المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر - الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌فاتحة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌فاتحة كتاب؛ "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري

- ‌المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري

- ‌المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري

- ‌الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات

- ‌الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: الحق والباطل

- ‌الفصل الثاني: الخير والشر

- ‌المقولة الأولى: تعريفات للخير والشر

- ‌المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه

- ‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

- ‌المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية

- ‌المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات

- ‌المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب

- ‌الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود

- ‌انفتاح الحدود الفكرية

- ‌ انفتاح الحدود النفسية:

- ‌ انفتاح الحدود المادية:

- ‌الفصل الرابع: المثالية والواقعية

- ‌المقولة الأولى: تعريفات وبيانات عامة للمثالية والواقعية

- ‌المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌مدخل

- ‌شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية

- ‌شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها

- ‌شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية

- ‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

- ‌شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري

- ‌جدليات حول المثاليات والواقعيات الإسلامية:

- ‌الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا

- ‌مقدمات عامة:

- ‌الفصل الأول: التعلم والتعليم

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلى التعلم والتعليم

- ‌المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف المختلفة

- ‌المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسؤوليته بالنسبة إليها

- ‌المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى

- ‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السابعة: منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية

- ‌المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان

- ‌المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام

- ‌المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار

- ‌المقولة الرابعة: دفع شبهات

- ‌الفصل الثالث: التربية

- ‌الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن

- ‌المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة

- ‌المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم

- ‌الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم

- ‌المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي

- ‌المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسؤولياته

- ‌الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال

- ‌المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية

- ‌المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية

- ‌الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية

- ‌الفصل الأول: تلقي القرآن وتدوينه وتدبره

- ‌المقولة الأولى: تلقي القرآن وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم التفسير

- ‌الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة

- ‌المقولة الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة وزواتها

- ‌الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية

- ‌الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية

- ‌الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما

- ‌المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما

- ‌المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الثالثة: الكيمياء

- ‌المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات

- ‌المقولة الخامسة: الحيوان

- ‌الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقا وسلوكا

- ‌النشأة والتأسيس

- ‌ العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في مصر:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي:

- ‌كلمة موجزة عن أندنوسيا

- ‌ تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان:

- ‌الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون

- ‌ مقدمة:

- ‌ الواقع الاقتصادي:

- ‌ المالية العامة:

- ‌ التنظيمات الإدارية:

- ‌ القضاء:

- ‌ نظام الحسبة ووظيفة المحتسب:

- ‌ التدبيرات العسكرية:

- ‌ العمران:

- ‌ الخط العربي

- ‌ الصناعات الخزفية:

- ‌ الصناعات الزجاجية:

- ‌ صناعة النسيج:

- ‌الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى

- ‌ مقدمة:

- ‌ من أقوال المنصفين:

- ‌تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب

- ‌ واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين:

- ‌ أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين:

- ‌خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌خاتمة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌فهرس الكتاب:

- ‌آثار المؤلف

الفصل: ‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

المفهوم الأول:

لا بد في هذا المجال من أن تنحصر نظرتنا إلى الخير والشر ضمن دائرة السلوك الإنساني الذي ينشأ عن إدارة الإنسان وتصميمه، ويترتب عليه بسبب ذلك المدح أو الذم.

أما ما لا دخل للسلوك الإنسان فيه فخارج عن نطاق المسئولية الإنسانية، ولا علاقة له ببناء حضاري يفخر به الإنسان؛ إذ يرفع من قيمته، أو تخلف حضاري يخجل منه الإنسان إذ يحط من قيمته.

المفهوم الثاني:

يطلق على السلوك الذي يمارسه الإنسان بإرادته مع العلم به وبنتائجه خير أو شر، نظرًا إلى ما يتضمنه ذلك السلوك أو يترتب عليه وينجم عنه من خير أو شر.

المفهوم الثالث:

يدخل في مفهوم الخير كل عمل يتم به تلبية مطلب أو أكثر من مطالب النفس أو الغرائز، وتلبية حاجة أو أكثر من حاجات الجسد، مما فيه جلب لذات أو دفع آلام.

ويدخل في مفهومه أيضًا كل عمل يتم به تحقيق منافع ومصالح، أو دفع مضار ومفاسد، للفرد أو للجماعة.

وكل ذلك ضمن شروط أربعة:

الشرط الأول: الاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

الشرط الثاني: ألا يكون في شيء من ذلك عدوان على حدود الله التي حدها لعباده، في أوامره ونواهيه، سواء كانت متعلقة بالأمور الاعتقادية أم العبادية أم بأي سلوك آخر في حياة الإنسان.

الشرط الثالث: ألا يكون في شيء من ذلك عدوان على حق ثابت للفرد أو للجماعة.

الشرط الرابع: ألا يكون في شيء من ذلك ضرر أو مفسدة للفرد أو للجماعة، بنسبة مساوية لما يتحقق به من منفعة أو مصلحة، أو بنسبة راجحة عليه.

ص: 61

فإن كان ما ينجم عنه من ضرر أو مفسدة للفرد أو للجماعة مساويًا لما يجلب به من منفعة أو مصلحة للفرد أو للجماعة أو راجحًا عليه لم يكن من أعمال الخير، وإنما هو من الأعمال التي يغلب فيها جانب الشر على جانب الخير، أو يترجح تركها على فعلها صيانة للعمل الإنساني من العبث، وعملًا بقاعدة:"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح المساوية لها".

أما عند تعارض الحقوق أو المصالح أو المنافع، وكذلك عند تعارض الأمور التي فيها دفع المضار والمفاسد، سواء كان ذلك التعارض بين الأفراد أم بين الفرد والجماعة، فالطريقة الإسلامية لحل التعارض هي أن يلجأ إلى التوفيق بالعدل، وذلك ضمانًا لأكثر نسبة من الخير يمكن تحقيقها، وتفاديًا لأكثر نسبة من الشر يمكن تفايدها. وهذه الطريقة الإسلامية هي طريقة المنطق السديد، والعقل الرشيد، لمن أدرك حقائق الأمور ووعاها.

ومن الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة ما لو تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، ولكن كانت مصلحة الفرد راجحة على مصلحة الجماعة، فإننا نقدم هنا مصلحة الفرد، ونعتبرها هي الأحق بأن يستجاب لها شرعًا وعقلًا، ومن ذلك ما لو توقفت حياة إنسان في طعامه أو شرابه أو ملبسه أو مسكنه أو معالجته الطبية على تحميل الجماعة خسارة مالية من صندوقها العام، وهذه الخسارة لا تؤثر على كيان الجماعة أمام عدوها، ولا تعرض الآخرين إلى هلاك أو مضرات مساويات لمضرة فرد واحد أو راجحة عليها فإن أحكام الشرعية الإسلامية تقضي بتحميل الجماعة هذه الخسارة الطفيفة، لدفع المضرة البالغة عن الفرد.

أما إذا كانت خسارة الجماعة هي الأكثر مضرة كأن يكون فيها تعريض كيانها العام لخطر من قبل عدوها، فإن أحكام الشريعة الإسلامية تقضي بالحرص على المصلحة الكبرى للجماعة، ولو أدى ذلك إلى هلاك الفرد.

ومن أمثلة رجحان مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد ما لو توقفت توسعة طريق عام تقضي المصلحة الجماعية بتوسيعه على هدم بعض الدور أو الدكاكين للأفراد، وتوفيت بعض المصالح عليهم، فإن أحكام الشريعة الإسلامية تأذن

ص: 62

للدولة بأن تنفذ هذه التوسعة الضرورية، ولو لم يأذن بها أصحاب الأملاك الخاصة، ولكن عليها في مقابل ذلك أن تعوض عليهم تعويضًا عادلًا من الأموال العامة، لإقامة التوازن بين المصالح على أسس العدل.

ولما كانت مضرة موت الإنسان من الجوع أشد من المضرة التي تحصل بأكل الميتة أذن الله للمضطر بأن يأكل من لحم الميتة ما يدفع به ضرورته، درءًا لأشد الضررين بارتكاب أخفهما، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول".

