الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْ دَاعِيَةِ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ (فَالْكَفُّ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً يُثْبِتُهُ) أَيْ وُجُوبَهُ (مَا قَامَ بِإِطْلَاقِهِ الدَّلِيلُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فَخَرَجَ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا لِتَرْكِ الْأَوْلَى بِذَلِكَ فَيَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ التَّرْكِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا صُدِّرَ الْجَوَابُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ تَعْجِيبًا مِنْ ذُهُولِ الْكُلِّ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ مَعَ أَنَّهُمْ الْمُحَقِّقُونَ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْعِلْمِ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مُبَاحٍ تَرْكُ حَرَامٍ مَمْنُوعٌ لِلْقَطْعِ بِفِعْلِ مُبَاحَاتٍ لَا تُحْصَى مِنْ غَيْرِ خُطُورِ مَعْصِيَةٍ يُرَادُ بِفِعْلِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ تُرْكُهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّرْكَ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِخُطُورِ الْمَتْرُوكِ وَدَاعِيَّةِ النَّفْسِ إلَى فِعْلِهِ فَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّرْكُ فَثَبَتَ الْمُبَاحُ مُجَرَّدًا عَنْ كَوْنِهِ تَرْكًا لِشَيْءٍ فَبَطَلَ دَلِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ اهـ ثُمَّ كَوْنُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ إنْكَارَ الْمُبَاحِ رَأْسًا كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُوَ مَا نَقَلَهُ كَثِيرٌ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ بَرْهَانٍ وَالْآمِدِيِّ وَقِيلَ بَلْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْأَمْرِ بِالنَّدْبِ وَالْأَمْرِ بِالْإِيجَابِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ لِآخَرِينَ كَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَهُوَ غَرِيبٌ.
(مَسْأَلَةٌ قِيلَ الْمُبَاحُ جِنْسُ الْوَاجِبِ) ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ مَا أُذِنَ فِي فِعْلِهِ وَهَذَا جُزْءُ حَقِيقَةِ الْوَاجِبِ لِاخْتِصَاصِ الْوَاجِبِ بِقَيْدٍ زَائِدٍ وَهُوَ لَا فِي تَرْكِهِ وَلَا مَعْنَى لِلْجِنْسِ إلَّا كَوْنُهُ تَمَامَ الْجُزْءِ الْمُشْتَرَكِ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ (غَلَطٌ بَلْ) الْمُبَاحُ (قَسِيمُهُ) أَيْ الْوَاجِبِ (مُنْدَرِجٌ مَعَهُ) أَيْ الْوَاجِبِ (تَحْتَ جِنْسِهِمَا إطْلَاقُ الْفِعْلِ لِمُبَايَنَتِهِ) أَيْ الْمُبَاحِ لِلْوَاجِبِ (بِفَصْلِهِ إطْلَاقَ التَّرْكِ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مُطْلَقِ التَّرْكِ (وَتَقَدَّمَ فِي) مَسْأَلَةٍ لَا شَكَّ فِي تَبَادُرِ كَوْنِ الصِّيغَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ مَجَازًا فِي بَحْثِ (الْأَمْرِ مَا يُرْشِدُ إلَيْهِ) أَيْ كَوْنُهُ مُبَايِنًا فَلْيُسْتَذْكَرْ بِالْمُرَاجَعَةِ.
[تَقْسِيمٌ لِلْحَنَفِيَّةِ الْحُكْمُ إمَّا رُخْصَةٌ أَوْ عَزِيمَةٌ]
(تَقْسِيمٌ لِلْحَنَفِيَّةِ الْحُكْمُ إمَّا رُخْصَةٌ وَهُوَ) أَيْ الرُّخْصَةُ (مَا) أَيْ حُكْمُ (شُرِعَ تَخْفِيفًا لِحُكْمٍ) آخَرَ (مَعَ اعْتِبَارِ دَلِيلِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْآخَرِ (قَائِمَ الْحُكْمِ) أَيْ بَاقِيًا الْعَمَلَ بِهِ (لِعُذْرِ خَوْفِ) تَلَفِ (النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ) وَلَوْ أُنْمُلَةً إذَا لَمْ يَمْتَثِلْ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ تَخْفِيفًا لِحُكْمٍ آخَرَ بَلْ شُرِعَتْ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً عَلَى عَارِضٍ كَمَا سَيَأْتِي وَمِنْهَا خِصَالُ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةُ وَالتَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ (كَإِجْرَاءِ الْمُكْرَهِ بِذَلِكَ) أَيْ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوِهِ (كَلِمَةَ الْكُفْرِ) عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (وَجِنَايَتِهِ) أَيْ الْمُحْرِمِ الْمُكْرَهِ بِذَلِكَ (عَلَى إحْرَامِهِ) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إحْرَامَ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَعَلَّهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَا عَلَى صَرِيحٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْفَسَادِ أَوْ لِلدَّمِ فَقَطْ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْهُمَا وَمِنْ الصَّدَقَةِ إلَّا مَا عَسَاهُ يُفْهَمُ مِمَّا فِي شَرْحٍ لِأُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ جِنَايَةَ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ. اهـ. وَيُخَالُ مِنْ اقْتِصَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى تَعْلِيلِ التَّرَخُّصِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِنَايَةِ بِأَنَّ فِيهِ انْجِبَارَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالدَّمِ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنَايَةُ الَّتِي تُوجِبُ الدَّمَ لَا الصَّدَقَةَ وَيُدْفَعُ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ التَّرَخُّصُ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ الدَّمَ فَفِي الَّتِي تُوجِبُ الصَّدَقَةَ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى (وَرَمَضَانَ) أَيْ وَجِنَايَةُ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا مَكْرُوهًا بِذَلِكَ عَلَى جِنَايَتِهِ عَلَى صَوْمِهِ بِالْإِفْسَادِ (وَتَرْكِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ إذَا أَمَرَ وَنَهَى وَصَلَّى (وَتَنَاوُلِ الْمُضْطَرِّ مَالَ الْغَيْرِ وَهُوَ) أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الرُّخْصَةِ (أَحَقُّ نَوْعَيْهَا) أَيْ أُولَاهُمَا حَقِيقَةً بِاسْمِ الرُّخْصَةِ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْعَزِيمَةِ فِيهِ وَقِيَامِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ دَالٍّ عَلَى تَرَاخِيهِ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ (فَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى وَلَوْ مَاتَ بِسَبَبِهَا) أَيْ الْعَزِيمَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَمَّا قِيَامُ دَلِيلِ الْعَزِيمَةِ فِي اسْتِمْرَارِ الْإِيمَانِ وَعَدَمِ تَرَاخِي حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُهُ عَنْهُ فَظَاهِرٌ فَإِنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ قَطْعِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ تَرَاخِي حُكْمِهِ عَنْهُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا فَيَقُومُ حُكْمُهُ وَهُوَ وُجُوبُهُ بِقِيَامِ دَلِيلِهِ وَيَدُومُ بِدَوَامِهِ.
