ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ (وَمَا عَلَى الْإِبَاحَةِ) أَيْ وَانْدَفَعَ أَيْضًا مَا أُورِدَ عَلَيْهَا (مِنْ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ) بِهَا مَا (لَا حَرَجَ عَقْلًا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَمُسَلَّمٌ) وَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَلْ النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمُبَاحِ بِإِزَائِهِ وَلِذَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَحَقُّقِ
ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ (أَوْ خِطَابِ الشَّارِعِ بِهِ فَلَا شَرْعَ) حِينَئِذٍ (أَوْ حُكْمِ الْعَقْلِ بِهِ) أَيْ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا
(فَالْفَرْضُ أَنَّهُ) أَيْ الْعَقْلَ (لَا حُكْمَ لَهُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ إذْ يَخْتَارُونَ) أَيْ الْمُبِيحُونَ (هَذَا) وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى (لِمُلْجِئِ لُزُومِ الْعَبَثِ) عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِبَاحَةِ وَالْعَبَثُ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا دَفْعُهُ) أَيْ دَلِيلُ الْمُبِيحِ الْمَذْكُورِ (بِمَنْعِ قُبْحِ فِعْلٍ لَا فَائِدَةَ لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ (بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعَالَى فَيُخْرِجُهُ) أَيْ هَذَا الْكَلَامُ (عَنْ التَّنَزُّلِ لِأَنَّهُ) أَيْ التَّنَزُّلَ (دَفَعَهُ) الْخَصْمُ (عَلَى تَسْلِيمِ قَاعِدَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ نَعَمْ يَدْفَعُ) دَلِيلُ الْمُبِيحِ (بِمَنْعِ الْإِخْلَالِ) بِفَائِدَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَنْعِ مِنْهُ (إذْ إرَادَةُ قُدْرَتِهِ) تَعَالَى (عَلَى إيجَادِهِ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ (مُحَقَّقَةٌ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ) مِنْ الْفَوَائِدِ (مِمَّا يَقْصُرُ عَنْ دَرْكِهِ) الْعَقْلُ فَلَا يَقَعُ إخْلَالٌ بِفَائِدَتِهِ (وَالْحَاظِرُ) أَيْ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ (لَا يُثْبِتُ حُكْمَ الْحُكْمِ الْأُخْرَوِيِّ) مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ (بِثُبُوتِهِ) أَيْ بِسَبَبِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْحُكْمِ الْأُخْرَوِيِّ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَبْلَ إظْهَارِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (لِلْمُكَلَّفِينَ فَكَيْفَ بِاحْتِمَالِهِ) أَيْ احْتِمَالِ ثُبُوتِهِ (وَلَا خَوْفَ لِيُحْتَاطَ) بِمَنْعِهِ (وَأَمَّا الْوَقْفُ فَفُسِّرَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ) أَصْلًا وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَاقِفِيَّةِ (وَلَيْسَ) هَذَا (بِهِ) أَيْ بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ قَطْعٌ بِعَدَمِ الْحُكْمِ لَا وَقْفٌ عَنْهُ (وَبِعَدَمِ الْعِلْمِ بِخُصُوصِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (فَقِيلَ إنْ كَانَ) عَدَمُ الْعِلْمِ بِخُصُوصِهِ (لِلتَّعَارُضِ) بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ (فَفَاسِدٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا بُطْلَانَهَا) أَيْ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (أَوْ لِعَدَمِ الشَّرْعِ) حِينَئِذٍ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا (فَمُسَلَّمٌ) وَهُوَ مَذْهَبُنَا (وَالْحَصْرُ) فِي التَّوَقُّفِ فِي الْحُكْمِ (الْأَوَّلِ) أَيْ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ (مَمْنُوعٌ بَلْ) قَدْ يَكُونُ (لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى خُصُوصِ حُكْمٍ فَإِنْ قُلْت هَذِهِ الْمَذَاهِبُ تُوجِبُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَوْنَ الْحُكْمِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ إذْ لَا تَحَقُّقَ لَهُ) أَيْ لِلْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ (إلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَلَا نَفْسِيَّ عِنْدَهُمْ) فَكَيْفَ تَصَوَّرْت هَذِهِ الْمَذَاهِبَ عَلَى أُصُولِهِمْ
(فَالْجَوَابُ مَنْعُ تَوَقُّفِهِ) أَيْ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ (عَلَيْهَا) أَيْ الْبَعْثَةِ (لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ) أَيْ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ (عَلَيْهَا) أَيْ الْبَعْثَةِ (كَخِطَابَاتِهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ وَنُقِلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ) أَيْ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَالصَّوَابُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفْسِيرُ (الثَّانِي) أَيْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِخُصُوصِ الْحُكْمِ (لِعَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ) أَيْ الْأَشْعَرِيِّ (أَيْ فِيهَا) أَيْ الْأَفْعَالِ (حُكْمٌ لَا يَدْرِي مَا هُوَ إلَّا فِي الْبَعْثَةِ) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْرِي بِالشَّرْعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحُكْمَ (يَتَعَلَّقُ) بِالْأَفْعَالِ (فَيَعْلَمُهُ) الْمُكَلِّفُ (فَمَحَلُّ وَقْفِ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُهُ) أَيْ وَقْفِ الْمُعْتَزِلَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَقْفَ (عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ عَنْ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ) بِالْأَفْعَالِ (وَلَا يُتَصَوَّرُ) وُجُودُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ (عِنْدَهُ) أَيْ الْأَشْعَرِيِّ (قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَحَاصِلُهُ) أَيْ كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ (إثْبَاتُ قِدَمِ الْكَلَامِ وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا سَيَظْهَرُ تَعَلُّقُهُ) أَيْ التَّنْجِيزِيِّ بِالْفِعْلِ (وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ كُلِّ نَافٍ لِلتَّعَلُّقِ) التَّنْجِيزِيِّ (قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ (بِهِ) أَيْ بِالْأَشْعَرِيِّ (كَمَا لَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِهِمْ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةِ (تَعَلُّقَهُ) أَيْ الْحُكْمِ بِالْأَفْعَالِ (مَعَ فَرْضِ عَدَمِ عِلْمِهِ) أَيْ الْمُكَلَّفِ بِهِ (مَعَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُونَ (لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ بَلْ الثُّبُوتُ) فِي حَقِّهِمْ (مَعَ التَّعَلُّقِ) بِأَفْعَالِهِمْ التَّعَلُّقَ التَّنْجِيزَيَّ (وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّعَلُّقِ) لِأَنَّهَا إمَّا الْأَدَاءُ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ قَبْلَ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِعَيْنِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ وَبِكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّرْعِ وَإِمَّا تَرَتُّبُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]
(وَلَوْ قَالُوهُ) أَيْ الْمُعْتَزِلَةُ الْوَقْفَ (كَالْأَشْعَرِيِّ كَانَ) ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ قَوْلًا (بِلَا دَلِيلٍ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ لَفْظٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ (أَصْلًا) وَلَا نَفْسِيَّ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ بِهِ (بِخِلَافِ الْأَشْعَرِيِّ) فَإِنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّهُ (وَجَبَ ثُبُوتُ النَّفْسِيِّ أَوَّلًا) وَبِهِ كِفَايَةٌ إلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِلشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ فَسَّرَ الْوَقْفَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُتِمَّ لَهُ هَذَا وَإِنَّمَا يُتِمُّ لِلْمُصَنِّفِ وَلِأُولَئِكَ الْبُخَارِيِّينَ
وَمَنْ عَسَاهُ وَافَقَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمَ التَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ لَهُ أَيْضًا (وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَنْقُولُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَفْعَالِ الْإِبَاحَةُ أَوْ الْحَظْرُ فَقِيلَ) إنَّمَا هُوَ (بَعْدَ الشَّرْعِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ أَيْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَالْحَقُّ أَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْخِلَافِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ السَّمْعِيَّ لَوْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّحْرِيمِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بَطَلَ قَوْلُهُمْ) أَيْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ (لَا عِلْمَ قَبْلَهَا) أَيْ الْبِعْثَةِ (فَإِنْ أَمْكَنَ فِي الْإِبَاحَةِ تَأْوِيلُهُ) أَيْ قَوْلِهِمْ لَا عِلْمَ قَبْلَهَا (بِأَنْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَمَعْلُومٌ مِنْ عَدَمِ التَّعَلُّقِ) فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ (ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى فِي قَوْلِ الْحَظْرِ) لِلْمُؤَاخَذَةِ فِيهِ عَلَى التَّرْكِ (وَلَوْ أَرَادُوا) أَنَّ بِمَحَلِّ الْخِلَافِ (حُكْمًا بِلَا تَعَلُّقٍ بِمَعْنَى قِدَمِ الْكَلَامِ لَمْ يُتَّجَهْ إذْ بِالتَّعَلُّقِ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ الْأَفْعَالِ مُبَاحَةً وَلَا مَحْظُورَةً فِي كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّ اللَّفْظِيَّ دَلِيلُهُ) أَيْ النَّفْسِيِّ وَهُوَ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ بَلْ يُفِيدُ أَنَّ فِيهِمَا النَّوْعَيْنِ فَبَطَلَ كُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ (وَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ هَذَا عَلَى التَّنَزُّلِ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ جَيِّدٌ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْخِلَافَ (أَقْوَالٌ مُقَرَّرَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَقَدْ اسْتَبْعَدَهُ)
أَيْ قَوْلَهُمْ هَذَا، مُرَادًا بِالْإِبَاحَةِ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ (فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَالَ: لَا نَقُولُ بِهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى) أَيْ مُهْمَلِينَ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ (فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّمَانِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24](وَإِنَّمَا هَذَا) أَيْ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ (بِنَاءً عَلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ) الْوَاقِعَةِ بَيْنَ عِيسَى وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَوُقُوعِ التَّحْرِيفَاتِ فَلَمْ يَبْقَ الِاعْتِقَادُ وَالْوُثُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِقَابِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُحَرِّمٌ وَلَا مُبِيحٌ وَحَاصِلُهُ) أَيْ هَذَا الْكَلَامُ (تَقْيِيدُهُ) أَيْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ (ذَلِكَ) أَيْ كَوْنَ الْأَصْلِ الْإِبَاحَةُ (بِزَمَانِ عَدَمِ الْوُثُوقِ) الْمَذْكُورِ فَإِنْ قِيلَ كَمْ أُمَّةٍ فِي الْفَتْرَةِ وَلَمْ يَخْلُ فِيهَا نَذِيرٌ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ آثَارُ النِّذَارَةِ بَاقِيَةً لَمْ يَخْلُ مِنْ نَذِيرٍ إلَى أَنْ تَنْدَرِسَ وَحِينَ انْدَرَسَتْ آثَارُ نُبُوَّةِ عِيسَى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - هَذَا وَلَمْ يَقِفْ الْعَبْدُ عَلَى نَقْلِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَكَذَا بَلْ الْمَذْكُورُ فِي مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا الْمَقْبُولَةِ الْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَفِي الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ فَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْإِسْنَوِيُّ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا قَبْلَ وُرُودِهِ فَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ كَمَا تَقَدَّمَ اهـ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَنْقُولُ إلَخْ وَلَكِنْ لَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ.