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

ووفق هذه الفلسفة الراقية والمنطق السديد تسير الشريعة الإسلامية في الموازنة على أسس العدل بين المتعارضات من المصالح والمفاسد والمضار والمنافع واللذات والآلام العاجل من كل ذلك والآجل، ضمن حساب دقيق شامل، في معادلات رياضية عالية.

وفي مقابل ما يشتمل عليه معنى الخير ضمن هذا المفهوم يدخل في مفهوم الشر كل عمل يتم به جلب آلام أو مضار للفكر أو للنفس أو للجسد، للفرد أو للجماعة، ما لم يتضمن شيء من ذلك تحقيق منافع أو مصالح أو لذات أرجح منها للفرد أو للجماعة، فعندئذ تميل كفة الميزان إلى جانب الخير، تحقيقًا لأكثر نسبة من الخير يمكن تحقيقها، وتفاديًا لأكثر نسبة من الشر يمكن تفاديها.

المفهوم الرابع:

لدى إحصاء الأعمال الإنسانية ونتائجها وما تؤدي إليه نجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: خير محض، لذلك فلا يكون منه إلا خير ويدخل في هذا

ص: 63

القسم ما أمر به الإسلام أمرًا جازمًا، وجعله فرضًا لازمًا، في كل وقت وكل حال.

ومن أمثلة ذلك التعلم الموصل إلى معرفة الله وجليل صفاته، والاعتراف بالحق، والإذعان إليه، وشكر المنعم، والثناء عليه، وعبادة الله وطاعته، والعمل لدفع المضار المادية أو المعنوية العاجلة أو الآجلة بقدر الإمكان.

القسم الثاني: شر محض، فلا يكون منه إلا شر.

وجميع ما في هذا القسم قد نهى الإسلام عنه نهيًا جازمًا، وحرمه الله على عباده.

ومن أمثلة هذا القسم جحود الحق، والكفر بالنعمة، ومعصية الخالق، وكل عمل يقضي إلى مضار حتمية لا منافع ترافقها، أو تُجنى من ورائها.

القسم الثالث: وسط بين الخير والشر، وهذا الوسط له أحوال:

أ- فتارة يؤدي إلى خير كثير أو قليل، فيكون خيرًا بنسبة ما يؤدي إليه.

ب- وأخرى يؤدي إلى شر كثير أو قليل، يكون شرًّا بنسبة ما يؤدي إليه.

ج- وثالثة يؤدي إلى خير وشر معًا، متعادلين أو مع رجحان أحدهما على الآخر.

د- ورابعة لا يؤدي إلى خير ولا إلى شر فيظل هو ونتائجه في منزلته الوسطى بين المنزلتين.

ولذلك تعتري هذا القسم الثالث أحكام متخالفة في الشريعة الإسلامية، بحسب النتائج التي تنتج عنه في كل حالة.

وأحكام الشريعة الإسلامية التي تتردد بينها أحوال هذا القسم هي ما يلي:

الأول: الفرض وهو الذي يجب فعله.

الثاني: الحرام وهو الذي يجب تركه، وهو يقابل الفرض.

الثالث: المندوب إليه وهو الذي يترجح في الإسلام فعله على تركه.

ص: 64

الرابع: المكروه، وهو الذي يترجح في الإسلام تركه على فعله، وهو يقابل المندوب إليه.

الخامس: المباح، وهو الذي يتساوى في حكم الإسلام فعله وتركه لاستواء طرفي الفعل والترك فيه، من وجهة النظر الإسلامية.

وكثيرًا ما يخفى على الناس ما في الأعمال الإنسانية من نتائج خير أو شر، فتختلف أنظارهم فيها، وتختلف أحكامهم بالنسبة إليها، إلا أن الشريعة الإسلامية لما كانت منزلة من لدن حكيم عليم بما كان وما هو كائن وما سيكون، وعليم بخصائص الأنفس، وبما يصلح الناس وبما يفسدهم، وبما يكون لهم أنفع وأصلح وأكمل كانت أحكامها مطابقة لما عليه أحوال هذا القسم مطابقة تامة، في كل مسألة من مسائله، وكل جزئية من جزئياته.

وحينما تخفى على الناس الحكمة التي يهدف إليها بعض هذه الأحكام فما ذلك إلا لقصور في مداركهم، ونقص في معارفهم، وعدم استيعابهم لأحوال الناس المختلفة، وللعوامل الداخلية، والنتائج العاجلة والآجلة.

وإلى هذه الأقسام الثلاثة جاءت الإشارة في الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلوات الله عليه:

"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"1.

أمثلة لما تعتريه الأحكام الخمسة مما يدخل تحت القسم الثالث:

وفي مجال التمثيل لما تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة؛ لأنه يدخل تحت القسم الثالث "وهو الوسط بين الخير والشر" نستطيع أن نمر على أمثلة كثيرة

1 انظر شرح هذا الحديث في كتاب "روائع من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم" للمؤلف وهو الحديث "13" فيه.

ص: 65

جدًّا، ولكن نقتصر على بعض منها، لنبرز القواعد العامة في بعض صورها الجزوئية التي تقرب الحقيقة إلى مستوى التصور الكامل.

فمن الأمثلة "التعلم والتعليم" عملان يؤديان في معظم أحوالهما إلى خير كثير عاجل وآجل، لذلك كانا من أشرف الأعمال التي يقوم بها الإنسان ومع ذلك فإنهما من الأمور التي تعتريها الأحكام الخمسة في الشريعة الإسلامية، فقد يكونان فرضين، وحرامين، ومندوبين، ومكروهين، ومباحين.

يكونان فرضين لازمين بالنسبة إلى الأمور التي يفضي الجهل بها إلى ضرر محقق عاجل أو آجل في الدنيا أو الآخرة.

ولما كان الجهل بأركان الإيمان وأركان الإسلام وأحكام الشريعة الربانية، المتعلقة بالأعمال التي يقوم بها كل إنسان مفضيًا إلى ضرر محقق ينزل بالإنسان، وهو عقاب الله يوم القيامة بالإضافة إلى المضار الدنيوية الأخرى كان تعلم هذه الأمور وتعليمها مما هو مفروض في الشريعة الإسلامية، وكان الاستمرار على الجهل بها مع توافر الوسائل لتعلمها محرمًا لا يعذر به صاحبه.

ولما كان الجهل بأسباب القوة التي تدرأ كيد أعداء الحق ومكرهم مفضيًا إلى ضرر محقق تتعرض به الأمة الإسلامية إلى خطر تسلط عدوها عليها كان تعلم هذه الأسباب وتعليمها من الأمور المفروضة على المسلمين، وكان الاستمرار على الجهل بها مع توافر الوسائل لتعلمها محرمًا لا تعذر به الأمة.

ولما كان الجهل بالأمور الصحية مفضيًا إلى ضرر محقق تتعرض به الأجسام إلى خطر انتشار الأمراض والأوبئة كان تعلم هذه العلوم وتعليمها من الأمور المفروضة.

وهناك نوع من العلوم يغلب فيه أن تعلمه يفضي إلى الضرر المحقق، لما فيه من مزالق خطرة لا يسلم منها الإنسان كالسحر، ولذلك يحرم تعلمه وتعليمه.

أما العلوم النافعة التي لا يؤدي الجهل بها إلى ضرر محقق فإنه تعلمها مندوب إليه، وليس بواجب، وذلك كتعلم بعض أنواع الفنون الجمالية.

ص: 66

ومن المسائل ما يكون الجهل بها نافعًا ولا يؤدي العلم بها إلى ضرر محقق، ولذلك يكون البحث عنها مكروهًا، ومنها معرفة المسلم عيوب أخيه المسلم، فإن الجهل بها نافع، والعلم بها يفوت هذه المنفعة، لذلك كان التعرف عليها مكروهًا.

أما تتبع المسلم عيوب أخيه المسلم عن طريق التجسس والتلصص فهو من الأمور ذات الضرر المحقق، ولذلك كان هذا التتبع حرامًا ومنهيًّا عنه في نصوص القرآن.

