الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم
لما دفعت أسس الحضارة الإسلامية الناس إلى اكتساب المعارف والعلوم؛ إذ هي من الوسائل الأولى لنباء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا، ولما حثتهم على سلوك الطرق السليمة للمعرفة، واستخدام مختلف أدوات المعرفة التي وضعها الله بين يدي الإنسان، أخذت بأيديهم في طريق العلم، وأنارت لهم المسالك، وطرحت مبادئها وأسسها وأحكامها للبحث والمناقشة، وفتحت صدرها لكل باحث ينشد الحقيقة، مستفسرًا أو مناقشًا أو معترضًا.
وتمشيًا مع هذا المبدأ وجدنا الإسلام حينما يدعو الناس إلى الإيمان بالله وعظيم صفاته، يحثهم على استخدام وسائل المعرفة ليهتدوا إلى هذه الحقيقة الأولى والكبرى من حقائق الدين استنباطًا من الأدلة الكثيرة التي بثها الله في كونه الكبير، ثم أخذ بأيديهم في طريق العلم يناقشهم حول الأسس والأحكام الإسلامية، ويقيم لهم الأدلة، ويضرب لهم الأمثال، ويبين لهم حقائق الأمور، ويعلمهم ما فيه خيرهم، ويهديهم إلى سبل سعادتهم، ويضع لهم أنظمة حياتهم، ويحضهم على استنباط الأحكام من نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه، ويعلن لهم أن رسالته إنما يعقلها العالمون؛ لأنها مجموعة من الحقائق المشهودة والغيبية والتشريعية، ومجموعة من البيانات التعليمية والتربوية، وكلها
مواد علمية لا تدرك إلا باستخدام أدوات المعرفة، ولذلك كانت النصوص القرآنية زاخرة ببيان أن رسالة الإسلام إنما هي لقوم يعلمون، ولقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون، ونحو ذلك.
فمن النصوص القرآنية في ذلك النصوص التالية:
1-
قول الله تعالى في سورة "الروم: 30 مصحف/ 84 نزول":
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
فالله جل وعلا يفصل الآيات لقوم يعقلونها، ويفهمون دلالتها، ويتبصرون فيها؛ لأنهم في أحوالهم العادية قوم يعقلون الأمور، ويأخذونها عن تبصر وروية.
2-
وقول الله تعالى في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول":
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
أي: فالعالمون هم المقصودون بضرب الأمثال القرآنية؛ لأنهم هم الذين يعقلونها، ويفهمون الغاية منها، أما الذين يعطلون أدوات المعرفة فيهم، ويضعون الأغشية على أسماعهم وأبصارهم وعقولهم، فليسوا جديرين بأن يعقلوها، أو يفهموا الغاية منها، أو يعملوا بهديها إذا هم فهموا معانيها والغاية منها.
3-
وقول الله تعالى في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول":
لقد ورد هذا النص في معرض قصة الرهط التسعة من ثمود الذين تحالفوا على أن يمكروا بنبيهم صالح عليه السلام، فيفتكوا به وبأهله مستخفين، دون أن يشعر بهم أحد من أقربائه ونصرائه، فدمرهم الله وقومهم أجمعين.
وبدهي أن الاعتبار بالأحداث غابرها وحاضرها صفة من صفات العقلاء الذين يستخدمون عقولهم في البحث، وينتهون إلى التبصر بالحقائق العلمية،
ومن الحقائق العلمية سنن الله التي لا تبديل لها في مجرى الأحداث الكونية، وهذا التبصر من أرقى مسالك العلم التي يسلكها العلماء.
ونظرًا إلى مكانة البحث العلمي في أسس الحضارة الإسلامية وجدنا القرآن الكريم يحيل الناس في تدبر آياته على الذين يحسنون الفهم والاستنباط من علماء المسلمين، قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
ويدخل في ذلك أيضًا كل ما يكون مستند العلم فيه الاستنباط والتدبر ومن أجل ذلك ينبغي الرجوع في كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه الذين يحسنون تدبره، واستنباط المعلومات النافعة منه.
ونظرًا إلى مكانة الحفظ العلمي أمر القرآن المجيد الذين لا يحفظون المسائل العلمية التاريخية أو غيرها أن يسألوا أهل الذكر الموثوقين بأمانتهم وصدقهم، وأهل الذكر هم العلماء الحافظون الموثوقون، قال الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول":
أي: فاسألوا أهل العلم الحافظين أنباء الرسل السابقين، وتبينوا منهم كيف كانت أحوالهم، ويدخل في عموم سؤال أهل الذكر سؤال العلماء الحافظين الموثوقين، عن كل أمر يكون مستند العلم فيه الحفظ والتذكر، وذلك في مختلف مجالات العلوم والأخبار.
