الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية
المقدمة:
1-
الباعث الإسلامي للبحث العلمي في الكونيات:
وجد المسلمون في النصوص الإسلامية ما يحثهم على النظر والبحث في آيات الله الكونية، في الأرض، وفي السماء، وفي الأنفس، وكان هذا هو الباعث لهم على الاهتمام والاشتغال بالعلوم الكونية والطبيعية المختلفة؛ لأن الاشتغال بحثًا في الكونيات من شأنه أن يكشف للباحث المتفكر ذي النظر الفاحص المدقق صفات الأشياء، وخصائصها، وأسبابها، وعللها، وكيفيات معالجاتها، وقوانينها، وطرائق الاستفادة منها، مع ما تدل عليه من عظمة الخالق الذي أتقن كل شيء صنعًا بإبداع من لدنه، وأنه واحد في ربوبيته لكونه، وفي إلهيته لعباده، لا شريك له.
والنصوص القرآنية التي تتضمن الأمر أو التوجيه للنظر والتفكر في آيات الله في الكون، في الأرض والسماوات والأنفس كثيرة، منها النصوص التالية:
1-
قول الله عز وجل في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول":
2-
وقول الله عز وجل في سورة "ق: 50 مصحف/ 34 نزول":
3-
وقول الله عز وجل في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول":
4-
وقول الله عز وجل في سورة "فصلت: 41 مصحف/ 61 نزول":
والتوجيه للنظر والتفكر في آيات الله في كونه كثير في القرآن المجيد، وتأثرًا بهذا التوجيه الفياض انطلق المؤهلون من علماء المسلمين يبحثون في الكونيات، في الأرض وفي السماوات وفي الأنفس، لمعرفة خصائص الأشياء وقوانينها وطرائق الاستفادة منها، وكان لهم اكتشافاتهم الخاصة، وابتكاراتهم بحسب الإمكانات التي تهيأت لهم في سلم الإرتقاء الحضاري، حتى تجمعت عليهم نكبات مختلفات متواترات من الغرب والشرق، فأوقفت حركة ارتقائهم الحضاري المتجدد.
2-
غمط معظم الغربيين ومن تأثر بهم للأمة الإسلامية في ميادين العلوم:
لم يُنصف المسلمين، ولم يقل الحق، الذي أشاعوا من الغربيين وغيرهم أن المسلمين لم يكن منهم في مجالات العلوم الطبيعية، وسائر الكونيات وأدواتها، كالرياضيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة والفلسفة والزراعة والنبات والميكانيكا، إلا النقل عن اليونان أو غيرهم من الشعوب التي كانت لها قبل الإسلام حضارات.
بل كان هؤلاء غامطين جاحدين عن قصد بدافع الحقد والكراهية، أو جاهلين متأثرين بالغامطين الجاحدين الحريصين على طمس الحقيقة التي كان عليها المسلمون، إبان العصور الذهبية لحضارة الأمة الإسلامية.
لقد سبق أن عرفنا بالبيان التفصيلي، أن العلوم المتصلة بالمفهومات
الاعتقادية حول الكون والحياة والأنفس قد كانت إسلامية صرفًا، لم يقتبسها المسلمون من أمة سابقة، ولم يكن لدى الأمم السابقة نظيرها باستثناء الأديان الربانية التي أنزلها الله على رسله السابقين، والتي حرفها أتباعها فلم تبق على أصولها الصحيحة.
وسبق أن عرفنا بالبيان التفصيلي، أن العلوم المتصلة باللغة العربية، وبالسلوك الإنساني الإرادي المسئول عنه عند الله، قد كانت علومًا من ثروات المسلمين الحضارية الخاصة بهم والتي كانت من ابتكاراتهم واجتهاداتهم أو استنتاجهم واستخراجهم من مصادر الدين الإسلامي، مع موازين الفكر وأصوله الصحيحة، والملاحظة ودراسة الوقائع بمقاييس الحق والباطل؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ودراسة المشتبهات بتريث وأناة قبل الحكم عليها.
أما العلوم الحضارية المادية، وأنواع السلوك المادي النافع للإنسان في معاشه، والتي هي شركة إنسانية عامة، فقد كان المسلمون فيها على أحسن أمثلة التنامي والتكامل الحضاري المتطور مع مرور الزمن، بابتكارات واكتشافات الأفذاذ من ذوي المواهب النادرة، وبالتحسينات المستمرة التي يهدي إليها الرأي والملاحطة والتجربة.
إن الحضارات الإنسانية تخضع لسنة التنامي والتكامل، فما تُنتجه حضارة ما تنقل منه حضارة معاصرة، وما تُنتجه حضارة سابقة تنقل منه حضارة لاحقه. ولا توجد في الدنيا حضارة لأمة تقتصر على مجرد النقل عن غيرها، بل لا بد أن تضيف ما ينتجه أهلها ولا سيما العباقرة والأفذاذ من ابتكاراتهم، ولا بد أن تحذف ما لا يلائم عقيدتها ومفهوماتها في الحياة، وأساليب معيشتها في مناخها الطبيعي.
فادعاء أن المسلمين لم يكن منهم إلا النقل عن حضارات اليونان والرومان والفرس والهنود والصينيين وغيرهم، إدعاء مناف لطبيعة التنامي والتكامل بين الحضارات، ومناف لواقع حال الأمة الإسلامية في تاريخها الحضاري.
ولولا الحضارة الإسلامية التي نقلت وأضافت وحسنت ونمت وحفظت
ورعت، لم تُولد الحضارة الغربية المعاصرة ولا الحضارات التي تأثرت بها، فنقلت ونمت وحسنت في بعض إنتاجاتها الحضارية.
