الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة في العرب الباقية
قبل ذكر القسمين المشتملين عليهما ونسق تاريخهما
قد تقدم ذكر العرب البائدة الذين لم يبق لهم نسل مذكور. وكانوا صائبة يعبدون الأصنام، ومنهم من يرتفع عن ذلك إلى عبادة الكواكب.
ونحن الآن ذاكرون أحوال العرب العاربة والمستعربة، وهم القحطانية والعدنانية، ولهم في الإسلام ذكر آخر يتعلق بالتاريخ الإسلامي.
من طبقات الأمم لصاعد: "الأمة العربية فرقتان: بائدة وباقية، فأما البائدة فكانت أمما ضخمة كعاد وثمود وطسم وجديس والعمالقة وجرهم، أبادهم الزمان، وأفناهم الدهر بعد أن سلف لهم في الأرض ملك جليل، وخبر مشهور. لا ينكر لهم ذلك أحد من أهل العلم بالأمم الماضية. ولتقادم انقراضهم ذهبت عنا حقائق أخبارهم.
"وأما الفرقة الباقية فهي متفرعة من جذعين: قحطان وعدنان، ويضمها حالان: حال الجاهلية، وحال الإسلام".
"فأما حال العرب في الجاهلية فحال مشهورة عند الأمم من العز والمنعة. وكان ملكهم في قحطان، ومنهم التبابعة الذين ضعضعوا الممالك، وتركوا الآثار العظيمة، والأخبار [الشريفة] في أقطار الأرض.
قال: "إلا أنهم لم يكن لهم اعتناء بشيء من أمور الفلسفة، ولا أرصاد الكواكب كما كان لغيرهم".
"وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك منهم فكانوا طبقتين: أهل مدر، وأهل وبر. فأهل الدر هم أهل الحواضر وسكان القرى، وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة، وغير ذلك من ضروب الاكتساب. ولم يكن منهم عالم مذكور، ولا حكيم معروف".
"وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري وعمار الفلوات، وكانوا يعيشون على ألبان الإبل ولحومها. وكانوا زمان النجعة ووقت التبدي يراعون جهات إيماض البروق ومنشأ السحاب، فيؤمونها منتجعين لمنابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يقوضون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال كما قال المثقب العبدي عن ناقته:
تقول إذا درأت لها وضيني:
…
أهذا دأبه أبداً وديني
أكل الدهر حل وارتحال
…
أما تبقي علي ولا تقيني؟
فكان ذلك دأبهم زمان الصيف والربيع والخريف، فإذا جاء الشتاء واقشعرت الأرض انكمشوا إلى أرياف العراق وأطراف الشام، وركنوا إلى القرب من الحواضر والقرى، فشتوا هنالك مقاسين لكبد الزمان ومصطبرين على بؤس العيش. وهم خلال ذلك يتواسون بقوتهم، ويتشاركون في بلغتهم، ولا ينامون عن إباء الضيم، ونصرة الجار، والذي عن الحريم".
"وكانت أديانهم مع ذلك مختلفة: فكانت حمير تعبد الشمس إلى أن تغلب سليمان على بلقيس، فتهود أهل اليمن. وكانت كنانة تعبد القمر، ولخم وجذام المشتري، وطيء سهيلا، وقيس الشعري العبور، وأسد عطارداً. وكانت ثقيف وإياد تعبد بيتا بأعلى نخلة يقال له: اللات. ثم عبدت إياد وبكر بن وائل كعبة سنداد وكان لحنيفة صنم من حسيس - وذلك أخلاط من تمر وأقط وسمن - فلحقتهم المجاعة فأكلوه، فقال في ذلك أحد الشعراء:
أكلت حنيفة ربها
…
عام التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم
…
سوء العواقب والشناعة"
"وقال ابن قتيبة: كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت اليهودية في حمير وكنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، وكانت المجوسية في تميم منهم زرارة بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس، وكانت الزندقة في قريش وأخذوها من أهل الحيرة".
"وكانت عبادة الأوثان فاشية في العرب حتى جاء الإسلام".
ومن الملل والنحل للشهرستاني: "العرب أصناف شتى منهم معطلة ومنهم محصلة. فالمعطلة الذين أشار إليهم تعالى بقوله: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين"، وقوله: "وما يهلكنا إلا الدهر". وصنف آخر أقر بالخلق وأنكر البعث، وهم
المذكورون في قوله تعالي: "وضرب لهم مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم". وصنف آخر أقروا بالخالق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنها شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجوا إليها، ونحروا وقربوا القرابين؛ وهم الدهماء من العرب. وقد أخبر الله تعالى عنهم في قوله:"ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق".
