الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ رُخْصَةٌ) فَمَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْ لِفِعْلٍ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ لِتَرْكٍ كَتَرْكِ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ جِنْسٌ مُتَنَاوِلٌ لِلْمَطْلُوبِ وَغَيْرِهِ وَلِعُذْرٍ أَيْ مَا يَطْرَأُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ مِنْ أَمْرٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّسْهِيلِ عَلَيْهِ مُخْرَجٌ لِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْخِصَالِ الْمُرَتَّبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ وَمَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ أَيْ بَقَاءِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ مَعْمُولًا بِهِ أَيْ مُثْبِتًا لِلْحُرْمَةِ حَتَّى فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا لَوْلَا الْعُذْرُ فَهُوَ قَيْدٌ لِوَصْفِ التَّحْرِيمِ لَا لِلْقِيَامِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ التَّفْتَازَانِيُّ مُخْرِجٌ لِمَا نُسِخَ تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَامَ لِلْمُحَرِّمِ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ مَعْمُولًا بِهِ وَمَا خُصَّ مِنْ دَلِيلِ الْمُحَرِّمِ؛ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ بِمَانِعٍ فِي حَقِّهِ بَلْ التَّخْصِيصُ بَيَانُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ.
(وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ هَكَذَا (فَعَزِيمَةٌ وَمُقْتَضَاهُ) أَيْ هَذَا الِاقْتِصَارِ (انْتِفَاءُ التَّعَلُّقِ) أَيْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ (بِقَائِمِ الْعُذْرِ) لِعَدَمِ إثْبَاتِ الْمُحَرِّمِ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّهِ (وَيَقْتَضِي امْتِنَاعَ صَبْرِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكَلِمَةِ) أَيْ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْقَتْلِ (لِحُرْمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ بِلَا مُبِيحٍ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ فِي قَوْلِ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ إذَا بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ وَكَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُ لِمَانِعٍ طَارِئٍ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ لَوْلَاهُ لَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ فَهُوَ الرُّخْصَةُ اهـ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّف إنْ لَمْ يَبْقَ مُكَلَّفًا عِنْدَ طُرُوِّ الْعُذْرِ لَمْ يُثْبِتْ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ الْاقْتِضَائِيَّة وَالتَّخْيِيرِيَّة وَالتَّكْلِيفُ شَرْطٌ لَهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ عَدَمُ تَحْرِيمِ مِثْلِ إجْرَاءِ الْمُكْرَهِ كَلِمَةَ الشِّرْكِ عَلَى لِسَانِهِ وَإِفْطَارِهِ فِي رَمَضَانَ وَإِتْلَافِهِ مَالَ الْغَيْرِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ اهـ.
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَعْرِيفُ الرُّخْصَةِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ لِلْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ لَكِنْ بِلَا ذِكْرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ غَيْرِ جَامِعٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَدَقَ عَلَى الرُّخْصَةِ الْوَاجِبَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الرُّخْصَةِ الْمَنْدُوبَةِ كَقَصْرِ الرَّبَاعِيَةِ لِمُسَافِرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا عَلَى الرُّخْصَةِ الْمُبَاحَةِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ فَالْأَوْلَى قَوْلُ الْمِنْهَاجِ الْحُكْمُ إنْ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِعُذْرٍ فَرُخْصَةٌ وَإِلَّا فَعَزِيمَةٌ وَجَمْعُ الْجَوَامِعِ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إنْ تَغَيَّرَ إلَى سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ فَرُخْصَةٌ وَإِلَّا فَعَزِيمَةٌ، ثُمَّ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ إلَيْهِمَا طَرِيقُ الْحَاصِلِ وَالْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِمَا وَآخَرُونَ كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ هَذَا وَبَعْضُهُمْ كَالْبَيْضَاوِيِّ عَلَى دُخُولِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ فِي الْعَزِيمَةِ وَبَعْضُهُمْ كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ إلَّا الْمُحَرِّمَ وَخَصَّهَا الْقَرَافِيُّ بِالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَقَالَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مِنْ الْعَزَائِمِ فَإِنَّ الْعَزْمَ هُوَ الطَّلَبُ الْمُؤَكَّدُ فِيهِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَالْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُخْتَصَرِ الْكَبِيرِ بِالْوَاجِبِ لَا غَيْرُ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِاصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ الْآمِدِيُّ وَصَاحِبُ الْبَدِيعِ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ وَقِيلَ لِلشَّارِعِ فِي الرُّخَصِ حُكْمَانِ كَوْنُهَا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ وَكَوْنُهَا مُسَبَّبَةً عَنْ عُذْرٍ طَارِئٍ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ يُنَاسِبُ تَخْفِيفَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالْمُسَبَّبِيَّة وَلَا بِدَعَ فِي جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَتَيْنِ فَإِنَّ إيجَابَ الْجَلْدِ لِلزَّانِي مِنْ أَحْكَامِ الِاقْتِضَاءِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَمِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُسَبَّبًا عَنْ الزِّنَا وَعَلَيْهِ مَشَى الْأَبْهَرِيُّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[تَتِمَّةٌ الصِّحَّةُ تَرَتُّبُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْفِعْلِ عَلَيْهِ]
(تَتِمَّةٌ) لِهَذَا الْفَصْلِ (الصِّحَّةُ تَرَتُّبُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْفِعْلِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْفِعْلِ (فَفِي الْمُعَامَلَاتِ الْحِلُّ وَالْمِلْكُ) ؛ لِأَنَّهُمَا الْمَقْصُودَانِ مِنْهَا فَتَرَتُّبُهُمَا عَلَيْهَا صِحَّتُهَا (وَفِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَكَلِّمُونَ) قَالُوا هِيَ (مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ) أَيْ أَمْرِ الشَّارِعِ وَقَوْلِهِ (فِعْلَهُ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْجَرِّ حَالَ كَوْنِهِ (مُسْتَجْمِعًا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ) بَدَلٌ مِنْهُ إذْ مُوَافَقَةُ الْفِعْلِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ طَلَبِهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ (وَهُوَ) أَيْ فِعْلُهُ مُسْتَجْمِعًا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ (مَعْنَى الْإِجْزَاءِ وَالْفُقَهَاءُ) قَالُوا (هُمَا) أَيْ الصِّحَّةُ وَالْإِجْزَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ (انْدِفَاعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ) ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِيهَا فَالْخِلَافُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَمَا اسْتَحْسَنَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ لَا فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ (فَفِيهِ) أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (زِيَادَةُ قَيْدٍ) عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهَا مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ الْقَضَاءُ ثُمَّ هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ كَوْنُ الْفِعْلِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ لِمَا فِي تِلْكَ مِنْ الْمُشَاحَّةِ اللَّفْظِيَّةِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَجِبْ فَكَيْفَ يَسْقُطُ وَأَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْعَضُدِ إنَّهَا دَفْعُ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ صِفَةُ الْفِعْلِ وَالدَّفْعَ صِفَةُ الْمُكَلَّفِ فَغَيَّرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا بِمَا يُطَابِقُ الْحَالَ وَهُوَ انْدِفَاعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ (فَصَلَاةُ ظَانِّ الطَّهَارَةِ مَعَ عَدَمِهَا) أَيْ الطَّهَارَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (صَحِيحَةٌ وَمُجْزِئَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ عَلَى ظَنِّهِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا بِقَدْرِ وُسْعِهِ (لَا الثَّانِي) أَيْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ سُقُوطِ الْقَضَاءِ لَهَا (وَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ) أَيْ عَدَمِ الطَّهَارَةِ (غَيْرَ أَنَّ الْإِجْزَاءَ لَا يُوصَفُ بِهِ وَبِعَدَمِهِ إلَّا مُحْتَمَلُهُمَا) أَيْ الْإِجْزَاءُ بِأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَدٍّ بِهِ شَرْعًا لِكَوْنِهِ مُسْتَجْمِعًا لِلشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَعَدَمُهُ بِأَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُعْتَدٍّ بِهِ لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ (مِنْ الْعِبَادَاتِ) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ (بِخِلَافِ الْمَعْرِفَةِ) لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُهُمَا فَإِنَّهُ إنْ عَرَّفَهُ تَعَالَى بِطَرِيقٍ مَا فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُهُ فَلَا يُقَالُ عَرَفَهُ مَعْرِفَةً غَيْرَ مُجْزِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ مَا عَرَفَهُ بَلْ الْوَاقِعُ جَهْلٌ لَا مَعْرِفَةٌ (وَقِيلَ يُوصَفُ بِهِمَا) أَيْ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَيْضًا مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ عَلَى وَجْهَيْنِ وَهُوَ (رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمِلْكِ) حَالَ كَوْنِهِ (مَحْجُورًا) لِسَفَهٍ أَوْ جُنُونٍ (وَغَيْرَ مَحْجُورٍ) فَيُوصَفُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْزَاءِ وَالثَّانِي