الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هو طرف من التخريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية، وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر "بيكون" قد انتشر انتشارًا واسعًا، وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوروبا".
من أين استقى "روجر بيكون" ما حصله من العلوم؟ من الجامعات الإسلامية في الأندلس. والقسم الخامس من كتابه الذي خصصه للبحث في البصريات هو في حقيقة الأمر نسخة من كتاب "المناظر""لابن الهيثم".
ولا بد أن نلاحظ أنه حينما يطلق المؤرخون والباحثون الغربيون ومن درج على طريقتهم كلمة "عرب" فإنهما يريدون بها المسلمين، سواء كانوا عربًا أم غير عرب.
وجدير بنا أن نعرف أن سر هذا التقدم الحضاري السريع الذي أحرزه المسلمون في القرون الأولى إنما يرجع إلى إدراكهم السليم الشامل لأسس الحضارة الإسلامية.
ب-
انفتاح الحدود النفسية:
يتمثل انفتاح الحدود النفسية في أسس الحضارة الإسلامية بأن رسالة هذه الحضارة ليست حكرًا على قوم، ولا خاصة بأمة، ولا منحصرة في زمن، لذلك فهي تقاوم كل ضيق نفسي ينبع من منابع الأنانية، التي تتحكم بنفوس كثير من الناس، فتقف بهم عند حدود قبائلهم أو شعوبهم أو أقوامهم أو أممهم، وتوجه أسسهم ومبادئهم وأعمالهم لما يخدم مواقعهم الضيقة، ويعالج مشكلاتها.
ولانفتاح الحدود النفسية في رسالة الحضارة الإسلامية ظواهر كثيرة، منها الظواهر التالية:
الظاهرة الأولى: عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
الظاهرة الثانية: إرادة الخير والسعادة للناس جميعًا.
الظاهرة الثالثة: التسوية بين الناس في أصل الإنسانية.
الظاهرة الرابعة: الأخوة الإيمانية.
الظاهرة الخامسة: مراعاة الفطرة الإنسانية بوجه عام في أسس الشريعة الإسلامية.
الظاهرة السادسة: مراعاة العدل بين الناس.
ويقتضينا البحث أن نعالج هذه الظواهر بشيء من البيان والتفصيل المدعم بالأدلة والنصوص الإسلامية، وفيما يلي شرح هذه الظواهر.
شرح الظاهرة الأولى: عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
تجلت عالمية رسالة الحضارة الإسلامية من منطلقاتها الأولى التي حددت الهدف من رسالة محمد صلوات الله عليه، وحددت مهمات هذه الرسالة.
فهدف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون رحمة للعالمين كل العالمين، فمن تعليمات هذه الرسالة أن يبلغ الناس جميعًا، ويعلمهم على سواء، بما أمره الله بتبليغه وإعلامه، دون تمييز ولا تخصيص، قال الله تعالى مخاطبًا رسوله في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول" وهي من السور المكية:
وقال الله تعالى في سورة "سبأ: 34 مصحف/ 58 نزول" وهي من السور المكية أيضًا:
ففي هذا البيان القرآني تحديد تام للهدف من رسالة محمد صلوات الله عليه، وبيان واضح لمسئولية التبليغ والإعلام الملقاة على عاتقه.
أليس في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} تحديد للهدف من رسالة محمد؟ إنها رسالة غايتها أن تكون رحمة للناس جميعًا، وليست رسالة خاصة بقوم، أو بعنصر، أو بفئة، أو بطبقة من العالمين.
وقد جاءت الآية في سورة "سبأ":
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس} مؤكدة هذه الحقيقة من حقائق هذه الرسالة الإسلامية.
ولما كانت هذه الرسالة ذات هدف عالمي شامل كان الرسول صلوات الله عليه مأمورًا بأن يخاطب بها الناس على وجه العموم، دون تفريق بين قوم وقوم، ولا بين فئة وأخرى، فكل من بلغته دعوته فهو داخل في عموم خطابه، ولا يستثنى من ذلك شاهد ولا غائب، سواء عاصر رسالته، أم جاء بعدها، وسواء نطق بلغته أم لم ينطق بها، ولكن ترجمت له. وإعلانًا عن ذلك قال الله له في سورة "الأنبياء":
وذلك عقب قوله له:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي فقل للعالمين، إنما يوحى إلي إنما إلهكم أيها العالمون إله واحد، وأنتم جميعًا مدعوون إلى الإسلام، فهل أنتم مسلمون؟ فإن تولوا مدبرين فقل لهم: آذنتكم -أي أعلمتكم- على سواء، دون تفريق بين عربكم وعجمكم وأبيضكم وأسودكم وسائر ألوانكم وأجناسكم، ودون تفريق بين ذكوركم وإناثكم، ولا بين سادتكم وعبيدكم، ولا بين أغنيائكم وفقرائكم، فكلكم تجاه هذه الرسالة الربانية على صعيد سواء.
وإعلانًا عن ذلك أيضًا قال الله له في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول".
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .
ثم يأتي قوله تعالى في أول سورة "الفرقان: 25 مصحف/ 42 نزول" وهي من السور المكية:
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} معلنًا ومؤكدًا حقيقة عالمية رسالة الإسلام في مهمة كتابها، ومهمة رسولها، وهما أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر.
وإعلانًا عن رسالة القرآن العالمية قال الله تعالى في سورة "القلم: 68 مصحف/ 2 نزول" وهي من أوائل السور المكية:
{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} .
وقال في سورة "التكوير: 81 مصحف/ 7 نزول" وهي من أوائل السور المكية:
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .
ومن أجل ذلك كانت رسالة الحضارة الإسلامية رسالة يشترك في تحقيقها العملي، وبنائها التطبيقي كل من استجاب لها من كل عرق ولون ولغة.
فجدير بكل مسلم أن يفخر بتاج المجد الذي صنعه بناتها الصادقون من المسلمين، في كل بلد من بلاد الإسلام، في سالف العصور الإسلامية، التي استجابت للإسلام، وأحسنت تطبيق تعالميه، ومما لا ريب فيه أن المسلمين من العرب قد كانوا قادة الفتح الحضاري الظافر، الذي أحرزته الأمة الإسلامية جميعًا، ونعمت بخيراته، إلى أن سرى فيها داء الضعف والوهن والتخاذل، واتباع الشهوات، والانصراف عن متابعة أعمال الفتح الحضاري، في كل مجال من المجالات المادية والمعنوية.
شرح الظاهرة الثانية: إرادة الخير والسعادة للناس جميعًا
حينما يحمل المسملون رسالة الإسلام الحضارية للناس جميعًا فإنما يحدوهم إلى ذلك ما عرست مبادئ الإسلام في قلوبهم من حب الخير للناس جميعًا، والرغبة الملحة بأن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ويدفعوهم
إلى معارج المجد الإنساني، ويأخذوا بأيديهم إلى القمم الحضارية الراقية، والرغبة الملحة أيضًا بأن يذوق الناس معهم ما ذاقوا من إيمان منح قلوبهم الطمأنينة والسعادة والرضا، وبأن يشاركوهم في اقتباس العلوم الدينية، والمعارف الأخلاقية، وطرق تنظيم الحياة، ليطبقوها فيسعدوا بها، وبأن تسيروا معهم متعاونين متآزرين متآخين، لتحقيق أكبر مقدار ممكن من التقدم الحضاري الذي حضهم الإسلام عليه في مختلف المجالات الإنسانية، الفكرية والنفسية والسلوكية والمادية.
فالأخوة الإنسانية التي أعلنها القرآن الكريم بقول الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
والتي أعلنها الرسول صلوات الله عليه بقوله:
"كلكم لآدم وآدم من تراب".
تستدعي أن يحب الإنسان لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه، ويتجلى ذلك واضحًا في قلوب المؤمنين التي تمكن منها قول الرسول صلوات الله عليه:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وقوله صلوات الله عليه:
"لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت".
