الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي
المقدمة:
من الوسائل الجليلة لبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا على أسسها الفكرية الراسخة، إقامة الحكم الإسلامي المتقيد بأسس الإسلام وتعاليمه وإرشاداته ووصاياه.
ومن شأن هذه الوسيلة أن تكون مستمرة مع الزمن لمتابعة البناء الحضاري وصيانته.
والمفروض في الحكم الإسلامي السوي أن يستخدم في دفع رعيته للقيام بأعمال البناء الحضاري المجيد مختلف الوسائل المادية والمعنوية التي توصي بها أو تبيحها أسس الإسلام وتعاليمه، وكل ذلك ضمن خطتين كبيرتين:
الخطة الأولى: خطة إنشاء وتعمير.
الخطة الثانية: خطة صيانة وترميم.
ففي خطة الإنشاء والبناء يعمل الحكم الإسلامي على دفع مواكب رعيته لبناء الحضارة الإسلامية، والسير الحثيث بتقدم وارتقاء في كل ميدان من ميادين العمل المنتج، ويعمل أيضًا على توجيه مواكب البناء الحضاري توجيهًا تمليه أسس الإسلام الحضارية، ويبذل كل جهده لامتصاص مختلف الطاقات البشرية وغير البشرية، التي يمكن امتصاصها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من البناء العظيم، الذي تهدف إلى إقامته أسس الإسلام الحضارية.
وفي خطة الصيانة والترميم يعمل الحكم الإسلامي على مراقبة رعيته مراقبة شديدة، وتأديب المتوانين المتهاونين بواجباتهم، ورد المنحرفين إلى صراط الحق
والخير، والأخذ على يد الظالمين وردعهم، ومعاقبة من يستحق العقاب، وقطع دابر الفتن، وحفظ المجتمع من التفكك بإقامة الحق والعدل، وتوثيق الروابط الاجتماعية، وشد أواصرها، وكل ذلك ضمن منهج الإسلام القويم.
وإن صحائف التاريخ لتشهد بأن إقامة الحكم السوي الرشيد من أفعل الوسائل التي تُرسي في المجتمعات الإنسانية قواعد الحضارات الراقيات، وتمنحها الطمأنينة والاستقرار والرفاه، ومن أفعل الوسائل التي تخلف آثارًا عظيمة في الإصلاحات الحضارية للأمم، وفيما تبلغه من رقي سامق.
وجاء فيما روي عن عثمان رضي الله عنه قوله: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي إن الله ليدفع الناس إلى فعل الخير ويردعهم عن فعل الشر بقوة السلطان، ما لا يكون نظيره بمجرد موعظة القرآن.
ولهذا اهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بإقامة الحكم الإسلامي عند أول فرصة يستطيع بها مجتمع مسلم إقامته على طائفة ما من أرض الله.
وهذا ما فعله الرسول صلوات الله عليه بعد هجرته إلى المدينة مباشرة؛ إذ تهيأ له فيها أن يباشرها بإقامة الحكم الإسلامي في المجتمع الصغير، الذي أصبح المسلمون فيه ذوي كيان يمكن تمييزه عن غيره، وأصحاب سيادة مستقلة على طائفة من الأرض، ومعلوم أن مثل هذا يختلف تقديره باختلاف الأزمنة، وأحوال الأمم والشعوب، والظروف العالمية الدولية.
وكان قيام الدولة الإسلامية في المدينة يتطلب تأسيس مكان جامع لها، فكان أول ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن بنى مسجد المدينة، ولما كان مفهوم الدولة الإسلامية يشمل فيما يشمل جوانب العبادة والعلم والسياستين الداخلية والخارجية، كان مسجد المدينة هو المكان الجامع لها، وذلك نظرًا إلى أن حالة الدولة الناشئة الصغرى يومئذ لا تستدعي أكثر من ذلك.
وكان اسم المدينة يثرب، ولا تعدو هذه البلدة أن تكون قرية غير كبيرة من القرى فغير الرسول اسمها، وأعلن أنها المدينة، إشارة إلى الرسالة المدنية الحضارية التي يحملها إلى الناس.
ونظر الرسول صلوات الله عليه إلى المجتمع الإسلامي، الذي تسلم منذ ذلك الحين رعايته الكاملة الدينية والمدنية، فبادر إلى توحيد أعضائه بالتآخي بين المسلمين بشكل عام، واهتم بشكل خاص بأن يعقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، ليقف في وجهه ما يمكن أن يربو من فوارق عنصرية مع تطاول الزمن، وبلغ التآخي أول الأمر مبلغ التوارث، ولما استقر الأمر وتوطدت دعائم الدولة نسخ حكم التوارث على أساس التآخي، وبقي حكم التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء.
ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا إلى السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدولة الإسلامية الفتية، فأعلن الوثيقة السياسية الأولى في تاريخ الإسلام، أو ما قد نسميه اليوم بدستور العمل السياسي لهذه الدولة في المدينة، وصدر هذه الوثيقة بالمادة الأولى من هذا الدستور وهي:
"إن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وعاهد معهم أمة من دون الناس".
وضم إليها طائفة من المواد الأخرى التي تبين بعض الحقوق العامة، وطائفة من المواد التي تبين علاقة المسلمين بمجاوريهم في المدينة من أهل الكتاب.
وأمر صلوات الله عليه بتسجيل هذه الوثيقة في صحيفة، فكانت هي المرجع للعمل السياسي الذي استدعته ظروف المدة الأولى لإقامة الدولة الإسلامية.