الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحارث بن مضاض
قال الحارث بن مضاض: ثم وليت بعد أخي عمرو. وسرت إلى بني إسرائيل والروم وأهل الشام في مائة ألف من جرهم، ومائة ألف من العمالقة، فهزمتهم. وكانوا قد زحفوا إلي بتابوت داود الذي فيه السكينة فألقوه، فأخذته العمالقة وجرهم، ودفنوه في مزبلة، فاستخرجته ودفعته للهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل عليه السلام.
وذكر حكاية طويلة في استبقاء برة قاتلة أخيه عمرو، وتلخيصها: أن سبب ذلك كان حملها بمضاض بن عمرو إلى أن ولدته، فنشأ وليس بمكة أجمل منه، فمات من العشق.
قال صاحب الكمائم: والحارث بن مضاض هذا هو الذي يضرب به المثل في طول الغربة.
قال صاحب التيجان: ثم إن جرهم هلكت بالوباء في مدة الحارث بن مضاض، فخرج الحارث هارباً يجول في الأرض، فجال فيها ثلاثمائة عام، فضربت العرب به الأمثال؛ قال أبو تمام:
غربة تقتدي بغربة قيس ب
…
ن زهير والحارث بن مضاض
قال: وطال عمر الحارث حتى اجتمع بإياد بن نزار حين تغرب إياد من مكة بالإبل التي حصلت له في الوراثة. وتعيش بكرائها، فاكتراها من الشام إلى المدينة. قال:
فبينا أنا بالمدينة التمس من يكتريها إلى مكة [إذ] سمعت شيخا وهو ينادي: من يحملني إلى البيت الحرام وله وقر جمله دراً وياقوتا؟ والناس يستهزئون به، ويتحامونه لفقره وعظم جثته، [فقلت لنفسي: ومالي لا أعطيه جملا! فإن كان صادقاً كان في ذلك الغنى، وإن كان كاذباً فلم يضرني ذلك. فلم أزل أتبع الصوت حتى ظهر لي] ، فإذا به الحارث بن مضاض الجرهمي، ملك مكة صاحب الغربة الدائمة والعمر الطويل، قد سلب ملكه، وعمي بصره مما بكى على أهله ووطنه وملكه.
ثم أمره أن يحمله إلى مواضع من جهات مكة، أخرج منها دفائن استغنى بها إياد وولده.
قال إياد: ولقد كان يقول لي: اعدل ذات اليمين! اعدل ذات اليسار! ويدخلني إلى شعاب وأماكن ما دخلتها قط. وهي مسقط رأسي، وكنت بها فاتكاً.
ثم أوصاه بوصية، وأسر إليه بأن محمداً خاتم الأنبياء الذي يعز الله به العرب من ولد مضر. وقال له: إن أدركته فصدق وحقق، وقبل الشامة التي بين كتفيه؛ وقل له: يا خير مولود دعا إلى خير معبود! فعند ذلك إما تأتيك ملك أو هلك!
فلما بلغ إلى مكان يقال له: الموت، بكى وقال شعراً أوله:
أموت فقيداً والعيون كثيرة
…
ولكنها جهلا علي جوامد
ثم حدثه بأحاديث طوال إلى أن قال له:
شكرت مسارعاً خير الأيادي
…
لخير الناس كلهم إياد
ثم حفر الأرض حتى بلغ إلى صخرة فقلعها، ودخل في سرب وإياد معه، فإذا بحيات تصفر عن اليمين والشمال، حتى أفضيا إلى دار تحت الأرض! قال إياد: فعجبت من ضيائها من أين يكون، ثم أدخلني إلى بيت قبلي لجهة مكة، وإذا فيه أربعة أسرة: ثلاثة عليها ثلاثة رجال، وواحد ليس عليه شيء؛ وفي وسط البيت كرسي من در وياقوت ولجين وعقيان، فقال لي: خذ وقر جملك ليس لك غيره، قال: ثم قال لي: أتدري من هؤلاء الموتى؟ فقلت: لا؛ قال: هذا مضاض أبي، وهذا عبد المسيح أبوه، وهذا نفيلة أبوه. وكان على رأس كل واحد منهم ما تقدم ذكره من النظم والنثر.