فالحضارة الغربية المعاصرة، بنت حضارتها على ما أخذته عن الأمة الإسلامية، من منقولات ومبتركات وزيادات تحسينية، والحضارة الإسلامية المتفوقة قد كانت السبب في تغيير مجرى التفكير الغربي الكنسي الجامد، وكانت الباعث لنهضة أوروبا الفكرية والعلمية التي بنت عليها نهضتها الصناعية، ولا سيما المنهج الذي اتخذه المسلمون معتمدين فيه على الاستقراء، والسير، والملاحظة، والتجربة، وتسجيل النتائج، ولم يأخذوا منهج علماء اليونان القائم على النظرات الفكرية والتحليلات الذهنية، والتخيل والسبح في الأوهام، والسقوط في الغيبيات بتصورات لا أساس لها من الصحة.
وقد كانت أوروبا قبل أن تبني حضارتها على ما أخذته عن الأمة الإسلامية، تعيش في ظلام دامس، وسبات عميق، وجاهلية منتشرة، وكانت الفتوح الإسلامية هي التي نبهت أوروبا على ضرورة الأخذ بالأسس الحضارية، التي كانت السبب في تفوق المسلمين على شعوب الأرض، علمًا وحضارة وقوة وبدايات تصنيع، إبان قرون حضارتهم الذهبية المتصاعدة.
2-
النشأة والتأسيس:
1-
كان "أبو هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي 000-90هـ" حكيم قريش، وعالمها في عصره، أول فلاسفة المسلمين، وقد كان موصوفًا بالعلم والدين والعقل.
اشتغل بالكيمياء والطب والنجوم، فأتقنها بحسب عصره، وألف فيها رسائلن وكان أول من أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مصر، وكان ممن يتكلمون اللغة العربية، وأمرهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وذكر من هؤلاء "سفطانيوس" و"وماريانوس".
اختير خليفة بعد وفاة أخيه "معاوية بن يزويد" فقضى في الحكم مدة قصيرة، ثم زهد فيه وتخلى عنه، ليتفرغ للعلم فلقب بـ"حكيم آل مروان".
قال الجاحظ: "خالد بن يزيد خطيب شاعر، وفصيح جامع، جيد الرأي، كثير الأدب، وهو أول من ترجم من كتب النجوم والطب والكيمياء".
2-
وكان للخلفاء عناية بالعلوم الكونية، وبتوجيه طائفة منهم ترجمت إلى اللغة العربية كتب كثيرة، مما لدى الهنود والأغريق من هذه العلوم، وكانت مدينة بغداد مركزًا مهمًا لها في ظل الخلفاء العباسيين، وكان "أبو جعفر المنصور العباسي وهو عبد الله بن محمد بن علي بن العباس 95-158هـ" ثاني خلفاء بني العباس1، أول من عني بالعلوم الكونية والطبيعية من ملوك المسلمين، هو باني مدينة بغداد، وفي أيامه شرع المسلمون يطلبون علوم اليونانيين والفرس، وعمل أول إصطرلاب في الإسلام، صنعه "محمد بن إبراهيم الفزاري".
3-
أما الخليفة العباسي "المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور 170-218هـ" سابع الخلفاء من بني العباس في العراق، وأحد أعاظم الملوك في سيرته وعلمه وسعة ملكه، فقد توسع في ترجمة كتب العلم والفلسفة.
وأسس "بيت الحكمة" المشهور، وتمم ما بدأ به جده المنصور، من ترجمة كتب العلم والفلسفة.
وأتحف ملوك الروم بالهدايا، وطلب منهم أن يبعثوا إليه ما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بعدد كبير من كتب "أفلاطون" و"أرسطاطاليس" و"أبقراط" و"جالينوس" و"إقليدس" و"بطليموس" وغيرهم، فاختار لها مهرة التراجمة، فترجمت، وحض الناس على قراءتها، وقامت دولة الحكمة في أيامه، وقرب إليه العلماء من مختلف التخصصات.
1 وهو والد الخلفاء العباسيين من بعده.
وقد كان فصيحًا مفوهًا واسع العلم، محبًّا للعفو، فمن أقواله: لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالجرائم.
4-
وامتدت دراسة العلوم الكونية والطبيعية في معظم مراكز العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، حتى النائية منها، مثل صقلية والأندلس.
وبرز من أعلام المهتمين بالفلسفة والعلوم الكونية والطبيعية، والذين ترجموا بعض كتب العلوم من اللغات غير العربية أعلام كثيرون، منهم:
- حنين بن إسحاق، وهو "أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي 194-260هـ" طبيب، مؤرخ، مترجم، كان أبوه صيدلانيًّا من أهل الحيرة "في العراق". وسافر حنين إلى البصرة، فأخذ العربية عن الخليل بن أحمد الفراهيدي، وانتقل إلى بغداد، فأخذ الطب عن "يوحنا بن ماسويه" وغيره، وتمكن من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية، فانتهت إليه رياسة العلم بها بين المترجمين مع إتقانه العربية.
اتصل بالمأمون فجعله رئيسًا لديوان الترجمة، وبذل له الأموال والعطايا، وجعل بين يديه كُتّابًا عالمين باللغات، كانوا يترجمون، وكان "حنين" يتصفح ما ترجموا فيصلح ما يرى فيه خطأ.
وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله إلى العربية من الكتب، فكان يختار لكتبه أغلظ الورق، ويأمر كتابه أن يخطوها بالحروف الكبيرة، ويفسحوا بين السطور، ليعظم وزنها.
- الكندي، وهو "أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي 000-نحو 260هـ".
