الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين:
قدمت جيوش التتار والمغول من الشرق بوحشية لئيمة قذرة، وهمجية منقطعة النظير، إلى بلدان المسلمين وحواضرهم التي كانت مزدهرة بألوان من الحضارة الراقية، التي فاقت كل الحضارات المعاصرات لها، والحضارات الغابرات.
فسلطت هذه الجيوش الهمجية عليها أدوات القتل والإفساد والتدمير، بنفوس لا تعرف شيئًا عن معاني الإنسانية، فقتلت وفتكت ودمرت بلا عقل ولا تقدير، وأبادت شيئًا كثيرًا من حضارة المسلمين في بلدانهم، وأفنت الشيء الكثير جدًّا من كنوز العلم، التي كانت تشتمل عليها مخطوطات خطتها أيدي ألوف من علماء المسلمين، جمعًا وتصنيفًا، أو ابتكارًا وإبداعًا، أو استنباطًا، أو استنتاجًا، أو استخراجًا، بالاجتهاد الفكري المعرفي، وعملت على استنساخها مئات الألوف من الكتبة والوراقين.
ولما هدأ بركان هذا الجيوش الهمجية الفتاكة المدمرة، وسكن طوفانها، وصحت من سكرها وعربدتها، وبردت حرارة مطامعها وشرهها، نظرت في واقع حال المسلمين المغلوبين، فوجدت أنهم يتمتعون بتفوق فكري، وأصالة حضارية راسخة وشاهقة، لم تبلغ بعد شعوبهم الغازية إلى سفوحها.
ووجدت هذه الجيوش أنها إذ غزتهم ودمرت كثيرًا من حاضراتهم، وحضاراتهم كانت تخوض في أوحال وديان همجية قذرة منتنة، وأن علينا حتى تكون من صنف البشر، أن ترتقي شيئًا فشيئًا، مقتفية ركب المغلوبين من المسلمين، ومقلدة لهم في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم وعلومهم.
فأسلم بعض قادتهم، وتبعتهم جيوشهم وشعوبهم، وصاروا بمرور الزمن جزءًا من المسلمين، إكبارًا لهم ولحضارتهم العظيمة، وإعجابًا بعناصرها الفكرية والسلوكية، وإعجابًا بآثارها المادية.
وكان من نتيجة ذلك أن أسهم كثير منهم بإنشاء مؤسسات حضارية، تخلد أسماءهم داخل بلدان المسلمين، التي كانوا قد دمروا ما دمروا منها.
لقطات مقتبسات من كتب التاريخ:
1-
أقبل جيش من المغول لفتح مدينة "نسا" الإسلامية، وحاصروها حتى سقطت في أيديهم مستسلمة، فساقوا أهل المدينة إلى فضاء وراء البساتين كقطعان الأغنام، وحشروهم في ذلك الفضاء رجالًا ونساء كبارًا وصغارًا، ثم
أمروهم بأن يكتف بعضهم بعضًا، فأطاعوا من شدة الخوف، ثم أضجعوهم واستأصلوهم قتلًا، وكان عدد القتلى نحو سبعين ألفًا.
2-
وقدم المغول إلى مدينة "مرو" إذ كانت عاصمة إقليمها، وكان أهلها يمتازون بالثراء وسعة العيش؛ إذ كانت مقر سلاطين السلاجفة، وكانت تزخر بالمكتبات والمدارس، وكان فيها عدد وفير من العلماء والأدباء.
ورأى العسكر في "رمو" أن لا طاقة لهم بمقاومة المغول، فطلبوا التسليم، على أن يؤمنهم القائد المغولي "تولوي" على حياتهم، فوافق على ذلك، ثم نقض عهده، ودخل جنوده المدينة، وقتلوا جميع من فيها من السكان، إلا "400" شخص من أرباب الحرف والصنائع، فقد استبقوهم ليستفيدوا منهم في الأعمال وصناعة الأدوات الحربية.
ثم هدم المغول المدينة عن آخرها.