قال: "وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين: إحداها إنكار البعث بعث الأجساد، والثانية جحد بعث الرسل. وقالوا في أشعارهم:
حياة ثم بعث ثم موت
…
حديث خرافة يا أم عمرو
وقالوا في مرثية أهل بدر:
يخبرنا الرسول بأن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام؟
"ومن العرب من يعتقد التناسخ، فيقول: إذا مات الإنسان أن قتل اجتمع دم الدماغ أو جزء منه، فاجتمع
طيراً هامة تندبه على قبره. ولذلك أنكر عليهم النبي عليه السلام، فقال: "لا هامة ولا عدوى ولا [صفر] .
وقال الله تعالى لمن كان منهم يعترف بالملائكة ويجحد الرسل من البشر: "وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا".
وفرقة قالت: "الشفيع والوسيلة منا إلى الله الأصنام، فعبدت وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسرا".
قال: "كان ود لكلب وهذيل بدومة الجندل. وسواع لهذيل، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان. وأما اللات فكان لثقيف بالطائف، والعزى لقريش وجميع كنانة وقوم من بني سليم، ومناة للأوس والخزرج وغسان. وهبل أعظم أصنامها عندها، وكان على ظهر الكعبة. وإساف ونائلة على الصفا والمروة وضعهما عمرو بن لحي، وقيل: إنهما رجلان فجرا في الكعبة فمسخا حجرين".
قال: "وكانت العرب إذا لبت وهللت قالت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك "هو لك، تملكه وما ملك".
قال: "ومن العرب من مال إلى النصرانية واليهودية، ومنهم من مال إلى الصابئة واعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوء كذا".
قال: "ومنهم من يصبو إلى الملائكة فيعبدهم، ويعتقدون أنهم بنات الله.
قال: "والمحصلة من العرب أثبتت المبدأ والمعاد، ومنهم عبد المطلب، وهو القائل:
يا رب أنت الملك المحمود
…
وأنت ربي المبدئ المعيد
واستسقى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو رضيع فسقي، ولذلك قال عنه أبو طالب في مدحه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال: "ومنهم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وينتظر النور النبوي. وكانت لهم شرائع منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصل، وقس بن ساعدة، وعامر بن الظرب العدواني وحرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وممن حرمها في الجاهلية قسيس بن عاصم، وصفوان بن أمية الكناني".
قال: "ومن الموحدين المقرين بالبعث زهير بن أبي سلمى الشاعر".
قال: "وكان دين الجاهلية في النساء على أقسام: امرأة تخطب فتتزوج، وامرأة يكون لها خليل فيختلف إليها، فإن ولدت قيل: هو لفلان فيتزوج بها بعد هذا، وامرأة ذات راية يختلف إليها النفر، وكلهم يواقعونها في طهر واحد. وإذا ولدت ألزمت الولد أحدهم".
قال: "وكانوا يحجون ويطوفون سبعاً، ويهدون، ويرمون الجمار، ويمسحون الحجر، ويحرمون الأشهر الحرم فلا يغزون ولا يقاتلون فيها إلا وطيء وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب، فإنهم لم يكونوا يحجون ولا يحرمون الأشهر الحرم". وكانوا يكفنون موتاهم، ويصلون عليهم. "وكانت صلاتهم، إذ مات الرجل غسل وحمل على سريره، أن يقوم وليه فيثنى عليه ثم يدفن، ثم يقول: عليك رحمة الله".
"وكانوا يداومون على طهارة الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام". وقد ذكرت [ذلك] في تاريخ العبرانيين.
"وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق، وكانوا يؤمنون بالعقود، ويكرمون الجار والضيف".
قال الشهرستاني: "وعلوم العرب في الجاهلية ثلاثة: الأول، علم الأنساب والتواريخ والأديان".
"والثاني: علم الرؤيا، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعبرها في الجاهلية".
"والثالث: علم الأنواء، وقد جاء في الحديث: "أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن، فمن قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بن مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب".
قال صاعد: "وأما علم العرب الذي كانت تتفاخر به فعلم لسانها، ونظم الأشعار، وتأليف الخطب".