ثُمَّ الَّذِي فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ الْأَمْوَالَ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ مَا لَمْ تَظْهَرْ عِلَّةُ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ اللَّهَ جل جلاله أَبَاحَ الْأَمْوَالَ بِقَوْلِهِ {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَالْأَنْفُسُ أَنْفُسُ الْآدَمِيِّينَ مَعَ الْأَطْرَافِ عَلَى الْحُرْمَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَهُمْ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْإِتْلَافِ وَالْعِصْمَةُ عَنْ الْإِتْلَافِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِحُرْمَةِ الْإِتْلَافِ نَفْسًا وَأَطْرَافًا وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَصْحَابُنَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ جَائِزٌ وَفِي الْأَنْفُسِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْأَبْضَاعِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَفِي الْأَطْرَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ أَلْحَقَ الْأَطْرَافَ بِالْأَمْوَالِ وَهُمَا أَتْبَعَا الْأَطْرَافَ أُصُولَهَا وَأَلْحَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَبْضَاعَ بِالْأَنْفُسِ وَهُمَا أَلْحَقَاهَا بِالْأَمْوَالِ اهـ.
ثُمَّ هَذَا الْوَضْعُ أَوْلَى مِنْ الْوَضْعِ فِي الْمَنَافِعِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ اسْتِثْنَاءِ أَمْوَالِنَا وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَثْنَاهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنْ الْوَضْعِ فِي الْمَنَافِعِ وَيَبْقَى عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالتَّأَمُّلِ فَلْيُتَأَمَّلْ ثُمَّ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ لَا تَمْنَعُ اخْتِصَاصَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ بِبَعْضِ الْأَنَاسِيَّ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لِلْكُلِّ لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُمَّ هَذَا
(تَنْبِيهٌ بَعْدَ إثْبَاتِ الْحَنَفِيَّةِ اتِّصَافَ الْأَفْعَالِ) بِكُلٍّ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ (لِذَاتِهَا) أَيْ لِمَعْنًى ثَبَتَ فِي ذَاتِ الْأَفْعَالِ سَوَاءٌ كَانَ لَعَيْنِهَا أَوْ لِجُزْئِهَا (وَغَيْرِهَا) أَيْ وَلِمَعْنًى ثَبَتَ فِي غَيْرِ ذَاتِهَا (ضَبَطُوا مُتَعَلِّقَاتِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ مِنْهَا) أَيْ الْأَفْعَالِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ (بِالِاسْتِقْرَاءِ فِيمَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ حَسَنًا لَا يَقْبَلُ
السُّقُوطَ كَالْإِيمَانِ) أَيْ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (فَلَمْ يَسْقُطْ) وُجُوبُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ حَتَّى (وَلَا بِالْإِكْرَاهِ) عَلَى تَبْدِيلِهِ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ (أَوْ يَقْبَلُهُ) وَالْأَحْسَنُ وَيَقْبَلُهُ أَيْ وَفِيمَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ حُسْنًا يَقْبَلُ السُّقُوطَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ (كَالصَّلَاةِ) فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ أَوَّلَهَا الطَّهَارَةُ سِرًّا وَجَهْرًا ثُمَّ جَمْعُ الْهِمَّةِ وَإِخْلَاءُ السِّرِّ وَالِانْصِرَافُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَصْدِ إلَيْهِ وَهُوَ النِّيَّةُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى تَحْقِيقِ الِانْصِرَافِ بِنَبْذِ مَا سِوَاهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ أَوْ إلَى نَفْيِ الْكِبْرِيَاءِ عَمَّا سِوَاهُ ثُمَّ أَوَّلُ أَذْكَارِهَا التَّكْبِيرُ وَهُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّعْظِيمِ الْقَوْلِيِّ وَأَوَّلُ ثَنَائِهَا ثَنَاءٌ لَا يَشُوبُهُ ذِكْرُ مَا سِوَاهُ ثُمَّ الْقِيَامُ مَعَ وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ صَارِفًا نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ تَعْظِيمٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ إعْقَابُهُ بِالرُّكُوعِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْظِيمِ ثُمَّ إلْحَاقُ السُّجُودِ بِهِ بِوَضْعِ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ عَلَى التُّرَابِ نِهَايَةٌ فِي التَّعْظِيمِ الْفِعْلِيِّ ثُمَّ مَا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ تَعْظِيمٌ فِي تَعْظِيمٍ وَتَعْظِيمُ اللَّهِ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ إلَّا أَنَّهَا (مُنِعَتْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ) أَيْ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَاسْتِوَائِهَا وَغُرُوبِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ لِمَا عُرِفَ ثَمَّةَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مِنْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَسَقَطَتْ أَصْلًا بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إجْمَاعًا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي
وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْوَجْهُ إنْ كَانَ) حُسْنُ الْأَفْعَالِ (لِذَاتِهَا لَا يَتَخَلَّفُ) عَنْهَا أَصْلًا لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يُفَارِقُهَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً (فَحُرْمَتُهَا) أَيْ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ لِذَاتِهَا حَيْثُ تَكُونُ إنَّمَا تَكُونُ (لِعُرُوضِ قُبْحٍ بِخَارِجٍ) عَنْ ذَاتِهَا مُتَلَبِّسٍ بِهَا فَعَلَى هَذَا حُسْنُ الصَّلَاةِ إذْ كَانَ ذَاتِيًّا لَا يَسْقُطُ أَصْلًا حَتَّى وَلَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَإِنَّمَا مُنِعَتْ فِي الثَّلَاثَةِ مِنْهَا لِعُرُوضِ شَبَهِ فَاعِلِهَا بِالْكُفَّارِ فِي السُّجُودِ لِلشَّمْسِ كَمَا نَبَّهَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَفِي غَيْرِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَوْنِ ذَلِكَ الْقُبْحُ الْعَارِضُ يَرْبُو عِنْدَ الشَّارِعِ دَفْعُ حُصُولِهِ عَلَى حُصُولِ الْحُسْنِ الذَّاتِيِّ لَهَا وَقْتَئِذٍ وَلَا بِدَعْ فِي ذَلِكَ (وَمَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهِ) أَيْ بِالْحُسْنِ لِنَفْسِهِ (مَا لِغَيْرِهِ) وَالْوَجْهُ مِمَّا لِغَيْرِهِ أَيْ حَسَنٌ لِغَيْرِ ذَاتِهِ حَالَ كَوْنِ الْغَيْرِ (بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ) فَإِنَّ حُسْنَهَا (لِسَدِّ الْخَلَّةِ) أَيْ دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْوَجْهُ لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ كَمَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقُوهُ فَإِنَّهَا الْكَائِنَةُ لِلْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَلَيْهَا بِدُونِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ دَفْعِهَا فَإِنَّهُ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِيهِ دَخْلٌ (وَقَهْرُ عَدُوِّهِ تَعَالَى) وَهُوَ النَّفْسُ الْأَمَارَةُ بِالسُّوءِ بِكَفِّهَا عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَقَدْ وَقَعَ هَذَا لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَالْوَجْهُ وَلِلشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا الثَّابِتَةُ لِلْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَلَيْهَا بِلَا اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ قَهْرِهَا فَإِنَّهُ مِمَّا لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِيهِ دَخْلٌ (وَشَرَفُ الْمَكَانِ) أَيْ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ بِزِيَارَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ كَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّ شَرَفَهُ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ إذْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ وَإِلَّا فَتَنْقِيصُ الْمَالِ وَكَفُّ مَمْلُوكِ اللَّهِ عَنْ نِعَمِهِ الْمُبَاحَةِ لَهُ وَقَطْعُ مَسَافَةٍ مَدِيدَةٍ وَزِيَارَةِ أَمْكِنَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَسَائِطُ عَلَى مَا حَرَّرْنَاهُ كَانَتْ مُضَافَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حُكْمًا فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ حَسَنَةً خَالِصَةً مِنْ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِلْعَبْدِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالصَّلَاةِ وَمِنْ ثَمَّةَ شُرِطَتْ فِيهَا الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ كَالصَّلَاةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ثُمَّ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَذَهَبَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إلَى أَنَّ الْغَيْرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَقَهْرُ النَّفْسِ وَزِيَارَةُ الْبَيْتِ لَكِنَّ الْفَقِيرَ وَالْبَيْتَ لَا يَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ.
وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَحْسُنُ قَهْرُهَا فَارْتَفَعَ الْوَسَائِطُ فَصَارَتْ تَعَبُّدًا مَحْضًا لِلَّهِ تَعَالَى وَدُفِعَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي الْخَارِجِ هِيَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ لَا شَيْءٌ آخَرُ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ وَسَائِطَ لِانْتِفَاءِ التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ وَتَعَقَّبَهُ فِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ نَفْسَ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَفِيهِ نَظَرٌ وَتَعَقَّبَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا إذْ الْوَاسِطَةُ مَا يَكُونُ حُسْنُ الْفِعْلِ لِأَجْلِ حُسْنِهَا وَظَاهِرٌ أَنَّ
نَفْسَ الْحَاجَةِ وَالشَّهْوَةِ لَيْسَتْ ذَلِكَ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ حَسَنًا لِأَجْلِ وَاسِطَةٍ أَنْ تَكُونَ الْوَاسِطَةُ حَسَنَةً وَنَظِيرُهُ الْكَلَامُ مُتَّصِفٌ بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ مُتَّصِفًا بِهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا يَأْتِي فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَ (مَا) حَسُنَ (لِغَيْرِهِ) حَالَ كَوْنِهِ (غَيْرَ مُلْحَقٍ) بِمَا حَسُنَ لِنَفْسِهِ (كَالْجِهَادِ وَالْحَدِّ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ) فَإِنَّ حُسْنَهَا (بِوَاسِطَةِ الْكُفْرِ) أَيْ كُفْرِ الْكَافِرِ كَمَا فِي الْجِهَادِ لِأَنَّ فِيهِ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ وَكَبْتَ أَعْدَائِهِ (وَالزَّجْرَ) لِلْجَانِي عَنْ الْمَعَاصِي كَمَا فِي الْحَدِّ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِهَذَا الْمَعْنَى (وَالْمَيِّتُ الْمُسْلِمُ غَيْرُ الْبَاغِي) وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ أَيْضًا أَيْ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِقَضَاءِ حَقِّهِ وَلِهَذَا لَوْ انْتَفَى الْكُفْرُ انْتَفَى الْجِهَادُ أَوْ الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ انْتَفَى الْحَدُّ أَوْ إسْلَامُ الْمَيِّتِ أَوْ قَضَاءُ حَقِّهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ انْتَفَتْ شَرْعِيَّتُهَا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَخْرِيبِ بِلَادِ اللَّهِ وَقَتْلِ عِبَادِ اللَّهِ وَإِيلَامِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَالصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ بِدُونِ الْمَيِّتِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِحَسَنٍ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا (اُعْتُبِرَتْ الْوَسَائِطُ) فِي هَذَا الْقِسْمِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْوَسَائِطَ (بِاخْتِيَارِهِ) أَيْ الْعَبْدِ الْمُتَّصِفِ بِهَا فَلَمْ تُضَفْ إلَيْهِ تَعَالَى هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَأَشَارَ فِي التَّلْوِيحِ إلَى تَعَقُّبِهِ بِمِثْلِ التَّعَقُّبِ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَبْلَهُ وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ
وَذَهَبَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إلَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي الْجِهَادِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا يَتَأَدَّى بِعَيْنِهِمَا كَانَا شَبِيهَيْنِ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْجِهَادِ الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ وَأَمْثَالُهُمَا وَهَذَا لَيْسَ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ فِي الْخَارِجِ صَارَ إعْلَاؤُهَا كَالسَّقْيِ فِي الْمَفْهُومِ هُوَ غَيْرُ الْإِرْوَاءِ وَلَكِنْ فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُهُ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي الْبَاقِي قِيلَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هُنَا ثَلَاثَةَ أُمُورٍ الْمَأْمُورُ بِهِ وَهُوَ الْجِهَادُ وَنَحْوُهُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي يَتَأَدَّى بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ أَمَّا كَوْنُ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَقْصُودًا مِنْ الْجِهَادِ فَلِأَنَّ الْجِهَادَ فِي نَفْسِهِ تَخْرِيبُ بُنْيَانِ الرَّبِّ وَبِلَادِهِ فَلَا جِهَةَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ وَكَذَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِلَا مَيِّتٍ عَبَثٌ وَالْمَعَانِي الْمَقْصُودَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُغَايِرَةً لَهَا مَفْهُومًا هِيَ عَيْنُهَا خَارِجًا لِأَنَّ بِنَفْسِ الْقَتْلِ وَالصَّلَاةِ فِي الْخَارِجِ يَحْصُلُ الْإِعْلَاءُ وَقَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَأَمَّا كَوْنُ كُفْرِ الْكَافِرِ وَإِسْلَامِ الْمَيِّتِ سَبَبًا لِلْمَقْصُودِ فَلِشَرْعِيَّةِ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ لِلْإِعْلَاءِ وَقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا جَعَلُوا كُفْرَ الْكَافِرِ وَنَحْوَهُ وَاسِطَةً لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قُلْت وَيَتَلَخَّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ السَّبَبُ الْمُفْضِي لِوُجُوبِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالْغَرَضُ الْمُرَتَّبُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ وَيَبْقَى الشَّأْنُ فِي أَيِّهِمَا أَرْجَحُ فِي الِاعْتِبَارِ وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَلَعَلَّ الثَّانِي أَرْجَحُ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الْغَيْرَ السَّبَبَ إلَّا مَعَ مُلَاحَظَةِ تَرَتُّبِ الْغَرَضِ عَلَى مُسَبِّبِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَتَقَدَّمَ أَقْسَامُ مُتَعَلِّقَاتِ النَّهْيِ) مَا بَيْنَ حِسِّيٍّ وَشَرْعِيٍّ وَبَيَانِ الْمُتَّصِفِ مِنْهَا بِالْقُبْحِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي تَنْبِيهٍ فِي ذَيْلِ النَّهْيِ (وَكُلُّهَا) أَيْ مُتَعَلِّقَاتِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ (يَلْزَمُهُ حُسْنُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ) لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ قَبِيحٌ فَلَا يُجْعَلُ مِنْ أَقْسَامِ حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ خَاصَّةً كَمَا فَعَلَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مَعَ بَيَانِ انْقِسَامِهَا إلَى مُمْكِنَةٍ وَمُيَسَّرَةٍ عِنْدَ مَشَايِخِنَا فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ ثُمَّ بَقِيَ هُنَا أُمُورٌ يَحْسُنُ التَّنَبُّهُ لَهَا الْأَوَّلُ إنَّ جَعْلَ الْمُصَنِّفِ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِالْحُسْنِ لِنَفْسِهِ وَحُسْنِهِ لِغَيْرِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ إنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِ لَكِنَّهُ مُشَابِهٌ بِمَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَمِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْبَدِيعِ إنَّهُ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ
وَمِمَّا يُوَافِقُ صَنِيعَ الْمُصَنِّفِ تَصْرِيحُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْحَسَنَ لِنَفْسِهِ وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى بِالْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ وَفِيمَا لِغَيْرِهِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ مُلْحَقًا بِمَا لِنَفْسِهِ.
الثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَغْفَلَ قِسْمًا يَكُونُ خَامِسًا لِهَذِهِ وَهُوَ مَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ غَيْرِ مُلْحَقٍ بِالْحَسَنِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَتَأَدَّى الْغَيْرُ بِهِ كَالْوُضُوءِ وَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ فَإِنَّ ذَاتَيْهِمَا اللَّتَيْنِ هُمَا الْغُسْلُ وَالْمَسْحُ لِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ وَنَفْلُ الْأَقْدَامِ لَيْسَتَا بِحَسَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا حُسْنُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِمَا إلَى
الصَّلَاةِ وَيُتَمَكَّنُ مِنْهَا بِهِمَا وَهِيَ فِعْلُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ لَا يَتَأَدَّى بِهِمَا وَلَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْجِهَادِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مُلْحَقٍ بِالْحَسَنِ لِنَفْسِهِ فَالْغَيْرُ الَّذِي هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ مُتَأَدِّيًا بِالْجِهَادِ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ ذَكَرَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَوَافَقَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهَا وَاَلَّذِي مَشَى عَلَيْهِ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ وَالْمَعْنَى فِي وَضْعِهِ كَالصَّلَاةِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ وَالْمَعْنَى مُتَّصِلٌ بِوَضْعِهِ بِوَاسِطَةٍ كَالزَّكَاةِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَيَحْصُلُ الْمَعْنَى بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ نَحْوُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا مَعَهَا وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَيَحْصُلُ بَعْدَهُ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ كَالْوُضُوءِ وَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَوَافَقَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ لَكِنَّ هَكَذَا حَسَنٌ لَعَيْنِهِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَحَسَنٌ لَعَيْنِهِ قَدْ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَالصَّلَاةِ وَحَسَنٌ لِغَيْرِهِ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ حَسَنًا كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ وَالْوُضُوءِ وَحَسَنٌ لِغَيْرِهِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ حَسَنًا كَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا مَعَهَا فَالْأَكْمَلُ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَقْسَامِ مَا عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَمَا حَقَّقْنَاهُ.
