الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان
…
المقولة الثامنة: المبحث العلمي والإيمان
حينما دعا الإسلام الناس إلى الإيمان بالله وبعظيم صفاته وجههم إلى بلوغه من طريق البحث العلمي، فحثهم على استخدام أدوات المعرفة التي لديهم في النظر والتفكر في دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته وعدله وسائر صفاته الدالة على وجوده، وأرشدهم إلى أن هذه الدلائل منبثة في السماء وفي الأرض وفي أنفسهم، وأجل أدوات المعرفة التي لديهم العقل، وأسمى نوافذه إلى الوجود المادي حاسة البصر، ومن أجل ذلك كانت وظيفة العقل الطبيعية النظر والتأمل قال الله تعالى في سورة "ق: 50 مصحف/ 34 نزول":
ففي قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} . إلى آخر الآيات توجيه للنظر الفكري في آيات الله المنبثة في كل ما خلق، في السماء، وفي كيفية بنيانها، وفي الأرض، وفي كيفية مدها، وإلقاء الرواسي فيها، وإنبات النباتات من كل زوج بهيج، ووسيلة النظر الفكري مشاهدة ظواهر هذه الآيات بالنظر الحسي، باعتبار أن البصر أسمى نوافذ العقل إلى الوجود المادي.
وقال الله تعالى في سورة "الذاريات: 51 مصحف/ 67 نزول":
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .
وفي هذا النص أيضًا توجيه لما في الأرض وما في الأنفس من آيات دالات على عظيم قدرة الله وعلمه وحكمته وإرادته المطلقة.
ولما كانت حاسة البصر أسمى منافذ العقل إلى الوجود المادي الذي يقدم للبصر صور الظواهر، ويدع للعقل مجال التفكر فيما وراء الظواهر، قال الله تعالى عقب هذا التوجيه:{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .
وحين وصى الله الإنسان بوالديه حُسْنًا، قال له بعد ذلك كما جاء في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول":
ويثير الانتباه في هذا النص وجود هذا القيد: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} مع أنه ليس لله شريك قطعًا، فهي قضية من بدهيات التوحيد في الإسلام، ولكن الإسلام لا يريد من المسلمين حتى في المسلمات الكبرى في الدين أن يأخذوا قضية من القضايا إلا على أساس علمي.
أليس في هذا إثارة للعقل الإنساني أن يبحث بحث التحري العلمي للحقائق مهما كان شأنها، حتى ولو كانت من حقائق الربوبية والإلهية المقطوع بها؟!! إذن فليس المفروض في المسلم أن يقبل الحقائق إلا عن علم بها ومعرفة لها، وبحث عنها وفق أصول المعرفة المنطقية السليمة.
وهذا يجعلنا ندرك بحق مبلغ اعتماد الإسلام على أسس العلم والمعرفة في كل أمر من أمور الوجود، حتى في أصول الدين وكبريات العقائد.
ومن خلال هذه النصوص ونظائرها التي تشتمل عليها سور القرآن الكريم، وأحاديث الرسول العظيم، نلاحظ مدى دفع الحضارة الإسلامية إلى البحث العلمي، تأملًا في السماء، وتأملًا في الأرض، وتأملًا في أغوار الأنفس، للوصول إلى الإيمان الحق، ولبناء الحضارة الإسلامية، بناء واقعيًّا مجيدًا على أسسها الفكرية الراسخة.