بِعَدَمِهِ (وَدَفَعَ) وَالدَّافِعُ الْإِسْنَوِيُّ (بِأَنَّهُ) أَيْ رَدَّهَا إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (لَيْسَ تَسْلِيمًا لِمُسْتَحِقِّ التَّسْلِيمِ) بِخِلَافِ رَدِّهَا إلَى غَيْرِ الْمَحْجُورِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِ مَا يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ بَلْ مِنْ مِثْلِ مَا لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَذْكُرُ مِنْهُ كَمَا وَقَعَ فِي الْمَحْصُولِ وَالتَّحْصِيلِ وَالْمِنْهَاجِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْمَالِكِ الْمَحْجُورِ لَيْسَ رَدًّا غَيْرَ مُجْزٍ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِمَّا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهُ مُجْزِيًا وَغَيْرَ مُجْزٍ فَالْوَجْهُ حَذْفُهُ مِنْ مِثْلِ مَا لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَمَا حَذَفَهُ فِي الْحَاصِلِ (ثُمَّ قِيلَ مُقْتَضَى) كَلَامِ (الْفُقَهَاءِ) أَنَّ الْإِجْزَاءَ (لَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ فَفِي حَدِيثِ الْأُضْحِيَّةِ) عَنْ «أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً قَبْلَ الصَّلَاةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تُجْزِي عَنْك قَالَ عِنْدِي جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تُجْزِي إلَى آخِرِهِ أَيْ عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ (وَنَظَرَ فِيهِ بِرِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ) مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى مَا قَالَ «لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» عَلَى وُجُوبِهَا) أَيْ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى الْوُجُوبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْزَاءَ خَاصٌّ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْوُجُوبُ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
(وَقَالُوا هُوَ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِهَا (أَدَلُّ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ) أَيْ مِنْ لَفْظِهِمَا عَلَى وُجُوبِهَا وَهُوَ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ بِنَاءً عَلَى مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى النَّسَبِ لَا عَلَى نَفْيِ الْخَبَرِ وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْجَارِ مَحْذُوفٌ فَيُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ صَحِيحَةً فَيُوَافِقُ مَطْلُوبَهُمْ أَوْ كَامِلَةً فَيُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةَ وَفِيهِ نَظَرٌ (وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَلْيَسْتَطِبْ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مَعَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) النَّظَرُ (يُحَوِّلُ الدَّلِيلَ) الْمَذْكُورَ عَلَى أَنَّ الْإِجْزَاءَ يُوصَفُ بِهِ الْمَنْدُوبُ (اعْتِرَاضًا عَلَيْهِمْ) يَعْنِي قَوْلَكُمْ أَنَّهُ يَخُصُّ الْوَاجِبَ حَتَّى جَعَلْتُمْ حَدِيثَ «لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» وَحَدِيثَ فَإِنَّهَا تُجْزِي دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ يَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْأُضْحِيَّةِ نَقْضًا تَقْرِيرُهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَقُلْ صلى الله عليه وسلم تُجْزِي إلَى آخِرِهِ (وَالصِّحَّةُ عَمَّتْهُمَا) أَيْ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ (كَالْفَسَادِ) فِي عُمُومِهِ لَهُمَا (وَهُوَ) أَيْ الْفَسَادُ (الْبُطْلَانُ) عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (وَالْحَنَفِيَّةُ كَذَلِكَ) أَيْ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْفَسَادَ مُرَادِفٌ لِلْبُطْلَانِ (فِي الْعِبَادَاتِ بِفَوَاتِ رُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ) فَالْفَاسِدَةُ هِيَ الْبَاطِلَةُ وَهِيَ مَا فَاتَ فِيهَا رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ (وَقَدَّمْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي النَّهْيِ) وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ إنْ نَافَى حُكْمُهُ
حُكْمَ الْفِعْلِ بَطَلَ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُرَادَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِبَادَةِ هُنَاكَ هُوَ حُصُولُ ثَوَابِهِ تَعَالَى وَانْدِفَاعُ عِقَابِهِ فَحَكَمَ بِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ تَحْرِيمًا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ دُونَ الْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْأُخْرَوِيَّ الْعِقَابُ الْمُنَافِي لِحُكْمِ الْعِبَادَةِ أَيْ أَثَرِهَا فَحَكَمَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِمْ فِي صِحَّةِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ لَوْ صَامَهُ وَحُكْمُ الْمُعَامَلَةِ ثُبُوتُ مِلْكِ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ وَيَثْبُتُ مَعَ الْحُرْمَةِ ذَلِكَ فَجَعَلَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِبَادَةِ أُخْرَوِيًّا وَمِنْ الْمُعَامَلَةِ دُنْيَوِيًّا.
