الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج-
انفتاح الحدود المادية:
ويتمثل انفتاح الحدود المادية في أسس الحضارة الإسلامية بأمرين:
الأمر الأول: أن ميادين نشاطها غير محدودة ضمن رقعات إقليمية من الأرض.
الأمر الثاني: أن ميادين نشاطها غير محدودة في طائفة خاصة من مجالات الحياة.
أما الأمر الأول، وهو أن ميادين نشاطها غير محدودة ضمن رقعات إقليمية من الأرض، فيظهر جليًّا في اعتقاد المسلم أن الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده الصالحين، فكل أرض من أرض الله الواسعة صالحة لأن يقيم عليها المسلمون حضارتهم، ولأن يكونوا وارثيها الصالحين، وكل أرض من أرض الله الواسعة يتيسر فيها إقامة الحضارة الإسلامية على وجهها الصحيح، فهي الوطن المفضل عنه المسلمين، وكل أرض لا يستطيع المسلمون إقامة حضارتهم الإسلامية فيها بعد بذل ما لديهم من جهد إنساني، ثم يتيسر لهم خير منها لإقامة هذه الحضارة فإن أسس الإسلام الحضارية تدعوهم أن يهاجروا منها إلى ما هو خير.
قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
فهذا النص يوجب الهجرة على الذين تضطرهم إقامتهم في بلادهم إلى مخالفة أوامر الله، والوقوع في معاصيه، الأمر الذي يكونون به ظالمين لأنفسهم ويستثنى هذا النص المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة تمكنهم من
الهجرة كالعجزة من الرجال والنساء، وكالولدان الذين لا يقدرون على الهجرة والسفر.
والإلزام بالهجرة يعني أن الوطن الحقيقي للمسلم هو الأرض التي يستطيع أن يقيم فيها شرائع الإسلام وواجباته، وأن يبني فيها من الحضارة الإسلامية ما تمكنه من طاقاته.
وأما الأمر الثاني: وهو أن ميادين نشاطها غير محدودة في طائقة خاصة من مجالات الحياة، فيظهر جليًّا بتناولها كل ما في الكون من ميادين نشاط مادي.
فحينما كانت أوروبا تعاني من أزمة قيام حجب كثيفة من تقاليد دينية منحرفة عن أصول شريعة الله الحق، وكانت هذه الحجب تحجز عن الوصول إلى الحقائق الكونية المتطلعين إلى البحث العلمي بغية اكتشاف ما في الكون من حقائق وقوانين وطبائع كيميائية وفيزيائية وجغرافية وفلكية، وقوى كمينة في الأرض، وآفاق السماء، كانت العواصم الإسلامية تعج بالعلماء الباحثين في مختلف ميادين الكون المادية، دون أن يجد هؤلاء العلماء الباحثون من أسس الحضارة الإسلامية ما يصدهم عن متابعة بحوثهم، بل يجدون أنهم مسئولون في نصوص الشريعة الإسلامية عن متابعة البحث والاستنباط، والاختيار والتجربة، واكتشاف ما في الكون من أسرار وعلوم وحقائق ونظم ربانية، واستخدام ما أودع الله فيه من طاقات ضمن حدود خير الإنسان.
ومن اللطائف أنهم إذا اهتدوا مثلًا بالبحث والتأمل والتجربة والاختيار والمتابعة إلى علوم طبية واسعة وأدركوا فيها بديع صنع الله، وإتقانه لكل شيء خلقه، قالوا: هذه ثمرة من ثمرات حكمة الله فيما خلق من أمراض في الحياة يتعرض إليها الإنسان فتدفعه إلى البحث عن سبب العلة وصفاتها وأفضل علاج لها.
وبهذا الفهم اللطيف وأمثاله استطاع بناة الحضارة الإسلامية أن يرتقوا في درجات الكمال العلمي والعملي، وأن يحسنوا تصور حكمة الله الشاملة، وأن تطمئن قلوبهم بالإيمان، ويزيد انشراح صدورهم للإسلام.
وعلى هذا المنهج كانوا يسيرون في مختلف أنواع النشاط المادي، بحثا وتأملًا واختبارًا وتجربة، وكانوا في هذا أساتذة منشئي الحضارة الأوروبية المادية، التي يقطف العالم اليوم ثمارها المدهشة، وذلك قبل حقبة الركود التي أصيب بها المسلمون، والتي وليتها حقب التقهقر والتراجع الحضاري، بسبب هجر أسس الحضارة الإسلامية، وعبور مفاهيم فاسدة إلى المجتمعات الإسلامية، وإلقاء السمع لوساوس أعداء الإسلام.