وصف بأنه فيلسوف العرب والمسلمين في عصره، وهو أحد أبناء الملوك من كنده، نشأ في البصرة، وانتقل إلى بغداد، فتعلم، واشتهر بالطب والفلسفة
والهندسة والفلك، وقد ألف وترجم وشرح كتبًا كثيرة، يزيد عددها على ثلاثمائة.
- الفزاري، وهو "محمد بن إبراهيم بن محمد بن حبيب بن سمرة بن جندب الفزاري 000-180هـ".
كان عالمًا بالفلك، وهو أول من عمل في الإسلام إصطرلابًا.
ذكر القفطي نقلًا عن نظم العقد للآدمي، أن رجلًا قدم على الخليفة المنصور من الهند سنة "156هـ" يحمل كتابًا في علم الفلك، فأمر المنصور بترجمته إلى العربية، وأن يؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلًا في حركات الكواكب فتولى ذلك "محمد بن إبراهيم الفزاري".
- ابن موسى، وهو "أبو عبد الله محمد بن موسى بن شاكر 000-259هـ" عالم بالهندسة والحكمة والموسيقى والنجوم، وهو أحد الإخوة الثلاثة الذين تنسب إليهم "حيل" بني موسى في الميكانيك، واسم أخويه "أحمد" و"الحسن" وقد كان هؤلاء الثلاثة من المقربين عند المأمون العباسي، وكان يرجع إليهم في حل ما يعسر عليه فهمه من آراء متقدمي الحكماء.
وقد أظهر هؤلاء الثلاثة عجائب الحكمة، ووضعوا كتابًا يشتمل على كل غريبة، أطلع عليه ابن خلكان، وقال: إنه من أحسن الكتب وأمتعها.
قال الزركلي في كتابه "الأعلام": ورأيت في مخطوطات الفاتيكان مجموعًا أوله "كتاب الحيل لبني موسى بن شاكر المنجم".
ولمحمد بن موسى بن شاكر كتاب "رسم المعمور من البلاد" فيكون بهذا في عداد الجغرافيين.
- ابن الهيثم، وهو "أبو علي محمد بن الحسن بن الهثيم 354-نحو 430هـ" مهندس من أهل البصرة، كان يلقب بـ"بطليموس" الثاني، له تصانيف تزيد على سبعين، منها كتاب "المناظر، خ" نشرت ترجمته إلى اللاتينية سنة "1072م" وكان لها كما يقول سوتر H. Sutr أثر بالغ في تعريف الغربيين بهذا العلم في العصور الوسطى. ومنها كتاب "كيفية الإظلال" ترجم إلى الألمانية ونشر بها مختصرًا. وكتاب "مساحة المجسم المتكافئ" نشر بالألمانية، وكتاب "الأشكال الهلالية، خ" وكتاب "تربيع الدائرة، خ" وكتاب "شرح قانون إقليدس، خ" وكتاب "مساحة الكرة، خ" وكتاب "المرايا المحرقة" ترجم إلى الألمانية ونشر بها. وله غيرها.
و"ابن الهيثم" من الذين اشتغلوا في البصريات، وكان أنبغ علماء المسلمين فيها، وقد ترك تراثًا ضخمًا مليئًا بالابتكارات والموضوعات الجديدة، وكانت أساسًا لبحوث علماء القرون الوسطى، ولا سيما البحوث التي جاءت في كتاب جون بيكهام Pyckham في البصريات، وهذا الكتاب يعد من أجل الكتب التي أحدثت أثرًا بعيدًا في هذا العلم.
- الخوارزمي، وهو "أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي
…
-بعد سنة 232هـ" وينعت بالأستاذ.
أقامه المأمون العباسي قيمًا على خزانة كتبه، وعهد إليه بجميع الكتب اليونانية وترجمتها، وأمره باختصار "المجسطي" لبطليموس، فاختصره، وسماه "السند هند" أي: الدهر الداهر، فكان هذا الكتاب أساسًا لعلم الفلك عند الأوروبيين.
وللخوارزمي كتاب "الجير والمقابلة" وقد ترجم إلى اللاتينية، ثم إلى الإنجليزية.
وقيل: إن الخوارزمي هو أول من صنف في الجبر والمقابلة، وكان لكتابه أثر عظيم في تقدم علم الجبر عند الغربيين.
وكان للخوارزمي أثر عظيم في تعليم الناس الحساب.
وللخوارزي كتاب "الزيج"1 نقل عنه "المسعودي".
وله كتاب "صورة الأرض من المدن والجبال
…
إلخ".
وله كتاب "رسم المعمول من البلاد".
وعمل "الخوارزمي" الإصطرلاب2.
- الروداني هو "شمس الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الفاسي بن طاهر الروداني السوسي المكي 1037-1094هـ" محدث مغربي مالكي، عالم بالفلك، رحال.
ولد في "تارودانت" وجال في المغرب الأقصى والأوسط، ودخل مصر والشام والآستانة، واستوطن الحجاز، وكان له بمكة شأن.
له مصنفات منها "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، ط" في الحديث، ومنها في الفلك "تحفة أولى الألباب في العمل بالإصطرلاب، خ" وكتاب "بهجة الطلاب في الإصطرلاب".
ومن أشهر آثاره "كرة" في التوقيت والهيئة3، وصفت بأنها آلة في التوقيت والهيئة لم يُسبق إلى مثلها، وهي كرة مستديرة الشكل، يحسبها الناظر إليها بيضة مسطرة، كلها دوائر ورسوم، وقد ركبت عليها أخرى مجوفة منقسمة النصفين، فيها تخاريم وتجاويف لدوائر البروج وغيرها، مصبوغة باللون الأخضر، تغني عن كل آلة تستعمل في فني التوقيت والهيئة، مع سهولة المدرك، وتصلح لكل البلاد على اختلاف أعراضها وأطوالها.