الثَّالِثُ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ثُمَّ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْحَسَنِ لَعَيْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا لَعَيْنِهِ حَسَنًا لَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ وَفِي الْبَدِيعِ وَقِيلَ بَلْ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ لِثُبُوتِ الْحَسَنِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ اقْتِضَاءً وَهُوَ ضَرُورِيٌّ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَدْنَى الرَّابِعُ أَنَّ مَا حَسُنَ لَعَيْنِهِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ إسْقَاطٍ مِنْ الشَّارِعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ وَمَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ يَسْقُطُ بِحُصُولِ مَا قَصَدَ بِهِ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوْ لَا وَبِسُقُوطِ مَا قَصَدَ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(وَقَسَّمُوا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (مُتَعَلِّقَاتِ الْأَحْكَامِ) الشَّرْعِيَّةِ (مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ عِبَادَاتٍ أَوْ عُقُوبَاتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (إلَى حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ) قَالُوا: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ نُسِبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعَظَمِ خَطَرِهِ وَشُمُولِ نَفْعِهِ وَلِئَلَّا يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ وَمَثَابَةً لِاعْتِذَارِ إجْرَامِهِمْ وَحُرْمَةِ الزِّنَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ وَصِيَانَةِ الْأَوْلَادِ مِنْ الضَّيَاعِ وَارْتِفَاعِ السَّيْفِ بَيْنَ الْعَشَائِرِ بِسَبَبِ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزُّنَاةِ وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوْ الِانْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الْكُلِّ قَالَ الْقَاآنِيُّ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ يَعْنِي بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ هُوَ اللَّهُ حَتَّى لَا يَرِدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (وَالْعَبْدُ كَذَلِكَ) أَيْ وَإِلَى حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُصُوصِ لِتَعَلُّقِ صِيَانَةِ مَالِهِ بِهَا وَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ مَالِكِهِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا وَأَوْرَدَ حُرْمَةَ مَالِ الْغَيْرِ أَيْضًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ وَهُوَ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ أَجْمَعُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَنَحْنُ نَمْلِكُ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ وَأَمْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ تُبَاحُ لَنَا عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمْ (وَمَا اجْتَمَعَا) أَيْ الْحَقَّانِ فِيهِ
(وَحَقُّهُ) تَعَالَى (غَالِبٌ وَقَلَبَهُ) أَيْ وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ (وَلَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْرَاءُ مُتَسَاوِيَيْنِ) أَيْ مَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَالْحَقَّانِ فِيهِ سَوَاءٌ ثُمَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الْحَقِّ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَيْضًا (فَالْأَوَّلُ) أَيْ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ (أَقْسَامٌ) ثَمَانِيَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ (عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْإِيمَانِ وَالْأَرْكَانِ) الْأَرْبَعَةِ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَهِيَ الصَّلَاةُ ثُمَّ الزَّكَاةُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الْحَجُّ (ثُمَّ الْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ وَالِاعْتِكَافُ وَتَرْتِيبُهَا) أَيْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ (فِي الْأَشْرَفِيَّةِ هَكَذَا) أَيْ الْإِيمَانِ إذْ هُوَ أَفْضَلُهَا قَطْعًا وَكَيْفَ لَا وَهُوَ أَصْلُهَا وَلَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِهِ ثُمَّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا تَالِيَةُ الْإِيمَانِ وَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إيمَانًا حَيْثُ قَالَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهَا إظْهَارُ شُكْرِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ ثُمَّ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا تَالِيَةُ الصَّلَاةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهَا إظْهَارُ شُكْرِ
نِعْمَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ ثُمَّ الصَّوْمُ قَالُوا: لِأَنَّهُ شُرِعَ رِيَاضَةً وَقَهْرًا لِلنَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ فَإِنَّ النَّفْسَ بِقَهْرِهَا وَرِيَاضَتِهَا تَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ فَكَانَ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْمَنْزِلَةِ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي الصَّلَاةِ الْكَعْبَةُ الْمُعَظَّمَةُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ الْعُذْرِ لَا غَيْرَ وَفِي الزَّكَاةِ الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَكَانَ دُونَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضَعْفٍ قَالَ اللَّهُ عز وجل إلَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «كُلُّ عَمَلِ بْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهُ لِي» وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ يَطْرُقُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا ثُمَّ الْحَجُّ
قَالُوا: لِأَنَّهُ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ يَقُومُ بِهَا بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَكَأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ بِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ الْوَطَنِ وَمُفَارَقَةِ الْخِلَّانِ وَالسَّكَنِ تَنْقَطِعُ عَنْهُ مُرَادُ الشَّهَوَاتِ وَتَضْعُفُ نَفْسُهُ فَيَتَيَسَّرَ لَهُ قَهْرُهَا بِالصَّوْمِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ بَلْ ذَهَبَ الْقَاضِي حُسَيْنُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَالِ وَالْبَدَنِ وَأَيْضًا دُعِينَا إلَيْهِ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ كَالْإِيمَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ فَكَذَا الْحَجُّ الَّذِي هُوَ قَرِينُهُ وَفِيهِ مَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُحَقِّقِ عَلَى أَنَّ فِي الْكَشَّافِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمَّا حَجَّ فَضَّلَ الْحَجَّ عَلَى الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِمَا شَاهَدَ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ (قَالُوا: وَقُدِّمَتْ الْعُمْرَةُ وَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْجِهَادِ) وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ فَرْضُ عَيْنٍ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ صَارَ فَرْضَ كِفَايَةٍ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ أَذَاهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ (لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ) وَأَفْعَالِهَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهِ (وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ) أَيْ هَذَا التَّوْجِيهِ لِتَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ لِذَلِكَ وَلَعَلَّ لِهَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْحَجِّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْلًا ثُمَّ الْجِهَادُ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ دُونَ مَا سَبَقَ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ دُونَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ: قَالَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْلَمَ قَلْبُكَ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتَهُمْ قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَبْرُورَةٌ»
وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا تَارَةً بِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ تَأَخَّرَ إلَى السَّنَةِ التَّاسِعَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ الْجِهَادُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَرْضَ عَيْنٍ فَلَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَلَا إشْكَالَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ عَيْنًا عَلَى الْحَجِّ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ وَتَارَةً بِأَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ أَشْرَفُ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ فَإِنْ عَرَضَ لِلْحَجِّ وَصْفٌ يَمْتَازُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ صَارَ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ وَإِلَّا فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ وَيَشْهَدُ لِصَدْرِ هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحُبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَمِنْ هُنَا وَمِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ عز وجل «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ اهـ أَيْ: عَلَى الْأَعْيَانِ وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُهُ مَا فِي قَوَاعِدِ الْقَرَافِيُّ قَالَ مَالِكٌ: الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ اهـ وَيُشْكِلُ عَجْزَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم -
«حَجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ خَيْرٌ مِنْ عَشْرِ غَزَوَاتٍ وَغَزْوَةٌ لِمَنْ قَدْ حَجَّ خَيْرٌ مِنْ عَشَرِ حِجَجٍ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ مَا فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَفْضَلِيَّةِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُبْزَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْجَائِعِ وَالْمَاءُ أَفْضَلُ لِلْعَطْشَانِ فَإِنْ اجْتَمَعَا نُظِرَ إلَى الْأَغْلَبِ فَتَصَدُّقُ الْغَنِيِّ الشَّدِيدِ الْبُخْلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ حُبِّ الدُّنْيَا