والمسلم الفاهم لإسلامه قد أحب لنفسه الإيمان، والالتزام بتعاليم الإسلام، رغبة بتحصيل رضوان الله، وخير الدنيا وسعادة الآخرة، التي ينالها المؤمنون في دار النعيم التي أعدها الله للمتقين، فهو إذن يحب مثل ذلك للناس جميعًا، وبذلك يشعر أنه صار صادق الإيمان صحيح الإسلام.
وإرادة المسلم الفاهم لإسلامه الخير والسعادة للناس جميعًا تجعله شديد الحرص على حمل رسالته الخيرة هذه إلى إخوانه في الإنسانية، وتجعله أيضًا
عظيم الجد والاجتهاد في سبيل تحقيق أمنيته الكريمة هذه، ولو بذل في ذلك ماله وراحته وكل طاقة في فكره ولسانه، وسائر جسده، ولو بذل في ذلك آخر الأمر حياته.
والمسلم الفاهم لإسلامه ينظر إلى أعداء الرسالة الإسلامية التي يحملها إلى الناس بحب وصدق وإخلاص، كما ينظر الطبيب العاقل الرحيم، والحازم الحكيم، إلى مريض ذي مرض خطر معد، وهذا المريض شرس مشاكس، لا يقبل النصيحة الطبية، ويرفض تناول العلاجات اللازمات، ويصر على أنه سليم الجسم، ويزعم مع ذلك أن علم الطب كله خرافة من الخرافات التي يجب أن تهمل، ولا يكترث لها العقلاء.
ونظرة المسلم الفاهم لإسلامه إلى أعداء الرسالة الإسلامية بمثل هذه النظرة الحكيمة مع حرصه على خير الإنسانية جميعًا تجعله يتصرف بمنتهى الحكمة، لإنقاذ الجانحين من شرور أنفسهم، ولإنقاد الآخرين في شرورهم.
والحكمة تدعوه أن يسلك أجدى وسائل الإصلاح والإنقاذ، ويتدرج فيها من الدعوة الهادئة إلى الموعظة الحسنة، ثم إلى المجادلة بالتي هي أحسن، ثم إلى التهديد والإنذار، ثم إلى المجاهدة بأخف وسائلها، ثم إلى المدافعة بالوسائل العنيفة، وأخيرًا يجد نفسه ملجأ إلى أن يداهم الشر في عقر داره، لقتل جرثومته في معقلها، وإبادتها في بؤرة تكاثرها وتناميها، ليصون الإنسانية التي أحب لها الخير والسعادة ومن ويلات شياطين الإنس الذين أصروا على نشر الفساد في الأرض، وأن يكونوا جنودًا من جنود إبليس.
شرح الظاهرة الثالثة: التسوية بين الناس في أصل الإنسانية
لقد أعلنت أسس الحضارة الإسلامية:
- أنه لا فرق بين عرق وعرق، ولا بين لون ولون، ولا بين ناطق بلغة وناطق بأخرى، لمجرد اختلاف الأعراف أو الألوان أو اللغات.
- وأن الناس كلهم متساوون في أصل الإنسانية، وإن اختلف أفرادهم في الخصائص والهبات الفكرية والنفسية والجسدية.
- وأن اختلاف هذه الخصائص والهبات الربانية إنما هو أساس فقط لاختلاف المسئوليات في الحياة، وشرط طبيعي لتوزيع الأعمال فيها.
أما التفاضيل بين الأفراد فإنما يكون بالمكتسبات الإرادية للإنسان بعد ذلك، كل ضمن حدود هباته، وأجل هذه المكتسبات العلم النافع، والعمل الخير في الحياة، ومجانبة الشر ولو دعا إليه الهوى.
لكن التكريم عند الله مرهون بالتقوى، ومقداره يتناسب باطراد مع مقدار التقوى عند الإنسان، والتقوى أساسها الفكر السديد، وحقيقتها الإرادة الرشيدة ومظهرها العمل الخير، ومجانبة الشر وفعل السيئات، ويزيد التكريم عند الله بالارتقاء فوق التقوى على درجات البر والإحسان.