نتائج تطبيقية لانفتاح الحدود المادية:
إن المؤرخين والباحثين في مظاهر الحضارة التي بناها المسلمون إبان عصور ازدهار الإسلام، لتتدفق إليهم كثرة كاثرة من الأمثلة التاريخية، التي تقدم شهادتها المادية الدالة على أن من عناصر الحضارة الإسلامية الكبرى انفتاح الحدود المادية أمام بناتها، ومن أجل ذلك كانت ميادين نشاطهم غير محدودة من طائفة خاصة من المجالات، بل كانت شاملة لكل ما في الكون من ميادين نشاط مادي علمي وتطبيقي.
قال "درابر" في كتاب "تاريخ الارتقاء العقلي في أوروبا"1:
"من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، وقد حان الوقت الذي ينبغي لنا فيه أن نعرفهم، إن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية وعلى المنهجية القومية لا تدوم أبد الدهر".
وجاء في "التاريخ العام" لـ"لافيس ورامبو"2.
"إذا وجب أن يذكر لكل واحد قسطه من العمل فلا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب "المسلمين" منه كان أعظم من قسط غيرهم، فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلية في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة، التي
1 نقلًا عن الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي.
2 نقلًا عن المصدر السابق.
كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذا المواد المختلفة التي صبت فتمازجت تمازجًا متجانسًا، أبدعوا مدينة حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة". ا. هـ.
أمثلة عن الميادين المختلفة لنشاط المسلمين:
ولدى تتبع ميادين نشاط المسلمين المختلفة، لا بد أن نعرض أمثلة منها: نقدم فيها بيانًا موجزًا عامًّا يعتمد على نقول وشهادات، لنعود إلى التفصيلات المناسبة في الباب الخاص بالآثار التطبيقية للحضارة الإسلامية من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
التاريخ والجغرافية:
لقد كان للمسلمين نشاط جم في علمي التاريخ والجغرافي، ولقد أعجب كثير من العلماء الأوروبيين الذين تفقهوا الحضارة الإسلامية من كتبها، وأكبروا أعمال المؤرخين والجغرافيين المسلمين، أمثال: المقدسي، وابن حوقل، وياقوب الحموي، والمسعودي، والطبري، وابن الأثير، والبلاذي، والبيروني، وأبي الفداء، وابن جبير، وابن سعيد، وابن سعد، وابن خلكان، وابن عساكر، والإدريسي إلى آخرين كثيرين كتبوا في هذين العلمين، وكتبهم تفخر بها المكتبة الإسلامية، ولقد استفاد منها الغربيون فوائد جلى، ونوهوا بها في شتى المناسبات.
قال: "غوتيه":
"إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافية الذي علم أوروبا هذا العلم، لا بطليموس، ودام معلمًا لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب "أي المسلمين" في هذا الفن، ولم يقع الإدريس في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب".
وقال أيضًا متسائلًا ومجيبًا:
"من دار حول أفريقية؟ فاسكودي جاما. ومن كشف أمريكا؟ خريستوف كولومبوس". ثم قال: "ومن السهل أن ندرك أن هذين الكشفين اللذين فاقا جميع ما تقدمهما، قد نما على أيدي بخارة من العرب، وكان تحقيقهما متعذرًا بدون ارتقاء علم الجغرافية عند العرب "أي المسلمين" وتم هذان الكشفان العظيمان بعقول العرب وموادهم وأشخاصهم" إلى آخر ما قال هذا العالم المنصف.
الفلك:
وكان للمسلمين نشاط جم في علم الفلك.
قال "دلامير" في تاريخ هذا العلم1:
"إننا إذا أحصينا راصدين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد كثيرين من العرب "المسلمين" في هذا الفن، مما دل على بعد غورهم في علم الأفلاك".
ونقل نظير ذلك غوستاف لوبون عن "دولنير" ولكن بدل الروم الأغارقة2. وقال "بيكوردين"3:
"نشأت مكانة علم الفلك عند العرب "أي المسلمين" من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودورة كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس بـ"12" درجة فارجعوه إلى أربع وخمسين أولًا، ثم إلى "42" درجة أي: إلى الصحيح من مقداره تقريبًا".