وَالصَّوْمُ لِمَنْ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ الْأَكْلِ أَفْضَلُ وَلَا مَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ فَإِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَقْتَصِرَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْمُتَأَكِّدِ فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ اهـ ثُمَّ بَعْد هَذَا كُلِّهِ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَفْضَلُ مِنْ نَفْلِهِ وَقَوْلُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ قَدْ يَفْضُلُ الْوَاجِبَ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَأَخْرَجَهَا وَتَطَوَّعَ بِشَاتَيْنِ فَإِنَّ الشَّاتَيْنِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْفُقَرَاءِ بِالشَّاتَيْنِ أَوْسَعُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَكَيْفَ لَا وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْت عَلَيْهِ» وَمَا رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَفْضُلُ الْمَنْدُوبَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ» مَعَ أَنَّ التَّوْسِعَةَ بِالْأَلْفِ أَعْظَمُ مِنْهَا بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي فَرْضِ كُلِّ جِنْسٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرَائِضِ مِنْ بَاقِي الْأَجْنَاسِ وَلِلْبَاحِثِ الْمُحَقِّقِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ فَوْقَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
ثُمَّ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَشُرِعَ لِتَكْثِيرِ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِانْتِظَارِهَا فِي مَكَانِهَا وَهُوَ الْمَسَاجِدُ عَلَى صِفَةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمُنْتَظِرَ لَهَا فِيهَا حُكْمًا وَلِذَا اخْتَصَّ بِالْمَسَاجِدِ وَشَوَاهِدُهُ مِنْ السُّنَّةِ مَسْطُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا فَكَانَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَرْتَبَةِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ يُشْكِلُ بِتَعْلِيلِهِمْ تَقْدِيمَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ بِكَوْنِهَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا مِنْ تَوَابِعِهِ ثُمَّ هَذَا مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مِنْ تَوَابِعِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَلْبَتَّةَ كَوْنُهُ أَفْضَلُ مِمَّا الْمَتْبُوعُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ (وَعِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ) وَهِيَ فَعُولَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَأَنْت الْقَوْمَ أَمَأْنَهُمْ إذَا احْتَمَلْت ثِقَلَهُمْ أَوْ مِنْ أَتَانِي فُلَانٌ وَمَا مَأَنْت لَهُ مَأْنًا إذَا لَمْ تَسْتَعِدْ لَهُ وَقِيلَ مُفْعَلَةٌ مِنْ الْأَوْنِ وَهُوَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْخُرْجِ لِأَنَّهُ ثِقَلٌ أَوْ مِنْ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ (صَدَقَةُ الْفِطْرِ) وَكَوْنُهَا عِبَادَةً ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهَا شَرْعًا صَدَقَةً وَطُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَمِنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْغِنَى فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْأَدَاءِ وَوُجُوبِ صَرْفِهَا فِي مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكَوْنِهَا فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ (إذْ وَجَبَتْ) عَلَى الْمُكَلَّفِ (بِسَبَبِ غَيْرِهِ) وَهُوَ مَنْ يَلِيهِ وَيُمَوِّنُهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ» (فَلَمْ يَشْرُطْ لَهَا كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ) كَمَا شَرَطَ لِلْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا (فَوَجَبَتْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) الْغَنِيَّيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَرَقِيقِهِمَا يَتَوَلَّى أَدَاءَهَا الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْجَدُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ) وَهُوَ الْقِيَاسُ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُمَا يُرَجِّحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ الْوُجُوبَ إلْحَاقًا لَهَا بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ بِنَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِمَا إذَا كَانَا غَنِيَّيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ لَكِنْ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ ثُمَّ تِلْمِيذُهُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ كَلَامُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَوْضَحُ ثُمَّ ظَهَرَ وَجْهُ كَوْنِهَا عِبَادَةً فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْعَكْسِ وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي (وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَالْعُشْرِ إذْ الْمُؤْنَةُ مَا بِهِ بَقَاءُ الشَّيْءِ وَبَقَاءُ الْأَرْضِ فِي أَيْدِينَا بِهِ) أَيْ بِالْعُشْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ
بِبَقَاءِ الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْقُوتِ وَغَيْرِهِ لِمَنْ عَلَيْهَا فَوَجَبَتْ عِمَارَتُهَا وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُلَّاكِ نَفَقَةُ عَبِيدِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَبَقَاؤُهَا وَبَقَاءُ إنْزَالِهَا إنَّمَا هُوَ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ الْحَافِظُونَ لَهَا إمَّا مِنْ حَيْثُ الدُّعَاءُ وَهُمْ ضُعَفَاؤُهُمْ الْمُحْتَاجُونَ فَإِنَّ بِهِمْ يُسْتَنْزَلُ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيُسْتَمْطَرُ فِي السَّنَةِ الشَّهْبَاءِ وَإِمَّا مِنْ حَيْثُ الذَّبُّ بِالشَّوْكَةِ عَنْ الدَّارِ وَغَوَائِلِ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ فَوَجَبَ فِي بَعْضِهَا الْعُشْرُ نَفَقَةً لِلْأَوَّلِينَ وَفِي بَعْضِهَا الْخَرَاجُ نَفَقَةً لِلْآخَرِينَ وَجُعِلَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا نَفَقَةً عَلَيْهَا تَقْدِيرًا ثُمَّ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ كَمَا سَيَذْكُرُ وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْعِبَادَةِ) فِيهِ (لِتَعَلُّقِهِ) أَيْ الْعُشْرِ (بِالنَّمَاءِ) الْحَقِيقِيِّ لَهَا وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْهَا كَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ أَوْ لِأَنَّ مَصْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ وَهَذَا أَشْبَهُ
(وَإِذْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْأَصْلَ) وَالنَّمَاءُ وَصْفًا تَابِعًا لَهَا (كَانَتْ الْمُؤْنَةُ غَالِبَةً وَلِلْعِبَادَةِ) فِيهِ (لَا يُبْتَدَأُ الْكَافِرُ بِهِ) لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ ضَرْبُ كَرَامَةٍ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْخَرَاجِ (وَلَا يَبْقَى) الْعُشْرُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْكَافِرِ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْبَقَاءِ) لِلْعُشْرِ عَلَيْهِ (إلْحَاقًا) لِلْعُشْرِ (بِالْخَرَاجِ) فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ (بِجَامِعِ الْمُؤْنَةِ) فِيهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ وَالْكَافِرُ أَهْلٌ لِلْمُؤْنَةِ
(وَالْعِبَادَةُ) فِي الْعُشْرِ (تَابِعَةٌ) فَيَسْقُطُ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لَهَا (فَلَا يُثَابُ) الْكَافِرُ (بِهِ) أَيْ بِالْعُشْرِ (وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ (وَإِنْ تَبِعَ) الْمُؤْنَةَ (فَهُوَ ثَابِتٌ) فِي الْعُشْرِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالنَّمَاءِ وَصَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الْفُقَرَاءِ مُسْتَمِرٌّ (فَيَمْنَعُ) ثُبُوتَهُ فِيهِ مِنْ إلْغَائِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ضَرُورَةُ عَدَمِ إمْكَانِ إلْغَائِهِ قُلْت: إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مُحَمَّدٍ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَشْبَهُ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ إذَا كَانَ قَائِلًا بِأَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ فِيهِ كَالْمَالِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ فَلَا يَتِمَّ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا فَيُجَابُ كَمَا فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ بِأَنَّ الْعُشْرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عَلَى الْكَافِرِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّضْعِيفِ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ بِدُونِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ (فَتَصِيرُ) الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ (خَرَاجِيَّةً بِشِرَائِهِ) أَيْ الْكَافِرِ إيَّاهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً فَفِي السِّيَرِ كَمَا اشْتَرَى وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ إذَا بَقِيَتْ مُدَّةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرَعَ أَوْ لَا (وَلِأَبِي يُوسُفَ) أَيْ وَخِلَافًا لَهُ فِي أَنَّهُ (يُضَعَّفُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِيهِ وَالتَّضْعِيفُ تَغْيِيرٌ لِلْوَصْفِ فَقَطْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ مِنْ إبْطَالِ الْعُشْرِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا وَالتَّضْعِيفُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ (كَبَنِي تَغْلِبَ) وَلَا يُقَالُ فِيهِ تَضْعِيفٌ لِلْقُرْبَةِ وَالْكُفْرِ يُنَافِيهَا لِأَنَّا نَقُولُ بَعْدَ التَّضْعِيفِ صَارَ فِي حُكْمِ الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْكُفَّارِ وَخَلَا عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ
(وَيُجَابُ بِأَنَّهَا) أَيْ الصَّدَقَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ هِيَ فِي الْمَعْنَى (جِزْيَةٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ) أَيْ بِكَوْنِهَا صَدَقَةً مُضَاعَفَةً (بِالتَّرَاضِي لِخُصُوصٍ عَارِضٍ) فَإِنَّ بَنِي تَغْلِبَ بِكَسْرِ اللَّامِ عَرَبٌ نَصَارَى قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ هَمَّ يَعْنِي عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَنَفَرُوا فِي الْبِلَادِ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ أَوْ زُرْعَةُ بْنُ النُّعْمَانِ لَعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَوْمٌ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ وَلَيْسَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ إنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ حُرُوثٍ وَمَوَاشٍ وَلَهُمْ نِكَايَةٌ فِي الْعَدُوِّ فَلَا تُعِنْ عَدُوَّك عَلَيْك بِهِمْ قَالَ: فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ هَذِهِ جِزْيَةٌ سَمَّوْهَا مَا شِئْتُمْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ جِزْيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ حَتَّى لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ نُقُودٌ أَوْ مَاشِيَةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهِيَ أَقْيَسُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ كَانَ الْجِزْيَةُ فَإِذَا صُولِحُوا عَلَى مَالٍ جُعِلَ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمُسْتَحَقِّ وَقِيلَ لَا بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِشَرَائِطِ الزَّكَاةِ وَأَسْبَابِهَا وَهُوَ
ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ ثَمَّةَ لَا يُرَاعَى فِيهَا وَصْفُ الصِّغَارِ وَالْمَصْرِفُ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْجِزْيَةَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ أَهْلِ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ أَرْضِهِمَا لِأَنَّ الْعُشْرَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ لِيَخُصَّ الْعُقَلَاءَ الْبَالِغِينَ فَيُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهِمَا وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ التَّضْعِيفَ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لِلضَّرُورَةِ السَّالِفَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَافِرِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ (وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ) وَهِيَ (الْخَرَاجُ أَمَّا الْمُؤْنَةُ فَلِتَعَلُّقِ بَقَائِهَا)
أَيْ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ (بِالْمُقَاتَلَةِ الْمَصَارِفُ) لَهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (وَالْعُقُوبَةُ لِلِانْقِطَاعِ بِالزِّرَاعَةِ عَنْ الْجِهَادِ) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ بِصِفَةِ التَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عِمَارَةُ الدُّنْيَا وَإِعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَادِ وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ شَرْعًا (فَكَانَ) الْخَرَاجُ (فِي الْأَصْلِ صَغَارًا) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا أَدْخَلَهُ الذُّلَّ» (وَبَقِيَ) الْخَرَاجُ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَظِيفَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ (لَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ) أَوْ وَرِثَهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ أَسْلَمَ مَالِكُهَا (لِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ الصَّغَارَ (فِي ابْتِدَاءِ التَّوْظِيفِ) لَا فِي بَقَائِهِ نَظَرًا إلَى مَا فِيهِ مِنْ رُجْحَانِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ الَّتِي الْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِهَا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ (وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَيْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِسَبَبٍ مُبَاشِرٍ) أَيْ شَيْءٍ ثَابِتٌ بِذَاتِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَمِ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ وُضِعَ لَهُ يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ أَدَاؤُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَلْ ثَبَتَ بِحُكْمِ أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَهُوَ (خُمُسُ الْغَنَائِمِ) أَيْ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْكُفَّارِ قَهْرًا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ
فَإِنَّ الْجِهَادَ حَقُّ اللَّهِ إعْزَازًا لِدِينِهِ وَإِعْلَاءً لِكَلِمَتِهِ فَالْمُصَابُ كُلُّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْغَانِمِينَ امْتِنَانًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْجِبُوهَا بِالْجِهَادِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِعَمَلِهِ لِمَوْلَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا وَاسْتَبْقَى الْخُمُسَ حَقًّا لَهُ وَأَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ سَمَّاهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَتَوَلَّى السُّلْطَانُ أَخْذَهُ وَقِسْمَتَهُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ نَائِبُ الشَّرْعِ فِي إقَامَةِ حُقُوقِهِ لَا أَنَّهُ حَقٌّ لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ (وَمِنْهُ) أَيْ الْحَقِّ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ (الْمَعْدِنِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ ثُمَّ اشْتَهَرَ فِي نَفْسِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلْقِهَا (وَالْكَنْزُ) وَهُوَ الْمُثْبَتُ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ وَالرِّكَازُ يَعُمُّهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ الرِّكَزِ مُرَادًا بِهِ الْمَرْكُوزُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوْ الْمَخْلُوقَ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْمُرَادُّ بِالْمَعْدِنِ هُنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْجَامِدُ الَّذِي يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَبِالْكَنْزِ مَا لَا عَلَامَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَتَّى كَانَ جَاهِلِيًّا لِأَنَّ هَذَيْنِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِمَا وَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْوَاجِدِ وَبَقِيَ الْخُمُسُ لَهُ تَعَالَى مَصْرُوفًا إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ خُمُسُهُمَا وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ (فَلَمْ يَلْزَمْ أَدَاؤُهُ) أَيْ الْخُمُسِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ (طَاعَةً) فَيُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ لِيَقَعَ دَفْعُهُ قُرْبَةً بِهَا (إذْ لَمْ يَقْصِدْ الْفِعْلَ) أَيْ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ دَفْعُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ (بَلْ مُتَعَلِّقُهُ) أَيْ الْفِعْلِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ فَالنَّفْيُ رَاجِعٌ إلَى الْقَيْدِ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ (بَلْ هُوَ) أَيْ الْخُمُسُ (حَقٌّ لَهُ تَعَالَى) كَمَا بَيَّنَّا (فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ إذَا لَمْ يَتَّسِخْ إذْ لَمْ تَقُمْ بِهِ قُرْبَةٍ وَاجِبَةٌ)
قُلْت: وَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى قُرْبَةِ بِنَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِمْ كَالْمَفْرُوضَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ ثُمَّ كَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْخُمُسُ وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا هِيَ غُسَالَةُ أَيْدِي النَّاسِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ» .
ثُمَّ إنَّمَا قَيَّدْنَا الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ بِالْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِدُونِهِمَا لَيْسَ حُكْمَهُمَا ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي الْفُرُوعِ وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يُقَيِّدُوهُمَا بِهِمَا فِي الْأُصُولِ اعْتِمَادًا عَلَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِمَا فِي الْفُرُوعِ ثُمَّ قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ الْمَعَادِنَ مَعَ أَنَّهَا
غَنِيمَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْغَنِيمَةِ خَفِيٌّ فِي حَقِّهَا كَخَفَاءِ اسْمِ السَّارِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبَّاشِ وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الشَّافِعِيُّ فِيهَا الْخُمُسَ حَيْثُ يُشْبِهُ الصَّيْدَ وَلَا نَحْنُ فِيمَا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِهِ وَفِي أَرْضِهِ فِي رِوَايَةٍ عَلَى مَا عُرِفَ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ (وَعُقُوبَاتٌ كَامِلَةٌ) أَيْ مَحْضَةٌ لَا يَشُوبُهَا مَعْنًى آخَرَ تَامَّةٌ فِي كَوْنِهَا عُقُوبَةً وَهِيَ (الْحُدُودُ) أَيْ حَدُّ الزِّنَا وَحْدُ السَّرِقَةِ وَحْدُ الشُّرْبِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِصِيَانَةِ الْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُقُولِ وَمُوجِبُهَا جِنَايَاتٌ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَاقْتَضَى كُلٌّ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُقُوبَةٌ كَامِلَةٌ زَاجِرَةٌ عَنْ ارْتِكَابِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مِلْكٍ حِمَى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» ثُمَّ عَنْ الْمُبَرِّدِ سُمِّيَتْ الْعُقُوبَةُ عُقُوبَةً لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ عَقِبَهُ يَعْقُبُهُ إذَا تَبِعَهُ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ السَّادِسُ (وَ) عُقُوبَةٌ (قَاصِرَةٌ) وَهِيَ (حِرْمَانُ الْقَاتِلِ) إرْثَ الْمَقْتُولِ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ مَعْرُوفٍ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ (كَوْنُهُ) أَيْ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ (حَقًّا لَهُ تَعَالَى لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى (بِالتَّعَدِّي عَلَيْهِ) أَيْ الْغَيْرِ يَكُونُ (فِيهِ نَفْعٌ لَهُ) أَيْ لِلْغَيْرِ وَالْغَيْرُ هُنَا الْمَقْتُولُ (وَلَيْسَ فِي الْحِرْمَانِ نَفْعٌ لِلْمَقْتُولِ) فَثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى زَاجِرٌ عَنْ ارْتِكَابِ مَا جَنَاهُ كَالْحَدِّ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِ اللَّهِ يَجِبُ لِلَّهِ ضَرُورَةً (وَمُجَرَّدُ الْمَنْعِ) مِنْ الْإِرْثِ (قَاصِرٌ) فِي مَعْنَى الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ أَلَمٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ بَلْ مَنَعَ ذَلِكَ ثُبُوتَ مِلْكِهِ فِي تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ.
