الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية
تظهر لنا الواقعية في التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية جلية واضحة إذا تدبرنا طائفة من النصوص الإسلامية، التي تناولت بيان مفاهيم التكليف الرباني للناس، أو بيان أسسه والحكمة منه.
كما تظهر لنا واضحة حينما نمر بشروط التكليف التي ينص عليها الفقهاء في كل باب من أبواب الفقه الإسلامي، أخذًا مما دلت عليه الأصول العامة للشريعة الإسلامية.
وتظهر لنا أيضًا حينما نلاحظ أن مسئولية الفرد ومسئولية الجماعة في الإسلام ترفعان بمقدار ارتفاع نسبة الخصائص والهبات، وتنخفضان بمقدار انخفاضها، فمسئولية العاجز والضعيف دون مسئولية القوي الصحيح، ومسئولية كل منهما تتناسب بشكل مطرد منعكس مع ما لدى كل منهما من قدرة واستطاعة، ومسئولية البليد الغبي دون مسئولية ذي الهمة الذكي، فمسئولية كل منهما تتناسب بشكل مطرد منعكس مع ما لدى كل منهما من استطاعة لتفهم الأمور وحل المعضلات، ومسئولية الأعمى والأعرج دون مسئولية البصير والسليم، وهكذا.
وما هذا التفاوت في المسئوليات إلا من أثر التزام أسس الحضارة الإسلامية جانب الواقعية في التكاليف بالأعمال وفي تحديد مناهج الحياة للناس.
ولقد وضع الله جل وعلا بين يدي المسلمين القواعد العامة للواقعية في التكاليف بالأعمال، وفي تحديد مناهج الحياة للناس، حتى يهتدوا بهديها، ويتخذوها أساسًا لكل ما يستنبطونه من أحكام تشريعية، ومناهج عملية.
قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ففي قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
بيان ليس فوقه بيان يدل على أن التكاليف في الشريعة الإسلامية لا تزيد
مهما اشتدت عن حدود استطاعة النفس المكلفة، وأنه متى فقدت الاستطاعة ارتفع التكليف لا محالة.
ومن أجل ذلك فلكل نفس ما كسبت من خير، وليست تكسبه إلا ضمن حدود استطاعتها، وعلى كل نفس ما اكتسبت من إثم، وليست تكتسبه إلا ضمن حدود استطاعتها أيضًا، واستطاعتها أن لا تكتسبه.
فمن سقط من مكان عال على الإنسان فقتله، ولم يستطع وهو يهوي الانحراف عنه، فهو ملجأ لا مسئولية عليه عند الله؛ لأنه لم يكتسب إثمًا بعمله الناتج عن إرادته.
وتطبيقًا لهذه القاعدة الإسلامية العامة وجدنا تكاليف العبادات وغيرها مقرونة بتوافر شرط الاستطاعة.
وفيما يلي طائفة من النصوص على ذلك:
أ- قال الله تعالى في تكليف الناس الحج في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول":
فجعل الله في هذا النص إلزام الناس بالحج مقرونًا بتوافر شرط الاستطاعة، والاستطاعة بالنسبة إلى هذه الفريضة ذات عنصرين: عنصر جسدي، وعنصر مالي، ويدخل في العنصر الجسدي قدرة الإنسان على حماية نفسه من مخاوف الطريق إذا كانت فيه مخاوف.
ب- وفي مجال النفقة يراعي الإسلام جانب الاستطاعة لدى تحديد مقدارها، ويوجه القضاء الشرعي لمراعاتها، لدى إصدار أحكامه المتعلقة بها، والتي تختلف باختلاف الأشخاص، والبيئات، والأعراف، والأزمنة.
ومن أجل ذلك لم يبين مقادير النفقة بحسب مستويات الناس، ولكنه أطلقها، مكتفيًا بالإرشاد العام إلى أن ذا السعة ينفق من سعته، وأما المقتر فينفق على مقدار استطاعته.
قال تعالى في سورة "الطلاق: 65 مصحف/ 99 نزول":
وقال تعالى في سورة "البقر: 2 مصحف/ 87 نزول":
ج- وفي مجال إعداد القوة لإرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين، يأمر الله بإعداد المستطاع منها، قال تعالى في سورة "الأنفال: 8 مصحف/ 88 نزول".
د- وفي مجال الإلزام بالهجرة من بلاد لا يستطيع المؤمنون فيها القيام بواجباتهم الدينية الفردية أو الجماعية، يحكم الله على الذين لا يهاجرون منها بأنهم ظالموا أنفسهم، ولا يقبل منهم الاعتذار بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض مغلوبين على أمرهم، ولكنه سبحانه يستثني منهم المستضعفين العاجزين حقيقة عن الهجرة، وهم الذين لا يستطيعون حيلة للفرار بدينهم، ولا يهتدون سبيلًا.
قال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
فقد راعى الله عدم استطاعة العاجزين المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة يتخذونها للهجرة من بلادهم التي عتا فيها الكافرون، وأخذوا يفتنون الناس عن دينهم، ويكرهونهم على الكفر بطريق مباشر أو غير مباشر، فاستثناهم لدى الحساب من عنف المؤاخذة قائلًا:
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .