الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان قاتله علباء بن الحارث الكاهلي - وكان حجر قد قتل أباه - وقالت أسد للعرب المعدية الذين كانوا جنده: أنتم بنو عمنا، والرجل بعيد النسب منا ومنكم، وقد رأيتم سيرته؛ فكفوا عن قتالهم.
امرؤ القيس بن حجر
ولما سمع ذلك امرؤ القيس بن حجر وهو بدمون من أرض كندة "قال:
تطاول الليل علي دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر [غداً] ، اليوم خمر، وغداً أمر".
قال صاحب الأغاني: "ثم شرب سبعاً، فلما صحا أقسم بالله ألا يأكل لحماً، ولا يشرب خمرا ً، ولا يدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره".
وارتحل حتى نزل ببكر وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد فأجابوه، ووقع الخبر على بني أسد وكانوا مع كنانة، فارتحلوا بالليل، وقائدهم علباء الكاهلي.
وأقبل امرؤ القيس ومن معه، فوقعوا ببني كنانة، فوضعوا السيف فيهم وهم يظنونهم بني أسد، وصاحوا:
يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام! فخرجت إليهم عجوز وقالت: أبيت اللعن، لسنا لك بثأر، نحن بنو كنانة، وإن القوم ارتحلوا بالأمس! فتبع بني أسد، ففاتوه فقال:
ألا يا لهف هند إثر قوم
…
هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم
…
وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضاً
…
ولو أدركنه صفر الوطاب
وجهد امرؤ القيس حتى لحق ببني أسد على الماء وقد هلكت خيله وتقطعت، فقاتلهم، وكثرت الجرحى والقتلى حتى حجز بينهم الليل. وهربت بنو أسد، وأبت بنو وائل أن
يتبعوهم، وقالوا لامرئ القيس: أنت رجل مشؤوم، وكرهوا محاربة من يقرب إليهم بالنسب.
وانصرف امرؤ القيس إلى حمير، فنزل بقبيلة تدعى مرثد الخير من ذي جدن وكانت بينهم قرابة، فاستنصرهم، فأمدوه بخمسمائة رجل، وتبعهم شذاذ من العرب، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمة، ويقال له: ذو الخلصة، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الأمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم الثالثة، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: مصصت بظر أمك، لو أبوك قتل لما عوقتني! فقيل: إنه ما استقسم عند ذي الخلصة أحد بقدح بعد ذلك حتى جاء الإسلام، وهدمه جرير بن عبد الله البجلي.
وقال: ولج المنذر صاحب الحيرة في طلب امرئ القيس، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه. وتفرقت حمير ومن كان معه، فنجا بمن خف.
ومازال ينتقل في القبائل حتى لحق "بقيصر ملك الروم، فقبله وأكرمه، وكانت له عنده منزلة. فاندس رجل من بني أسد يقال له: الطماح، وكان امرؤ القيس قتل أخاه، فأتى بلاد الروم، وأقام مستخفياً".
ثم إن امرؤ القيس ضم إليه قيصر جيشاً كثيراً. فلما فصل بهم قال له [الطماح] : إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف من عندك بالجيش ذكر أنه يواصل ابنتك، وأنه قائل في ذلك أشعاراً يشهرها بها في بلاد العرب. فبعث قيصر حينئذ له بحلة وشيء مسمومة، وقال: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل إلى منزل. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها" فأسرع إليه السم وسقط جلده فلذلك سمي: ذا القروح، وقال:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه
…
ليلبسني من دائه ما تلبسا
فلو أنها نفس تموت احتسبتها
…
ولكنها نفس تساقط أنفسا
ثم مات، ودفن بأنقرة من بلاد الروم. قال البيهقي: وهي التي يقال لها: أنكورية.
ومن الأغاني: "أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث، وهي أخت كليب ومهلهل سيدي تغلب. وقيل: أمه من زبيد رهط عمرو بن معدي كرب. وكان يقال له: الملك الضليل.