(تَنْبِيهٌ) وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا مَوْصُوفَ قَاصِرَةٍ عُقُوبَةً كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِهَذَا الْقِسْمِ مِثَالًا غَيْرَ هَذَا وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ لَهُ مِثَالٌ غَيْرُهُ حَتَّى كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةٌ الْوَاحِدُ لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ وَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِمَا قَاصِرٌ بِهَذَا الْقِسْمِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ السَّابِعُ (وَحُقُوقُهُمَا) أَيْ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ مُجْتَمِعَانِ (فِيهَا كَالْكَفَّارَاتِ) لِلْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْفِطْرِ الْعَمْدِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ أَمَّا أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ وَيُؤْمَرُ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ جَبْرًا وَالشَّرْعُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَى الْمُكَلَّفِ إقَامَةَ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ هِيَ مُفَوَّضَةٌ إلَى الْأَئِمَّةِ وَتُسْتَوْفَى جَبْرًا وَأَمَّا أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ إلَّا أَجْزِيَةً عَلَى أَفْعَالٍ مِنْ الْعِبَادِ لَا مُبْتَدَأَةً كَالْعِبَادَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً لِأَنَّهَا سِتَارَةٌ لِلذُّنُوبِ (وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ غَالِبَةٌ فِيهَا) بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ مِثْلُ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَالْمُحْرِمِ الْمُضْطَرِّ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِمَخْمَصَةٍ وَلَوْ كَانَتْ جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةً لَامْتَنَعَ وُجُوبُهَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِأَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ إنْ لَمْ تَمْنَعْ الْوُجُوبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ فَجِهَةُ الْعُقُوبَةِ تَمْنَعُهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (إلَّا الْفِطْرُ) أَيْ كَفَّارَتُهُ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ (وَأَلْحَقَهَا) أَيْ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ (الشَّافِعِيُّ بِهَا) أَيْ بِبَقِيَّةِ الْكَفَّارَاتِ فِي تَغْلِيبِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا عَلَى الْعُقُوبَةِ حَيْثُ لَمْ يُسْقِطْهَا بِالشُّبْهَةِ كَمَا سَيَأْتِي
(وَالْحَنَفِيَّةُ) إنَّمَا قَالُوا بِتَغْلِيبِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا عَلَى الْعِبَادَةِ (لِتَقَيُّدِهَا) أَيْ وُجُوبِهَا (بِالْعَمْدِ) أَيْ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ (لِيَصِيرَ) الْفِطْرُ الْعَمْدُ (حَرَامًا وَهُوَ) أَيْ الْحَرَامُ (الْمُثِيرُ لِلْعُقُوبَةِ وَالْقُصُورِ) لِلْعُقُوبَةِ فِيهَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً (لِكَوْنِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِرْ حَقًّا تَامًّا مُسَلَّمًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ) وَهُوَ اللَّهُ عز وجل (وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ تَمَامَهُ بِإِكْمَالِهِ يَوْمًا فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَقَصُرَتْ عُقُوبَتُهَا جَزَاءً وِفَاقًا (فَلِذَا) أَيْ لِقُصُورِ الْعُقُوبَةِ فِي هَذَا الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ (تَأَدَّى) هَذَا الْحَقُّ (بِالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَشُرِطَتْ النِّيَّةُ) فِيهِ (فَتَفَرَّعَ) عَلَى غَلَبَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ (دَرْؤُهَا بِالشُّبْهَةِ) أَيْ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَمَا يُدْرَأُ الْحَدُّ بِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تَجِبْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ جَامَعَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ وَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ وَأَيْضًا (فَوَجَبَتْ مَرَّةً بِمِرَارٍ) أَيْ بِفِطْرٍ مُتَعَدِّدٍ فِي أَيَّامٍ (قَبْلَ التَّكْفِيرِ مِنْ رَمَضَانَ) وَاحِدٍ عِنْدَنَا كَمَا يُحَدُّ مَرَّةً وَاحِدَةً بِزِنَاهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إذَا لَمْ يُحَدَّ بِكُلِّ مَرَّةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ
عَلَيْهِ بِكُلِّ فِطْرِ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ (وَمِنْ اثْنَيْنِ) أَيْ وَيَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِفِطْرٍ مُتَعَدِّدٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ (عِنْدَ الْأَكْثَرِ) أَيْ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا فِي التَّلْوِيحِ وَفِي الْكَافِي فِي الصَّحِيحِ (خِلَافًا لِمَا يُرْوَى عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ فِطْرِ الْأَيَّامِ مِنْهُمَا قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَسْطُورَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً زَادَ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ حَكَى فِي الْحَقَائِقِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَعَدُّدِهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ حَيْثُ قُلْنَا بِهِ (لِأَنَّ التَّدَاخُلَ دَرْءٌ) ثُمَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَمَا عُلِمَ وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِوَاحِدَةٍ (وَلَوْ كَفَّرَ) عَنْ فِطْرِ يَوْمٍ (ثُمَّ أَفْطَرَ) فِي آخَرَ (فَأُخْرَى لِتَيَقُّنِ عَدَمِ انْزِجَارِهِ بِالْأُولَى فَتُفِيدُ) الْكَفَّارَةُ (الثَّانِيَةُ) الِانْزِجَارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ الثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ هُوَ الظَّاهِرُ.
(تَتْمِيمٌ) وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الْعُقُوبَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبَدِيعِ وَمَشَى عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَتَكُونُ جِهَةُ الْجِنَايَةِ غَالِبَةً فَيَكُونُ فِي جَزَائِهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ غَالِبَةً وَدُفِعَ بِأَنَّ السَّبَبَ لَيْسَ الظِّهَارُ بَلْ الْعَوْدُ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ كَمَا هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ أَوْ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ جَمِيعًا كَمَا عَلَيْهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ اسْتَرْوَحَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الْآيَةُ لِأَنَّ لَفْظَهَا يَحْتَمِلُهُمَا إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُهَا عَلَيْهِمَا كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْأَخِيرِ وَقَدْ تَرَجَّحَ كَوْنُهُ الْأَخِيرَ لِأَنَّهُ بَسِيطٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَكَّبِ وَيُرَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ لَا شَرْطِهِ وَالْكَفَّارَةُ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ لَا الْعَزْمِ وَعَلَى الْآخَرَانِ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ أَوْ إيفَاءُ الْوَاجِبِ مِنْ الْوَطْءِ كَمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ وَلَعَلَّهُ الْأَشْبَهُ فَإِنَّ إيفَاءَ حَقِّهَا مِنْ الْوَطْءِ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا ذَكَرَ الْإِمَامُ السُّرُوجِيُّ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عِنْدَنَا لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ عِنْدَنَا قَالَ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَنَا لَا بِالظِّهَارِ وَلَا بِالْعَوْدِ إذْ لَوْ وَجَبَتْ لَمَا سَقَطَتْ بَلْ مُوجِبُ الظِّهَارِ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ فَإِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِرَفْعِ الْحُرْمَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ وَلَمْ تُطَالِبْ الْمَرْأَةُ بِالْوَطْءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا اهـ عَلَى أَنَّهُ كَمَا فِي الطَّرِيقَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ الَّتِي حُكْمُهَا تَكْفِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَإِذْهَابُ السَّيِّئَةِ خُصُوصًا إذْ صَارَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ تُجْعَلَ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَعَ حُكْمِهَا الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ تَصِيرُ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعْصِيَةِ فَتَصِيرُ الْمَعْصِيَةُ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ اهـ
ثُمَّ يُشْكِلُ كَوْنُ الْغَلَبَةِ فِيهَا لِجِهَةِ الْعُقُوبَةِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ وَمَا الْعُقُوبَةُ غَالِبَةٌ فِيهِ التَّدَاخُلُ وَلَا تَدَاخُلَ هُنَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالثَّانِي فَصَاعِدًا التَّكْرَارَ وَالتَّأْكِيدَ ثُمَّ فِي التَّلْوِيحِ وَذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا أَنَّ دَاعِيَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ قَوِيَّةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ أَمْرٌ مُعَوَّدٌ لِلنَّفْسِ اُحْتِيجَ فِيهَا إلَى زَاجِرٍ فَوْقَ مَا فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ فَصَارَ الزَّجْرُ فِيهَا أَصْلًا وَالْعِبَادَةُ تَبَعًا فَإِنَّ مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْإِفْطَارِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ فَتَأَمَّلَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ انْزَجَرَ لَا مَحَالَةَ وَبَاقِي الْكَفَّارَاتِ بِالْعَكْسِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلزَّجْرِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ شُرِعَتْ فِيمَا يَنْدُبُ إلَى تَحْصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ وَهُوَ الْعَوْدُ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ شُرِعَتْ فِيمَا يَجِب تَحْصِيلُ مَا تَعَلَّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالشُّرُوطِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ وَشَرْعُ الزَّاجِرِ فِيمَا يُنْدَبُ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَالثَّانِي حُقُوقُ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَمِلْكِ الْمَبِيعِ وَالزَّوْجَةِ وَكَثِيرٍ وَمَا اجْتَمَعَا) أَيْ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ (فِيهِ وَحَقُّهُ تَعَالَى غَالِبٌ) وَهُوَ (حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقَعُ نَفْعُهُ عَامًّا بِإِخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا إنْسَانٌ دُونَ إنْسَانٍ
وَمِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْعِرْضِ وَدَفْعَ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ حَقُّ الْعَبْدِ إذْ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ثُمَّ فِي هَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا لِأَنَّ فِي النَّفْسِ حَقَّيْنِ: حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ لِلَّهِ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ لِلْعَبْدِ فَكَانَ الْغَالِبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى (فَلَيْسَ لِلْمَقْذُوفِ إسْقَاطُهُ) أَيْ الْحَدِّ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَحِّضٍ لَهُ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْعِدَّةِ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ إيَّاهَا لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ عز وجل (وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى (لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمَقْذُوفِ لِيُقِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ (لِأَنَّ حُقُوقَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِمَامُ) لِاسْتِنَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ فِي اسْتِيفَائِهَا دُونَ غَيْرِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ حَدَّ الْقَذْفِ (لِتُهْمَتِهِ) أَيْ الْقَاذِفِ الْمَقْذُوفَ (بِالزِّنَا وَأَثَرُ الشَّيْءِ مِنْ بَابِهِ) أَيْ بَابِ ذَلِكَ الشَّيْءِ