"قال أبو محمد الهمداني: وليس يوصل إلى خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب"، إذ كانوا أعنى الناس بأخبارهم، وإذا سافروا في التجارات إلى بلاد العجم استعادوا أخبارهم، ونقلها أصحاب السير عنهم.
قال صاحب الطبقات: "والعرب أهل حفظ ورواية، لخفة الكلام عليهم، ورقة ألسنتهم لأنهم تحت نطاق فك البروج الذي ترسمه الشمس بمسيرها، وتجري فيه الكواكب السبعة الدالة على جميع الأشياء".
"وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوا بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم لمعرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طول تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدرب في العلوم".
"وأما جزيرة العرب فإن بحر الهند الكبير يصادرها من جنوبها، ويعانقها من غربها بخليج جدة الواصل إلى القلزم، ومن شرقها بخليج فارس الواصل إلى البصرة، ولا تبقى لها طريق متصل إلى البر إلا ما هو من جهة الشمال حيث بلاد الشام".
قال البيهقي: ودون هذه الجزيرة العربية على السواحل والحد المتصل بالبر خمسة آلاف وأربعمائة ميل، فلا يستوفي الراكب ذرع نطاقها إلا في مقدار نصف سنة؛ وفي نحو ذلك يقطع النصف من المعمور من الأرض. فاعلم مقدار ما أخذته هذه الجزيرة العربية من مساحة الأرض، وما حازته هذه الأمة منها. ثم إنها لم تقتنع بها في الجاهلية بل خرجت منها إلى العراق والجزيرة والشام، وكان لها بها ديار معلومة. وأما في الإسلام فلم تكد أمة تسلم من الاستيلاء على أرضها إن شاركتها فيها.
وللناس كلام كثير في تفضيل العرب، وكلام أيضاً في تفضيل العجم عليهم. ويعرف الذين يفضلون العجم بالشعوبية. وما تقف عليه من أخبارهم وآثارهم وكلامهم في جاهليتهم وإسلامهم يغنيك عن الإطناب.
وأكثر ما تعيبهم به الشعوبية قلة اهتمامهم بالمباني والمعاقل، وأن معظمهم أهل خيام وإبل مجبولين على الغارات وسفك الدماء وطلب الثأر.
والسهم المصيب في جواب من استهدف للغض منهم بالاهمال في البوادي أنهم جبلوا على إطعام الطعام، وإعداد القرى لمن يجتاز بهم من المرتادين والسالكين من أخلاط الفرق الذين يشيعون بالذكر بذلك في كل مكان يحلونه ويمرون به. وذلك لا يتمكن في الحاضرة كما يتمكن في البادية. وقد ملأوا أشعارهم برفع النيران للضيفان، واستدلالهم بنباح الكلاب، وما أشبه ذلك من خواص البادية. ويكفي من التمثل في ذلك قول إمامهم في هذا الشأن:
الليل فيه ظلمة وقر
فشعشع النيران يا شمر
عل يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفاً فأنت حر
وأيضاً فإن سكان البادية عذرهم أبسط في تقديم ما يتيسر للضيف كألبان الغنم، وصيد الغلاة، وغير ذلك لا يلزمهم التقيد بالتجمل الذي يلزم أهل الحاضرة، ويؤدي إلى الامتناع من إظهار القليل إذا أعوز الكثير.
قال البيهقي: وديار العرب جمهورها كما قال شاعرهم:
بأودية أسافلهن روض
…
وأعلاها إذا خفنا حصون
وأخبرني النجم الريحاني، وزير أبي عزيز صاحب مكة، أنه أشير على أبي عزيز أن يشيد له قصراً تظهر عليه أبهة الملك، ويكون منه اعتناء في تشييد سوق مكة، فقال: نحن أمة أسوارنا سيوفنا، ومعاقلنا خيولنا، وقد قال شاعرنا:
ونحن أناس لا حصون بأرضنا
…
نلوذ بها إلا السيوف القواضب
ثم أطرق ساعة وقال:
إذا افتخر الأعاجم بابتناء
…
تميل به إذا بلي الدعائم
فان بناءنا أبداً جديد
…
دعامه مشيدات المكارم
ويحكي أن أنوشروان ملك الفرس عاب على بعض العرب تجولهم في أقطار الأرض، وقلة سكناهم في المباني، فقال: ذلك لأنا ملكنا الأرض ولم تملكنا. وهذه من البلاغة العجيبة.