"قال ابن الكلبي: بلغني أن حجراً أباه كان قد طرد امرأ القيس، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فكان يسير في أحياء العرب [ومعه أخلاط من شذاذ العرب] من طيء وكلب وبكر، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه، وخرج للصيد، وأكل وشرب الخمر، وغنته قيناته، فلا يزال كذلك حتى ينفذ ماء الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره". وفي تلك الحال كان حين أتاه الخبر يقتل أبيه كما تقدم.
قال: "ومن حكاياته أنه آلى ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمان وأربع وثنتين. فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن قلن: أربع عشرة. فبينا هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كالبدر، فقال لها: يا جارية، ما ثمان وأربع واثنتان؟ فقالت: أما الثمان فأطباء الكلبة، وأما الأربع فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فالثديان. فخطبها إلى أبيها، فزوجها إياها. وشرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وساق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس.
ثم إنه بعث عبداً له إلى المرأة، وأهدى لها نحيا" من سمن ونحيا من عسل، وحلة من عصب اليمن، فنزل العبد ببعض المياه، فنشر الحلة ولبسها فعلقت بسمرة فانشقت، وفتح النحيين فأطعم أهل الماء
فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها الهدية، فقالت أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، وأن أمي ذهبت تشق نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا.
فقدم الغلام عليه فأخبره، فقال: أما أبوها فإنه ذهب يحالف قوماً على قومه، وأما أمها فإنها ذهبت تقبل امرأة نفساء، وأما أخوها فإنه في سرح له يرعاه، وهو ينتظر وجوب الشمس ليروح؛ وأما قولها: إن سماءكم انشقت فإن الحلة التي بعثت إليها انقشت؛ وأما قولها: إن وعاءيكم نضبا فإن النحيين نقصا! فأصدقني فصدقه، فقال: أولى لك!
ثم ساق مائة من الإبل، وخرج نحوها ومعه الغلام، [فنزلا منزلا] ، فسقى الإبل فعجز، وأعانه امرؤ القيس فرماه الغلام في البئر، وفر حتى أتى المرأة بالإبل، وأخبرهم أنه زوجها! فقيل لها: قد جاء زوجك، فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزوراً، وأطعموه من كرشها وذنبها؛ فلما فعلوا ذلك أكل. فقالت: أسقوه لبناً حازراً فشرب؛ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك، قال: اسألي عما شئت؛ قالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لتقبيل فمك؛ قالت: مم تختلج كشحاك؟ قال: لالتزامي إياك؛ قالت: مم يختلج وركاك؟ قال: لتوركي إياك؛ قالت: عليكم العبد فشدوه! ففعلوا.
ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، واستاق مائة من الإبل، وأقبل إلى امرأته، فقيل لها: قد جاء زوجك؛ فأمرتهم أن يختبروه بما اختبروا به العبد، فقال لما أطعموه الكرش والذنب: أين الكبد والسنام والملحاء؟ وأبى أن يأكل؛ وقال لما سقوه اللبن الحازر: أين الصريف والرثيئة؟ وأبى أن يشرب؛ وقال لما فرشوا قريباً من الفرث والدم: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا لي عليها خباء! ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي عليك في المسائل، فقال: سلي عما بدا لك. قالت: مم تختلج شفتاك؟
قال: لشرب المشعشعات؛ قالت: مم تختلج كشحاك؟ قال: للبس المحبرات؛ قالت: مم تختلج فخذاك؟ قال لركض المطهمات؛ قالت: هذا زوجي لعمري، فعليكم به! فدخل امرؤ القيس بها".