تقسيم القرآن نتائج البحث الإنساني إلى مراتب ثلاث:
إذ تدفع النصوص الإسلامية الناس إلى استخدام أدوات المعرفة في تحصيل العلوم فإنها لا تسمح بأن يعتمد الباحث عن الحقيقة على الظنون والتكهنات التي لا ترافقها دلائل وأمارات مرجحة.
ويقسم القرآن نتائج البحث الإنساني عن الحقائق إلى مراتب ثلاث، وذلك بحسب مستوى الأدلة والأمارات التي أوصلت إلى هذه النتائج.
المرتبة العليا:
وهي مرتبة اليقين، ويتوصل الباحث إلى هذه المرتبة حينما ترتقي أدلة البحث لديه إلى مرحلة لا يخالطها احتمال كون الحقيقة على خلاف ما أدت إليه أدلة البحث.
وفيما يلي طائفة من الشواهد القرآنية:
1-
لقد عبر الله على الموت باليقين؛ لأن العلم به عند جميع الناس قد ارتقى حتى انتقى معه أي احتمال آخر، فصار بذلك يقينًا، قال الله تعالى في سورة "الحجر: 15 مصحف/ 45 نزول":
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
أي: حتى يأتيك الموت الذي هو يقين لا تشوبه شائبة تنزله عن هذه المرتبة العليا من مراتب المعرفة، فالموت غاية كل حي في هذه الدنيا.
2-
ولما أخبر الله بأن مكذبي الرسل لهم نزل من حميم، وتعذيب شديد بنار جهنم أكد هذا الخبر بأنه حق اليقين؛ لأنه خبر مستند إلى علم الله الحق، الذي لا يخالطه احتمال آخر، فقال الله تعالى في سورة "الواقعة: 56 مصحف/ 46 نزول": {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} .
3-
وحينما كشف الله لإبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض، فارتقت لديه أدلة البحث العلمي إلى مرحلة لا يخاطلها احتمال آخر استطاع.
إبراهيم أن يصل إلى مرتبة اليقين، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} .
4-
ولما جاء طير الهدهد يخبر سليمان عليه السلام بأنباء سبأ قال له فيما حكى الله عنه في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول":
وذلك لأن خبره قد كان مستندًا إلى مشاهدة وسماع مباشرين.
5-
ولما كانت الأدلة التي يستطيع الإنسان الوصول إليها عن طريق البحث العلمي المتيسر له كافية للوصول به إلى مرتبة اليقين في أركان العقيدة الإسلامية، كانت دعوة الإسلام إلى الإيمان بها دعوة إلى الأخذ باليقين، قال الله تعالى في سورة "الذاريات: 51 مصحف/ 67 نزول":
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} .
وقال تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول":
وقال سبحانه في سورة "الجاثية: 45 مصحف/ 65 نزول":
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
وقال تعالى في وصف المؤمنين في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول": {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
واليقين هو ما يسمى في مصطلح العلم الحديث: "الحقيقة العلمية" أو "القانون الثابت" أو نحو ذلك.
ولا يصل الإنسان السوي إلى اليقين ما لم تكن أدلة البحث العلمي التي استنارت له موصلة إلى درجة من التحقق لا تشوبها شائبة احتمال أن يكون الواقع على خلاف ما أوصله إليه بحثه.
أما حينما تقصر أدلة البحث عن أن تصل بالإنسان إلى هذه المرتبة فإن نتيجة بحثه لا تسمى يقينًا.
المرتبة الوسطى:
ومن دون المرتبة العليا التي هي مرتبة اليقين تتدرج الظنون بحسب قوتها وضعفها، وبعض هذه الظنون -وهي الظنون الراجحة- يصح الاعتماد عليها عقلًا وشرعًا، في كثير من الأمور، فيصح الاعتماد عليها في تسيير أعمال الحياة، وفي اكتساب الرزق، وفي تحصيل النظريات العلمية ذات الآثار العملية، وفي أساليب التربية والتعليم، وفي استنباط الأحكام الشرعية، وفي الحكم والقضاء، والتبرئة والإدانة؛ لأنه لا سبيل إلى اليقين التام في كل مسألة، وإلا تعطلت أمور الحياة.