ثم إن تعلم المسائل التي لا تناظر واحدًا مما سبق؛ إذ ليس في تعلمها ولا في الجهل بها منفعة تقصد، ولا مضرة تخشى، هو من الأعمال المباحة، ونظير ذلك اختيار أحد العلوم النافعة لشغل الوقت به دون مساويه من العلوم النافعة أيضًا، هذا الاختيار هو من الأمور المباحة، أما ملء الوقت بنافع مفيد فهو أمر مندوب إليه.

وعلى هذا القياس وعلى ما يشبهه تسير الشريعة الإسلامية في تقدير كل مسألة، وإعطاء الحكم الشرعي لها.

المفهوم الخامس:

يدخل في مفهوم الخير كل أنواع الترقي في مراتب الكمال الإنساني.

ويدخل في مفهوم الشر كل أنواع الهبوط في دركات النقص الإنساني.

ومن أنواع الكمال الإنساني التي يشعر بها معظم الناس الكمالات التاليات:

أ- الكمال الفكري.

ب- الكمال الخلقي.

ج- الكمال السلوكي.

د- الكمال الإبداعي.

هـ- كمال التعايش الجماعي.

ص: 67

ويقابلها تمامًا أنواع النقص في حدود هذه المجالات الإنسانية.

وشرح هذه الأنواع وتفصيلها فيما يلي:

أولًا: الكمال الفكري

ويكون الكمال الفكري بالعلم والمعرفة، وطريقة الأخذ بوسائلهما، ويكون الترقي في سلم هذا الكمال بمقدار الترقي في درجات العلم والمعرفة، ولما كان الترقي في سلم هذا الكمال من أهم ما يكسبه الإنسان من خير، حث الله رسوله عليه وقال له في سورة "طه: 20 مصحف/ 45 نزول":

{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .

ولما كان أفق هذا الكمال أوسع من قدرة الإنسان على استيعابه، قال الله عز وجل مخاطبًا الناس جميعًا في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} .

وقال في سورة "يوسف: 12 مصحف/ 53 نزول":

{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .

ومجال الحديث عن حث الإسلام على اكتساب المعارف والعلوم مجال واسع جدًّا والنصوص فيه بالغة الكثرة، وحسبنا في هذا المقام الإلماح اليسير إلى ذلك.

ومما لا ريب فيه أن الكمال الفكري خير مطلق بحد ذاته، وأن الترقي في مراتب هذا الكمال ترق في مراتب الخير.

فالسلوك الذي يمارسه الإنسان فيقضي به إلى الترقي في مراتب الكمال الفكري عمل من أعمال الخير التي يأمر بها الإسلام.

لذلك فهو أساس من أسس الحضارة الإسلامية.

وأهم المعارف التي تُرقي الإنسان في سلم الكمال الفكري معرفة الله جل

ص: 68

وعلا، ومعرفة صفاته الجليلة، وحكمته العالية، وآثار صنعته الباهرة، ومعرفة تعاليمه المنزلة على رسله.

وتحقيق الارتقاء في سلم الكمال الفكري يكون بالأخذ بأسباب التعلم المختلفة، ومنها تلقي المعارف المستقرة، والبحث العلمي السديد، والملاحظة والاختبار والتجربة.

ويقابل الكمال الفكري النقص الفكري، ويكون هذا النقص بالجهل، وبالهبوط في دركاته، وأحط دركات الجهل منزلة الجهل المركب، وهو الذي يتصور صاحبه فيه الحق باطلًا والباطل حقًّا، ولا غرو أن الجهل البسيط أخف منه.

والجهل البسيط هو عدم المعرفة بالشيء مع الاعتراف بالجهل به، الذي لا يعرف مثلًا ما هو التفاح فإذا سألته عنه قال: لا أعلم، وهو جاهل بسيط، لكن الذي يزعم أن التفاح حيوان بحري ذو خمس أرجل وثلاث أعين هو جاهل مركب.

والذي ينشأ في واد منعزل فيجهل أن لهذا الكون خالقًا هو جاهل بسيط، أما الذي يتصور أن ربه فرعون، أو حيوان من الحيوانات، أو ثالث ثلاثة فهو جاهل مركب.

ثانيًا: الكمال الخلقي

الخلق: صفة مستقرة في النفس فطرية أو مكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة.

والكمال في خلق ما يكون حينما تكون آثار الصفة الخلقية المستقرة في النفس محمودة كلها، أما النقص في خلق ما فيكون حينما تكون آثار الصفة الخلقية المستقرة في النفس مذمومة كلها أو بعضها.

وبملاحظة كون آثار الخلق قابلة للحمد أو الذم يتميز الخلق عن الغريزة

ص: 69

ذات المطالب المكافئة لحاجاتها الفطرية، ذلك لأن الغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك إلا أن هذه الآثار ليست مما يحمد أو يذم، فالأكل عند الجوع بدافع الغريزة ليس مما يحمد أو يذم في باب الأخلاق، لكن الشره الزائد عن حاجات الغريزة العضوية أمر مذموم، فهو أثر لخلق في النفس مذموم، والحذر من وقوع المكروه أثر من أثار غريزة حب البقاء، وليس محلًّا للذم أو المدح في باب الأخلاق، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم.

وهكذا يتميز الخلق عن الغزيرة.

وللكمال الخلقي صور كثيرة، منها الإقرار بالحق، والاعتراف بالجميل، وشكر المنعم وحمده، وحب الخير للآخرين، وكراهية الشر والإضرار والإيذاء، ومنها الإنعام والإحسان والمعاونة إذا كانت في محالها، ومنها الصفح الجميل إذا كان في محله، ومنها حسن ضبط الطبائع والغرائز بقوة الإرادة وتوجيهها لما يتضمن خيرًا، أو ينجم عنه خير.

وقد مجد الإسلام الكمال الخلقي، وحث على مكارم الأخلاق حثًّا شديدًا، ونظرًا إلى شرف منزلة الكمال الخلقي أثنى الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله له في سورة "القلم: 68 مصحف/ 2 نزول":

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} .

وحصر الرسول مهام بعثته بإتمام مكارم الأخلاق فقال:

"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

ولا ريب في أن الكمال الخلقي خير مطلق، وأن الترقي في مراتب هذا الكمال ترق في مراتب الخير، فكل سلوك يمارسه الإنسان فيثمر له ترقيًا في مراتب الكمال الخلقي عمل من أعمال الخير التي يأمر بها الإسلام، لذلك فهو أساس من أسس الحضارة الإسلامية.

وللترقي في سلم الكمال الخلقي وسائل كثيرة:

ص: 70

أ- منها الأخذ بأسباب المعرفة التي تدرك بها الفضائل والرذائل الخلقية، وتعلم بها آثارها المحمودة والمذمومة، وثمراتها العاجلة والآجلة، في الدنيا والآخرة.

ب- ومنها وسائل التربية والتأديب التي يتولاها المربون والمؤدبون العقلاء والحكماء الحازمون.

ج- ومنها التدريب العملي والممارسة التطبيقية، ولو صاحب ذلك تكلف وجهد نفسي أو جسدي.

د- ومنهما الانغماس في البيئات الصالحات، لاكتساب فضائلها، عن طريق السراية والمحاكاة والتقليد.

هـ- ومنها القدوة الحسنة، إذا تيسرت.

إلى غير ذلك من وسائل تربوية نافعة يتفتق عنها الفكر الإنساني بالتأمل، أو يتوصل إليها المربون بالاختبار والتجربة والملاحظة وقياس النتائج.

ويقابل الكمال الخلقي النقص الخلقي، ويكون بالهبوط في دركات الرذيلة الخلقية، وأخس هذه الدركات منزلة جحود الخالق، وكفران نعمه، وإنكار الجميل، ومن النقص الخلقي الشنيع عقوق الوالدين، والرغبة بالظلم والعدوان، والبغي والطغيان، ومن النقص الخلقي الأنانية المتوحشة بكل أنواعها وأشكالها، وهكذا حتى آخر الرذائل الخلقية الشائنة.