ومن نثر الدر: جاء وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله، لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس؛ قال: وما ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك، حتى إذا كنا بموضع كذا وكذا أخطأنا الماء، فمكثنا ثلاثا لا نقدر عليه، وانتهينا إلى موضع طلح وسمر، فانطلق كل رجال إلى أصل شجرة ليموت في ظلها. فبينا نحن في آمر رمق إذا راكب قد أقبل، فلما رآه بعضنا تمثل:
ولما رأت أن الشريعة همها
…
وأن البياض من فرائصها دام
تيممت العين التي عند ضارج
…
يفيء عليها الظل عرمضها طام
فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ فقال بعضنا: امرؤ القيس؛ قال: وهذه والله ضارج عندكم وقد رأى ما بنا من الجهد. فزحفنا إليها، فإذا بيننا وبينها نحو خمسين ذراعاً، وإذا هي كما وصف امرؤ القيس، فشربنا وعشنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك رجل مشهور في الدنيا، خامل في الآخرة، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء يقودهم إلى النار".
ومن كتاب الأشعار فيما للملوك من النوادر والأشعار أن امرأ القيس لما أيقن بالموت، نظر إلى جبل يقال له: عسيب؛ وبه قبر بنت ملك، فأوصى أن يدفن إلى جانبها، وقال في ذلك:
أجارتنا إن الخطوب تنوب
…
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا
…
وكل غريب للغريب نسيب
قال: وكان امرؤ القيس قد اضطر في حال صغره إلى أن أرضعته كلبة، فكان منتن الرائحة، ولم يزل مفركا عند النساء. وقالت له امرأته أم جندب: إنك سريع الإراقة بطيء الإفاقة.
وفضله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل: بم فضلته؟ قال: رأيته أسبقهم بادرة، وأحسنهم نادرة، ولم يقل رغبة ولا رهبة.
وقيل: إنه أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وهو قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأخذ خاطره باختراع المعاني، وإبداع الألفاظ الرائقة التي يحاضر بها كل عصر. فمن مخترعاته قوله:
سموت إليها بعدما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالا على حال
وقوله:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
والأوابد: المتقدمات من الوحش.
وقوله في العقاب:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
وقوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
…
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
ومن مبتدعات ألفاظه الرائقة التي تشبه كلام المعاصرين قوله:
إذا التفت نحوي تضوع نشرها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقوله:
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامها
…
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
وقوله:
ألم ترياني كلما جئت طارقاً
…
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ومن فحل كلامه:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقوله:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
…
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ومن واجب الأدب: قالوا: أشعر الشعراء امرؤ القيس إذا كلب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب، وعنترة إذا ركب. ومن يقدم التشبيه على كل فن يقول: الشعراء ثلاثة: جاهلي وهو امرؤ القيس، وإسلامي وهو ذو الرمة، ومحدث وهو ابن المعتز. وسئل الفرزدق من أشعر الناس؟ فقال: ذو القروح بقوله:
وأفلتهن علباء جريضا
…
ولو أدركنه صفر الوطاب
ويقدمه دعبل بقوله في وصف عقاب:
ويل أمها من هواء الجو طالبة
…
ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
صبت عليه وما تنصب من أمم
…
إن الشقاء على الأشقين مصبوب
وقدمه غيره بقوله:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر
…
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
ومن مختار نسيبه قوله:
أفاطم مهلا بعض هذا التذلل
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة
…
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
أغرك مني أن حبك قاتلي
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي
…
بسهميك في أعشار قلب مقتل
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
…
تمتعت من لهوبها غير معجل
خرجت بها تمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرط مرحل
إذا التفتت نحوي تضوع نشرها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
كبكر مقاناة البياض بصفرة
…
غذاها نمير الماء غير المحلل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
…
بناظرة من وحش وجرة مطفل
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها
…
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وهذا من باب التتبيع، وهو أول من نطق به، فإنهم كانوا يقولون: طويلة الجيد، فقال: بعيدة مهوى القرط، كما أنهم كانوا يقولون عن الفرس: يسبق الظليم؛ فقال: قيد الأوابد.
ومن فرائده قوله:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاً
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
…
وإرخاء سرحان وتقريب تنفل
ورحنا وراح الظرف ينفض رأسه
…
متى ما ترق العين فيه تسهل
كأن دماء الهاديات بنحره
…
عصارة حناء بشيب مرجل