وتقول المصادر المغربية: إنه أحد حكماء الإسلام في العلوم الحكمية، والرياضية، وكان متمكنًا من الأدب والشريعة، وألف فيهما كتبًا قيمة.
1 الزيج: كل كتاب يتضمن جداول فلكية يعرف منها سير النجوم، ويستخرج بواسطتها تقويم السنين.
2 الإصطرلاب: آلة فلكية لقياس بعد الكواكب ومراقبة مواضعها.
3 علم الهيئة: هو علم الفلك، وهو علم يبحث عن أحوال الأجرام السماوية، وعلاقة بعضها ببعض، وما لها من تأثير في الأرض.
المقولة الأولى: الرياضيات والفل ك 1
1-
ثبت لدى الباحثين أن العلوم الرياضية ميدان اشتركت فيه القرائح المختلفة، من مختلف الأمم والشعوب، ولم يكن الابتكار والإنتاج التراكمي فيها منحصرًا في أمة من الأمم، فقد كان للبابليين والمصريين والإغريق والهنود والعرب وغيرهم من الشعوب، ثم المسلمين أنصبة من الابتكار والإنتاج فيها، ومساهمات في إنشائها وتنميتها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه حين بدأت النهضة الغربية في أوروبا.
2-
وثبت لدى الباحثين أن أقدم الآثار الرياضية قد وصلت إلينا من بابل، ومن مصر، وقد انتقلت هذه الآثار إلى الإغريق فأخذوها وزادوا عليها.
وثبت أن بعض النظريات والبحوث التي كانت تنسب إلى اليونان هي من وضع علماء بابل ومصر.
3-
وبالتفكر يظهر لنا أن عوامل نشوء ونمو العلوم الرياضية وارتقائها قبل النهضة الغربية متعددة، فمنها ما يلي:
- ارتباط كثير من مصالح الإنسان ومنافعه الدنيوية الحياتية، ومعاملاته المالية، وأعماله العمرانية، بالرياضيات "الحساب والهندسة".
- رغبة كثير من أهل النظر الفكري العميق في البحث عن المجهول للوصول إلى المعرفة وكشف الحقيقة، والاستمتاع بلذة العلم، قبل استغلال ما تم كشفه في المنافع المادية الحياتية، وتركيب الآلات وإنشاء المصانع.
1 معظم معلومات هذه المقولة مقتبسة من "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" لقدري حافظ طوقان، ومن "العلوم البحتة في العصور الإسلامية" لعمر رضا كحالة.
- رغبة المتفكرين الموهوبين من أهل الإيمان في التعرف على سنن الله في كونه، وما يُسيطر عليه من أنظمة وقوانين حكيمة، لتقديمها أدلة وشواهد على وجود الرب الخالق المبدع الحكيم، وعلى ما تدل عليه من صفاته.
- رغبة بعض ذوي المواهب في التقرب إلى الملوك والسلاطين، الذين كانوا يكرمون العلماء المبتكرين المبدعين، ويغدقون عليهم المكافآت الوافرات.
4-
وقد برع المسلمون في العلوم الرياضية، وأجادوا فيها، وكانت لهم إضافات جليلات أثارت الإعجاب والدهشة لدى المنصفين من علماء الغرب وغيرهم، فاعترفوا بفضهلم وأثرهم الكبير في تقدم العلم والعمران تقدمًا ارتقائيًّا.
5-
اطلع المسلمون على حساب الهنود، فأخذوا عنه نظام الترقيم بدلًا من الحروف الأبجدية، وقد كان لدى الهنود أشكال عديدة للأرقام، فاصطفى المسلمون منها وهذبوا صورتين للأرقام:
- عُرفت إحداهما باسم الأرقام الهندية، وهي التي يستعملها المسلمون في معظم الأقطار العربية والإسلامية، وصورتها:"1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12" وهكذا.
- وعرفت الأخرى باسم الأرقام الغبارية؛ لأن بعض الهنود الذين كانوا يكتبون على أشكال هذه الأرقام كانوا يبسطون غبارًا لطيفًا على لوح، ويرسمون بأصابعهم عليه هذا الشكل من الأرقام، وهي التي انتشر استعمالها في بلاد المغرب والأندلس، وعن طريق الأندلس دخلت صور هذه الأرقام إلى أوروبا، وعرفت لدى الأوروبيين باسم الأرقام العربية، وصورتها:
وصور هذا الأرقام قائمة على حساب الزوايا في كل رقم، فرقم واحد له زاوية واحدة ورقم اثنين له زاويتان وهكذا.
وبمرور الزمن دخل على هذه الأرقام تحسين في رسم خطوطها، وتنوسي حساب الزوايا فيها، حتى صارت كما هي عليه الآن في العالم الغربي وغيره.
6-
وكان الهنود يستعملون الفراغ ليدل على الخانة التي ليس فيها رقم،
فوضع المسلمون رسم الصفر في خانة الفراغ، وكان لهذا التحسين أثر تسهيلي جليل في الحساب؛ إذ كانت صعوبة إيجاد فراغات في الخانات التي لا رقم لها قد يتطلب جعل الأرقام مربعات، وترك مربع الخانة التي لا رقم لها فارغًا.
والأرقام التي اصطفاها المسملون من الأرقام الهندية تقوم على النظام العشري، وعلى أساس القيم الوضعية؛ إذ يكون للرقم قيمتان، قيمة في نفسه وقيمة بالنسبة إلى الخانة التي يوجد فيها، فرقم "7" مثلًا في الخانة الثانية إلى الشمال هو سبعون، وفي الخانة الثالثة إلى الشمال هو سبعمائة، وهكذا إلى سائر الخانات التي توضع إلى جهة الشمال بالتسلسل.