1 نقلًا عن كتاب الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي.
2 حضارة العرب لغوستاف لوبون.
3 نقلًا عن: الإسلام والحضارة العربية.
ويتابع "محمد كرد علي" قوله في هذا المجال فيقول مع بعض تصرف مني في العبارة:
"وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمومنية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره، وعامره، وغامره، ومساكن الأمم والمدن، إلى غير ذلك.
وهي أحسن مما تقدمها من جغرافية بطليموس، وجغرافية مارينوس.
ووضع له علماء رسم الأرض -وكانوا سبعين رجلًا من فلاسفة العراق- كتابًا في الجغرافية، أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب.
وأقام المسلمون المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند، وقرطبة وفاس.
ونظروا في المجسطي لبطليموس في الفلك، وعملوا جداول فلكية مدققة.
وكشف المسلمون منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها، وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارًا لم تعرف، حتى قال أحد عارفيهم قبل "كولومبس" بقرن ونصف:
"لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفًا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفًا من تلك الجهة فلا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع أخرى".
وقال "درابر" في حديثه عن المسلمين:
"إن اعتمادهم على المراقبة والامتحان دعاهم إلى استعمال الربع1 والاستطرلاب في علم الهيئة، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا
1 لدى الفلكيين أداة يقيسون بها تسمى الربع، وهي على شكلين: الربع المجيب، والربع المقنطر.
خرائط للنجوم المنظورة في فلكهم، مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية، لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف، والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة، وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورًا بعثت نورًا باهرًا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرفاصة لذلك".
الاختراعات الصناعية والاكتشافات:
وكان للمسلمين نشاط جم في مختلف البحوث والإنتاجات المادية التي تعتمد على الاختراع والابتكار والصناعة.
قال "غوتيه" في كلام له عن المسلمين:
"ولهم في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة إلى عصورهم، وقد وجد في كتاب عربي قديم لم ينقل إلى اللغات الأوروبية أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي، ولم تعرف أوروبة سر هذه الصناعة إلا في النصف الأول من القرن السادس عشر".
وقال "غوتيه" أيضًا عن المسلمين:
"وإنهم علمونا صنع الكتاب، وصنع البارود، وعمل إبرة السفينة، فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدينة العربية".
ويجمع "محمد كرد علي" في كتابه "الإسلام والحضارة العربية" طائفة حسنة تدخل في هذا المجال، منها ما يلي:
"وقد أدخل المسلمون على أوروبا الورق المعمول من القطن والورق الرخيص الثمن، وكان الناس من قبل يكتبون على ورق "البردي" وهو غال جدًّا،
وكانت معامل شاطبة في إسبانيا تصدر بضاعة الورق إلى أوروبا الغربية، بينما كانت أوروبا الشرقية تبتاع ورقها من بلاد الشرق الأدنى مباشرة، على ما يشهد لذلك اسم الورق الدمشقي "شارتا داماسينا".
وقد صنع الورق من الحرير في سمرقند وبخارى سنة "650م" ثم استبدل يوسف بن عمرو سنة "706م" القطن بالحرير، ومنه الورق الدمشقي الذي ذكره مؤرخو اليونان.
وقد عرف المسلمون آلة الظل، والمرايا المحرقة بالدوائر، والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطًا كبيرًا في الميكانيكيات.
ولما بعث الرشيد العباسي إلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة تعجب منها أهل ديوان شارلمان، ولم يستطيعوا أن يعرفوا كيفية تركيب آلاتها، على ما حقق ذلك "سيديلو" في كتابه "تاريخ العرب".
ونهض المسلمون في فارس والأندلس وصقلية وأفريقية لاستثمار المعادن، يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخراج المسلمون في الأندلس من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب.
واستثمر المسلمون أيضًا المناجم التي صارت ملكًا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، فاستخرجوا الحديد في خراسان، والرصاص في كرمان، واستخرجوا القار والنقط والكبريت وطينة الأواني الصينية، ورخام طوريس، والملح الأندراني.
وقد سبق المسلمون في الأندلس إلى معرفة الطباعة قبل مخترعها المشهور الألماني "جوتنبرغ" وذلك بأربعمائة سنة، فقد كان عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر، ومن أهل المائة الرابعة تكتب السجلات في داره، ثم يبعثها للطبع فتطبع، ثم تقدم إليه، فيبعثها إلى العمال في الجهات.
