الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله:
بالإضافة إلى المساجد والجوامع التي هي المراكز الأولى للعلم والتعليم والتربية في بلدان المسلمين جميعًا، فقد أسست في العصر العباسي مؤسسات تعليمية مختلفة زيادة على المساجد والجوامع.
1-
ففي العصر العباسي أسست مدارس لتعليم الصغار القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وقد يضاف إليها تعليم شيء من قواعد اللغة العربية، وكانت تسمى هذه المدارس "كتاتيب" والواحد منها "كتاب".
ثم انتشرت هذه الكتاتيب في المدن والقرى.
وفيه اتسعت مواد التعليم في حلقات العلماء التي كانت تعقد في المساجد والجوامع.
وكان الخلفاء والأمراء والأغنياء يتخذون لأولادهم معلمين خاصين.
2-
وفيه اتسعت دوائر التعليم، حتى صارت تعقد المناظرات والمجالس العلمية في المساجد والمكتبات والقصور وبيوت العلماء والوزراء.
وفيه ظهرت حركة علمية عن طريق المراسلات بين العلماء، أسئلة وأجوبة، فإذا اشتهر عالم بعلم ما أو بعدة علوم، في بلد من بلدان المسلمين، أخذت تتوافد عليه الرسائل التي يسأله أصحابها فيها مسائل ليجيبهم عليها.
4-
وكانت العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه كعلاقة الأب بابنه، فالأستاذ معلم ومرب ومنفق، والتلميذ مطيع وخادم، وإذا أعجب الأستاذ بتلميذه وكانت لديه بنت مناسبة زوجه بنته، وهذه الظاهرة كانت منتشرة في كل بلدان العالم الإسلامي، وفي مختلف العصور.
المدارس النظامية:
5-
وفي القرن الخامس الهجري أسست المدارس النظامية العالية، التي تشبه الجامعات في عصرنا الحاضر.
وقد أسس هذه المدارس النظامية الوزير "أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي 408-485هـ" الذي لقب بلقب "نظام الملك" وبلقب "قوام الدين". فقد كان وزيرًا حازمًا عالي الهمة، أصله من نواحي "طوس" وقد تأدب بالآداب العربية، وسمع الحديث النبوي الشريف بكثرة، واشتغل بالأعمال السلطانية.
اتصل بالسلطان "ألب أرسلان" فاستوزره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين، ولما توفي "ألب أرسلان" خلفه ولده "ملك شاه" فصار الأمر كله للوزير "نظام الملك" أما السلطان "ملك شاه" فليس له إلا تخت الحكم والصيد.
وقد كان "نظام الملك" من حسنات الدهر، واستمر في عمله عشرين سنة، حتى اغتاله ديملي قرمطي من أتباع "الحسن بن الصباح" أحد أخباث القرامطة الكبار وقادتهم، على مقربة من نهاوند.
وكانت أيام "نظام الملك" أيام دولة العلم والعلماء، فقد وجه عنايته الفائقة، وهمته الصادقة، للتعليم ونشر العلم على مذهب أهل السنة، وبذل غاية وسعه في تأسيس المدارس التي عرفت بالمدارس النظامية نسبة إليه.
فقام بتأسيس هذه المدارس في "أصفهان" وهي تقع في وسط إيران، وفي "نيسابور" وهي تقع في شمال شرق إيران، وفي "البصرة" وفي "بغداد" وفي أقصى الروم.
وكانت هذه المدارس تقوم بالتعليم، وبالتربية على الفضائل الإسلامية الخلقية والسلوكية، وتقدم لطلاب العلم فيها السكن الداخلي، ووسائل العيش.
ومن أشهر هذه المدارس "المدرسة النظامية ببغداد" وقد افتتحها الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" في حفل عظيم، وقد كنت هذه المدرسة ذات أوقاف كثيرة، وكان المدرسون فيها من كبار العلماء، أمثال "أبي حامد الغزالي" وقد تخرج منها علماء فضلاء كثيرون، وقد كانت وفقًا على أصحاب المذهب الشافعي فقط.