قال: ثم نظرت إلى اللوح الذي على السرير الخالي، فإذا فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة عام، وجلت في الأرض مائة عام مغترباً بعد هلاك قومي جرهم، وتحته شعر. قال: ثم قال لي: أعطني القارورة التي في تلك الكوة، فأعطيته إياها، فشرب بعضاً ثم انطلى ببعضها على جسده، ثم قال لي: إذا أنت أتيت إخوتك فقالوا لك: من أين هذا المال؟ فقل لهم: إن الشيخ الذي حملته هو الحارث بن مضاض الجرهمي؛ فهم يكذبونك، فقل لهم: آية ذلك أن تعمدوا إلى الحجر المدفون بجوار زمزم، فتجدوا فيه مقام إبراهيم، وتجدوا في الحجر الآخر شعر الحارث بن مضاض الذي بكى به أهله وملكه ووطنه:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأذا لنا
…
صروف الليالي والجدود العواثر
فما فرج آت بما أنت خائف
…
وما حذر ينجيك مما تحاذر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
…
نطوف بهذا البيت والخير ظاهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
…
كذاك بآمر الله تجري المقادر
قال إياد: ثم حرم علي أن أعود إلى الموضع بعدها. وامتد الحارث على ذلك السرير، وصاح صيحة ما ظننت إلا أن أهل مكة سمعوها، ثم مات. وهجم التنين فاستدار في وسط البيت على ما بقي من المال.
قال صاحب التيجان: وكان الشعر المكتوب على قبر الحارث بن مضاض:
يا لدمعي لفرقة الأحباب
…
واعترافي من بعدهم واغترابي
أوطنوا الجزع جزع آل أبي مو
…
سى إلى النخل بين سدر وغاب
من ملوك متوجين لديه
…
وكهول أعفه وشباب
وبهاليل كالليوث مصالي
…
ت صعاب على الأمور الصعاب
ونساء خواطر عاطرات
…
وبدور محجوبة في القباب
نازلات من الحجون إلى الخي
…
ف حسان مثل الدمى أتراب
أسعدتهم أيامهم ثم ولت
…
ما على الدهر بعدهم من عتاب
فهم المطعمون جودا وعادوا
…
طعمة للثرى وصم الهضاب
فلي الويح بعدهم وعليهم
…
وإليهم من بعد ذاك مآبي
وذكر إياد أنه خرج من المكان بالمال ووصل إلى مكة، فجري له مع إخوته ما قدره الحارث حتى وقفوا على الآية. وذكر صاحب التيجان أن الحارث كان ملكاً في زمن شرحبيل وعمرو ذي الأذعار من التبابعة، وامتد عمره إلى أن اجتمع في غربته مع إياد بن نزار بعد مبعث المسيح عليه السلام.
وذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: [أخبرني عبد مناف عن أبيه عبد المطلب بن هاشم أنه قال] : أدركت الحكماء المعمرين، وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل تهامة، يذكرون غربة الحارث بن مضاض الجرهمي الملك المتوج، فإن الحارث قال لإياد: كنت ملك مكة وما والاها من الحجاز إلى هجر وحصن العلمين إلى مدين، وكنا أهل تيجان. وذكر أنه قال هذا الشعر عند موته:
أموت فقيداً والعيون كثيرة
…
ولكنها جهلا علي جوامد
ولكن ستبكيني الغمام بدمعها
…
وتشجى على قبري البروق الرواعد
تمادت بي الأيام حتى تركنني
…
كمثل حسام أفردته القلائد
يهنا بي الأعداء يرزا بي الندى
…
ويأمن كيدي الكاشحون الأباعد
قالوا: وبلغ الحارث بن مضاض في غربته إلى ما نطق به قوله:
تجشمت من كرمان كل تنوفة
…
وجاوزت حد القصر من أرض فارس