الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري
المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري
…
المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري
1-
تحليل معنى الحضارة:
إذا كانت الحضارة تعني في أصل اللغة إقامة مجموعة من الناس في الحضر، أي في مواطن العمران، سواء كانت مدنًا أم حواضر أم قرى، فإن معناها قد توسع عند المؤرخين والباحثين الاجتماعيين حتى صار شاملًا لجميع أنواع التقدم والرقي الإنسانيين؛ لأنهما لا يزدهران إلا عند المستقرين في مواطن العمران.
وبإحصاء صور التقدم والرقي عند الإنسان نستطيع أن نرجعها إلى الأصناف الثلاثة التالية:
الصنف الأول: ما يخدم الجسد ويمتعه من وسائل العيش، وأسباب الرفاهية والنعيم، ومعطيات اللذة للحس أو للنفس.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقديم العمراني والزراعي والصناعي والصحي والأدبي والفني، والتقدم في الإنتاج الحيواني، واستخراج كنوز الأرض، والاستفادة من الطاقات المنبثة فيها، وما أشبه ذلك. ويدخل ضمن هذا جميع أنواع العلوم والثقافات التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثاني: ما يخدم المجتمع الإنساني، ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الاجتماعي الشامل للنظم الإدارية، والحقوقية، والمالية، والأحوال الشخصية، والشامل للأخلاق والتقاليد والعادات
الفاضلات، وسائر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلة. وكل أنواع الثقافات والعلوم التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثالث: ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة التي تبدأ منذ مدة إدراك الإنسان ذاته والكون من حوله، وتستمر مع نفسه وروحه الخالدتين إلى ما لا نهاية له في الوجود الأبدي، الذي ينتقل من حياة جسدية مادية يكون فيها الابتلاء، إلى حياة نفسية روحية برزخية يكون فيها بعض الجزاء، ثم إلى معاد جسدي نفسي وروحي يكون فيه كامل الجزاء.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الفكري القائم على التأملات الحكمية، التي توصل الإنسان إلى معرفة الخالق، وسر وجود الإنسان، وغايته ومصيره، وواجبه في الحياة الدنيا، وسبل سعادته الأبدية الخالدة، وهي الأمور التي تحمل اسم المعتقدات والواجبات الدينية وسائر التكاليف والآداب الشرعية الإسلامية.
2-
السبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري:
ولتحقيق التقدم والرقي الحضاريين عدة سبل:
1-
ما ينزل به الوحي، أو يفيض به الإلهام.
2-
ما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي.
3-
ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال.
أما الصنف المادي لصور التقدم والرقي عند الناس فالسبيل الطبيعي إليه إنما هو استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص وما يستدعيه الكمال.
وقد يُسعف الوحي أو يفيض الإلهام بشيء من ذلك فنجده أخصر طريق إلى الكمال فيه.
وأما الصنف الذي يخدم المجتمع الإنسان فللتقدم والرقي فيه سبيلان:
السبيل الأول: التلقي التعلمي عن طريق الوحي، وذلك في كل ما تكفلت الشرائع الربانية ببيانه، ولا يعدل عن ذلك إلا متنكب سواء السبيل.
السبيل الثاني: استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجواجب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال.
وأما الصنف الذي يأخذ بيد الناس إلى السعادة الخالدة، وهو المشتمل على المعتقدات والواجبات الدينية، وسائر التكاليف والآداب الشرعية التعبدية فالسبيل إلى تحقيق التقدم والرقي فيه إنما يكون بالتلقي التعليمي عن طريق الوحي فقط.
وبدهي أن تلقي ما يأتي به الوحي وينطق به الرسل عليهم الصلاة والسلام لا بد أن يرافقه إعمال العقل في التأمل، والتدبر، والفهم الصحيح، والتحليل والتركيب، والاستنباط، وقياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، ولا بد أن يرافقه أيضًا إعمال العقل في التحقق والتثبت من سلامة النصوص من التحريف والتبديل، بحثًا في الرواية، ونظرًا في صحة المعنى.
ترتيب الأصناف الثلاثة:
بالنظر إلى الثمرات التي يجنيها الإنسان من كل صنف من أصناف التقدم والرقي السابقة لا بد أن نلاحظ أن سلم الرقي مرتب الدرجات بشكل صاعد، بدءًا من الصنف الأول الذي يخدم الجسد الفانين وارتقاء إلى الصنف الثاني الذي يخدم المجتمع الإنسان، ثم إلى الصنف الثالث الذي تنضوي تحته أسباب
سعادة الإنسان الخالدة، بما فيه من سمو المعرفة الكبرى وبما فيه من تحقيق لرضا الله تعالى.
وبذلك يكون سلم الرقي الإنساني والحضارة المثلى ذا مراتب ثلاث، أسماها مرتبة ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة، ومن دونها تأتي مرتبة الرقي الذي يمنح المجتمع الإنساني سعادة التعاون والإخاء، والأمن والطمأنينة والرخاء، وسيادة النظام والحق والعدل، ثم تأتي من دونهما مرتبة الرقي المادي الذي يخدم الجسد الفاني ويمتعه.
ولكل من هذه المراتب درجات كثيرات يتفاضل الناس فيها بمقدار ما يرتقون منها، وفي درجات هذه المراتب يتنافس المتنافسون من الأمم في إحراز السبق الحضاري الأمثل.
وقد تحرز أمة من الأمم سبقًا حضاريًّا في إحدى هذه المراتب في حين أنها قد تكون في أقصى دركات التخلف الهمجي بالنسبة إلى غيرها من المراتب. أما الإسلام فإنه قد هيأ للملتزمين به كل أسباب التقدم والرقي الحضاريين، ودفعهم بقوة إلى قمم المجد المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية، أما عوامل التخلف في عصور الانحطاط، فهي من صنع الجاهلين، وتضليلات المعادين.