وبهذا الإعلان عملت الحضارة الإسلامية على نقل المجموعات البشرية من الدوائر الضيقة العنصرية، والقومية، والإقليمية، والطبقية، إلى أجواء فسيحة مملوءة بالتآخي، والتواد، والتراحم، والتسامح في الحق، والتعاون على البر والتقوى، والأخذ على يد الظالم مهما دنت درجة قرابته، أو عظمت مودته وصداقته، والتعاون على نصرة المظلوم مهما بعدت درجة قرابته أو اشتدت كراهيته وعداوته.
ونستطيع أن نلخص الفلسفة الإسلامية في هذا المجال بالعناصر التالية:
أولًا: إن اختلاف الخصائص والهبات الفردية التي يفضل الله بها بعض الناس على بعض إنا هو أساس لتحديد المسؤوليات، وشرط طبيعي لتوزيع الأعمال في الحياة، قال الله تعالى في سورة "الزخرف: 43 مصحف/ 63 نزول":
ومن هذا القبيل قول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
ومنه أيضًا قوله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":
ثانيًا: إن التفاضل بين الأفراد في الحياة إنما يكون بمقدار المكتسبات الإرادية الفاضلة، التي يجتهدون في تحصيلها، وأعلاها منزلة المكتسبات العملية النافعة، والمكتسبات العملية الخيرة. قال الله تعالى في سورة "الزمر: 39 مصحف/ 59 نزول":
وهذا النص في مجال التفاضل بالمكتسبات العلمية النافعة.
وقال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول" مبينًا فضل المجاهدين على القاعدين:
وهذا النص في مجال التفاضل بالمكتسبات العملية الخيرة.
ثالثًا: أما التكريم عند الله فهو مرهون بتقوى القلوب، ومقدار هذا التكريم يتناسب باطراد مع مقدار التقوى الحقيقية عند الإنسان، وما في القلوب منها لا يعلمه على حقيقته إلا الله جل وعلا، ويأتي فوق مرتبة التقوى مرتبة البر على تفاضل درجاتها فمرتبة الإحسان على تفاضل درجاتها.
وإعلانًا عن حقيقة أن التقوى هي أساس التكريم عند الله قال الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
وإعلانًا عن كون القلوب هي مركز التقوى الحقيقية قال الله تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول":
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} .
وإنما كانت التقوى محلها القلب لأن قيمة الأعمال عند الله إنما تكون بالنيات من ورائها، والنيات محلها القلوب.
وكم من عمل ظاهره التقوى والغرض منه في قلب صاحبه مطلب آخر مناف لها، فهو لا قيمة له في نظر الله، وقد جاء في الحديث الصحيح:
"التقوى ههنا، التقوى ههنا".
ويشير صلوات الله عليه إلى صدره وعاء قلبه، ثم قال:"إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
رواه مسلم.
شرح الظاهرة الرابعة: الأخوة الإيمانية
لقد كان من مستلزمات إلغاء الفوارق العرقية والعنصرية والإقليمية والطبقية التي نادت به أسس الحضارة الإسلامية إعلان الأخوة الإيمانية بين جميع المؤمنين، قال الله تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} .
وبهذا غدا المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من كل عرق ولون ولغة أسرة إسلامية واحدة، تربط ما بين أعضائها رابطة العقيدة والواحدة، والتشريع الواحد، والسلوك المتماثل، والمصالح المشتركة.
ويرجع سر وحدة المسلمين القوية إلى عدة عناصر راسخة الأسس في النفس الإنسانية، منها العناصر التالية:
العنصر الأول: وحدة العقيدة
إنه لما كانت العقيدة الإسلامية عقيدة حق، لا تشوبها شائبة الباطل، كانت قولهم حياة الإنسان العقلية والقلبية، ووحدتها بين جميع المسلمين المستمسكين بها جعلها بمثابة السلك الواحد الذي ينتظم عقول المسلمين بالحق، وقلوبهم بالعواطف الثابتة، في عقد جماعي واحد.