وَحَدُّ الزِّنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقًا (فَدَارَ) حَدُّ الْقَذْفِ (بَيْنَ كَوْنِهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا) كَحَدِّ الزِّنَا (أَوْ) بَيْنَ كَوْنِهِ (لَهُ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى (وَلِلْعَبْدِ) كَمَا ذَكَرْنَا فَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ (فَتَغَلَّبَ) حَقُّ اللَّهِ (بِهِ) أَيْ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًا بِتَغْلِيبِ حَقِّ مَوْلَاهُ لَا مُهْدَرًا وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَذَهَبَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ ثُمَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا بَيْنَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلِفٍ فِيهِ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَمِنْهَا مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ وَمَحَلُّ الْخَوْضِ فِيهَا الْكُتُبُ الْفِقْهِيَّةُ (وَمَا اجْتَمَعَا) أَيْ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ (وَالْغَالِبُ حَقُّ الْعَبْدِ) وَهُوَ (الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ) فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ وَلِلْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ فَفِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ إيفَاءٌ لِلْحَقَّيْنِ وَإِخْلَاءٌ لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ مَعْنَى الْجَبْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحِلِّ فَكَانَ حَقُّ الْعَبْدِ رَاجِحًا وَلِهَذَا فُرِضَ اسْتِيفَاؤُهُ لِلْوَارِثِ وَجَرَى فِيهِ الِاعْتِيَاضُ بِالْمَالِ وَالْعَفْوِ
(وَيَنْقَسِمُ) مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مُطْلَقًا (أَيْضًا بِاعْتِبَارِ آخِرِ أَصْلٍ وَخَلَفٍ) أَيْ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافُهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْخَلْفِيَّةِ إلَى أَصْلٍ وَخَلَفٍ ثُمَّ (لَا يَثْبُتُ) كَوْنُهُ خَلَفًا (إلَّا بِالسَّمْعِ) نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ اقْتِضَاءً (صَرِيحًا أَوْ غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ صَرِيحٍ كَالْأَصْلِ لَا بِالرَّأْيِ فَحَذَفَ الْمُنْقَسِمَ إلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِهِ (فَالْأَصْلُ كَالتَّصْدِيقِ فِي الْإِيمَانِ) فَإِنَّهُ أَصْلٌ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِعُذْرٍ مَا وَلَا يَبْقَى مَعَ التَّبْدِيلِ بِحَالٍ (وَالْخَلَفُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ التَّصْدِيقِ (الْإِقْرَارُ) بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الْجَنَانِ (وَإِذْ لَمْ يُعْلَمْ الْأَصْلَ يَقِينًا) لِأَنَّهُ غَيْبٌ (أُدِيرَ) الْحُكْمُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخَلَفِ (فَلَوْ أُكْرِهَ) الْكَافِرُ عَلَى الْإِسْلَامِ (فَأَقَرَّ) بِهِ (حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ) لِوُجُودِهِ ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَحِينَئِذٍ (فَرُجُوعُهُ) عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ بِاللِّسَانِ (رِدَّةٌ لَكِنْ لَا تُوجِبُ الْقَتْلَ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ لِإِسْقَاطِهِ (بَلْ) تُوجِبُ (الْحَبْسَ وَالضَّرْبَ حَتَّى يَعُودَ) إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ عَوْدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ (وَدُفِنَ) مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خِلَافُهُ إلَى أَنْ مَاتَ (فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ) أَيْ بِإِقْرَارِهِ بِالْإِسْلَامِ مُكْرَهًا (وَ) يَثْبُتُ أَيْضًا (بَاقِي أَحْكَامُ الْخَلْفِيَّةِ فِي الدُّنْيَا) مِنْ إسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَعَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَمَّا الْآخِرَةُ فَالْمَذْهَبُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ نَصُّ أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّهُ) أَيْ الْإِقْرَارَ (أَصْلٌ) فِي أَحْكَامِهَا أَيْضًا (فَلَوْ صَدَّقَ) بِقَلْبِهِ (وَلَمْ يُقِرَّ) بِلِسَانِهِ (بِلَا مَانِعٍ) لَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ وَاسْتَمَرَّ (حَتَّى مَاتَ كَانَ فِي النَّارِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ) وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ (التَّصْدِيقُ وَحْدَهُ) فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ هُوَ (وَالْإِقْرَارُ) شَرْطٌ (لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا) أَيْ لِإِجْرَائِهَا عَلَيْهِ (كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورُ الْمَاتُرِيدِيُّ ثُمَّ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ الْإِقْرَارُ لِهَذَا الْغَرَضِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِإِتْمَامِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّكَلُّمِ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ عَلَى غَيْرِهِ
ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ قَادِرًا وَتَرَكَ التَّكَلُّمَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاءِ إذْ الْعَاجِزُ كَالْأَخْرَسِ مُؤْمِنٌ اتِّفَاقًا وَالْمُصِرُّ عَلَى عَدَمِ الْإِقْرَارِ مَعَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ كَافِرٌ وِفَاقًا لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ (ثُمَّ صَارَ أَدَاءُ الْأَبَوَيْنِ فِي الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ خَلَفًا عَنْ أَدَائِهِمَا)
أَيْ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِعَجْزِهِمَا عَنْ ذَلِكَ (فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِمَا تَبَعًا لِأَحَدِهِمَا) أَيْ الْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ الْمَتْبُوعُ وَالتَّابِعُ حِينَ الْإِسْلَامِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ الْمَتْبُوعُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالتَّابِعُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْعَكْسِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْيَنَابِيعِ وَغَيْرِهِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا دَخَلَ عَسْكَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ وَأَسَرُوا الصَّغِيرَ مَعَ أُمِّهِ الْكَافِرَةِ مَثَلًا أَوَّلًا ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا فَإِنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَسْتَتْبِعُهُ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ (ثُمَّ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ) صَارَتْ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ إسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَعَدَمُ خُرُوجِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ أَوَّلًا كَمَا أَشَارَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ (فَلَوْ سُبِيَ فَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَكَذَا تَبَعِيَّةُ الْغَانِمِينَ) أَيْ تَبَعِيَّتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ الْغَانِمِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَبَوَاهُ وَلَا أَحَدُهُمَا وَاخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِشِرَائِهِ مِنْ الْإِمَامِ الْغَنِيمَةَ ثَمَّةَ صَارَتْ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَلَوْ قَسَّمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ أَحَدِهِمْ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ (حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ خَلَفٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ) عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَمَا ذَكَرْنَا (لَا أَنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضَهَا بَعْضًا) لِأَنَّ الْخَلَفَ لَا خَلَفَ لَهُ كَذَا قَالُوا وَقَدْ قِيلَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ خَلَفًا مِنْ وَجْهٍ وَأَصْلًا مِنْ وَجْهٍ ثُمَّ كَوْنُ هَذِهِ التَّبَعِيَّاتِ مُرَتَّبَةً هَكَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ: تَبَعِيَّةُ صَاحِبِ الْيَدِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ
قُلْت: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّهُمَا وُجِدَ أَوَّلًا تَعَيَّنَ نِسْبَةَ التَّبَعِيَّةِ إلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ وَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَعْطُوفًا بِأَوْ أَوْ الْوَاوِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ وَمَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بَقِيَ أَنَّ الْخَلْفِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالسَّمْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِيمَا كَانَ بَيْنَ مُسْلِمٍ أَصْلِيٍّ وَذِمِّيَّةٍ الْإِجْمَاعُ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» فَجَعَلَ اتِّفَاقَهُمَا عِلَّةً نَاقِلَةً لِلْوَلَدِ عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَيَثْبُتُ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ مُسْلِمٍ عَارِضٍ إسْلَامُهُ وَذِمِّيَّةٍ وَبَيْنَ مُسْلِمَةٍ عَارِضٍ إسْلَامَهُمَا وَذِمِّيٍّ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ ثُبُوتَ أَحَدِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ لِلْوَلَدِ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ فَإِذَا زَالَ الْوَصْفُ عَنْ أَحَدِهِمَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ فَيَنْتَفِي الْمَعْلُولُ فَيَتَرَجَّحُ ثُبُوتُ الْوَصْفِ الْمَفْطُورِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ فَيَلْزَمُ بِعَيْنِ هَذَا صَيْرُورَةُ الصَّغِيرِ مُسْلِمًا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ بَاقِي الْأَئِمَّةِ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَسْلَمَ ثَعْلَبَةُ وَأُسَيْدُ ابْنًا شُعْبَةَ فَعَصَمَ إسْلَامُهُمَا أَمْوَالَهُمَا وَأَوْلَادَهُمَا الصِّغَارَ» وَلَا يَعْرَى عَنْ تَأَمُّلٍ وَأَمَّا جَعْلُهُ تَبَعًا لِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِلْغَانِمِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّمْعِيِّ الْمُفِيدِ لَهُ فَإِنْ قُلْت: يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ السَّالِفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَبَوَيْهِ نَاقِلَيْهِ عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِمَا وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيمَنْ اخْتَصَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشِرَاءٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ قِسْمَةٍ وَبِمَا إذَا أُخْرِجَ وَحْدَهُ مَسْبِيًّا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ الْمَفْطُورِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّاقِلِ لَهُ عَنْهُ قُلْت: نَعَمْ لَوْ تَمَّ لَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ إذَا وَقَعَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمَسْطُورَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِيهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
(هَذَا) كُلُّهُ (إذَا لَمْ يَكُنْ) الصَّغِيرُ (عَاقِلًا وَإِلَّا) لَوْ كَانَ عَاقِلًا (اسْتَقَلَّ بِإِسْلَامِهِ) فَإِذَا أَسْلَمَ صَحَّ وَحِينَئِذٍ (فَلَا يَرْتَدُّ بِرِدَّةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا) أَيْ أَبَوَيْهِ (عَلَى مَا سَيُعْلَمُ) فِي فَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَيَسْتَوِي فِيمَا قُلْنَا أَنْ يَعْقِلَ أَوْ لَا يَعْقِلَ إلَى هَذَا أَشَارَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِهِ: لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ يُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا سَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ عَاقِلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَّبِعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا (وَمِنْهُ) أَيْ الْخَلَفِ عَنْ الْأَصْلِ