(وَفِي الْمُعَامَلَةِ) قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ (كَوْنُهَا تَرَتَّبَ أَثَرُهَا) وَهُوَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا (مَطْلُوبَةَ التَّفَاسُخِ شَرْعًا الْفَسَادُ وَغَيْرَ مَطْلُوبَةٍ) التَّفَاسُخَ شَرْعًا (الصِّحَّةُ وَعَدَمُهُ) أَيْ تَرَتُّبِ أَثَرِهَا عَلَيْهَا (الْبُطْلَانُ) ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَكَذَا (لِثُبُوتِ التَّرَتُّبِ كَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي النَّهْيِ فَفَرْقٌ) بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ أَفْرَادِ الْمُعَامَلَةِ (بِالْأَسْمَاءِ) الْمَذْكُورَةِ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُسَمَّيَاتِهَا ظَاهِرٌ أَمَّا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَمُسَمَّاهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَلِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ دَفْعِ الْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ. وَأَمَّا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَمُسَمَّاهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ فَلِأَنَّهُ يُقَالُ لُؤْلُؤَةٌ فَاسِدَةٌ إذَا بَقِيَ أَصْلُهَا وَذَهَبَ لَمَعَانُهَا وَبَيَاضُهَا وَلَحْمٌ فَاسِدٌ إذَا أَنْتَنَ وَلَكِنْ بَقِيَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ. وَأَمَّا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَمُسَمَّاهُ وَهُوَ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ فَيُقَالُ لَحْمٌ بَاطِلٌ إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ صَلَاحِيَّةُ الْغِذَاءِ (وَاسْتِدْلَالُ مَانِعِي اتِّصَافِ الْمَنْدُوبِ بِالْإِجْزَاءِ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ (بِمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ) مِنْ الْحَدِيثِ الْمَاضِي (قَدْ يُمْنَعُ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ) أَيْ الِاسْتِنْجَاءَ (مَنْدُوبٌ) عِنْدَهُمْ إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْخَارِجُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ (كَاسْتِدْلَالِ الْمُعَمَّمِينَ) أَيْ كَمَا يَمْنَعُ اسْتِدْلَالُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يُوصَفُ بِهِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ (بِمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ) أَيْ بِحَدِيثِهَا فَقَطْ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْأُضْحِيَّةَ (وَاجِبَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَلَا يَضُرُّهُمْ) أَيْ مَانِعِي اتِّصَافِ الْمَنْدُوبِ بِالْإِجْزَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ (مَا فِي الْفَاتِحَةِ) مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِهَا) أَيْ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ (وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ التَّعْمِيمُ) أَيْ تَعْمِيمُ اتِّصَافِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِهِ (لِحَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ) وَحَدِيثِ الْأُضْحِيَّةِ وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ وَالصِّحَّةُ عَمَّتْهُمَا.