وَإِنَّمَا رَخَّصَ الشَّارِعُ لَهُ فِي إجْرَاءِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلَى لِسَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إجْرَائِهَا وَالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ يَفُوتُ حَقُّهُ صُورَةً بِتَخْرِيبِ بَدَنِهِ وَمَعْنًى بِزَهُوقِ رُوحِهِ وَحَقُّ اللَّهِ لَا يَفُوتُ مَعْنًى لِكَوْنِ قَلْبِهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا الْقَتْلُ لِمَا فِيهَا مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ صُورَةً وَمَعْنًى بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ صُورَةً
وَمَعْنًى فَكَانَ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فَكَانَ شَهِيدًا كَمَا فِي الْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا وَرَاءَك قَالَ شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُرِكَتْ حَتَّى نِلْت مِنْك وَذَكَرْت آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ وَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا «أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأْتُوهُ بِهِمَا فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَأَهْوَى إلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ إنِّي أَصَمُّ فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِثْلَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ فَأَرْسَلَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْت قَالَ وَمَا شَأْنُك فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّتِهِ وَقِصَّةِ صَاحِبِهِ فَقَالَ أَمَّا صَاحِبُك فَمَضَى عَلَى إيمَانِهِ وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذَتْ بِالرُّخْصَةِ» .
وَأَمَّا قِيَامُ دَلِيلِ الْعَزِيمَةِ فِي الْبَاقِي وَهُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ إلَى انْتِهَائِهِمَا شَرْعًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى الْإِحْرَامِ وَعَلَى الصِّيَامِ بِمَا يُوجِبُ الْإِفْسَادَ وَالْقِيَامَ بِفَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي وَقْتِهَا وَالْكَفِّ عَنْ تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُدْوَانِ وَعَدَمِ تَرَاخِي أَحْكَامِ هَذِهِ عَنْ أَدِلَّتِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَمَعْرُوفٌ فِي مَظَانِّهِ، وَإِنَّمَا رَخَّصَ الشَّارِعُ لِلْمُحْرِمِ وَالصَّائِمِ الْمَذْكُورَيْنِ الْإِقْدَامَ عَلَى الْجِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِلْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ بِأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَصَلَاتِهِ الْمَكْتُوبَةِ فِي وَقْتِهَا فِي تَرْكِ ذَلِكَ وَلِلْمُضْطَرِّ فِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِنَايَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَالْكَفِّ عَنْ تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ فَوَاتَ حَقِّهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى وَحَقُّ اللَّهِ لَا يَفُوتُ مَعْنًى مَعَ انْجِبَارِهِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْقَضَاءِ وَالدَّمِ أَوْ بِالدَّمِ أَوْ الصَّدَقَةِ، وَفِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ بِالْقَضَاءِ وَفِي تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ بِالضَّمَانِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْلَى، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهَا الْقَتْلُ أَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَلِبَذْلِ نَفْسِهِ لِلَّهِ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ وَإِظْهَارِ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْزَازِهِ. وَأَمَّا فِيمَا فِيهِ حَقُّ الْعِبَادَةِ فَقِيَاسًا عَلَى الْعِبَادَاتِ لِمَا فِيهِ أَيْضًا مِنْ إظْهَارِ الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ بِبَذْلِ نَفْسِهِ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيهِ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَفِي مَبْسُوطِ خُوَاهَرْ زَادَهْ الْأَصْلُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ النَّصُّ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ ثُمَّ أُبِيحَ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ لَا لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ إذْ لَيْسَ فِي التَّوَرُّعِ عَنْ الْمُبَاحِ إعْزَازُ دِينِ اللَّهِ وَمَنْ أَتْلَفَ نَفْسَهُ لَا لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ كَانَ آثِمًا وَمَا حَرَّمَهُ النَّصُّ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَرَخَّصَ فِيهِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَهُوَ لَيْسَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَظَالِمِ الْعِبَادِ إذَا امْتَنَعَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مُهْجَتَهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ حَيْثُ تَوَرَّعَ عَنْ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَكَذَا مَا ثَبَتَ حُرْمَتُهُ بِالنَّصِّ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِإِبَاحَتِهِ حَالَةَ الضَّرُورَةِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَعَلَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُقِيمِ الصَّحِيحِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مُهْجَتَهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ كَذَلِكَ.