وحاول بعض المسلمين اختراع طريقة الكتابة الخاصة بالعميان، فقد ذكرت كتب التاريخ أن علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي المتوفى سنة "712هـ" وكان قد كف بصره في أول عمره، كان كلما
اشترى كتابًا لخزانة كتبه لف ورقة على شكل حرف من الحروف، ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة الكتاب.
وحاول "عباس بن فرناس" حكيم الأندلس الطيران، وهو أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من صنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات، وكان ذلك على غير مثال سبق، ومثل في بيته السماء بنجومها وعيومها وبروقها ورعودها تمثيلًا يخيل للناظر أنه حقيقة.
ويقول "ريسون" في بحوث له عن حضارة المسلمين:
"وتوصل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسًا للطريقة التي سموها الشكل الفني فيحل المثلثات الكروية.
وعرفوا حامض الكبريت، استخرجوه من الزاج بوساطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة، والقلي، وطرق إذابة الذهب، وعرفوا ملح النشادر، وحجر الكي، والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب.
وكانوا يعرفون صنع الصواريخ، أخذوا سرها، من الروم، وعملوا البارود للمدافع، وربما كان ذلك قبل الصينيين1، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر الميلادي.
وقالوا بكروية الأرض منذ ابتداء نهضتهم، وعنوا بصنع القاشاني، وغيروا طريقة صنعه وأشكاله.
واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية، والمصابيح العربية الملونة، التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية، ونسجت هذه على منوالها، وكذلك تعلم أهل البندقية صنع المرايا، وكانت تصنع في صور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا.
1 يؤكد غوستاف لوبون أن البارود من اختراع المسلمين وأن الذي كان عند الصينيين إنما هو ملح البارود.
ونقل من الشام والعراق إلى الأندلس صنع السيوف الدمشقية، وصنع الأقمشة، ومنها "الدمقس" -وهو ما يسمى الدامسكو- نسبة إلى دمشق. ومنها "الموسلين" نسبة إلى الموصل، وهي الشفوف، كالذي يسمى الآن بالشاش، ثم عرفت هذه الأصناف بعد ذلك في بلاد الغرب".
ويقول "درابر" في بحوث له عن حضارة المسلمين:
"ومن عادتهم أن يراقبوا ويتمحنوا، وقد اعتبروا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس.
ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء، وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية، وفتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات، واختراع الجبر، واستعمال الأرقام في الحساب.
وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان.
وهم الذين أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة كالحامض الكبريتيك، وحامض الفضة "النتريك" والغول "الكحول".
وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية، والمستحضرات المعدنية.
وهم قرروا في الميكانيكات سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية.
واصطنعوا في نقل الموانع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في علوم الأجسان وغرقها في الماء
واصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، فقالوا: إن الشعاع يمر من المرئي إلى العين.
وفهموا أساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا عن طريق الشعاع المنحني في الهواء أننا نرى الشمس قبل الشروق وبعد الغروب، وبرهنوا على ذلك بانكسار الضوء.
والذي يدهش كثيرًا أن نتصور أشياء تفاخر بأنها من مواليد وقتنا، ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها، فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقًّا إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية، وغير الآلية، فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية" إلى غير ذلك من أقوال له.
أما "غوستاف لوبون" فله تحقيقات واسعات يشرح فيها فضل المسلمين على المدينة الغربية الحديثة، فمما جاء منها لدى حديثه عن مناهج المسلمين العلمية:
"إن خزائن الكتب والمختبرات والآلات هي مواد للتعليم والبحث اللازم، ولكنها ليست إلا أدوات، وقيمتها منوطة بالطريقة التي تستعمل فيها، فقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر فيه بنفسه أو يبتدع أي شيء، وقد يكون تلميذًا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذًا أما العرب "أي المسلمون" فبعد أن كانوا تلاميذ عاديين أساتذتهم تآليف اليونان أدركوا للحال أن التجربة، والترصد خير من أفضل الكتب "يعني بذلك ما تدخل في مجالات العلوم المادية والصناعات" هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يعد العمل بها بدعًا، ولكنها لم تكن كذلك في سالف الدهر، فقد ظل علماء القرون الوسطى يشغلون ألف سنة قبل أن يدركوها.
ينسب إلى بيكون على العموم أنه أول ما أقام التجربة والترصد اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم، وقد أبدى هذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب.