ولتمييز الكمال والنقص في جانب الخلق عن سائر أنواع الكمال والنقص في الجوانب الأخرى الفكرية وغيرها نضع مميزات هذا الجانب من غيره بين يدي النظر المتفكر في حقائق الأمور، ومن هذه المميزات ما يلي:

أولًا: كل دافع ذاتي في الإنسان فطري أو مكتسب يدفعه حتى يعترف لغيره بما له من كمال أو حق -ولو كان في ذلك الاعتراف مساس بما يشتهي الإنسان لنفسه من كمال أو مجد أو أي حظ من حظوظ النفس أو الجسد- هو ولا شك مثال من أمثلة الكمال الخلقي.

ص: 71

أما الدوافع التي تدفع الإنسان حتى يجحد ما لغيره من كمال أو حق ابتغاء وجه الشيطان، أو استجابة لما يشتهي لنفسه من كمال أو مجد أو أي حظ من حظوظ النفس أو الجسد، ضمن المؤثرات الأنانية في الإنسان، فهي من أمثلة النقصان، والانحطاط الخلقي.

لذلك فإننا نستطيع أن نعتبر الاعتراف للخالق العظيم بكمال ربوبيته وإلهيته والإذعان لذلك بدافع ذاتي في الإنسان من بدهيات أمثلة الكمال الخلقي فيه، أما الإلحاد به، وجحود ربوبيته وإلهيته بعد قيام الأدلة على ذلك في فكر الإنسان وشعوره فمن أبرز أمثلة النقص الخلقي في الإنسان، ومن أخس مراتبه.

وعلى هذا يدخل في أمثلة الكمال الخلقي الاعتراف للوالدين بفضلهما، والاعتراف للمعلم ولكل ذي فضل بفضله، والاعتراف لكل ذي مزية علمية أو فكرية أو إدارية أو جسدية بمزيته، وعدم غمطه حقه، وكذلك الاعتراف لكل صاحب حق بحقه، مهما كانت العوامل النفسية محرضة على الغمط والجحود، ويدخل في أمثلة النقص الخلقي جحود فضل ذوي الفضل، وإنكار مزايا ذوي المزايا، وغمط الحق لأصحابه، استجابة لدافع من دوافع النفس الأنانية أو لشهوة من شهواتها.

ثانيًا: كل دافع ذاتي في الإنسان فطري أو مكتسب يدفعه حتى يؤدي الحقوق التي عليه كاملة، أو حتى ينعم على غيره بعطاء من علمه أو من قدرته أو من جاهه، أو من ماله متجاوزًا في ذلك عوامل نفسه الأنانية هو ولا شك مثال من أمثلة الكمال الخلقي.

أما الدوافع التي تدفع الإنسان حتى يعتدي على ما ليس له به حق بغية حيازته لنفسه، أو حتى يبخل بعطاء ينفع آخذه ولا يضر باذله، ويبخل بما يدفع الضرورة الملحة عن غيره، مع عدم اضطراره إليه، أو مع عدم حاجته إليه إلا حاجة الاستجابة للطمع أو الشره، وشهوة الاستئثار، أو الاستجابة للرغبة بالاستزادة من الرفاهية المفرطة، فهي من أمثلة النقصان الخلقي.

ثالثًا: كل دافع ذاتي فطري أو مكتسب يدفع الإنسان حين ينظر إلى كل

ص: 72

المنح التي يختص الله بها عباده، ويورعها بينهم، إنما هي مظاهر حكمة الله وعدله، فهو ينظر إلى ما لديه منها بعين القناعة والرضا دون أن تمتد إلى ما وهب الله غيره منها امتداد اعتراض أو حسد، وهو ولا شك مثال من أمثلة الكمال الخلقي.

وعكس ذلك من أمثلة النقص الخلقي في الإنسان.

ثالثًا: الكمال السلوكي

هو طراز راق من السلوك في الحياة، يتمثل بالحكمة في تصريف الأمور، وتكون الحكمة بوضع الأشياء في مواضعها، وإعطاء كل أمر ما يناسبه.

ويقابل هذا الكمال السلوكي النقص السلوكي، ويتمثل بالحماقة في تصريف الأمور، وتكون الحماقة بوضع الأشياء في غير مواضعها.

ويسمى الصاعد في سلم الكمال السلوكي حكيمًا، ويسمى الهابط في درك النقص السلوكي أحمق.

ولهذا الكمال مجالات يبلغ عددها عدد ما في الحياة من أنواع السلوك، ومن هذه المجالات المجالات التربوية، والشخصية، والإدارية والسياسية، والاجتماعية، وغيرها.

ولما كان الكمال السلوكي جزءًا من مفهوم مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره، ترك الشر والعمل على قمعه" الذي هو أساس راسخ من أسس الحضارة الإسلامية وجدنا الإسلام يدفع الإنسان المسلم كيما يرتقي باستمرار في سلم هذا الكمال، وذلك في كل مجال من مجالات الحياة، كما وجدناه يأخذ بيد الإنسان المسلم بعيدًا عن كل حماقة في السلوك، في كل مجالات الحياة أيضًا، وذلك بغية أن يصل به وبالمجتمع الإنساني كله إلى قمة الحضارة الإنسانية المثلى في ميدان السلوك.

وكان دفع الإسلام الإنسان المسلم إلى الكمال السلوكي من عدة طرق:

ص: 73

طرق الدفع إلى الكمال السلوكي:

الطريق الأول: البيان الإجمالي العام.

الطريق الثاني: البيان التفصيلي الشامل لأهم جزئيات السلوك في الحياة.

الطريق الثالث: التدريب العملي الذي يشكل في الفرد المسلم عادة متمكنة فيه على ممارسة السلوك الكامل الحكيم.

الطريق الرابع: القدوة الحسنة التي تضع أمام الإنسان المثال الحي للسلوك الكامل في الحياة.

وفيما يلي تفصيل موجز لهذه الطرق الأربع:

طريق البيان الإجمالي:

جاء في المصادر الإسلامية نصوص متعددة تدفع الإنسان المسلم إلى الكمال السلوكي بصفة مجملة غير مفصلة، فمن ذلك النصوص التالية:

أ- قول الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .

ولدى التبصر نلاحظ أن الحكمة في السلوك ذات وجهين:

1-

وجه في النفس إذ يدرك الحكيم فيها صورة السلوك الأكمل، فتتجه إرادته إلى مباشرته ولو خالف هواه.

2-

ووجه في التطبيق إذ يمارس الحكيم بعمله تلك الصورة الإدراكية الفضلى.

ولا يغيبن عن تصورنا أن القرآن يشير في هذه الآية إلى أن الحكمة في السلوك عنصر من عناصر الخير؛ إذ يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .

ولا يغيبن عن تصورنا أيضًا أن الحكمة في السلوك مسبوقة دائمًا بتدبر

ص: 74

فكري يدرك فيه الحكيم صورة السلوك الأكمل، والآية تنبه على هذا يقول الله عز وجل فيها:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .

ب- وقول الله تعالى في سورة "هود: 11 مصحف/ 52 نزول":

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .

وفي هذه الآية نلاحظ توجيهًا شديدًا للناس أن يتنافسوا في الارتقاء في درجات سلم الأعمال الحسنة، ويتسابقوا إلى نيل الكمال السلوكي في الحياة؛ إذ يجعل الله الغاية من خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان فيها أن يبلو الناس أيهم أحسن عملًا، وكلما زادت نسبة الأعمال الحسنة لدى الإنسان زاد ارتقاؤه في سلم الكمال السلوكي حتمًا.

إلى غير ذلك من نصوص كثيرة:

طريق البيان التفصيلي:

أما البيان التفصيلي لدفع الناس إلى الكمال السلوكي فقد زخرت مصادر الشريعة الإسلامية بالشيء الكثير منه، وقد حدد الإسلام في بياناته التفصيلية المنهج التفصيلي الذي يتناول أهم جزئيات الحياة، وترك مع ذلك للفكر الإنساني المشرق المستنير بنور التعاليم الإسلامية الإجمالية والتفصيلية ما بقي منها، ليستنتج وجه الحكمة فيها بالاستنباط والقياس والبحث والاختبار والتجربة والملاحظة.

فمن بياناته التفصيلية النصوص التالية:

أ- في مجال الدعوة إلى الله قول الله تعالى في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول":

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .

فالإسلام يدعو في هذه الآية إلى اتخاذ الحكمة في الدعوة إلى سبيل الله،

ص: 75

والبعد عن كل حماقة مقترنة بالعنف، والغضب، وسوء التصرف، وارتكاب المنفرات عن طريق الله، ويدعو إلى أخذ الناس بالموعظة الحسنة، لا بالموعظة الفظة الغليظة المنفرة، ويدعو أيضًا إلى المجادلة بالتي هي أحسن.

وكل ذلك من البيانات التفصيلية للكمال السلوكي في مجال الدعوة إلى سبيل الله.

ب- وفي مجال السلوك الشخصي قول الله تعالى في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول":

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .

إن الإسلام يدعو في هذه الآية إلى اتخاذ الحكمة في أنواع من السلوك الشخصي، وقد ذكر هذه الأنواع بشكل مفصل، وحدد صورة الكمال السلوكي فيها فأخذ الزينة عند كل مسجد صورة من صور الكمال السلوكي في الحياة، وهو أمر يدعو إليه الذوق الجمالي الرفيع، ويدعو إليه أيضًا تكريم حاضري المسجد من الناس، وذلك يتجنب ما يؤذي حواسهم من منظر قذر، أو رائحة كريهة.

والاعتدال في الطعام والشراب صورة من صور السلوك الحكيم في الحياة، أما الإسراف المضر فهو ضرب من الحماقة.

ومن أجل ذلك اهتم الإسلام بإدخال هذه الأمور في بياناته التفصيلية للكمال السلوكي.

ج- وفي مجال تثبيت الحقوق المالية جاء الإسلام ببيانات تفصيلية تتضمن توجيه المؤمنين بالإسلام إلى كتابة المداينات، والإشهاد عليها، أو التوتق عن طريق الرهان المقبوضة، وذلك في آية المداينة وما بعدها من آخر سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} . إلى آخر الآيتين "282 و283".

ص: 76

د- وفي مجال الآداب الاجتماعية جاء في الإسلام بيانات تفصيلية كثيرة توجه المسلمين إلى الكمال السلوكي فيها، منها قول الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول":

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

ففي هذا النص طائفة من الآداب الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة، يوجه فيها الإسلام الذين آمنوا إلى بعض ما يجب عليهم أن يتقيدوا به من كمال سلوكي.

إن موضوع هذا النص يدور حول استئذان العبيد والإماء والذين لم يبلغوا الحكم من ساداتهم أو أوليائهم قبل أن يدخلوا عليهم حجراتهم الخاصة، وقد قيد النص وجوب هذا الاستئذان بثلاثة أوقات يكون الناس فيها عدة مشتغلين في شئونهم الخاصة، وغير متحفظين، لذلك فهي ثلاثة أوقات عورات لهم، أما فيما عدا هذه الأوقات فلهم أن يطوفوا دون استئذان خاص.

وهذه الأوقات هي كما في النص:

1-

قبل صلاة الفجر.

2-

عند القيلولة وقت الظهيرة.

3-

بعد صلاة العشاء.

وظاهر أن هذا الحكم خاص بالعبيد والإماء والذين لم يبلغوا الحلم، أما الآخرون فيجب عليهم الاستئذان في كل الأوقات، ما لم تكن الأبواب مفتحة، أو الإذن معلومًا مما سبق.

هـ- ومن بيانات الإسلام التفصيلية التي تتناول جزئيات كثيرات من أنواع السلوك الإنساني سبع عشرة آية من سورة "الإسراء" مختومة بقوله تعالى

ص: 77

لرسول: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} إشارة إلى أن ما أرشد إليه القرآن من صور السلوك الإنساني في هذه الآيات إنما هو من الحكمة التي هي حسن التصرف في الأمور، ووضع الأشياء في مواضعها الملائمة لها، والتي يرتقي بها الإنسان في سلم الكمال السلوكي، متوجهًا إلى قمة الحضارة الإنسانية المثلى، فقال الله عز وجل في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} .

ففي هذا النص من الشمول لجزئيات كثيرات من أنواع السلوك التي أرشد الله عز وجل فيها إلى وجه الحكمة، ما يعطي صورة رائعة لاهتمام الإسلام بدفع الإنسان إلى الكمال السلوكي، في كل تصرف يمارسه في حياته.

ص: 78

1-

فالعبادة التي هي لون من ألوان السلوك في الحياة يجب أن تكون لله وحده.

2-

وحق الوالدين من السلوك هو الإحسان لهما، وخفض جناح الذل لهما من الرحمة، والدعاء لهما.

3-

وحق ذي القربى والمسكين وابن السبيل من السلوك هو إيتاؤهم والإحسان إليهم.

4-

والحكمة في جانب التصرف بالأموال التوسط الذي لا إمساك فيه ولا تبذير.

5-

والحكمة في حالة الإعراض عن بذل الصدقة، لعدم وجود ما يَجُود به الإنسان، تكون بمواجهة ذوي الحاجة بالقول الميسور.

6-

ومن أمثلة الحكمة في السلوك رعاية حق الأولاد في الحياة، وعدم قتلهم خشية الفقر.

7-

ولما كان من أنواع سلوك الإنسان في حياته تلبية مطالبه الجنسية، كان من الحكمة في السلوك أن لا يتم ذلك عن طريق الزنا، بل عن طريق ما شرع الله.

8-

وهكذا تمضي الآيات فتنهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وتنهى عن الإسراف في الانتقام، وتنهى عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وتأمر بالوفاء بالعهد، وتأمر بإيفاء الكيل، والوزن بالقسطاس، وتنهى عن إتباع ما ليس للإنسان به علم، وتنهى عن الكبر والعجب والاختيال.

وما أمر الله به من ذلك إنما هو من أوجه الحكمة في السلوك، ولذلك أمر الله به، وما نهى الله عنه إنما هو من أوجه الحماقة في السلوك، ولذلك نهى الله عنه.

وأخيرًا يقول الله تعالى بعد تحديد أوجه الحكمة فيما سبق من جزئيات السلوك في الحياة:

ص: 79

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} .

وعلى مثل هذه الصور الراقية تمر البيانات التفصيلية في القرآن والسنة، محددة صورة السلوك الأكمل، أخذًا بيد الإنسان إلى قمة الكمال السلوكي المنشود، في أسس الحضارة الإسلامية.

طريق التدريب العلمي:

التدريب العملي طريق من طرق التقويم السلوكي؛ إذ يشكل في الإنسان ذكرًا كان أم أنثى صغيرًا أم كبيرًا عادة متمكنة فيه تدفعه باستمرار إلى ممارسة ما تدرب عليه.

ومن أجل ذلك استخدمه الإسلام في تكوين صور السلوك الكامل الحكيم لدى المسلمين.

ونلاحظ هذا التدريب العملي ظاهرًا فيما أوجده الإسلام داخل المجتمع المسلم من أعمال جماعية في مجالات العبادات الدينية، والعلاقات الاجتماعية والنظم المختلفة السلمية والحربية.

والطابع الجماعي لهذه الأعمال يضع كل فرد ينخرط في سلك هذه البيئة الجماعية للمسلمين ضمن آلة متحركة عامة، تقسر كل فرد فيها على أن يتقبل التدريبات العملية التي تمارسها الجماعة بشكل عام.

ويساعد على ذلك الوازع الديني، الذي يحرك الفرد من داخله للاستجابة للقيام بهذه الأعمال، وبالتكرار ومرور الزمن تصبح هذه التدريبات جزءًا من عادات الفرد المتمكنة فيه، ذات الجذور العميقة في قرارة نفسه.

ولما كان منهج الإسلام الذي حدده الله لسلوك الفرد المسلم، والجماعة المسلمة ملتزمًا جانب الكمال والحكمة الرفيعة في كل أمر، كان تأصيل هذه الصور من السلوك في عادات الإنسان عن طريق التدريب العملي، من أقوم الطرق وأخصرها، لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي، والحضارة الإنسانية المثلى.

ص: 80

فالإنسان الذي ينخرط في بيئة تدربه على النظام الكامل حينما يقوم بعادته لربه في الصلاة وبخاصة صلاة الجماعة يسهل عليه أن يتلقى تعليمات تنظيمية في مختلف أنواع السلوك في الحياة.