وهذا النظام هو من الابتكارات الأساسية والرئيسية ذات الفوائد العظيمة في الأعمال الحسابية.
7-
ووضع المسلمون علامة الكسر العشري، وعرفوا شيئًا عنه، ويذكر في هذا المجال اسم العالم الرياضي "غياث الدين جمشيد الكاشي" الذي ابتكر الكسور العشرية قبل "ستيفن" بأكثر من "175" سنة، على ما ذكر "قدري حافظ طوقان"1.
8-
وللمسلمين مؤلفات كثيرة في الحساب مشحونة بوفرة من الأمثلة والتمارين.
وقد ترجم الغربيون بعضها، وتعلموا مما ترجموا، وكان لها أثر كبير جدًّا في تقدم هذا العلم تقدمًا ارتقائيًّا.
9-
وكان المسلمون هم أول من اشتغل في علم "الجبر" وأتوا فيه بالعجب العجاب. وهم أول من أطلق لفظه "جبر" على المعلم المعروف الآن بهذا الاسم، وعنهم أخذ الإفرنج هذه اللفظة، وهم أول من ألف فيه بصورة علمية منظمة.
ويرجع الفضل في ابتكار هذا العلم إلى "الخوارزمي" وقد سبقت ترجمته.
1 انظر كتابه "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" ص52.
10-
ووضع المسلمون حلولًا جبرية وهندسية لمعادلات مختلفات التراكيب ابتدعوها.
وسبق علماء المسلمين بعد الخوارزمي إلى استعمال الرموز في الأعمال الرياضية، وهذه الرموز قد سهلت في حل المعادلات، وتقدم الرياضيات العالية على اختلاف فروعها تقدمًا ارتقائيًّا.
11-
وابتكر المسلمون في الرياضيات ابتكارات قيمات كانت محل إعجاب علماء الغرب، وقد سبقوا في بعض البحوث "رينيه ديكارت 1590-1650م" الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي.
12-
وصار التراث الإسلامي في الرياضيات حافزًا لعلماء إيطاليا وإسبانيا، ثم لبقية علماء بلدان أوروبا، لدراسة الرياضيات والاهتمام بها.
13-
ورجح "قدري حافظ طوقان" أن المسلمين قد مهدوا ببعض القوانين الجبرية التي وضعوها لاكتشاف "اللوغارتمات" عند علماء الفلك، على خلاف ما يدعي بعض علماء الإفرنج.
14-
وترجم المسلمون من اليونانية كتاب "إقليدس" وهو مبدأ العلوم الهندسية، إلى اللغة العربية، وتفهموه جيدًا، وزادوا على نظرياته، ووضعوا بعض أعمال عويصة، وتفننوا في حلولها.
وألفوا كتبًا على نسقه، وأدخلوا فيها قضايا جديدة لم يعرفها القدماء.
ويبرز في هذا المجال العبقري "ابن الهيثم" وقد سبقت ترجمته.
15-
وكان للمسلمين مؤلفات عديدة في المساحات والحجوم، وتحليل المسائل الهندسية، واستخراج المسائل الحسابية بجهتي التحليل الهندسي والتقدير العددي، وكان لهم استخراجات أخرى في موضوعات مختلفات، مع ربطها بمعادلات جبرية، إلى غير ذلك مما يتعلق بالموضوعات التي تحتاج إلى استعمال الهندسة.
وللعبقري "ابن الهيثم" في هذا مقالات جليلات.
16-
ووجه المسلمون عناية فائقة لعلم الفلك، وكانت البداية منذ عهد الخليفة "أبي جعفر المنصور" الخليفة العباسي الثاني، فقد كان شغوفًا بالمشتغلين بعلم الفلك، وشجع على ترجمة الكتب فيه إلى العربية، وشحذ همم الباحثين العلماء، وأغرق عليهم العطايا، وأحاطهم بالعناية والرعاية.
واقتدى بالمنصور في هذا الخلفاء الذين أتوا بعده.
ولم يقتصر علماء المسلمين على الترجمة، بل صححوا كثيرًا من أغلاط الكتب التي ترجموها، وأضافوا إلى الصحيح منها ما توصلوا إليه ببحوثهم الخاصة.
وألف المسلمون جداول "تسمى الأزياج" في حركات الكواكب.
وفي زمن "المأمون" ظهر علماء مسلمون كثيرون، ألفوا في علم الفلك، وعملوا أرصادًا وأزياجًا جليلة تقدم بها هذا العلم تقدمًا ارتقائيًّا مثيرًا للإعجاب، ولم يقفوا في علم الفلك عند حد النظريات، بل خرجوا إلى الرصد الفعلي والأعمال التجريبية.
17-
ولعلماء المسلمين نظريات خاصة في البصريات وغيرها، وهي لا تزال معتمدة إلى وقتنا الحاضر، ومنها ما شرحه "ابن الهيثم" في كتابه "المناظر" وقد اكتشف بعض أخطاء السابقين في البصريات، وقدم وشرح ما رآه صوابًا، وأقرته عليه العلوم الفيزيائية التجريبية التي جاءت بعده بقرون.
18-
والمسلمون أول من عرف أصول الرسم على سطح الكرة، وأثبت علماؤهم الفلكيون استدارة الأرض ودورانها على محورها.
والمسلمون قد ضبطوا حركة أوج الشمس، وتدخل فلكها في أفلاك أخرى.
وللمسلمين جداول دقيقة لبعض النجوم الثوابت.
وبلغ ولع المسلمين بعلم الفلك إلى درجة جعلت بعضهم يصنع في بيته هيئة السماء، فالناظر إليها تترآى له أخيلة النجوم والغيوم والبروق والرعود.