وقال "سيديو":
"إن أهم ما اتصفت به مدرسة بغداد في البداءة هو روحها العلمية الصحيحة التي كانت سائدة لأعمالها، وكان استخراج المجهول من المعلوم والتدقيق في الحوادث تدقيقًا، مؤديًا إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدم التسليم بما لا تثبته التجربة، مبادئ قال بها أساتذة من العرب، وهذه هي الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصبة التي صارت عند المحدثين أداة استعملوها للوصول بها إلى أروع الاكتشافات".
وقال "دولنبر" في كتاب "تاريخ علم الفلك":
تعد راصدين أو ثلاثة بين الأغارقة، وتعد عددًا كبيرًا من الرصاد بين العرب، وأما في الكيمياء فلا نجد مجربًا واحدًا يونانيًّا مع أن المجربين من العرب فيها يعدون بالمئات.
الطب:
وكان للمسلمين نشاط جم في علم الطب النظري والتجريبي.
يقول "سنيبوس" في كلام له عن حضارة المسلمين.
"واستخرجوا من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي وهو طب العقاقير والحبوب".
ويقول "ريسون" في كلام له عن المسلمين:
"وكشف كيماويوهم وأطباؤهم عن خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت، والكبريت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والرواند والسنامكي".
ويقول "غوتيه" في حديثه عن المسلمين:
"وقد أغنوا العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة، والدهون، والمراهم، والغول "الكحول" واللعوق، والسنامكي، والراوند، والخيارشنبر، وجوزالقيء، هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة، واستخرجوا من العين الجريم العدسي الشفاف، ويظهر أنهم عرفوا البنج".
وفي "التاريخ العام" لـ"لافيس ورانبو":
"وكل هذا المجد في الطب العربي إن لم يبدلنا أنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة، وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة، ويعبد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى الذهب، ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى: لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد، والتجميد، والحل، وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة".
ومهما يكن من أمر فقد كان الطب العربي أساس علم الطب عند الفرنسيين، أخذوه مع كثير من الألفاظ العربية، كما كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تقرأ في أوروبا في كتب عربية إسلامية.
وكان المسلمون في الأندلس يعرفون الجراثيم، حتى كانت وقايتهم من الأمراض تشبه الوقاية المعروفة بعد اكتشاف عالم الجراثيم.
الزراعة:
وكان للمسلمين نشاط جم في ميادين الزراعة.
جاء في "التاريخ العام" لـ"لافيس ورامبو":
"ومضى دهر طويل كانت فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال، وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علمًا حقيقيًّا للعرب، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة، ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيدهم في زراعة الأرض، بينما كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملًا مهينًا".
وقال "شارل سنيوبوس" في كتابه "تاريخ الحضارة":
"جرى أمرأء العرب على قاعدة إسقاء الأرضين بفتح الترع، ففتحوا الآبار وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير لضخ المياه، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسية الذي جاء كأنه حديقة واحدة هو من بقايا عمل العرب "أي المسلمين" وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في مسائل الري".
وقال أيضًا:
"إن العرب استعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم، وحملوا كثيرًا من النباتت إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها، حتى لنظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين بل والقطن والقصب".
وقال "ويليام ويلكوكس" مهندس الري الكبير في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين:
"إن عمل الخلفاء المسلمين في ري العراق في الأيام الماضية يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا في هذا العصر".
العمران:
وكان للمسلمين نشاط عظيم في ميادين العمران وتخطيط المدن، وهذه آثار حضارتهم العمرانية شاهدة لهم في الشام والعراق ومصر وبلاد المغرب العربي وإسبانيا وإيران وتركيا والهند وسائر البلاد الإسلامية.
وقد وصف المقدسي ميناء عكا التي بناها جده أبو بكر البناء المهندس لابن طولون، والطرق التي استعملها في هندستها حتى تدخل إليها المراكب آمنة، فعدت هذه الميناء من العجائب.
ويقول "ريسون" في كلامه له عن المسلمين:
"وكنت تراهم حيث نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل، وكانت المدن الإسلامية أوساطًا تجارية كبرى".