وكان مدرسو المدارس النظامية على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: المدرسون، وكان لكل واحد منهم نائبان، يقوم أحدهما بالتدريس، عند غياب المدرس الأصلي.
الطبقة الثانية: المعيدون، وهم الذين يعيدون الدروس التي يقررها المدرس، شيخ الحلقة الأصلي أو نائبه.
الطبقة الثالثة: الوعاظ.
وكان لكل مدرسة من المدارس النظامية دار كتب خاصة بها.
وكان المدرسون ونوابهم من كبار العلماء المشهورين. وكان المعيدون والوعاظ وخزنة دار الكتب من العلماء الأكفاء المرموقين.
فمن الذين كانوا أساتذة في المدرسة النظامية ببغداد:
- أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة "496هـ".
- ويحيى بن علي المعروف بالخطيب التبريزي المتوفى سنة "502هـ".
- وعلي بن محمد الطبري المتوفى سنة "504هـ".
- وأبو حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة "505هـ".
- ومحمد بن أحمد القفال الشاشي المتوفى سنة "508هـ".
- وأبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي المتوفى سنة "597هـ".
وكثيرون غيرهم.
وقد تخرج من المدرسة النظامية ببغداد مشاهير من العلماء والأدباء، فمنهم:
- أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر المتوفى سنة "571".
- وأبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري المتوفى سنة "576هـ".
- وعماد الدين محمد بن محمد الأصفهاني المعروف بالعماد الكاتب المتوفى سنة "597هـ".
وكثيرون غيرهم.
وقد كان للمدارس النظامية أثر عظيم في انتشار العلم وكثرة العلماء في العالم الإسلامي.
المدرسة المستنصرية ببغداد:
6-
وفي سنة "625هـ" شرع الخليفة المستنصر بالله العباسي في تأسيس مدرسة عظيمة ببغداد، في محلة سوق الثلاثاء، وتم بناؤها في شهر جمادى الآخرة، سنة "631هـ" وفتحت يوم الخميس 20 من شهر رجب سنة "631هـ" وأطلق عليها اسم "المدرسة المستنصرية" نسبة إلى مؤسسها.
وكانت هذه المدرسة أكبر وأحدث من المدرسة النظامية ببغداد، وقد جعلها "المستنصر بالله العباسي" وقفًا على أصحاب المذاهب السنية الأربعة، فاستطاع بذلك الالتحاق بها الأحناف والملكية والشافعية والحنابلة.
وقد تكونت "المدرسة المستنصرية" ببغداد من عدة أقسام، وكان كل قسم منها يشبه كلية في مصطلحاتنا المعاصرة، وله بناء خاص به، وقد اشتملت هذه المدرسة على الأقسام التالية:
- قسم للعربية.
- وقسم للرياضيات والعلوم الأخرى المشابهة.
- وقسم للطب والعلوم الطبيعية.
- وقسم للفقه وأصوله.
- ودار للقرآن الكريم وعلومه.
- ودار للحديث النبوي الشريف وعلومه.
وقد احتل قسم الفقه الاهتمام الأعظم من بين سائر الأقسام، بسبب كثرة أساتذته وطلابه، ومناظرات فقهاء المذاهب الأربعة فيها:
وقد جعل هذا القسم أربعة أرباع:
- ربع للشافعية.
- وربع للحنفية.
- وربع للمالكية.
- وربع للحنابلة.
وكل ربع من هذه الأرباع يتكون من طابقين، وفي الطابق الثاني منه رواق، وكان من كل ربع حجرات عديدة للطلاب، وفوقها غرف بعددها وسعتها، وهي تبلغ العشرين في كل قسم من هذه الأقسام.
وكان في "المدرسة المستنصرية" أواوين يبلغ ارتفاع كل إيوان منها ارتفاع الطابقين معًا.