والإنسان الذي يجد نفسه في بيئة لهجتها الصدق، وخلقها الأمانة والوفاء بالعهد، والصدق بالوعد، يصعب عليه جدًّا أن يخرج على هذا الأسلوب من السلوك في الحياة، وإن كانت نفسه نزاعة إلى ذلك، ثم متى طال عليه العهد وهو ملتزم بما تمليه عليه البيئة وجد هذه الصفات الكريمات ذات جذور متغلغلة في أعماق نفسه، وأصبح يحس بنفرة شديدة من أضدادها، فلو حلا له أن يكذب لم يطاوعه خلقه المكتسب على ذلك، ولو بدا له أن يخون تلجلج واضطرب وفر من نزعات نفسه ونزعات شيطانه، وابتعد عن طريق الخيانة، وهكذا في كل ما اكتسبه بالتدريب العملي والتخلق طويلي الأمد، ضمن البيئة الخيرة التي لفته في دوامتها.

فمن خطوات الإصلاح التي أخذ بها الإسلام تكوين المجتمع الإسلامي المثالي الأول، الذي يملي على كل من ينشأ أو يندمج فيه صور الكمال السلوكي في كل مجال من مجالات الحياة.

ومن أجل ذلك حرص الإسلام الحرص البالغ على إيجاد المناسبات المتكررات التي يجتمع فيها المسلمون على سلوك واحد، الأمر الذي من شأنه أن يملي صور السلوك العملي الكريم على الأفراد، ويدربهم على كل فضيلة نفسية وعملية، ويشجع المتنافسين في الخيرات على تنمية أمثلة الكمال السلوكي في المجتمع، وترقية مظاهر الحكمة في السلوك.

بخلاف المجتمعات المنحرفة فإنها تؤدي هذا الدور نفسه، ولكن في اتجاه معاكس؛ إذ تعمل على تدريب من ينخرط فيها على كل رذيلة من الرذائل السلوكية وكل قبيحة من القبائح المنتشرة فيها، كما تكون بؤرة ملائمة لتزايد الحماقات السلوكية، حتى تفسد المفاهيم العامة، فتمسي مآثر الأفراد فيها ما أصابوه من جرائم وسيئات وانحرافات في السلوك.

ص: 81

ومجتمع من هذا النوع لا بد أن يقدم للناس نموذجًا فريدًا من الهمجية، والتخلف الحضاري، وهذا ما يقاومه الإسلام أشد مقاومة؛ لأنه لا يرضى للناس إلا أمثلة الرقي والتقدم الحضاريين في كل ميدان من ميادين الحياة.

طريق القدوة الحسنة:

ولما كانت القدورة الحسنة طريقًا من طرق اكتساب أنواع الفضائل والكمالات السلوكية في الواقع الإنساني، كان من شأن الإسلام أن يتخذها وسيلة من وسائله، لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي.

والقدوة الحسنة هي المثال الحي للسلوك الأمثل في الحياة.

ولقد جعل الله للناس رسوله محمدًا صلوات الله عليه خير قدوة يقتدي بها الأفراد العاديون والأفراد الطامحون لبلوغ الكمال الإنساني في السلوك، وجعل الذين آمنوا معه وصدقوا وأخلصوا واستقاموا أمثلة رائعة يُقتدى بها في كل عمل كريم من أعمال الخير والبر والجهاد والبذل والتضحية والفداء والتواد والتراحم والتحابب والإخاء والانتظام في الأعمال الجماعية والتسابق في الخيرات، وهكذا إلى آخر جدول الفضائل السلوكية في الحياة.

ولئن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه فإن سيرته التي تحتوي على جزئيات سلوكه ماثلة لنا، فيما أثر عنه صلوات الله عليه، من قول أو فعل أو صفة أو إقرار.

وفيما بلغنا من تراجم أصحابه رضوان الله عليهم ما يكفي لتجسد القدوة الحسنة للمجتمع المسلم، ثم إن كل عصر بعدهم لا يخلو من وجود طائقة من أمة محمد -قلت هذه الطائفة أم كثرت- تصلح لأن تكون قدوة حسنة في عصرها، فقد بشر رسول الله صلوات الله عليه بذلك في قوله:

$"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".

ولقد أرشد القرآن الكريم إلى أهمية القدوة الحسنة، لما لها من أثر في تقويم السلوك ونبهنا عليها، وعرض علينا كثيرًا من أمثلة التربية الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم

ص: 82

عن طريق تنبيه الله ورسوله على نماذج القدوة الحسنة فيمن سبقه من المرسلين، وفيما يلي أمثله من ذلك:

أ- خاطب الله الناس بقوله في سورة "الأحزاب: 33 مصحف/ 90 نزول": {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .

ففي هذا النص القرآني إرشاد عظيم من الله للمؤمنين أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لهم، يقتدون به في أعماله، وأقواله، وأخلاقه، وكل جزئيات سلوكه في الحياة، لما للقدوة الحسنة من أثر في النفس يشجع على ارتقاء درجات الكمال المكتسب بالعمل والاجتهاد.

ب- وخاطب الله رسوله محمدًا بعد ذكر طائفة من الرسل بقوله في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .

وهكذا كان يقول الرسل السابقون لأقوامهم، وبما كانوا يقولون يأمر الله رسوله محمد صلوات الله عليه أن يقول.

وحينما اشتدت صنوف الأذى على الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه خاطبه الله بقوله في سورة "الأحقاف: 46 مصحف/ 66 نزول":

{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي ولا تستعجل لهم العذاب.

ج- وخاطب الله رسوله والمؤمنين معًا بقوله في سورة "الممتحنة: 60 مصحف/ 91 نزول":

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا

ص: 83

وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .

ففي هذا النص إرشاد من الله للرسول والمؤمنين أن يتخذوا إبراهيم والذين آمنوا معه أسوة لهم في التبرؤ ممن كفر بالله، وفي معاداة من حاد الله، وإعلان بغضهم في الله حتى يؤمنوا، واستثنى الله من هذه الأسوة تعهد إبراهيم لأبيه الكافر بأن يستغفر له، فلم يأذن الله بمثل ذلك.

أسباب تأثير القدوة:

وإنما كان للقدوة الحسنة أثرها الفعال في تقويم السلوك للأسباب التالية:

السبب الأول: أن في فطرة الإنسان ميلًا قويًّا للمحاكاة والتقليد، الأمر الذي يسهل عليه عملية تعلم الأعمال الراقية، التي لم تصل إلى معرفتها الأجيال السابقة إلا بعد تطوير كثير، اعتمد على الاختبار والتجربة والتحسين واختيار الأفضل.

السبب الثاني: أن المثال الحي الذي يتحلى بجملة من الفضائل السلوكية يعطي غيره قناعة بأن بلوغها من الأمور التي هي في متناول القدرات الإنسانية، فمما نشهده في مجال التربية أن كثيرًا من الناس يرون بعض الأمور مستحيلة الوقوع؛ لأنهم لم يعالجوا قدراتهم للقيام بها، فإذا شاهدوا غيرهم يفعلها أخذوا يطوعون قذراتهم حتى يكسبوها المهارات المطلوبة لذلك العمل، بالمعالجة والمحاكاة والتدريب.

السبب الثالث: إن المثال الحي المرتقي في درجات الكمال السلوكي يثير في الأنفس الاستحسان والإعجاب، ومع هذين الأمرين تتهيج دوافع الغيرة فيها، وعند ذلك يحاول الإنسان الخير تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما يتولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة المجد التي سبقه إليها.

رابعًا: الكمال الإبداعي

لقد أودع الله في الإنسان قدرات يستطيع بها عن طريق التأمل الفكري

ص: 84

والتخيل من جهة، وعن طريق الاختيار والتجربة والملاحظة من جهة أخرى، أن يبتكر من المواد المنبثة في الوجود صورًا جديدة، ومصنوعات جديدة ذوات فائدة ونفع، أو ذوات متعة وجمال.

فما ينجزه من ذلك نستطيع أن نعتبره بحسب مقاييس الأعراف الإنسانية عملًا إبداعيًّا ابتكاريًّا، وإن كان الإبداع فيه للهيئة التركيبية فقط، لا للمادة؛ لأن المادة جاهزة في الوجود بمحض خلق الله، لم تتوسط في إبداعها القدرات البشرية، ولا تستطيع القدرات البشرية أن تبدع فيها شيئًا مهما بلغت.