وذكر المؤرخون أنه كان في حي من أحياء دمشق وحدها وهو حي الصالحية "جبل مشرف على دمشق القديمة" قرابة "360" مدرسة لتدريس مختلف العلوم من مختلف الاختصاصات التي كان لها شأن يومئذ، وهذه المدارس داخلة في نطاق الأوقاف الإسلامية، يضاف إليها المستشفيات، والبيمارستانات والملاجئ التي يأوى إليها ذوو العاهات وأصحاب الحاجات، وكانت هذه المنشآت الخيرية والتعليمية أحسن حالًا وأمتن وآنق من قصور الأثرياء، وذوي الجاه والسلطان آنئد.
والكلام عن المؤسسات الخيرية التي بناها المسلمون وأنفقوا عليها الأموال الطائلة، وأوقفوا عليها الوقاف الكثيرة، ذو شجون، وسنعرض روائعها إن شاء الله في الباب الرابع ما تيسر لنا ذلك.
ونقتطف من كتاب "حضارة العرب" تأليف "غوستاف لوبون" المقتطفات التالية من مواضع متعددة:
"وأنشأ العرب في أفريقية مدنًا كالقيروان وتونس وفاس، وجددوا مدنًا قديمة كتلمسان وبجابة والجزائر".
"ويستدل على حضارة سورية أيام سلطان العرب بما رواه الكتاب وبما لا يزال قائمًا فيها من المباني، وروى المؤرخون أن سورية لم تلبث أن ازدهرت بعد أن فتحها العرب، فقد جد العرب في دراسة كتب اليونان والرومان، مثلما جدوا في ميادين القتال، وأنشئوا المدارس في كل مكان، وصاروا أساتيذ من فورهم بعد أن كانوا تلاميذ، وأنهضوا العلوم والشعر والفنون الجميلة أيما إنهاض".
"وبلغت الصناعة والزراعة درجة رفيعة في سورية، وازدهرت كبريات المدن السورية، كالقدس، وصور، وصيدا، ودمشق، وكانت سورية من أغنى أقطار العالم دائمًا ما لم تنلها أيدي التخريب".
"فلما قبض العباسيون على زمام الخلافة في سنة "132هـ - 740م" عزموا على تبديل العاصمة، فأقاموا بالقرب من بابل وعلى شاطئ دجلة مدينة بغداد التي لم تلبث أن صارت أشهر مدن الشرق".
الفنون الجمالية:
وكان للمسلمين نشاط جم في ميادين الفنون الجمالية، مبتعدين فيها عما لم تأذن به أسس الإسلام الاعتقادية والسلوكية.
وقد ظهر ذلك في هندسة المنشآت العمرانية الكبرى، وتزيينها بفنون الزينة الجميلة، عدا التماثيل، وصور الإنسان والحيوان، وكل ما فيه دلالة على أي لون من ألوان الشرك والكفر بالله.
وضمن المجالات المنفتحة أمامهم استطاعوا أن يبدعوا إبداعات رائعات، تشهد لهم بذلك النقوش والزخرفات البديعة، الباقية في آثارهم الحجرية والرخامية والخشبية والمعدنية وغيرها، وكذلك الرسوم البديعة فيما بقي من الفسيفساء التي زينوا بها جدران وأسقف الجوامع الكبرى.
وفي المحاريب والمنابر والمنارات والقباب والمقنطرات والأقواس
والمتدليات المقرنصة والنوافذ والأبواب والدهانات التي نشاهدها في مختلف الأبنية الإسلامية الأثرية المنبثة في معظم بلدان العالم الإسلامي الشيء الكثير، من آثار فنونهم الجميلة، التي لم يجعل الإسلام من دونها حاجزًا.
ولما كان الصور والتماثيل الحيوانية من الأمور المساعدة على غرس بزور الشرك بالله، ونشر الوثنيات المختلفة حرمها الإسلام، وإن كان الغرض منها الناحية الجمالية، وذلك لأن الصور والتماثيل، ربما تجعل المعجبين بمن تحاكيه يتقربون إليها بالتعظيم، تعبيرًا عن حبهم لمن تحاكيه، ومع تطاول الزمن وتوارث الأجيال ذلك عنهم، يتطور الأمر فيكون لونا من ألوان العبادة لها، وشركًا بالله ظاهرًا، وقد حصل نظير ذلك في القرون الأولى، ويحصل نظيره أيضًا مع تماثيل الزعماء المنقذين لشعوبهم في أمم كثيرة، ومنه تعظيم بعض المسلمين لقبور الصالحين، على أن الوثنية لم تنته بعد من العالم، والملاحظ أن الشعوب الوثنية ما زالت أكثر عددًا من الشعوب الأخرى.