ومتتبع القرآن الكريم يجد حشدًا عظيمًا من الآيات التي تلفت نظر العقلاء بشدة إلى التأمل في كل شيء: في خلق السماء، وفي خلق الأرض، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وفيما دخلت فيه يد الصناعة الإنسانية، فاستفادت في صنعه، من سنن الله الدائمة في الكون، وقوانينه التي رتب بمقتضاها طبائع الأشياء، كالفلك التي تجري في البحر، وفي السحاب، وفي المطر، وفي النبات، وفي الرياح، وفي الثمار، وفي الجبال، وفيما بث الله في
الأرض من دابة، وفي الشمس والقمر، والنجوم والاهتداء بها، وفي الألوان واختلافها، وفي علم المواقيت وحساب الزمن، وفي علم جغرافية الأرض وتقسيمها وطرفها وما فيها من كنوز، وفي البحار وما فيها من مستخرجات، وفي آثار الأولين وما فيها من دلالات، إلى غير ذلك من كل ما تتناوله يد البحث العلمي بالدراسة والتأمل، وحول هذه الأشياء تتجمع حشود العلوم الكونية، التي ينتقل الباحثون المنصفون المتتبعون للحقيقة من ظواهرها إلى الإيمان بالله خالقها ومحكم نظامها، والإيمان بعظيم صفاته جل وعلا، كما ينتفعون منها في مجال حياتهم الدنيا.
وفيما يلي طائفة من النصوص الإسلامية الكثيرة التي تدفع الناس إلى البحث العلمي الشامل:
1-
قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
ففي هذا النص من كتاب الله دعوة للذين يعقلون أن يتصبروا في خلق السماء، وفيما حوته من إتقان صنع وعجائب دالة على عظمة قدرة الله وواسع علمه، وجليل حكمته، وأن يتبصروا في النظام المحكم الدقيق، الذي يتعاقب به الليل والنهار على محيط الأرض، وفي الأنظمة الثابتة المحكمة التي تطفو بها الفلك في البحار، وتتخذ لها على الماء مجاري تجري فيها بما ينفع الناس، وأن يتبصروا في ظاهرة نزول الماء من السماء، بإرادة الله وضمن قوانين مادية ومعنوية ثابتة، ثم في ظاهرة حياة الأرض بالنباتات بسبب الماء، بعد أن كانت قفرًا كأنها ميتة، وأن يتبصروا في عالم الحيوان وما فيه من عجائب وآيات، وفي ظاهرة الرياح وتصريفها، وأسرار ذلك، وفي ظاهرة تصريف السحاب المسخر بين السماء والأرض، وما في كل ذلك من آيات وعجائب منطوية على كمال الإتقان ودالة على عظمة متقنها القادر العليم الحكيم.
2-
وقول الله تعالى في سورة "فاطر: 35 مصحف/ 43 نزول":
وفي هذا النص من كتاب الله دعوة إلى البحث العلمي في ظاهرة الألوان واختلافها، وهذه الظاهرة تتكرر في الثمرات ذات الألوان المختلفة مع أنها تُسقى بماء واحد، وفي الجبال فمنها جدد بيض وجدد حمر مع اختلاف نسب ألوان بياضها وألوان حمرتها، ومنها سود شديدة السواد، ثم تتكرر هذه الظاهرة في الناس، وفي كل ما يدب على الأرض بشكل عام، وفي الأنعام بشكل خاص؛ إذ هي تحت مجال ملاحظة الناس باستمرار، نظرًا إلى عنايتهم بها، في تربيتها والانتفاع منها، ففي كل هذه الأنواع ألوان مختلفة، واختلاف ألوانها من عجائب صنع الله الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وبقليل من التأمل نلاحظ أن جذر النبتة واحد، وأن التغذية واحدة، إلا أن للعود لونًا، وللورق لونًا، وللزهر لونًا، وللثمر لونًا، وكذلك طعام الإنسان واحد إلا أن للجلد لونًا، وللشعر لونًا آخر، وللعظام لونًا، وللحم لونًا، وللدهن لونًا، ولكل من بياض العين وسوادها لونًا خاصًّا به، ولا تطغى مقادير بعض كل أولئك على بعض، وكل ذي لون يأتيه نصيبه بمقدار، ومثل ذلك الدواب والأنعام.
وإن بحوثًا علمية في هذا المجال لتكشف للعلماء الباحثين عجائب وغرائب وآيات تشعرهم بعظمة الله القادر على كل شيء، فتغشاهم الخشية منه، بعد أن تهيمن عليهم مشاعر الإيمان به، والخشية من الله مزيج عجيب من الخوف والحب والإجلال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .
ولعلماء الفيزياء جولات في بحوث الألوان لم يستكملوا بعد معرفة أسبابها وخصائصها وسائر ما يتعلق بها، وأن أمامهم طريقًا طويلًا من طرق البحث العلمي، يدعوهم الإسلام إلى سلوكه.
3-
وقوله تعالى في سورة "يونس: 10 مصحف/ 51 نزول":
4-
وقوله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":
وفي هذين النصين من كتاب الله دعوة إلى البحث العلمي في مصدري الضياء والنور العظيمين بالنسبة إلى كوكبنا الأرضي، وما يترتب عليهما في حالتي إشراقهما على الأرض، واختفائهما عنها من فوائد جليلة للناس.
فبين ظهور الشمس واختفائها، وظهور القمر واختفائه وتزايده في مرأى العيون منذ مطلع الشهر حتى يتكامل في أوسطه، ثم تناقصه في مرأى العيون أيضًا حتى درجة المحو في آخر الشهر، تتم فوائد عظيمة للناس.
وبين كل ذلك يتم تعاقب الليل والنهار، هذا مظلم للسكون والراحة، وهذا مبصر للسعي والعمل، وابتغاء المستطاع كسبه من فضل الله.
وفي كل هذه المتغيرات يستطيع الناس تقسيم أزمانهم، وحساب ما يمر عليهم من ساعات وأيام وشهور وأعوام وقرون.
ونلاحظ في هذين النصين أيضًا دعوة إلى معرفة حساب الزمن، وتحديد السنين، لتثبيت ما حصل فيها من أمور وأحداث، ففي ذلك من التحقيقات العلمية التاريخية المفيدة الشيء الكثير، كما يرتبط به كثير من الحقوق المادية والأدبية والسياسية بين الناس، ومن الأمثلة التطبيقية لذلك الواردة في القرآن الكريم، ما جاء في قصة أهل الكهف إذ قال الله تعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول":
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} .
ففي هذا النص تسجيل لحساب السنين التي لبثها أهل الكهف، وذلك بحساب كل من التوقيتين الشمسي والقمري، فبالتوقيت الشمسي ثلاثمائة سنة، وهي بالتوقيت القمري زائدة تسعًا.
5-
وقوله الله تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول":
وفي هذا النص القرآني العظيم دعوة إلى البحث العلمي التاريخي في الآثار، لتبين ما تحمله من دلالات تدل على الأمم التي خلفتها، وما تتضمنه من عظات للأجيال المتلاحقة، يعتبر بها أولو الأبصار؛ إذ هي مظاهر لسنن الله الدائمة التي لا تبديل لها ولا تحويل.
وأعمال البحث العلمي في هذا المجال تتضمن الدعوة إلى التنقيب عن القرى البائدة التي أهلكها الله بسبب ذنوبها، فهي خاوية على عروشها، وتتضمن الدعوة إلى التنقيب عن الآبار المعطلة والقصور المشيدة التي خلفتها القرون الأولى، والبحث عن آثار حضارتها، وأسباب انهيارها ودمارها، للاتعاظ والاعتبار بكل ذلك، والانتفاع بما توصل إليه السابقون من مكتشفات علمية أو عملية. فهل بعد دعوة الإسلام إلى البحث العلمي على هذه الصفة من الشمول الواسع شبهة مقبولة، يستطيع أن يثيرها عدو للإسلام، زاعمًا بأن الإسلام لا يساير دلائل البحث العلمي.
والآن نستطيع أن نقول: إن من بدهيات أسس الفكر الإسلامي وأسس الحضارة الإسلامية أنها أسس قواعدها الحق، وطريقها العلم، وغايتها الارتقاء والتقدم وتحقيق الخير، ونيل السعادة العاجلة والآجلة.