العنصر الثاني: وحدة التشريع
ولما كان التشريع الإسلامي الواحد هو النظام الضابط لحياة المسلمين في عباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم المادية والأدبية، وسياستهم الداخلية والخارجية كان هذا التشريع قوام حياة أفرادهم، وحياة جماعتهم من الناحيتين الخلقية والسلوكية.
ووحدة أصول هذه التشريع بين جميع المسلمين المستمسكين بالإسلام الحق جعلها بمثابة سلك آخر ينتظم أعمال المسلمين وأخلاقهم وعاداتهم في عقد جماعي واحد، مؤكد بذلك وحدتهم الفكرية والاعتقادية التي جمعت عقولهم وعواطفهم في سلك واحد.
العنصر الثالث: مشاعر الأخوة الإيمانية
ولما كانت مبادئ التعاون والإيثار والتعاضد والتآزر والتآخي والتحابب بين المسلمين، من عناصر التشريع الإسلامي، التي تلزم بها الجماعة الإسلامية، وكان الكفر بالإسلام في مقابل ذلك يجمع الكافرين على مصالح مشتركة ضد المسلمين، كان كل ذلك بمثابة حزام متين يرص صفوف المسلمين في كتلة واحدة، كأنها جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وهذه الكتبة الواحدة من المسلمين تقوم بوظيفتين:
الوظيفة الأولى: تماثل وظيفة الجسد الواحد، حينما تتعاون أعضاؤه وتتآزر فيما بينها، ويكمل بعضها بعضًا، ويمد بعضها بعضًا بالقوة والغذاء.
الوظيفة الثانية: تماثل قيام هذا الجسد كله بالدفاع الصادق إذا تعرض طرف من أطراف أو جانب من جوانبه لهجمات عدو طامع بلحمه أو دمه أو ثوبه أو ماله أو كرامته.
وهذا كله يمثل المصالح المشتركة بين المسلمين مهما تباعدت بهم الديار، وتناءت بهم الأعراق والألوان واللغات والأقطار.
وفي الحديث الصحيح:
"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وفي الحديث الصحيح أيضًا:
"المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
وفي الحديث الصحيح أيضًا:
"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه". رواه مسلم عن أبي هريرة.
وتمكينًا لهذه الجسدية الواحدة قال الرسول صلوات الله عليه كما ثبت في روايات هذا الحديث:
"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله".
وهذه الجسدية الواحدة هي الصورة المثلى لمعنى الأخوة الإيمانية التي أبانها ورسخها الإسلام في رسالته الحضارية للناس جميعًا.
وجدير بنا أن نقول عند المقارنة بين الأخوة الإيمانية والأخوة في النسب
التي تعارف عليها الناس: إذا كان الاشتراك في النسب كافيًا لإيجاد رابطة الأخوة بين الأفراد وإن اختلفوا في العقائد والعواطف والمصالح، فإن الاشتراك في العقيدة الراسخة، والعاطفة المثلى، ونظام العيش الواحد، والمصالح المشتركة، أحق وأجدر بهذه الأخوة؛ لأن النسب تلاق في حدود الجسد فقط، أما هذه الأمور فإنها اتحاد في أكرم مقومات الإنسان.
شرح الظاهرة الخامسة: مراعاة الفطرة الإنسانية
ولقد كان من مظاهر العالمية والشمول في رسالة الإسلام الحضارية، ومن ظواهر انفتاح الحدود النفسية مراعاة الفطرة الإنسانية وأحوالها وأعراضها بشكل عام، في كل ما احتواه الإسلام من أحكام تشريعية دون تخصيص ولا تمييز عنصري أو قومي أو طبقي.