19-
ووجه المسلمون عنايتهم لبناء الأرصاد الفلكية، فأقاموا بعضها في دمشق، وفي بغداد، وفي القاهرة، وفي غيرها من بلدان العالم الإسلامي.
واشتهرت الأعمال التي عملها الفلكيون المسلمون بالاستناد إلى هذه الأرصاد بالدقة، وقد اعتمد عليها علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعدها في بحوثهم الفلكية.
وابتكر المسلمون آلات مختلفات لأعمال الرصد، لا داعي لذكر أسمائها وصفاتها، وقد اعترف الإفرنج بأن المسلمين قد أتقنوا صناعة هذه الآلات، على الرغم من أنها كانت صناعات يدوية.
المقولة الثانية: الطب والصيد له 1
1-
لم يكن المسلمون في ميادين الطب والصيدلة مجرد نقلة ومقلدين متبعين لمن سبقهم من الأمم في هذا المجال، بل ترجموا ونقلوا وجربوا وهذبوا وابتكروا، وأقاموا معارفهم في هذه الميادين على التجربة والاختبار والملاحظة والتعليل والتفسير وإعادة التجربة، ودراسة مختلف الاحتمالات، وملاحظة النتائج، بغية الوصول إلى الأحسن فالأحسن تأثيرًا ونفعًا وجمالًا.
2-
ونقح علماء المسلمين نظريات وآراء من سبقهم في الطب والعلاجات، وأضافوا إليها كثيرًا من اكتشافاتهم، وكانت زياداتهم مبنية على المنهج التجريبي العملي وملاحظة النتائج، ولم يتوقفوا عند التعليلات والتفسيرات الفلسفية التي أبعدت الفكر اليوناني عن أتباع المنهج التجريبي، فجعلته يتتبع أوهامًا كثيرة لا أسس لها من الصحة.
1 المعلومات في هذه المقولة من كتاب "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" لجلال مظهر، وكتاب "العلوم عند العرب" لقدري حافظ طوقان. وكتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه" ترجمة فاروق بيضون، وكمال الدسوقي. وغيرها من كتب.
3-
واعتبر المسلمون الطب رسالة مقدسة يجب أن تكون بعيدة عن الهوى والمطامع والرغبة في تحصيل الأرباح والثروات.
نقل الطبيب المسلم "داود بن عمر الأنطاكي 000-1008هـ" في أوائل كتابه: "تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب" في الطب عن بعض شارحي العهد الذي كان يأخذه "أبقراط"1 على من يريد أن يزاول مهنة الطب من تلاميذه، يقول هذا الشارح الذي لم يذكر اسمه داود الأنطاكي.
"ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة، كامل الخلقة، صحيح البنية، نظيف الثياب، طبيب الرائحة، يسر من نظر إليه، وتقبل النفس على تناول الدواء من يديه، وأن يتقن بقلبه العلوم التي تتوقف الإصابة في العلاج عليها، وأن يكون متينًا في دينه، متمسكًا بشريعته، دائرًا معها حيث دارت، واقفًا عند حدود الله تعالى ورسوله، نسبته إلى الناس بالسوا، خلي القلب من الهوى، لا يقبل الارتشا، ولا يفعل حيث يشا، ليؤمن معه الخطأ، وتستريح إليه النفوس من العنا".
هذه هي مهنت الطب في مفهوم الأطباء المسلمين:
4-
ولم تكن أوروبا تعرف من الطب غير الشعوذة، وأضرحة القديسين والقديسات وأوثانهم، والتعاويذ والتمائم وأشباهها، وخزعبلات رجال الكنائس وتهويماتهم، حتى القرن الثاني عشر الميلادي، السادس الهجري، بينما كان الأطباء في العالم الإسلامي كثيرين، وذوي خطوة لدى الحكومات الإسلامية، ولدى الشعوب، وكانوا ذوي مهارات فائقات بالنسبة إلى أدوات عصورهم.
5-
واشتهر الأطباء المسلمون بطريقة الفحص السريري للمريض، وحبس نبضه، والنظر في حالة تنفسه، وفحص بوله، والنظر في لون جلده، والنظر إلى ملتحمة عينيه، وحالة جلده عن اللمس، وسؤال المريض عما يشكو منه، وعن
1 طبيب يوناني، أكبر الأطباء الأقدمين وأشهرهم "نحو 460- 377ق. م" كان قد وضع قسمًا يؤخذ على الطبيب إذا أراد أن يزاول مهنة الطب، بعد أن يؤذن له بمزاولتها.
طريقته في معيشته، والأمراض التي أصيب بها سابقًا، وحالة عائلته الصحية، مع النظر إلى مناخ البلاد التي يعيش فيها.
المستشفيات:
6-
أنشأ الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك" في دمشق أول مستشفى عام "88هـ".
ثم انتشرت المستشفيات في جميع أنحاء الدولة الإسلامية، ضمن أنظمة ضابطة، وكانت على نوعين:
النوع الأول: خاص ببعض الأمراض المعدية، أو الأمراض التي لا يُرجى برؤها بعد تمكنها كالجذام.
وفي هذا النوع قسم للرجال، وقسم للنساء.
النوع الثاني: هو للأمراض غير المعدية وغير المتمكنة، وهي مستشفيات عامة.
وفي هذا النوع أيضًا قسم للرجال، وقسم للنساء.
مدارس تعليم الطب:
7-
أسس خلفاء بني العباس مدارس لتدريس علم الطب، في البصرة، والكوفة، وبغداد، ودمشق، وغيرها.