(أَوْ) مَا شُرِعَ تَخْفِيفًا لِحُكْمٍ آخَرَ مَعَ اعْتِبَارِ دَلِيلِهِ (مُتَرَاخِيًا) حُكْمُهُ (عَنْ مَحَلِّهَا) أَيْ الرُّخْصَةِ (كَفِطْرِ الْمُسَافِرِ) وَالْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قَائِمٌ لَكِنْ تَرَاخَى حُكْمُهُ عَنْ مَحَلِّ الرُّخْصَةِ وَهُوَ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184](وَالْعَزِيمَةُ) فِي هَذَا النَّوْعِ (أَوْلَى مَا لَمْ يَسْتَضِرَّ) بِهَا نَظَرًا إلَى قِيَامِ السَّبَبِ وَهُوَ مَحْمَلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ
فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ «حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ قَالَ صلى الله عليه وسلم هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَصَامَ هُوَ فِي السَّفَرِ أَيْضًا» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فَبَحَثْنَا عَنْ ذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّخْصَةِ لَمْ يَتَمَحَّضْ فِي الْفِطْرِ بَلْ فِي الْعَزِيمَةِ مَعْنَاهَا أَيْضًا وَهُوَ مُوَافَقَةُ الصَّائِمِينَ وَلِيُوَطِّنَ النَّفْسَ عَلَى صَوْمِ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَكُلُّ مَا وُطِّنَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ خَفَّ أَمْرُهُ عَلَيْهَا فَكَانَ فِي تَمَحُّضِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ فِي الْفِطْرِ تَرَدُّدٌ إذَا لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ فَإِذَا اسْتَضَرَّ تَمَحَّضَ حِينَئِذٍ فِي الْفِطْرِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ (فَلَوْ مَاتَ بِهَا) أَيْ بِالْعَزِيمَةِ (أَثِمَ) لِقَتْلِهِ نَفْسَهُ بِلَا مُبِيحٍ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ فَقِيلَ لَهُ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَضَرُّوا بِهِ بِدَلِيلِ مَا فِي لَفْظٍ لَهُ فَقِيلَ لَهُ إنَّ النَّاسَ قَدْ شُقَّ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ (وَالْعَزِيمَةُ ذَلِكَ الْحُكْمُ) الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَخْفِيفًا لِحُكْمٍ (فَيُقَيَّدُ) ذَلِكَ الْحُكْمُ (بِمُقَابَلَةِ رُخْصَةٍ وَقَدْ لَا يَتَقَيَّدُ) بِمُقَابَلَةِ رُخْصَةٍ (فَيُقَالُ مَا) أَيْ حُكْمٌ (شُرِعَ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْعَوَارِضِ) أَيْ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَهُوَ إيضَاحٌ لِابْتِدَائِيَّةِ شَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ فَخَرَجَتْ الرُّخْصَةُ وَعَمَّتْ الْعَزِيمَةُ مَا كَانَ هَكَذَا مِمَّا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ رُخْصَةٍ أَوْ لَا فِي مُقَابَلَتِهَا (وَتُعْرَفُ الرُّخْصَةُ بِمَا تَغَيَّرَ مِنْ عُسْرٍ إلَى يُسْرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ) وَهُوَ إيضَاحٌ لِمَا تَغَيَّرَ لِلْعِلْمِ مِنْ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُ تَغَيُّرٍ إلَخْ.