كذلك فعلوا من مدينة "نيسابور" حتى قتلوا كل ذي حياة فيها، وإمعانًا في الجبروت أخذوا يقطعون رءوس القتلى ويبنون منها أهرامات عاليات، بعضها للرجال، وبعضها للنساء، وبعضها للأطفال.
وكذلك فعلوا في مدن إقليم "غزنة".
3-
وكانت بغداد مركزًا عظيمًا للعلوم والآداب والفنون، بالإضافة إلى مركزها السياسي في العالم الإسلامي؛ إذ كانت مقر الخلافة العباسية، وكانت غنية بعلمائها وأدبائها وفلاسفتها.
فلما حلت النكبة فيها على أيدي المغول، قتل فيها الآلاف من العلماء والشعراء، وأحرقت فيها المكتبات، وخربت فيها المدارس والمعاهد، وقُضي فيها على معظم الآثار الإسلامية، وبلغ تقدير عدد القتلى من المسلمين فيها قرابة ثمانمائة ألف قتيل.
وقد كان سقوط بغداد وتدميرها بعد سقوط بخارى ونيسابور والري وغيرها، وتدمير هذه المدن من مدن العلم والأدب والمنجزات الحضارية، جناية عظمى على الحضارة الإنسانية عامة.
ومما يؤسف له أنه لم يكن ينتظر من النصارى في بلاد المسلمين، الذين كانوا يعاملون أحسن معاملة تتلقاها أقليات في كل شعوب الأرض، أن يبتهجوا بسقطو مدن المسلمين وتدميرها بأيدي المغول الوثنيين، وإن يعلنوا فرحتهم وتمجيدهم للقائد المغولي "هولاكو" وزوجته النصرانية، وأن يعتبروا نصر التتار نصرًا للنصاري في المنطقة ضد المسلمين، إلا أن هذا كله قد حصل منهم، فلم يقابلوا الجميل بمثله، ولا بعشرة في المائة منه، بل قابلوه بالجحود والنكران، والانحياز إلى جيش العدو الغازي، طمعًا بأن تكون الكلمة العليا بعد ذلك لهم.
4-
ثم لمع الضوء الإسلامي من ضمن قادة المغول أنفسهم، ومن أفراد شعوبهم، إذا اعتنق الإسلام "بركة خان" ابن عم "هولاكو" وقد كان "بركة خان" حاكمًا في القبجاق، وصار يتوعد "هولاكو" بأن ينتقم منه، بسبب ما اقترفه من مذابح قتل الملايين من المسلمين، ولتجرئه على مقام الخلافة، وقتله خليفة المسلمين.
وصار الإسلام ينتشر في أفراد وأسر الشعب المغولي، حتى ظهر منهم قادة متعددون مسلمون، ومنهم الملك "تغلق" تيمور الذي تأثر بدعوة عالم رباني يقال له "الشيخ جمال الدين" ثم ابن هذا العالم من بعده "الشيخ رشيد الدين" ثم انتشر الإسلام في التتار1.
جاء في كتاب "المغول في التاريخ" تأليف "د. فؤاد عبد المعطي الصياد" قوله: "وإذا كان الغزو المغولي على يد "جينكيز خان" وخلفائه للبلاد الإسلامية في بادئ الأمر عصيبًا عانى فيه المسلمون القتل والتعذيب، والخراب والدمار، فإن هذا العاصفة الهوجاء صارت تهدأ تدريجيًّا، حتى جاء الوقت الذي تأثر فيه المغول بحضارة المغلويين، واعتنقوا دينهم، وشرعوا يصلحون ما أفسد آباؤهم "أي: من ظواهر حضارية مادية" وأقبلوا يساهمون بنصيبهم في إنهاض الحضارة الإسلامية في شتى مظاهرها". ا. هـ. "ص14 مقدمة المؤلف".
1 ذكر قصة إسلام هذا الملك المؤرخ "آرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" وذكرتها مفصلة المصادر التركية والفارسية. انظر تفصيل هذه القصة في رسالة للعالم الداعية الرباني "الشيخ أبي الحسن علي الحسن الندوي" بعنوان "أوروبا وأمريكا وإسرائيل".