وكانت مدارس الأندلس الطبية هي المدارس الوحيدة في أوروبا، التي تخرج أطباء مؤهلين في الجراحة، وهي تحتوي على دراسة نظرية، ودراسة عملية تعتمد على تدريب الطلاب قبل التخرج، فمن نجح ونال الإجازة سمح له بأن يزاول مهنة الطب تحت رقابة الدولة.
طب العيون:
8-
واهتم المسلمون بطب العيون، وقد كانوا الفاتحين فيه، والمتفوقين.
وقد وضع علماء المسلمين قواعد لطب العيون، وكان من النابغين في طب العيون:
- "عمار بن علي الموصلي 000-نحو 400هـ" امتاز بعلم أمراض العيون ومداواتها، له كتاب:"المنتخب، خ" في علم طب العين، وعللها ومداوتها.
- و"علي بن عيسى بن علي الكحال 000-430هـ" كان طبيبًا حاذقًا في أمراض العيون ومداواتها، واشتهر بكتابه "تذكرة الكحالين".
وكان يسمى طبيب العيون كحالًا.
الجراحة:
9-
ووضع علماء المسلمين قواعد للجراحة، وهم أول من جعل الجراحة علمًا له أصوله وقواعده التي يجب الالتزام بها.
وقاموا بعمليات جراحية كثيرة في البطن والمسالك البولية، ونجحوا في شق القصبة الهوائية، وإيقاف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة.
طب الأطفال:
10-
واهتم الأطباء المسلمون اهتمامًا كبيرًا بعلاج الأمراض التي تصيب الأطفال، مثل الإسهال، والربو، والبول في الفراش، والتشنجات، والحول، وأنواع الديدان التي تصيب الجهاز الهضمي، وشلل الأطفال والحميات.
وبرز كثير منهم في علم الأجنة، والأمراض الناتجة عن الوراثة وكيفية معالجتها.
وقسموا حياة الطفل إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: سن الولدان، وهي المدة المحصورة بين وقت خروج الجنين من الرحم، إلى أن يبلغ أربعين يومًا.
القسم الثاني: سن الصبيان، وهي المدة ما بين الأربعين يومًا، وحتى تنبت له الأضراس.
القسم الثالث: السن المحصورة بين وقت نبات الأضراس حتى بلوغ السابعة من العمر.
القسم الرابع: سن المحتلمين، وهي المدة ما بين سبع سنين حتى سن البلوغ.
ولعل الطب المعاصر قد ورث هذا التقسيم من المسلمين.
11-
ووجه المسلمون عناية خاصة لتغذية الطفل، فكانوا يعطون المولود خلال الأيام الأولى قليلًا من العسل قبل الرضاعة؛ لتنظيف الأمعاء من مادة الميكونيوم.
العلاجات والعقاقير:
12-
وكان الأطباء المسلمون يعدون بأنفسهم الأدوية والعلاجات والعقاقير، ويركبون المركبات الدوائية، ويعطونها لمرضاهم، فهم أطباء وصيادلة معًا.
13-
ووضع المسلمون أول مؤلف في العقاقير، وأنشئوا أول صيدلية عرفها التاريخ البشري.
واشتهرت مهارتهم في صناعة العقاقير العلاجية، حتى صارت مطلبوة من مختلف بلدان العالم، وازدهرت تجارة العقاقير المصدرة من بلدان العالم الإسلامي إلى سائر البلدان، لما رأى الناس فيها من نفع وتأثير، فقد كانت عقاقيرهم ترسل إلى أوروبا وإفريقية والصين والهند وسيلان، وكان استيراد عقاقير البلاد الإسلامية من أهم عناصر التجارة بينها وبين إيطاليا.
الأدوات الطبية:
14-
واهتم الأطباء المسلمون بصنع الآلات والأدوات الطبية، ومنها الآلات الجراحية المختلفة، وتوجد في كتبهم صور لها، وتوجد في المتاحف الغربية وغيرها نماذج عديدة منها.
المصنفات في الطب والعقاقير:
15-
ولأطباء المسلمين مصنفات ضخمة وكثيرة، في الطب والمفردات التي تستخدم في الأدوية والعلاجات، وتركيب الأدوية والعقاقير.
وبقيت مؤلفات أطباء المسلمين تدرس في جامعات أوروبا معتمدة، حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي، الثاني عشر الهجري.
أبرز أعلام المسلمين في الطب والصيدلة 1.
16-
برز في المسلمين أعلام كثيرون في الطب ومفردات الأدوية والعلاجات والتراكيب الصيدلانية.
وأختار فيما يلي التعريف بطائفة منهم.
1-
أبو بكر الرازي:
هو "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي 251-313هـ" فيلسوف من الأئمة في صناعة الطب، من أهل الري "مدينة في شمال إيران بضاحية طهران" ولد وتعلم بها، وسافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين. عكف على الطب والفلسفة في كبره، فنبغ واشتهر".
تولى تدبير "بيمارستان"2 الري، ثم تولى رئاسة أطباء "البيمارستان المقتدري" في بغداد.
له تصانيف كثيرة، ذكر منها ابن أبي أصبيعة "232" كتابًا ورسالة، منها:"الحاوي، خ" في صناعة الطب، وهو أجل كتبه، تُرجم إلى اللاتينية وطبع بها.
وله كتب أخرى في الطب، وذكر أن الرازي أول من أدخل التركيبات الكيميائية في العلاجات الطبية، وكانت له ابتكارات في جراحة العيون، وفي الولادة وأمراض النساء.
2-
ابن الجزار:
هو "أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني
…
-369هـ" طبيب مؤرخ من أهل القيروان3، له عدة مؤلفات، منها:
1 ترجمة الأعلام هنا مقتبسة من "الأعلام" للزركلي، وقد أضيف من بعض المترجمين الآخرين من الكتاب في الحضارة.