وكان يتولى إدارة "المدرسة المستنصرية" ناظر يختار من بين كبار موظفي الدولة، الذين اشتهروا بحسن الإرادة والرياسة والقضاء وولاية الأعمال، وكانت لبعضهم مكانة علمية بين العلماء.
وقد يسمى هذا الناظر واليًا، ومعه مشرف، وكاتب، وخازن، ومعهم موظفون آخرون، معماريون، وفراشون، وبوابون، وحمامي، ومزين "حلاق" وقيم، وطباخ، وغلام، وخازن الآلات، وخزنة للديوان، وغلمان، ومزملاتي1، ونفاط.
وكان يُراعى في اختيار المدرس شروط كثيرة، منها التقوى، وحسن الخلق، والسمعة الحسنة، والعلم الوافر، وسلامة المذهب والاعتقاد.
1 المزملة: هي التي يبرد فيها الماء "عراقية" عن القاموس المحيط فالمزملاني هو المسئول عن تبريد الماء وجلبه لطالبيه مبردًا.
أما المعيد فهو دون المدرس، وأرقى درجة من عامة الطلبة، وهو الذي يعيد الدرس بعد إلقاء المدرس الأصلي أو نائبه الدرس على الطلبة.
والطالب النبيه المجد الذي يجد فيه الأستاذ كفاءة وصلاحية لوظيفة المعيدية يعينه أو يرشحه ليكون معيدًا، ثم قد يُرقى المعيد فيكون مدرسًا.
وكان المدرس يجلس على كرسي عند التدريس، ويلبس ثياب السواد، وعلى رأسه عمامة، وعلى يمينه ويساره معيدان.
وكان مدرسو "المدرسة المستنصرية" يختارون من كبار المدرسين والشيوخ العلماء، في العراق والشام ومصر وغيرها من بلدان المسلمين، ممن انتهت إليهم رياسة العلم، أو عرفوا بالبحث والتحري عن الحقائق العلمية، أو كانت لهم مؤلفات قيمات.
الإنفاق:
أما الإنفاق على الطلبة فقد كان لكل طالب ما يكفيه يوميًّا من خبز، وإدام يطبخ في مطبخ المدرسة، غير الحلوى، والفاكهة، والصابون، والزيت، وكان لكل طالب ديناران شهريًا، لينفق منها في حاجاته الخاصة.
وكان الطلاب يسكنون في غرف خاصة تابعة للمدرسة ذات ضوء كاف، ومفروشة بكل ما يحتاجه الطالب لإقاماته، ومزودة بما يحتاجه لمنامه، وفي المدرسة المرافق العامة، لقضاء الحاجات، والطهارة، والاغتسال.
قبول راغبي الدراسة فيها:
وكانت "المدرسة المستنصرية" تستقبل الطلاب الوافدين من كل بلدان العالم الإسلامي، ضمن حدود استيعابها، وكان يختار للقبول فيها الأفضل فالأفضل.
أقسام العلوم التي كانت تدرس فيها:
أما أقسام العلوم التي كانت تدرس فيها فهي:
1-
العلوم الدينية، وهي تشمل "علم التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والفرائض، وما يتعلق بها كمصطلح الحديث، وأصول الفقه، والحساب للفرائض".
2-
العلوم الأدبية والعربية، وهي تشمل "اللغة، والنحو، والصرف، والعروض، والأخبار والنصوص الأدبية".
3-
العلوم الرياضية، وهي تشمل "الحساب، والجبر، والهندسة، والمساحة".
4-
العلوم العقلية، وهي تشمل "المنطق، والفلسفة، ونحوهما".
5-
العلوم الطبيعية، وهي تشمل "الطب، والصيدلة، وعلم الحيوان".
وقد استمر التدريس بالمدرسة "المستنصرية" أربعة قرون، منذ افتتاحها سنة "631هـ" حتى سنة "1030هـ" وهي السنة التي قتل فيها "غانم البغدادي" آخر مدرس من مدرسيها.