(وَقُسِّمَ كُلٌّ) مِنْ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (أَرْبَعَةً) مِنْ الْأَقْسَامِ فَقُسِّمَتْ (الْعَزِيمَةُ إلَى فَرْضِ مَا) أَيْ حُكْمٌ (قُطِعَ بِلُزُومِهِ) مَأْخُوذٌ (مِنْ فَرْضٍ قُطِعَ وَوَاجِبِ مَا) أَيْ حُكْمٍ (ظُنَّ) لُزُومُهُ سُمِّيَ وَاجِبًا (لِسُقُوطِ) أَيْ وُقُوعِ (لُزُومِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ) جَبْرًا (بِلَا عِلْمٍ) لَهُ بِثُبُوتِهِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ فَهُوَ يَتَحَمَّلُهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِلُزُومِهِ لَهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْفَرْضِ فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عِلْمُهُ بِهِ قَطْعًا يَتَحَمَّلُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ (مِنْ وَجَبَ سَقَطَ وَالشَّافِعِيَّةُ) بَلْ الْجُمْهُورُ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ اسْمَانِ (مُتَرَادِفَانِ) لِفِعْلٍ مَطْلُوبٍ طَلَبًا جَازِمًا (وَلَا يُنْكِرُونَ) أَيْ الشَّافِعِيَّةُ بَلْ الْجُمْهُورُ (انْقِسَامَ مَا لَزِمَ) فِعْلُهُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى طَلَبِهِ طَلَبًا جَازِمًا (إلَى قَطْعِيٍّ) أَيْ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ دَلَالَةً وَسَنَدًا (وَظَنِّيٍّ) أَيْ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ دَلَالَةً وَسَنَدًا أَوْ دَلَالَةً لَا سَنَدًا وَبِالْقَلْبِ (وَلَا) يُنْكِرُونَ (اخْتِلَافَ حَالِهِمَا) أَيْ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ مِنْ حَيْثُ الْإِكْفَارُ وَعَدَمُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الِاسْمَيْنِ هَلْ هُمَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي ذَاتِهِ تَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالنَّظَرِ إلَى طَرِيقِ ثُبُوتِهِ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا لِفَرْدٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارٍ فِي طَرِيقِ ثُبُوتِهِ حَتَّى إنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مِنْ ذَيْنِك الِاسْمَيْنِ وَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ بِهِ حَقِيقَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ دُونَ الْآخَرِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْأَوَّلِ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى الثَّانِي (فَهُوَ) نِزَاعٌ (لَفْظِيٌّ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ.
(غَيْرَ أَنَّ إفْرَادَ كُلِّ قِسْمٍ بِاسْمٍ أَنْفَعُ عِنْدَ الْوَضْعِ) لِمَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ (لِلْحُكْمِ) عَلَيْهِ فَإِنَّك حِينَئِذٍ تَضَعُ الْفَرْضَ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةٍ لِتَحْكُمَ عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَتَضَعَ الْوَاجِبَ لِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْمٌ وَاحِدٌ يَعُمُّ مَعْنَيَيْنِ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْ فَإِنَّك تَضَعُ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ مُعَبِّرًا عَنْهُ بِاسْمِهِ الَّذِي يَخُصُّهُ لِتَحْكُمَ عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْحُكْمِ بِحَسَبِ طَرِيقِ ثُبُوتِهِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى نَصْبِ قَرِينَةٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقِسْمُ الَّذِي طَرِيقُ ثُبُوتِهِ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ لِدَلَالَةِ لَفْظِهِ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كِلَا الِاسْمَيْنِ لِلْقِسْمَيْنِ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى نَصْبِ قَرِينَةٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الِاسْمِ قِسْمٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُمَا (وَإِلَى سُنَّةِ الطَّرِيقَةِ الدِّينِيَّةِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ) الْخُلَفَاءِ (الرَّاشِدِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ) الَّتِي يُطَالَبُ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ فَيَخْرُجُ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْصِحُ عَنْ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مَقُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهم كَمَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ لِمَا صَحَّحَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةِ «الْخِلَافَةِ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا» وَفِي رِوَايَةٍ «الْخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي، وَفِي لَفْظِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ أَوْ قَالَ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ» وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى خِلَافَتِهِمْ (وَيَنْقَسِمُ مُطْلَقُهَا) أَيْ السُّنَّةِ (إلَى سُنَّةِ هَدْيٍ) وَهِيَ مَا يَكُونُ إقَامَتُهَا تَكْمِيلًا لِلدِّينِ (تَارِكُهَا) بِلَا عُذْرٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ (مُضَلَّلٌ مَلُومٌ كَالْأَذَانِ) لِلْمَكْتُوبَاتِ كَمَا هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَإِلَّا فَقَدْ ذَهَبَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ إلَى وُجُوبِهِ وَمَالَ إلَيْهِ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ لِمُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ أَصْلًا وَهُوَ قَوِيٌّ (وَالْجَمَاعَةِ) لَهَا وَيَشْهَدُ لَهُ مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافَظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.