فالباحث في أحكام الإسلام التشريعية يلاحظ بوضوح ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
إنها راعت الفطرة الإنسانية بشكل عام، ولهذا لم تحاب فئة من فئات الناس، ولا طبقة من طبقاتهم، ولا عنصرًا من عناصرهم على حساب الفئات والطبقات والعناصر الأخرى، فيما قررته من أحكام، فأحكام الإسلام أحكام تشمل العرب والعجم، والأغنياء والفقراء، والأشراف والضعفاء، والسادة والعبيد، والنساء والرجال بنسبة سواء، إلا ما كان منها مقتضيًا بحسب العقل والحكمة والمصلحة الإنسانية بشكل عام شيئًا من الفروق في الأحكام، كتكليف الأغنياء الزكاة دون الفقراء، ومنح الرجال مسئولية القوامة دون النساء، ونحو ذلك.
الأمر الثاني:
أنها راعت في نظرة شاملة اختلاف الخصائص التكوينية، والفروق الفردية في تحديد مسئوليات الأفراد، فمن ارتقت خصائصه من الناس بشكل عام،
عظمت مسئوليته بمقدار ارتقائها، ومن انخفضت خصائصه منهم قلت مسئوليته بمقدار انخفاضها، ومن ارتبطت به مسئولية خاصة أو عامة كمسئولية الولاية كان من حقه على رعيته السمع والطاعة، مهما كان عرقه، أو لونه، أو طبقته الاجتماعية، وفي هذا قال الرسول صلوات الله عليه:
"اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".
وقال الله تعالى على وجه العموم في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
الأمر الثالث:
أنها راعت في شمول رائع اختلاف الأحوال والأعراض الإنسانية، التي تستدعي اختلافًا في الأحكام الشرعية، وذلك بشكل عام أيضًا.
ومن أجل ذلك ترتفع مسئولية التكليف عن كل إنسان رجلًا كان أو امرأة حينما لا يملك شروط التكليف، أو حينما تسلب منه هذه الشروط، وفي هذا جاء قول الرسول صلوات الله عليه في الحديث الصحيح:
"وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ومن أجل ذلك أيضًا أعفيت المرأة من مسئوليتي الصوم والصلاة في خالتي حيضها ونفاسها، وأعفيت من مسئولية الصوم في حالة حملها، إذا خافت على نفسها أو ولدها، رعاية لحالتها الجسمية والنفسية التي تعرض لها عندئذ.
ومن مراعاة الإسلام الأحوال الخاصة التي تستدعي رفع حرج التكاليف الشرعية مراعاة أحوال الأعمى والأعرج والمريض فيما رفع عنهم من حرج التكليف للخروج إلى قتال العدو جهادًا في سبيل الله، قال الله تعالى في سورة "الفتح: 48 مصحف/ 111 نزول":
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .
وجاء هذا النص عقب الحديث عن المخلفين الذين تخلفوا عن الخروج مع المسلمين إلى قتال عدوهم.
ومن مراعاة الإسلام الأحوال الخاصة التي تستدعي التخفيف من حزم الأحكام الشرعية مراعاته أحوال القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا، وذلك في السماح لهن بوضع ثيابهن التي يتحجبن بها عن الرجال الأجانب، غير متبرجات بزينة، قال الله تعالى في سورة "النور: 24 مصحف/ 102 نزول":
ومنها مراعاته أحوال المرضى والمسافرين والشيوخ الهرمين في إباحة الفطر لهم في شهر رمضان، ومراعاته أحوال المسافرين أيضًا في قصر الصلاة الرباعية وجعلها صلاة ثنائية، ومراعاته أحوال المرضى والمسافرين كذلك في إباحة التيمم بدل الوضوء، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
ففي هذا النص القرآني يتبين لنا كيف راعى الله أحوال المرضى والمسافرين والهرمين فأذن لهم بالفطر في شهر رمضان، ولكنه كلف المرضى والمسافرين القضاء، وجعل على الذين لا يقدرون على الصوم لأمر ملازم لهم تقديم فدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم.
وقال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
وفي هذا النص يتبين كيف راعى الله أحوال المسافرين أيضًا، فجعل لهم
قصر الصلاة الرباعية رخصة محببة، وبين ذلك الرسول صلوات الله عليه بقوله:
"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه".
وقال تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول":
ألسنا نلاحظ أن الله جل وعلا قد راعى في باب الطهارة أحوال المرضى والمسافرين فأذن لهم بالتيمم بدل الوضوء أو الاغتسال بالماء.
وهكذا تظهر عالمية رسالة الإسلام الحضارية، كما يظهر شمولها في مراعاة الفطرة الإنسانية، ومراعاة اختلاف الأحوال والأعراض الإنسانية بشكل عام، دون أن يقف في طريق عالميتها وشمولها حدود نفسية أنانية من قبل أية دائرة من الدوائر العرقية أو العنصرية أو الطبقية أو غيرها من الدوائر الضيقة التي يصطنعها ضيق الحدود النفسية لدى بعض المجتمعات الإنسانية.
شرح الظاهرة السادسة: العدل بين الناس
وتتجلى هذه الظاهرة فيما ألزمت به أسس الحضارة الإسلامية قادة المسلمين وحكامهم وقضاتهم من مراعاة العدل في المعاملة بين المسلمين، دون تمييز بين عناصرهم وفئاتهم وطبقاتهم وقومياتهم، ودون تمييز بين من يحبون ومن يكرهون من الناس، وفيما ألزمت به جميع المسلمين من التقييد بحقوق التسوية ضمن إطار العدل بين عناصر المسلمين وفئاتهم وطبقاتهم وقومياتهم أيضًا.
فالمسلمون كل المسلمين سواء أمام الحق، وبين يدي القضاء، وفي تقدير الكفايات، وإيجاد فرص العمل المتكافئة للجميع، وهي اقتباس العلم والمعرفة، لا تمييز بين عنصر منهم وعنصر، ولا بين فئة وفئة، ولا بين طبقة وطبقة، ولا بين قوم وقوم، ولا بين نساء ونساء.
وحينما تدعو طبيعة الحياة للتفاضل فإنما يكون التفاضل معتمدًا على التمايز بين الأفراد بخصائصهم الفردية الفطرية والمكتسبة، ففي مجال العلم يقدم العلماء، وفي مجال الشجاعة يقدم الشجعان، وفي مجال القوة يقدم الأقوياء، وفي مجالات الذكاء يقدم الأذكياء، وفي مجالات الأعمال يقدم الأكفياء لها، وفي مجالات التربية يقدم الأقدر عليها، وفي مجال الولاية يقدم الأجدار لها، وهكذا في سائر المجالات.
وشواهد مراعاة العدل بين الناس في نصوص الشريعة الإسلامية كثيرة جدًّا، فلنأت منها بالكليات الكبرى.
1-
العدل في مجال حق الحياة:
لقد قرر الإسلام أن نفس المسلم مكافئة لنفس المسلم في حق الحياة، مهما كانت الفوارق الشخصية، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
وبناء على هذا كان من العدل أن يقتل القائل عمدًا وعدوانًا بحكم الاقتصاص -مهما كان رفيع المكانة الاجتماعية وعظيم الخصائص الفردية- بأخيه القتيل المسلم مهما كان وضيع المكانة الاجتماعية منحط الخصائص الفردية لأن أصل الحياة لأي إنسان مساوٍ لأصل الحياة لأي إنسان آخر، والحياة من هبات الخالق، فلا حق لأحد أن يعتدي عليها أو يطردها من الوجود إلا بإذن أو أمر من خالق الحياة وواهبها.
فمن اعتدى عليها عرض نفسه للقصاص العادل بحكم الإسلام.
وهنا نلاحظ أن القرآن يتجاوز في هذا المجال عن كل الفروق الشخصية
والاجتماعية، ولا يثبت إلا وصف الإيمان المشترك بين جميع المسلمين، فيقول تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
فهل في الحضارات الإنسانية الراقية سمو مثل هذا السمو الذي يقرره الإسلام، وعدل مثل هذا العدل، الذي يهدف إلى صيانة حياة الناس هبة الله لهم، من أن تكون عرضة لظلم ذوي المكانات الاجتماعية، وأصحاب النفوذ والجاه والقوة والعنجهيات العنصرية، وصيانتها من أن تكون عرضة لنزوة غضب تضرب في نفس طائش غضوب، أو عرضة لكيد حاقد أو حاسد، أو طامع أو متكبر.