وبعد هذا نستطيع أن نقول: إن من العناصر الأولى الدافعة للترقي في سلم الكمال الإبداعي ما يلي:

1-

الرغبة بالابتكار والتحسين والإتقان في مظاهر الوجوه، وفي وسائل العيش، وفي فنون التعبير عن المشاعر النفسية، مع حس راق بالجمال.

2-

ما لدى الإنسان من قدرات فكرية وتخيلية وعملية يستطيع بها أن يبتكر ويحسن ويتقن، أو يعبر عن مشاعره النفسية بما يبتكر من أقوال أو حركات أو أعمال جميلة تنم عن ذوق رفيع، وذكاء بديع.

ولا ريب في أن الكمال الإبداعي خير بحد ذاته، ما لم ينجم عنه شر بسبب من الأسباب المرافقة له، كسوء استعمال، أو مخالفة لمحظور ديني حرمه الله، لما يترتب عليه من إخلال بالعقيدة، أو فتنة في السلوك، تفضي إلى الانحراف عن طريق الخير.

وقد شجع الإسلام على الترقي في سلم الكمال الإبداعي، ولم يمنع منه إلا ما غلبت فيه دواعي الفتنة في الدين، عقيدة أو سلوكًا، أو كان في معظم أحواله ذريعة لنشر الفساد في الأرض.

ومن أمثلة ذلك تحريم الإسلام تحت الأوثان، وصنع التماثيل، وإبراز المرأة فنون زينتها لغير من تحل له، ممن يغلب في معتاد الناس بحسب غرائزهم افتتانه بها.

ص: 85

أما اختراع وابتكار وتحسين الوسائل التي تيسر أعمال الناس في حياتهم، وكذلك اختراع وابتكار وتحسين الأشكال والألوان وسائر أنواع الفنون الجميلة التي تمتع النفس والحس مما لا تأثير له على عقيدة أو سلوك تأثيرًا يفضي إلى الشر ومعصية الله، فكل ذلك مجالات واسعات منفتحات أمام الإنسان المسلم، يسابق فيها على مقدار استطاعته الإنسانية، وعلى مقدار ما لديه من خيال خصيب، واختيار وتجربة وملاحظة وتقويم.

والإنسان المسلم يجد لديه ميدانًا واسعًا لتحسين وسائل النقل البري والبحري والجوي، على مقدار حيلته في التصرف بالقوى الكمينة فيما خلق الله من شيء في الأرض وفي السماء، مع تزويدها بكل ما فيه أمن وراحة ومتعة للإنسان، ضمن الحدود التي لا إثم فيها ولا شر، ولا معصية لله.

والإنسان المسلم يجد أمامه أيضًا ميادين واسعة للإبداع والابتكار والتحسين، في مجالات العلوم الطبية والكيميائية والفيزيائية والحسابية والهندسية والزراعية، المصحوبة بالتطبيق وبالانتفاع، مما تهدي إليه النتائج العملية، مع الالتزام في كل ذلك بالبعد عن الشر والإثم والمعصية، والبغي والعدوان والظلم.

والإنسان المسلم يجد أمامه أيضًا ميدانًا واسعًا لتحسين العمران وتزيينه بالأشكال والفنون الهندسية، وفرشه بما ييسر الله للإنسان من أثاث ورياش، وإحاطته بكل ممتع مما خلق الله في أرضه من شجر وثمر ورياحين وزهور، وطير غريد، وغدير طريد، وحيوان أليف أو شرود، مع إبداع في التنسيق والتوزيع، والعرض والتصنيع، وانتقاء كل آسر للنفس والحس مما تجود به الأرض والسماء، أو يفيض به خيال النبغاء، أو توحي بمحاكاته كل حديقة غناء.

وأحبب بكل تقدم حضاري يعمر الأرض ويزينها على ما يرضي الله، والشروط التي يشترطها الإسلام للتقدم في مجالات الكمال الإبداعي تتلخص بما يلي:

أولًا: البعد عن الشر والإثم والمعصية

ص: 86

ثانيًا: البعد عما حرمه الإسلام لما يتضمن من دواعي الفتنة في الدين عقيدة أو سلوكًا.

ثالثًا: وجوب الاحتفاظ بالتوزيع العام للزمن على واجبات الحياة الدينية والدنيوية، فكل تقدم مادي يكون على حساب نهب الحصص الزمنية المستحقة لأداء الواجبات الدينية عمل منهي عنه، لا لذاته، ولكن لما رافقه من الاستيلاء على حصص الواجبات الأخرى من الزمن.

ويقابل الكمال الإبداعي النقص في هذا المجال، ومن أسبابه التواني والكسل، وعدم المبالاة بالتحسين، وقصور النظر، والرضا بأيسر الوسائل، المهيأة في الطبيعة، مما لا يتطلب جهدًا فكريًّا، أو جهدًا عمليًّا.

ومن لوازم هذا النقص التخلف في مظاهر التقدم الصحي، والعمراني، والزراعي، والصناعي، والفني، من الناحيتين العلمية والعملية، ومن لوازمه أيضًا تراكب أسباب الفقر والحاجة ونمو عواملهما.

خامسًا: كمال التعايش الجماعي

ويقصد بالتعايش الجماعي الصورة العامة التي يعطيها مجتمع من المجتمعات الإنسانية، عن العلاقات المختلفة السائدة بين أفراده.

ولا بد هنا من أن نلاحظ أن من عناصر كمال التعايش الجماعي سيادة العدل والنظام والرخاء، والأمن والطمأنينة والمحبة والإخاء.

وأن من عناصره أيضا كفالة ذوي الضرورات والحاجات، والتعاون بين أفراد المجتمع، لتحقيق الكمالات المختلفات، ولتحقيق حاجات الشركاء في ظروف الحياة الاجتماعية، سواء كانت هذه الحاجات حاجات جسدية أم نفسية، مادية أم معنوية، والعمل على توفير أسباب السعادة والرفاهية والهناء لكل فرد من أفراد الجماعة.

ص: 87

ومن الوسائل لتحقيق هذا الكمال الوسائل التالية:

الوسيلة الأولى: بذل كل قادر على العمل نصيبه من الجهد، إسهامًا منه في بناء كمال التعايش الجماعي، وقد أمر الإسلام بالعمل كل قادر عليه ضمن نظام شامل.

الوسيلة الثانية: رضا كل فرد بحقه والتزامه بحق الآخرين عليه.

الوسيلة الثالثة: التنسيق والتوفيق بين حركات العمل الجماعي العام، ضمن نظام شامل، يحمي من التجاوز والتصادم والفوضى والإهمال والتقصير.

وقد وضع الإسلام للقواعد العامة كثيرًا من التفصيلات الجزئية التي تحتوي على الأسباب والشروط الهامة، الكفيلة بترقية المجتمعات الإنسانية في درجات كمال التعايش الجماعي، وحث المسلمين على متابعة تنظيم المجتمعات الإنسانية، والعمل على ترقيتها، والصعود بها في سلم الحضارة الفضلى، وكلف أولي الأمر وضع الخطط اللازمة لتحقيق الترقي الممكن في هذا الكمال، والعمل على ذلك.

ويقابل كمال التعايش الجماعي النقص في هذا المجال، ومن مظاهر هذا النقص سيادة الظلم والفوضى، والتعادي والتباغض، والخوف والقلق والإضراب، وتناهب الحظوظ، وعدوان الناس بعضهم على بعض، وعدم الرضا بالحق، ومن مظاهره أيضًا كثرة عدد البؤساء، وذوي الحاجات، وانتشار الفقر والجهل والمرض، وكثرة الآلم، ونمو الأنانيات المختلفات، ونحو ذلك من السيئات الاجتماعية.

وقد نهى الإسلام نهيًا شديدًا عن كل ما فيه ضرر بالجماعة، وإخلال بالنظام العام، وعدوان على الحقوق، وإفساد في الأرض، ونهى عن كل ما يقضي إلى النقص والتخلف في مجال التعايش الجماعي الأفضل.