(وَإِنَّمَا يُقَاتَلُ الْمُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِهَا) أَيْ سُنَّةِ الْهُدَى كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي أَهْلِ مِصْرَ تَرَكُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ أُمِرُوا بِهِمَا فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا بِالسِّلَاحِ (لِلِاسْتِخْفَافِ) ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ إعْلَامِ الدِّينِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى تَرْكِهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ فَيُقَاتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ قُوتِلُوا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْأَذَانِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ وَيَشْكُلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ وَلَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ ضَرَبْته وَحَبَسْته بَلْ وَمَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ تَرَكَ أَهْلُ كُورَةٍ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا وَلَوْ تَرَكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ ضَرَبْته وَحَبَسْته؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا يُضْرَبُ وَلَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنَّهُ اسْتِخْفَافٌ كَمَا فِي الْجَمَاعَةِ الْمُصِرِّينَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ لَا مُلَامَ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ السُّنَنِ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ (وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مُطْلِقُهَا) أَيْ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِي عَلَى مَا فِي الْأُمِّ أَوْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى لِسَانِ الشَّرْعِ كَمَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ (يَنْصَرِفُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى مَسْنُونِهِ (عليه السلام) وَعَزَاهُ مِنْ الرَّاوِي صَاحِبِ الْكَشْفِ وَغَيْرِهِ إلَى أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَبِهِ أَخَذَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ (صَحِيحٌ فِي عُرْفِ الْآنَ وَالْكَلَامُ فِي عُرْفِ السَّلَفِ لِيُعْمَلَ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الرَّاوِي) صَحَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (السُّنَّةُ أَوْ مِنْ السُّنَّةِ وَكَانُوا) أَيْ السَّلَفُ (يُطْلِقُونَهَا) أَيْ السُّنَّةَ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) أَيْ سُنَّتَهُ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَلَا سِيَّمَا الْعُمَرَيْنِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ جَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ لَمَّا أَمَرَ الْجَلَّادَ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ، وَقَالَ: مَالِكٌ قَالَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا اعْتِصَامٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَبْدِيلُهَا وَلَا تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي أَمْرٍ خَالَفَهَا مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ تَرَكَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي مَدِيحِ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
فَجَاءَ بِسُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ فِيهَا
…
شِفَاءً لِلصُّدُورِ مِنْ السَّقَامِ
، وَفِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
إنَّا لَنَرْجُو أَنْ تُعِيدَ لَنَا
…
سُنَنَ الْخَلَائِفِ مِنْ بَنِي فِهْرِ
عُثْمَانَ إذْ ظَلَمُوا وَانْتَهَكُوا
…
دَمَهُ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ النَّحْرِ
وَدِعَامَةَ الدِّينِ الَّتِي اعْتَدَلَتْ
…
عُمَرًا وَصَاحِبَهُ أَبَا بَكْرِ
وَكَيْفَ لَا وَقَدْ ثَبَتَ إطْلَاقُ السُّنَّةِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا سَنُّوهُ كَمَا رَوَيْنَا آنِفًا فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَالسَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعُوهُمْ وَالصَّيْرَفِيُّ لَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَرَى فِي الْقَدِيمِ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الصَّحَابِيِّ أَوْ التَّابِعِيِّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ سُنَّةَ الْبَلَدِ اهـ لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ النَّقْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِكَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَعًا، وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْحَافِظُ زَيْنِ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ وَالْأَصَحُّ فِي مَسْأَلَةِ التَّابِعِيِّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ مَوْقُوفٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ مِنْ السُّنَّةِ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ إذَا قَالَهُ التَّابِعِيُّ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ بَلْ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِنَفْيِ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ وَالْحَاكِمِ فَقَالَ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ أَيْضًا إذَا قَالَهَا غَيْرُ الصَّحَابِيِّ فَكَذَلِكَ مَا لَمْ يُضِفْهَا إلَى صَاحِبِهَا كَسُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ وَهَذَا مِنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْخِلَافِ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام هُوَ الْمُقْتَدِي وَالْمُتَّبِعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِضَافَةُ مُطْلَقِهَا إلَيْهِ حَقِيقَةٌ وَإِلَى غَيْرِهِ مَجَازٌ لِاقْتِدَائِهِ فِيهَا بِسُنَّتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْحَجَّاجِ حِينَ قَالَ لَهُ إنْ كُنْت تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قُلْت لِسَالِمٍ أَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهَلْ يَعْنُونَ بِذَلِكَ إلَّا سُنَّتَهُ فَنَقَلَ سَالِمٌ وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا السُّنَّةَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إلَّا سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ وَإِطْلَاقِهَا عَلَى سُنَّتِهِمْ لَا يَلْزَمُنَا؛ لِأَنَّنَا لَا نُنْكِرُ جَوَازَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا نَمْنَعُ فَهْمَ سُنَّةِ غَيْرِهِ مِنْ إطْلَاقِهَا ذَكَرَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْمِيزَانِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا لَوْ قِيلَ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِسُنَّتِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِسُنَّتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَإِلَى) سُنَنٍ (زَائِدَةٍ كَمَا فِي أَكْلِهِ وَقُعُودِهِ وَلُبْسِهِ) صلى الله عليه وسلم قَالُوا أَخْذُهَا حَسَنٌ وَتَرْكُهَا لَا بَأْسَ بِهِ أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَرَاهَةٌ وَلَا إسَاءَةٌ (وَإِلَى نَفْلٍ) وَهُوَ الْمَشْرُوعُ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ لَنَا لَا عَلَيْنَا (يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ) ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَأَدَاءُ الْعِبَادَةِ سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ (فَقَطْ) أَيْ وَلَا يُعَاقَبُ وَلَا يُعَاتَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْمُسَافِرِ حَيْثُ يُوجَدُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ يَقَعُ فَرْضًا لِمَنْعِ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّرْكِ أَصْلًا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يُلَامُ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ (وَمِنْهُ) أَيْ النَّفْلِ الرَّكْعَتَانِ (الْأُخْرَيَانِ) مِنْ الرَّبَاعِيَةِ (لِلْمُسَافِرِ) ؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِمَا وَلَا يُعَاقَبُ وَلَا يُعَاتَبُ عَلَى تَرْكِهِمَا (فَلَمْ يَنُوبَا عَنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ) عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ بِالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَصْدِ السُّنَّةِ فِي وُقُوعِهَا سُنَّةً عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْأُخْرَيَانِ (وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ دَلِيلُ نَدْبٍ يَخُصُّهُ وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ وَالْمَنْدُوبُ) كَالرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالسِّتَّةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ (وَثُبُوتُ التَّخْيِيرِ فِي ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ) النَّفْلِ بَيْنَ التَّلَبُّسِ بِهِ وَعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِهِ (لَا يَسْتَلْزِمُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا اسْتِمْرَارَهُ) أَيْ التَّخْيِيرِ (بَعْدَهُ) أَيْ الشُّرُوعِ فِيهِ (كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْهُ (فَجَازَ الِاخْتِلَافُ) بَيْنَ ثُبُوتِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَبَيْنَ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الشُّرُوعُ وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ (غَيْرَ أَنَّهُ) أَيْ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ (يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ) يُعِينُ هَذَا الْجَائِزَ وَاقِعًا وَقَدْ وُجِدَ (وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ) الثَّابِتِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ النَّفْلِ (فَوَجَبَ الْإِتْمَامُ فَلَزِمَ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ وَالرُّخْصَةِ) أَيْ وَقُسِّمَتْ (إلَى مَا ذَكَرَ) أَيْ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَتَمُّ فِي مَعْنَى الرُّخْصَةِ وَالْآخَرُ مُقَابِلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ التَّقْسِيمِ (وَ) إلَى (مَا وَضَعَ عَنَّا مِنْ إصْرٍ) أَيْ حُكْمٍ مُغَلَّظٍ شَاقٍّ (كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا) مِنْ بَعْضِ الْأُمَمِ (فَلَمْ يُشْرَعْ عِنْدَنَا) أَيْ فِي مِلَّتِنَا أَصْلًا تَكْرِيمًا لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَرَحْمَةً لَنَا
(كَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ) مِنْ الثَّوْبِ وَالْجِلْدِ (وَأَدَاءِ الرُّبُعِ فِي الزَّكَاةِ) أَيْ جَعْلِ رُبُعِ الْمَالِ مِقْدَارَ زَكَاتِهِ وَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ وَبَتِّ الْقَضَاءِ بِالْقِصَاصِ عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَتَحْرِيمِ الْعُرُوقِ فِي اللَّحْمِ وَالسَّبْتِ وَالطَّيِّبَاتِ بِالذُّنُوبِ، وَأَنْ لَا يُطَهِّرَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ غَيْرُ الْمَاءِ وَكَوْنِ الْوَاجِبِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسِينَ وَأَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَحُرْمَةِ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ فِي الصَّوْمِ وَالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِيهِ وَكِتَابَةِ ذَنْبِ الْمُذْنِبِ لَيْلًا عَلَى بَابِ دَارِهِ صَبَاحًا.
(وَ) إلَى (مَا) أَيْ حُكْمٌ (سَقَطَ أَيْ لَمْ يَجِبْ) أَيْ لَمْ يَثْبُتْ (مَعَ الْعُذْرِ مَعَ شَرْعِيَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ) وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ (وَهَذَانِ) الْقِسْمَانِ لِلرُّخْصَةِ (بِاعْتِبَارِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّخْصَةِ) سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ لِصِحَّةِ إطْلَاقِهَا عَلَيْهِمَا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِسُقُوطِ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا تَوْسِعَةً وَتَخْفِيفًا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ مَنْ قَبْلَنَا إذَا قَابَلْنَا أَنْفُسَنَا بِهِمْ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِسُقُوطِهِ فِي مَحِلِّ الْعُذْرِ مَعَ شَرْعِيَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَتْ الْمَجَازِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ أَتَمُّ (لَا) أَنَّهُمَا قِسْمَانِ لِلرُّخْصَةِ بِاعْتِبَارِ (حَقِيقَتِهَا) وَهِيَ مَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُحَرِّمِ لِانْتِفَائِهَا فِيهِمَا فَهَذَا التَّقْسِيمُ إنَّمَا يُخْرِجُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ لَا غَيْرُ بِخِلَافِ التَّقْسِيمِ الْحَقِيقِيِّ لِلْعَزِيمَةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ مِثْلُ هَذَا الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ (كَالْقَصْرِ) لِلصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ (لِإِيجَابِ السَّبَبِ) الْمُوجِبِ لَهَا (وَالْأَرْبَعِ فِي غَيْرِ الْمُسَافِرِ وَرَكْعَتَيْنِ فِيهِ) أَيْ الْمُسَافِرِ (بِحَدِيثِ عَائِشَةَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ حَيْثُ قَالَتْ فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ (وَسُقُوطُ حُرْمَةِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ) أَيْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مَخَافَةَ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ (وَالْمُكْرَهِ) عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ بِالْقَتْلِ فَحُرْمَتُهُمَا سَاقِطَةٌ مَعَ عُذْرِ الِاضْطِرَارِ ثَابِتًا عِنْدَ عَدَمِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مِنْ سُقُوطِ الْحُرْمَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (لِلِاسْتِثْنَاءِ) أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] إذْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ (فَتَجِبُ الرُّخْصَةُ) الَّتِي هِيَ الشُّرْبُ وَالْأَكْلُ كَمَا يَجِبُ شُرْبُ الْمَاءِ وَأَكْلُ الْخُبْزِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ (وَلَوْ مَاتَ لِلْعَزِيمَةِ) أَيْ لِلِامْتِنَاعِ عَنْهُمَا (أَثِمَ) كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ حَتَّى مَاتَ لِإِلْقَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ مِنْ غَيْرِ مُلْجِئٍ لَكِنَّ هَذَا إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءً فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ ذَكَرَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا مُضْطَرٌّ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْحَرَامَ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَرْتَفِعُ، وَإِنَّمَا رُفِعَ إثْمُهَا كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا يَأْثَمُ بِالِامْتِنَاعِ وَيَحْنَثُ فِي الْحَلِفِ الْمَذْكُورِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقِسْمِ بَلْ يَكُونُ مِنْ مِثْلِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَالُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] أَيْ يُغْفَرُ لَهُ مَا أَكَلَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ حِينَ اُضْطُرَّ إلَيْهِ فَدَلَّ إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى قِيَامِ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ رَحْمَةً عَلَى عِبَادِهِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ إطْلَاقَ ذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى بَقَاءِ الْمُهْجَةِ إذْ يَعْسُرُ عَلَى الْمُضْطَرِّ رِعَايَةُ ذَلِكَ هَذَا وَأَوْرَدَ الْمُكْرَهُ إنْ كَانَ مُضْطَرًّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا لَمْ يَدْخُلْ فِي إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ كُلَّ مُكْرَهٍ بِمَا فِيهِ إلْجَاءٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا مُضْطَرٌّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ إلَّا أَنَّ الِاضْطِرَارَ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْإِكْرَاهِ عُرْفًا وَيَسْتَبِدُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ فِي ذِكْرِهِ إشَارَةٌ إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَإِلَى أَنَّهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ (وَمِنْهُ) أَيْ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مِنْ الرُّخْصَةِ (سُقُوطُ غَسْلِ الرِّجْلِ) الَّذِي كَانَ الْعَزِيمَةَ حَيْثُ لَا خُفَّ (مَعَ الْخُفِّ) فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّ اسْتِتَارَ الْقَدَمِ بِالْخُفِّ مَنْعُ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَزَعَهُ بَعْدَ الْمَسْحِ لَزِمَهُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَسِرِ إلَيْهِمَا لَمْ يَجِبْ إذْ لَا يَجِبُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْبَدَنِ بِدُونِ الْحَدَثِ فَظَهَرَ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَاقِطٌ وَأَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ تَيْسِيرًا ابْتِدَاءً لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلِ يَتَأَدَّى بِالْمَسْحِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اشْتَرَطَ كَوْنَ أَوَّلِ حَدَثٍ بَعْدَ اللُّبْسِ
طَارِئًا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ كَمَا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ حِينَئِذٍ يَصْلُحُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ السَّارِي إلَى الْقَدَمِ وَظَهَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدَثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي الرِّجْلِ مَا دَامَتْ مُسْتَتِرَةً بِالْخُفِّ وَجَعَلَ الْخُفَّ مَانِعًا مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ) وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلِ (أَوْلَى) مِنْ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا (مَعْنَاهُ إمَاطَةُ) أَيْ إزَالَةُ (سَبَبِ الرُّخْصَةِ بِالنَّزْعِ) لِلْخُفِّ لِيَغْسِلَهُمَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِهَا لِيَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ هَذَا.
وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ شَارِحُ الْكَنْزِ أَنَّ كَوْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ سَهْوٌ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ لَا تَبْقَى الْعَزِيمَةُ مَشْرُوعَةً مَعَهُ لَكِنَّ الْغَسْلَ فِي الرِّجْلِ مَشْرُوعٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ خُفَّيْهِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَبْطُلُ مَسْحُهُ إذَا خَاضَ فِي الْمَاءِ وَدَخَلَ فِي الْخُفِّ حَتَّى انْغَسَلَ أَكْثَرُ رِجْلَيْهِ ذَكَرَهُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَكَذَا لَوْ تَكَلَّفَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَزْعِ الْخُفِّ أَجْزَأَهُ عَنْ الْغُسْلِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ التَّخْطِئَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْفَرْعِ وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ لَكِنْ فِي صِحَّتِهِ فَإِنَّ كَلِمَتَهُمْ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُفَّ اُعْتُبِرَ شَرْعًا مَانِعًا سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَتَبْقَى الْقَدَمُ عَلَى طَهَارَتِهَا وَيَحِلُّ الْحَدَثُ بِالْخُفِّ فَيُزَالُ بِالْمَسْحِ وَبَنَوْا عَلَيْهِ مَنْعَ الْمَسْحِ لِلْمُتَيَمِّمِ وَالْمَعْذُورِينَ بَعْدَ الْوَقْتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ فِي الْخُفِّ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ إذَا لَمْ يَبْتَلَّ مَعَهُ ظَاهِرُ الْخُفِّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُزَلْ بِهِ الْحَدَثُ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ حَدَثٍ وَاجِبِ الرَّفْعِ إذْ لَوْ لَمْ تَجِبْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلِ جَازَتْ الصَّلَاةُ بِلَا غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَرَكَ ذِرَاعَيْهِ وَغَسَلَ مَحَلًّا غَيْرَ وَاجِبِ الْغُسْلِ كَالْفَخِذِ وَوِزَانُهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ بِلَا فَرْقٍ لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْجُرْمُوقَيْنِ فَمَسَحَ فَوْقَ الْخُفَّيْنِ. وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَدَثِ وَالْأَوْجَهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ كَوْنُ الْأَجْزَاءِ إذَا خَاضَ النَّهْرَ لِابْتِلَالِ الْخُفِّ، ثُمَّ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ إنَّمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهَا لِحُصُولِ الْغُسْلِ بِالْخَوْضِ وَالنَّزْعِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْغُسْلِ وَقَدْ حَصَلَ اهـ قُلْت عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْفَرْعِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ بَلْ فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى، وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ لَا يَنْتَقِضُ مَسْحُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ اسْتِتَارَ الْقَدَمِ بِالْخُفِّ يَمْنَعُ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الرِّجْلِ فَلَا يَقَعُ هَذَا غَسْلًا مُعْتَبَرًا فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمَسْحِ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُجْتَبِي وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْعِيَاضِيِّ لَا يَنْتَقِضُ، وَإِنْ بَلَغَ الْمَاءُ الرُّكْبَةَ وَلَا رَيْبَ فِي اتِّجَاهِ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَالْأَوْجَهُ إلَخْ يُفِيدُ تَمْشِيَةَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ رِجْلَيْهِ ثَانِيًا إذَا نَزَعَهُمَا أَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ النَّزْعِ أَوْ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَعْمَلُ ذَلِكَ الْحَدَثُ السَّابِقُ عَمَلَهُ مِنْ السِّرَايَةِ إلَى الرِّجْلَيْنِ وَقْتَئِذٍ فَيَحْتَاجُ إلَى مُزِيلٍ لَهُ عَنْهُمَا حِينَئِذٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُزِيلَ لَا يَظْهَرُ عَمَلُهُ فِي حَدَثٍ طَارِئٍ بَعْدَهُ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(وَالسَّلَمُ) وَهُوَ بَيْعُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ (سَقْطُ اشْتِرَاطُ مِلْكِ الْمَبِيعِ) فِيهِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ لِتَرْخِيصِهِ فِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَقَالَ مَنْ أَسَلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ فَكَانَ رُخْصَةً مَجَازًا لَا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ قَدْ انْعَدَمَ فِي حَقِّهِ شَرْعًا (فَلَوْ لَمْ يَبِعْ سَلَمًا وَتَلِفَ جُوعًا) أَيْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ قَبُولِ السَّلَمِ عِنْدَ الْجُوعِ حَتَّى مَاتَ (أَثِمَ) كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ (وَاكْتَفَى بِالْعَجْزِ التَّقْدِيرِيِّ عَنْ الْمَبِيعِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ إذْ السَّلَمُ عَقْدٌ بِأَرْخَصِ الثَّمَنَيْنِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى حَاجَتِهِ وَإِلَّا حَجَزَهُ عَقْلُهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ (فَلَمْ يَشْرِطْ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ) أَيْ الْعَجْزِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مِلْكِهِ حَقِيقَةً (وَاقْتَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