وقد توسع الإسلام فسمى الظنون الراجحة نوعًا من العلم، نظرًا إلى الضرورة الملحة في حياة الناس، الداعية إلى الاعتماد عليها، والاكتفاء بها في كثير من الأمور.
ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى في سورة "الممتحنة: 60 مصحف/ 91 نزول":
فقد جعل الله من العلم غلبة الظن التي تحصل بامتحان هؤلاء المهاجرات، والتي ترجح أنهن مؤمنات، فقال:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} مع أنه لا سبيل إلى اليقين في ذلك؛ لأن حقيقة الإيمان كامنة في القلوب لا يعلمها إلا الله، ولذلك قال تعالى في الآية:{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِن} .
والدلائل التي تدل على الإيمان بالنسبة إلى الناس لا تعدو أن تكون ظواهر مرجحة، وقد يكون المكنون في القلوب
على خلاف ذلك، ومع هذا فقد جعل الله نتائج هذا الامتحان التي لا تصل إلى مرتبة اليقين، وإنما تصل إلى مرتبة الظن الراجح نوعًا من العلم، الذي يصح الاعتماد عليه، والاستفادة منه.
وهذه هي المرتبة الثانية من نتائج مراتب البحث العلمي، ولهذه المرتبة درجات، يشترط لأنواع من قضايا الحياة أعلاها، ويُكتفى في بعضها بأوسطها، ويُكتفى في بعضها الآخر بأدناها، وقد توسع الإسلام كما رأينا فسماها نوعًا من العلم، لتعذر الوصول إلى اليقين في كل مسألة.
ونستطيع أن نقول: إن معظم "النظريات" التي تقررها العلوم المادية القديمة والحديثة لا تتجاوز دائرة هذه المرتبة.
فمما يشترط له الدرجات العليا من الظن الراجح الإتهام بالزنا، فإنه يشترط لإثباته قضاء أن يشهد به أربعة شهداء، مع أن رجحان الظن يتم بشهادة شاهدين عدلين، أو شاهد واحد، ولكن الإسلام أراد الاحتياط في هذا الأمر، صيانة لأعراض الناس من الفضيحة، ولكراماتهم من الإهانة، ولأجسامهم من الحد.
وفيما يلي طائفة من النصوص القرآنية التي جاء الظن فيها، وهو من درجات هذه المرتبة الوسطى المقبولة، نظرًا إلى أنه من الظنون الراجحة:
1-
قول الله تعالى في معرض الحديث عن داود عليه السلام في سورة "ص: 38 مصحف/ 38 نزول":
فقد كان ظن داود ظنًّا راجحًا مقبولًا، اعتمد فيه على دلائل قوية.
2-
وقول الله تعالى في سورة "القيامة: 75 مصحف/ 31 نزول":
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} .
فظن الموت عند وصول الروح إلى التراقي ظن راجح، مع احتمال عودتها بقدرة الله، واستمرار الحياة، ولكنه احتمال مرجوح.
3-
وقول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
فظنهما أنهما سقيمان حدود الله يجب أن يكون ظنًّا راجحًا مقبولًا، وهو الذي بنى عليه الشارع حكم إباحة تراجع الزوجين إلى الارتباط بعقد الزوجية مرة أخرى، بعد أن انفصلا عن بعضهما انفصالا أفضى إلى وجوب إجراء تجربة زوجية أخرى للمرأة.
المرتبة الدنيا:
ثم إن الإسلام نظر إلى الظنون المختلفة التي لا تصل إلى مرتبة الرجحان فجعلها في المرتبة الثالثة، وهي المرتبة الدنيا، ورفض الاعتماد عليها، إلا أنه سمح بأن توضع موضع الاختبار والتجربة، والدراسة ومتابعة البحث، وأن تكون عاملًا من عوامل اليقظة والتوجس والاحتياط في الأمور، أو عاملًا من عوامل التفاؤل بالخير، لشحذ الهمم، وتحريض الطاقات على العمل، وتدخل في هذا أمور الفراسة، والإمساك بخيوط الشبهات، بغية العثور على مكامن الخطر، ووسائل الإدانة بالجرائم.
ولهذه المرتبة درجات تبدأ بالظن الخفيف فالشديد، فالأشد، حتى يصل الظن إلى إشارة النصف، ومتى تجاوزها ودخل في منطقة الرجحان دخل في درجات المرتبة الوسطى المقبولة.
وعلى هذا يحمل مثل قول الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
وقد اصطلح علماء المسلمين على تسمية الظنون المزجوحة "وهمًا" تمييزًا بينها وبين الظنون الراجحة، وعلى تسمية الظنون المتكافئة في قضية واحدة "شكًّا" وفي العلوم الحديثة يسمى هذا النوع من الظنون "فرضيات" سواء كانت مرجوحة أم متكافئة.