2 البيمارستان: المستشفى، فارسي معرب.
3 القيروان: مدينة تونسية، كانت عاصمة الأغالبة في القرن الثالث الهجري.
كتاب: "زاد المسافر وقوت الحاضر، خ" في الطب، وهو مجلدان، ترجم إلى اللاتينية واليونانية والإيطالية. وكتاب:"الاعتماد، خ" في الأدوية المفردة. وكتاب: "البغية" في الأدوية المركبة. وكتاب: "طب الفقراء، خ". وكتاب: "أسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه".
ولشدة اهتمام غير المسلمين بهذا الطبيب المسلم ترجمت بعض مؤلفاته كما سبق بيانه.
3-
علي بن العباس:
هو "علي بن عباس
…
-نحو 400هـ" كان أبوه مجوسيًّا، فارسي الأصل، من أهل الأهواز1، عالم بالطب، من تلاميذ "موسى بن يوسف بن سيار المتوفى سنة 384هـ.
كان متصلًا بعضد الدولة ابن بويه، وصنف له كتاب:"كامل الصناعة الطبية الضرورية، ط" ويسمى الكتاب الملكي، ترجم إلى اللاتينية، وطبع في فيينا2 سنة 1492م.
انتقد في كتبه ما اعتقد من الأغاليط في كتب أبقراط وجالينوس وغيرهما.
4-
الرئيس ابن سينا:
هو "شرف الملك أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا 370-428هـ" الفيلسوف الرئيس، كان فذًّا في مواهبه، له تصانيف كثيرة في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات.
أصله من "بلخ"3 ومولده في إحدى قرى بخارى، نشأ وتعلم في بخارى، وطاف البلاد، وناظر العلماء، واتسعت شهرته.
صنف نحو مائة كتاب، من أشهرها "القانون، ط" وهو كتاب كبير في
1 الأهواز: مدينة في جنوب غربي إيران، عاصمة خوزستان.
2 فيينا: عاصمة النمسا على الدانوب.
3 بلخ: مدينة قديمة في أفغانستان، غربي مزار شريف.
الطب، ترجمه الفرنج إلى لغاتهم، وكانوا يدرسونه في مدارسهم الطبية، وبقي معولًا عليه في علم الطب لديهم ستة قرون1.
5-
ابن رشد:
هو "أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي 520-595هـ" من أهل قربطة، وهو ابن رشد الحفيد تمييزًا له عن جده.
عُني بكلام أرسطو، وترجمه إلى العربية، وله مصنفات كثيرة في الفلسفة والفقه والطب وغيرها.
قال ابن الأبار، كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه.
له في الطب "الكليات" مطبوع بالتصوير الشمسي، ترجم إلى اللاتينية والإسبانية والعبرية.
6-
ابن البيطار:
هو "ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار 000-646هـ".
إمام النباتيين وعلماء الأعشاب، ولد في "مالقة" وهي: مرفأ في جنوب إسبانيا بالأندلس على البحر الأبيض المتوسط، وتعلم الطب، ورحل إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم؛ باحثًا عن الأعشاب والعارفين بها، حتى كان الحجة في معرفة أنواع النبات، وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه.
وجعله الملك "محمد الكامل الأيوبي" رئيسًا للعشابين في الديار المصرية، واستبقاه الملك "الصالح أيوب" واشتهر شهرة عظيمة.
1 يوصف ابن سينا من آرائه في العقائد بالإلحاد، قال ابن قيم الجوزية:"وكان ابن سينا -كما أخبر هو عن نفسه- هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم، من القرامطة الباطنيين".
وجاء في حاشية ترجمته بكتاب "الأعلام للزركلي": يقال: كان الطب معدومًا، فأوجده أبقراط، وكان ميتًا فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه الرازي، وكان ناقصًا فأكمله ابن سينا.
وهو صاحب كتاب: "الأدولة المفردة، ط" في مجلدين، المعروف بمفردات ابن البيطار، وله كتاب:"المغني في الأدوية المفردة، خ" مرتب على مداواة الأعضاء. وله كتاب: "ميزان الطبيب، خ" وله غيرها من الكتب.
7-
ابن النفيس:
هو "علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الملقب بابن النفيس 000-687هـ".
أعلم أهل عصره بالطب، أصله من بلدة "قرش" فيما وراء النهر، ولد في دمشق، وتوفي بمصر.
له كتب كثيرة، منها كتاب:"الموجز، ط" في الطب، اختصر به قانون ابن سينا. وكتاب:"المهذب، خ" في الكحل. وكتاب: "الشامل" في الطب، وهو كبير جدًّا.
وكانت طريقته في التأليف أن يكتب من حفظه، وتجرباته، ومشاهداته، ومستنبطاته، وقل أن يراجع أو ينقل1.
وقف كتبه وأملاكه على "البيمارستان المنصوري" بالقاهرة.
كان أول وأشهر وأعظم عالم بوظائف الأعضاء، واستطاع أن يفهم جيدًا الدورة الدموية الصغرى ويصفها لأول مرة، وهو في هذا رائد لمن أتوا من بعده2.
كان ابن النفيس الإمام الأول لـ"هارفي" الطبيب البريطاني الشهير. وقد كشف الدورة الدموية الصغرى، وقال:"إن الدم ينقى في الرئتين قبل "سرفيتوس" بثلاثة قرون3.
1 عن الزركلي في كتابه "الأعلام".
2 عن جلال مظهر في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوروبية" صفحة 263.
3 عن قدري حافظ طوقان في كتابه: "العلوم عند العرب" ص215.