ولما كان عرض زينة المرأة وجمالها الفاتن لغير من تحل له وسيلة للإثارة غير المشروعة، وسببًا لنشر الفساد في الأرض حرم الإسلام ذلك، وإنما أذن به إذا كان لمن تحل له معاشرتها دون غيره، فإذا رأى منها ما يسره لم يكن أمامه مانع يمنعه من تلبية مطالبة العضوية الفطرية منها.
وظهر نشاط المسلمين في ميادين الفنون الجمالية في مجالات الأدب القولي، عن طريق الشعر والنثر، على اختلاف أبوابهما، فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، واهتدوا بروائع أدب الكلام الذي اشتملت عليه نصوص القرآن والسنة، وما فنون الشعر وعلوم الأدب والبلاغة بما اشتملت عليه من علوم "المعاني والبيان البديع" إلا بعض ثمرات هذا النشاط الجم في مجالات الفنون الجمالية الكلامية ذات الأهداف السامية.
وكان للمسلمين سبق رائع في فنون زخرفة الألبسة والآنية، والمراكب والكتب وغيرها، مما تشهد به آثارهم الباقية التي تختال بها المتاحف الكبرى في معظم دول العالم.
وقد انفرد المسلمون من بين الناس بسبق بديع في فنون الخط، حتى غدا الخط العربي آية في الجمال بين سائر الخطوط العالمية، بل أصبح فنًّا قائمًا بذاته، فهو صورة رائعة للزخرفة الجميلة، مع ملاحظة أن هذه الزخرفة ليست ضائعة الدلالة، فهي ذات دلالات فكرية وعلمية بحسب ما تدل عليه كلمات هذه الخطوط، إلى جانب دلالاتها الفنية الجمالية.
ومن الفنون الجمالية التي يحض عليها الإسلام مختلف الآداب الشخصية والجماعية، وبها يُعطي المسلم صورة بديعة لجمال المظهر، وجمال المحادثة، وجمال المعاشرة، وجمال المجالس، وجمال السير في الطرقات.
ولما كانت القذارة منافية للجمال نهى الإسلام عنها، وأمر بالطهارة، فقال تعالى، لرسوله:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقال الرسول صلوات الله عليه: "الطهور شطر الإيمان".
ولما كان تشعيث الشعور منافيًا للجمال علمنا الإسلام تنظيفها وترجيلها وتنسيقها.
ولما كان المشي بنعل واحدة منافيًا للجمال أيضًا نهى الرسول صلوات الله عليه عن ذلك.
وتمشيًا مع هذا المنهج الجمالي المحبب للأنفس، قال صلوات الله عليه:"البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها".
الخطيئة: هي المعصية، وإنما كانت معصية لأنها منافية للذوق الجمالي من جهة، ومنافية لتعاليم الصحة من جهة أخرى، ولا سيما في مواطن العبادة التي هي محل اجتماع المسلمين.
وهكذا تسير الحضارة الإسلامية سيرًا شاملًا كل ما في الحياة من مجالات.
وهكذا نلاحظ كيف أدرك المسلمون الأولون معنى العالمية والشمول في
أسس الحضارة الإسلامية، فأخذوا يشقون كل طريق نافع، ويجولون في كل ميدان خير، رغبة باغتنام أكبر مقدار ممكن من التقدم والارتقاء، في مظاهر الحضارة الإنسانية، حتى خطوا في ذلك خطوات عظيمات، كانت خلقة كبرى من حلقات سلسلة الرقي الإنساني، فلو أتيح لهم متباعة خطواتهم هذه، ولم يدب إليهم دبيب الضعف والوهن، والبعد عن مفاهيم الإسلام، لجاءت مظاهر حضارة القرن العشرين المادية على أيدي المسلمين، وقبل عدة قرون من ظهورها على أيدي غيرهم، ولكانت خالية من شوائب الفساد الاجتماعي والخلقي الذي تعاني منه هذه الحضارة الآن.
ولكن شاءت حكمة الله وقضت سنته أن تكون النتائج مقرونة بمقدماتها دائمًا، فالتقدم ثمرة العمل والتفكير وبذل الجهد، والتخلف ثمرة التواني والتهرب من المسئولية، وعدم المبالاة، والانشغال باللهو واللعب ومحقرات الأمور، وثمرة الانغماس في الشهوات والملذات.