ولما كانت أنواع الظنون تتردد بين درجات المرتبة الثالثة غير المقبولة لاكتساب المعارف والعلوم، وبين درجات المرتبة الثانية المقبولة، كان من النصوص الإسلامية نصوص تورد الظن باعتباره داخلًا في درجات المرتبة الثالثة المرفوضة، ونصوص أخرى تورد الظن باعتباره داخلًا في درجات المرتبة الثالثة المقبولة، ويفصح عن ذلك قول الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} .
فهذا النص القرآني يأمر باجتناب كثير من الظن، ولا يأمر باجتناب الظن، إشارة إلى أن من الظنون ظنونًا راجحة مقبولة في كثير من شئون الحياة، كشئون التجارة والصناعة وغيرها، وكالأخبار التاريخية والعلمية وغيرها، وكالأقضية والتصرفات السياسية والإدارية، وكاستنباط الأحكام الفقهية الشرعية وغيرها.
ولكن الظنون الراجحة في حياة الناس أقل نسبة من الظنون الأخرى المرجوحة، ومن أجل ذلك قال الله تعالى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} ولم يقل: اجتنبوا كل الظن، وقال:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم} ولم يقل: إن كل الظن إثم.
فمن النصوص التي جاء فيها الظن وهو من درجات المرتبة الثالثة
المرفوضة في ميادين العلم والمعرفة قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول" حكاية لقول فرعون لموسى.
فظن فرعون ظن مرفوض لأنه من باب التوهم الذي لا رجحان معه.
ويقابله تمامًا ظن موسى بفرعون إذا كان ظنًّا راجحًا، وذلك إذا قال موسى لفرعون كما حكاه الله في الآية التالية من السورة نفسها:
أي: مهلكًا، فقد كان ظن موسى بفرعون ظنًّا راجحًا لأنه اعتمد فيه على دلائل سنن الله الدائمة، أو على أمارات أُوحي إليه بها، وقد حقق الله ظن موسى فيما بعد بإهلاك فرعون.
ومن أمثلة الظنون المرفوضة في منهج البحث العلمي الذي رسمه الإسلام للناس ظنون أكثر أهل الأرض، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":
وذلك لأن أكثر الناس يتأثرون بأوهامهم، ويندفعون وراءها كأنها حقائق، ويتلاعب الخراصون الكذابون بعقولهم ليسخروهم في تحقيق مطامع أنفسهم في المال أو في السلطان أو في الشهوات.
وشواهد هذه الحقيقة كثيرة في المجموعات البشرية، فكم من وهم باطل ساق جماهير كثيرة من الناس إلى التهلكة، وإلى شر مستطير، ويتخلى كل واحد
منهم عن تدبر الأمر بنفسه، والتفكر فيه اعتمادًا على رأي الكثرة المندفعة، ولدى التمحيص الدقيق، والبحث المستقصي، يتبين أن الفكرة ناشئة في أساسها عن وهم باطل سيطر على طائفة قليلة، فسرى وباؤه إلى الجماهير المأخذوة بعاطفة من العواطف، أو انفعال من الانفعالات، أو يتبين أن أصل الفكرة من وضع كذاب مضلل له غاية خبيثة، لا تتحقق إلا بسوق جماهير الناس في طريق معين.
ومن الأمثلة أيضًا تعلل المشركين بمشيئة الله للإيهام بأن ما هم عليه من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله حق، فهم بين الكذب المختلق والظن المرجوح الذي لا دليل يدعمه، قال الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":
أي: تكذبون وتتوهمون.
فقد جعل الله سبحانه مقالة المشركين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} كذبًا على الحقيقة، ومن أجل ذلك. قال الله سبحانه عقبها:{ذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} .
ثم أمر الله الرسول بأن يطالبهم بالدليل على ما يفترون على الله فقال له: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} .
أي: فأنتم إما متوهمون أو تكذبون على الله، وذلك لأنهم يقصدون من قولهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} أن إشراكهم إنما كان بمشيئة الله ورضاه، ومن أجل ذلك جعلهم الله كذابين في هذه المقالة؛ إذ لا دليل عليها من العقل، ولا دليل عليها من الشرع.
والأمثلة القرآنية على الظنون الضعيفة المرفوضة كثيرة، ونسبتها أكثر من نسبة النصوص التي جاءت عبارة الظن فيها دالة على معنى الرجحان.