(ثُمَّ قَدْ يُظَنُّ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْوَضِيعَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ) الظَّنَّ (إذْ كَوْنُ الْمَفْعُولِ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ الطَّالِبِ لَهُ) كَمَا هُوَ مَعْنَى الصِّحَّةِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَوْ) كَوْنُهُ (مُخَالِفًا) لِلْأَمْرِ الطَّالِبِ لَهُ كَمَا هُوَ مَعْنَى عَدَمِ الصِّحَّةِ عِنْدَهُمْ (وَكَوْنُهُ) أَيْ الْمَفْعُولِ (تَمَامَ مَا طَلَبَ حَتَّى يَكُونَ مُسْقِطًا أَيْ دَافِعًا لِوُجُوبِ قَضَائِهِ) كَمَا هُوَ مَعْنَى الصِّحَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَخْفَى وَجْهُ تَفْسِيرِ إسْقَاطِ الْوُجُوبِ بِدَفْعِهِ (وَعَدَمِهِ) أَيْ وَكَوْنُ الْمَفْعُولِ عَدَمَ تَمَامِ الْمَطْلُوبِ كَمَا هُوَ مَعْنَى عَدَمِ الصِّحَّةِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ كَوْنُ الْمَفْعُولِ إلَخْ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ (يَكْفِي فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَقْلُ) حَالَ كَوْنِهِ (غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى تَوْقِيفِ الشَّرْعِ) عَلَى ذَلِكَ (كَكَوْنِهِ) أَيْ كَمَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ (مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ وَتَارِكًا) لَهَا بِالْعَقْلِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ (فَحُكْمُنَا بِهِ) أَيْ بِكُلٍّ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ (عَقْلِيٌّ صِرْفٌ) أَيْ خَالِصٌ هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ شَرْحًا لِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ. وَأَمَّا الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ أَوْ الْحُكْمُ بِهِمَا فَأَمْرٌ عَقْلِيٌّ؛ لِأَنَّهُمَا إمَّا كَوْنُ الْفِعْلِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ وَإِمَّا مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَالْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ نَقِيضُهَا، قَالُوا: وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْقَاضِي بِالْعِبَادَاتِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ إذْ لَا يُسْتَرَابُ فِي أَنَّ كَوْنَ الْمُعَامَلَاتِ مُسْتَتْبَعَةً لِثَمَرَاتِهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا مُتَوَقِّفَةً عَلَى تَوْقِيفٍ مِنْ الشَّارِعِ فَلَمْ تُذْكَرْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ وَهُوَ إنْكَارُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا بِخِلَافِهِمَا فِي الْعِبَادَاتِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَرَتُّبَ الْأَثَرِ) الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ عَلَى الْفِعْلِ كَالصَّلَاةِ (وَضْعِيٌّ) لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ وُرُودَ أَمْرِ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِهَا صَحِيحَةً وَغَيْرَ صَحِيحَةٍ بِمَعْنَى كَوْنِهَا مُنْدَفِعًا عَنْهَا الْقَضَاءُ وَغَيْرَ مُنْدَفِعٍ إلَى تَوْقِيفٍ لِلشَّارِعِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَصَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ الْمُقِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُهَا يُسْقِطُهُ كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ الْمُتَيَمِّمِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِبَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ
فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِهَا صَحِيحَةً وَغَيْرَ صَحِيحَةٍ بِمَعْنَى كَوْنِهَا مُوَافِقَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ أَمْ لَا بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهَا إلَى تَوْقِيفِ الشَّارِعِ (وَكَوْنِ الْحُكْمِ بِهِ) أَيْ تَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَى الْفِعْلِ (بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ) أَيْ تَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ (بِالْعَقْلِ شَيْءٌ آخَرُ) ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ السُّبْكِيّ الصَّوَابُ أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ وَالْحُكْمَ بِهِمَا أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ، وَكَوْنُ الْفِعْلِ مُسْقِطًا أَوْ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ وَتَصْيِيرُهُ إيَّاهُ سَبَبًا لِذَلِكَ فَمَا الْمُوَافَقَةُ وَلَا الْإِسْقَاطُ بِعَقْلِيِّينَ؛ لِأَنَّ لِلشَّرْعِ فِيهِمَا مَدْخَلًا وَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الصِّحَّةُ شَرْعِيَّةً لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِهَا لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالصِّحَّةِ إجْمَاعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْأَقْضِيَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ نَقْلَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْأَصْلِ وُقُوعُ الظَّانِّ مُخْطِئًا عَلَى عَكْسِ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْقَائِلَةُ هَلْ تَثْبُتُ صِفَةُ الْجَوَازِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ إذَا أَتَى) الْمَأْمُورُ (بِهِ) أَيْ بِالْمَأْمُورِ بِهِ (إلَى آخِرِهَا) وَهُوَ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَرَاءَ الْأَمْرِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُثْبِتُ بِهِ صِفَةَ الْجَوَازِ كَذَا فِي الْمَنَارِ قُلْت، وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ تَخْتَصَّ الشَّافِعِيَّةُ بِنَقْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ فِي مَعْنَى الصِّحَّةِ بَلْ شَارَكَهُمْ فِيهِ كَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ فِيهِمَا كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ إلَى الشَّافِعِيَّةِ وَلَمْ تَخْتَصَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي ثُبُوتِ صِفَةِ الْجَوَازِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْإِجْزَاءُ الِامْتِثَالُ لِلْأَمْرِ وَحِينَئِذٍ فَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ إخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ يُحَقِّقُ الْإِجْزَاءَ اتِّفَاقًا لِامْتِنَاعِ انْفِكَاكِ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ الْإِتْيَانُ الْمَذْكُورُ وَقِيلَ الْإِجْزَاءُ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ وَحِينَئِذٍ فَقَالَ الْجُمْهُورُ إتْيَانُ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ إذْ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ لَجَازَ أَنْ يَبْقَى الطَّلَبُ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ مَعَ إتْيَانِهِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَا فَعَلَ كَانَ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ عِوَضًا عَنْهُ لَا خِلَافَ فِيهِ لَزِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَوَّلًا بِكُلِّ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ بِبَعْضِهِ وَقَدْ فُرِضَ أَنَّهُ أَتَى بِهِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَاسْتِئْنَافًا فَلَيْسَ بِقَضَاءٍ وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ افْعَلْ كَذَا فَإِذَا فَعَلْت أَدَّيْت الْوَاجِبَ وَيَلْزَمُك مَعَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الْعُمَدِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَا نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمْتَثَلْ وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ وَقَعَ مَوْقِعَ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُقْضَى. اهـ. فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْإِجْزَاءِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لَهُ وَلَا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ أَنَّ الْقَضَاءَ مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا بَلْ هَذَا تَفْسِيرٌ لِأَحَدِ قِسْمَيْهِ فَهُوَ عِنْدَهُ مِثْلُ الْوَاجِبِ أَوَّلًا.
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِهِ فَإِذَنْ النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ كَمَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَعَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ أَمْرٌ آخَرُ بِعِبَادَةٍ يُوقِعُهَا الْمَأْمُورُ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَ الْأَوْلَى وَأَنَّهُ كَمَا ثَمَّ مَنْ لَمْ يُسَمِّهَا قَضَاءً، ثُمَّ مَنْ يُسَمِّيهَا قَضَاءً، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ بَعِيدَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَاحِدَةٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لَكِنْ لَيْسَ بَيْنَ النُّقُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا أَنَّ الْفَرْعَ قِيلَ فِيهِ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ صَحِيحَةٌ وَمُجْزِيَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُ مُجْزِيَةٍ وَلَا صَحِيحَةٍ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بَلْ فِي الْبَدِيعِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ لَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ دَلِيلَ الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الِامْتِثَالُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُعِيدَ الصَّلَاةَ أَوْ يَأْثَمَ إذَا عَلِمَ الْحَدَثَ بَعْدَمَا صَلَّى بِظَنِّ الطَّهَارَةِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِعَادَةِ وَغَيْرُ آثِمٍ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إمَّا مَأْمُورٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِظَنِّ الطَّهَارَةِ أَوْ بِيَقِينِهَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِإِتْيَانِهِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ الْإِثْمُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ قُلْنَا الْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِأَمْرٍ ثَانٍ بِتَوَجُّهِهِ بِالْأَدَاءِ حَالَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ الْأَدَاءِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ حَتَّى لَوْ مَاتَ عِنْدَ الْعِلْمِ أَجْزَأَتْهُ