وهذه النظرة الجماعية ظاهرة في نصوص الإسلام، في كل مجال من مجالات الحياة، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف 92 نزول":

ص: 88

{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} .

السفهاء: هم ناقصو العقل الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم.

أي لا تسلموا السفهاء أموالهم. ولكن ليكن من عقلائكم أولياء عليهم يرزقونهم ويكسونهم في هذه الأموال، ويقومون على حفظها من الضياع والتبذير.

وهذا الخطاب لجماعة المسلمين عامة، ويمثلهم في ذلك القضاء الإسلامي القويم.

ونلاحظ في هذا النص أن الله تعالى أطلق على الأموال التي هي أموال السفهاء بالملك الشخصي، أطلق عليها أنها أموال جماعة المسلمين عامة، فقال:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} وذلك نظرًا إلى أن تبديد الفرد أموال نفسه الخاصة يؤثر على مصلحة المسلمين عامة؛ لأنه أمر يضعف الكيان المالي العام، وهو ما يسمى في مصطلحات العصر الحديثة "الثروة العامة" أو "الثروة القومية".

وفي هذا النص أيضًا بيان للحكمة من النهي، وهي أن الأموال وإن كانت ملكًا للأفراد هي في الوقت نفسه قيام للجماعة؛ نظرًا إلى الأثر الذي تحمله للجماعة، ونظرًا إلى أن ضرورات المصلحة العامة قد تقضي بالاستفادة منها بالعدل، عن طريق البذل الطوعي، أو عن طريق الضرائب العادلة التي يأمر بها الحاكم المسلم.

ومما شرعه الإسلام لما له من أثر في تحقيق كمال التعايش الجماعي تحريم أكل أموال الناس بالباطل، كالسرقة والسلب والنهب والغش والربا والرشوة، وتحريم الظلم والعدوان بكل أنواعهما وصورهما، كقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والجور في الحكم، والسب والشتم والتعيير والتنقيص والتنابز بالألقاب والقذف ونحو ذلك.

ومنها أيضًا الأمر بصلة الرحم والإحسان إلى الجار، والحض على التهادي

ص: 89

والتزاور والقرض الحسن، والتآخي والتحاسب في الله ونحو ذلك مما له أثر في ترابط الجماعة، وتعايشها على أكمل صورة مسعدة لأفرادها.

وهكذا دفع الإسلام المسلمين إلى بلوغ كمال التعايش الجماعي واختلال قمة الحضارة المثلى.

تلخيص عام:

بهذا البيان الذي حاولنا فيه إلقاء الأضواء المناسبة على مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه" أحد الأسس الراسخة للحضارة الإسلامية يتضح لدينا الملخص التالي:

أولًا: إن الخير والشر اللذين يترتب على فعلهما مدح وثواب أو ذم وعقاب محدودان بحدود العمل الإنساني، المصحوب بإرادة الفاعل وعلمه.

ثانيًا: إن أبرز الخصائص لكل من فعل الخير وفعل الشر ما في أنفس فاعليهما من إرادة تصميم على فعل الخير حبًّا بالخير وطاعة لله، أو فعل الشر تلبية لهوى من أهواء النفس، أو نزوة من نزواتها مع العلم بأنه شر.

ثالثًا: يدخل في مفهوم الخير ما يلي

أ- كل عمل يحقق رضوان الله وثوابه.

ب- كل عمل يكون وسيلة للترقي في مراتب أحد الكمالات التاليات:

الكمال الفكري - الكمال الخلقي - الكمال السلوكي - الكمال الإبداعي - كمال التعايش الجماعي.

ج- كل عمل يكون وسيلة لتحقيق ما يلي:

- اللذات التي لا ضرر فيها ولا عدوان على حدود الله.

- المنافع التي لا مضار فيها مساوية لها أو راجحة عليها.

- المصالح التي لا مفاسد فيها مساوية لها أو راجحة عليها.

ص: 90

رابعًا: يدخل في مفهوم الشر ما يلي

أ- كل عمل يؤدي إلى سخط الله وعقابه.

ب- كل عمل يكون وسيلة للهبوط في دركات النقص المقابل للكمالات السابقات.

ج- كل عمل يكون وسيلة للسيئات التاليات:

- الآلام التي لا طاعة لله فيها ولا منافع أو مصالح تُرجى عن طريقها وهي راجحة عليها، ولا سبيل لتحقيقها إلا بتحمل هذه الآلام.

- المضار التي لا تتضمن منافع راجحة عليها، ولا سبيل لتحقيق هذه المنافع الراجحة إلا بارتكابها.

- المفاسد التي لا تتضمن مصالح راجحة عليها، ولا سبيل لتحقيق هذه المصالح الراجحة إلا بارتكابها.

خامسًا: لدى تساوي المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، واللذات والآلام، يرجع إحالة العمل المفضي إلى ذلك على جانب الشر، فيمنع الإنسان من ممارسته، صيانة له من العبث، والتزامًا بقاعدة:"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح المساوية لها".

سادسًا: متى أمكن تحقيق المقصود من المنافع أو المصالح أو اللذات بطريق خال من المضار والمفاسد والآلام امتنع سلوك طريق آخر فيه شيء من ذلك، ولو كان دون ما يتحقق به من خير مقصود، وذلك لأن الحاجة أو الضرورة لم تلجئ إلى تحمل هذه المؤذيات، ولو كانت خفيفة، ما دام بالإمكان تحقيق المطلوب دون تحمل شيء منها، وذلك باختيار طريق آخر.

سابعًا: إن نظرة الإسلام إلى مفهوم الخير والشر تشمل في وقت واحد، ضمن ميزان دقيق حساس اللذات والآلام، والمنافع والمضار، والمصالح والمفاسد، الفردية والاجتماعية، العاجلة والآجلة، الدنيوية والأخروية، كما تشمل مع كل ذلك علاقة الإنسان بربه، وتزن أعمال الإنسان بهذا الميزان الحساس، المتعدد الكفات، وتجري عليها حسابًا عادلًا ضمن معادلات رياضية

ص: 91

عالية، فتعطي قيمة العمل الإنساني، من الخير والشر، بما تعطيه له من حكم شرعي.

خاتمة:

ليس غريبًا أن تكون نظرة الإسلام عامة شاملة لكل ما في الوجود الإنساني وغيره، وعامة شاملة لكل الاحتمالات الممكنة في مجال العمل الإرادي للإنسان، مع تقدير قيمة كل منها بميزان محكم، الأمر الذي نتج عنه تحديد شامل ودقيق لمعنى كل من الخير والشر، تحديدًا كليًّا، وتحديدًا تفصيليًّا يتناول كل جزئية من جزئيات العمل الإرادي للإنسان.

ليس غريبًا أن تكون نظرة الإسلام بهذا الشكل الرائع من الشمول، فالإسلام تنزيل من لدن خالق عليم حكيم، قال الله تعالى في سورة "الملك: 67 مصحف/ 77 نزول":

{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .

والعالم بمن خلق، وبما خلق فيه، وبما خلق له، وبما أحاطه من أشياء أعلم بما يصلحه وما يفسده، وبما ينفعه وما يضره، وبما يمتعه وما يؤلمه، وبما هو خير له من كل ذلك، وبما هو له شر؛ لأن علمه سبحانه محيط بكل شيء، ولن ترقى المدارك الإنسانية إلى هذا المقدار من الشمول، في الزمان والمكان والأشخاص، فحري بالإنسان أن يقف موقف الاستسلام لحدود الخير والشر التي حدها الله له، ولا يمنعه ذلك من أن يتابع بحثه وتأملاته في دقائق الأمور الفلسفية التي قامت عليها الأحكام الإسلامية، وفي أسرار الحكم الربانية التي تضمنتها هذه الأحكام، فالتسليم ميزة القلب المؤمن، والبحث العلمي ميزة العقل المفكر.

وهكذا تتربع الفلسفة الإسلامية على ذروة المجد العظيم، ومع ذلك يقف أعداؤها في المنحدرات، فيقذفونها بالحصى والصخور التي لا تلبث أن تريد على رءوسهم، ثم يظلون هم وقذائفهم في المنحدرات، ويظل الإسلام في قمة المجد.

ص: 92