وهكذا تقرر أسس الحضارة الإسلامية أن الناس في حق الحياة سواء، فلا تهدر دماؤهم إلا بأمر من واهب الحياة، وخالق الأرض والسماوات، أو إذن منه.
هذه هي الحضارة الإسلامية، بينما نجد في حضارات أخرى تفخر برقيها المادي المدهش تمييزات عنصرية منتنة، تهدر فيها حياة أبرياء، لا جريمة لهم إلا ألوانهم السوداء، أو أنهم من أعراق وقوميات أخرى، أو من أحزاب ومذاهب مخالفة.
2-
العدل في مجال الحكم والقضاء والشهادة:
ولقد قرر الإسلام وجوب التزام جانب العدل في الحكم والقضاء، وفي أداء الشهادات، دون تمييز أو محاباة.
قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
ففي هذا النص يأمر الله أولي الأمر من حكام المسلمين وقضاتهم بأقوى صيغة جازمة بأن يحكموا بين الناس بالعدل دون تمييز بين عناصرهم وأصنافهم وطبقاتهم وبعدائهم وذوي قراباتهم.
ثم أكد ذلك بقوله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول":
وفي هذا النص يأمر الله تعالى الذين آمنوا بأن يكونوا قوامين لله، أي: لا لأنفسهم وأهوائهم وشهواتهم، فهم منفذون أحكام الله ضمن حدود شريعته.
وأي إخلال في ذلك أو تلاعب إنما هو خيانة للأمانة التي حملوها، ولا يتم كونهم قوامين لله ما لم يتقيدوا بأحكام شريعة الله ولو على أنفسهم وأهليهم وذوي قرابتهم، وذلك يتطلب من الشهداء أن يكونوا شهداء بالقسط، والقسط هو العدل المعتمد على الحق.
ثم يناههم الله عن أن يحملهم البغض بينهم وبين قوم آخرين على مجانبة سبيل العدل معهم في الحكم والقضاء أو في الشهادات، وهذا ما تضمنه قوله:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا} . أي: ولا يحملنكم بغضكم الهائج ضد قوم على ألا تعدلوا معهم.
وتدعيمًا لهذا المبدأ الذي تشتمل عليه أسس الحضارة الإسلامية يقول الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .
وفي هذا النص يأمر الله تعالى بالعدل في القول دون تأثر بعواطف القرابة، التي تنزع في نفس الإنسان، كيما يجانب سبيل العدل.
3-
العدل في المعاملات الأدبية:
وفي مجال تبادل المسلمين مظاهر الإخاء الإيماني، والبعد عن كل مظهر من مظاهر تعالي بعضهم على بعض يأمر الله تعالى أن يكرم المسلم أخاه المسلم فيرد تحيته بأحسن منها، أو بمثلها مهما كانت الفوارق بينهما، وينهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، مهما وجدت دواعي ذلك.
قال تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
وقال تعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
فقد جعل الله في هذه الآية السخرية واللمز والتنابز بالألقاب من الفسوق، الذي يطلق على مرتكب هذه المنكرات في شريعة الله، وبئس هذا الاسم بعد الإيمان الذي تجمل الإنسان المسلم باسمه، فأطلق عليه أنه مؤمن؛ إذ كان في زمرة المؤمنين.
وفي قوله تعالى في هذه الآية:
{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} تعبير رائع يشير إلى أن المسلمين كلهم بمثابة أنفس واحدة، فمن لمز أخاه فقد لمز نفسه.
وبهذا نلاحظ مبلغ الرقي العظيم الذي تتصف به أسس الحضارة الإسلامية في بنائها الفكري المجيد.
نتائج تطبيقة لانفتاح الحدود النفسية:
ولما كانت رسالة الحضارة الإسلامية عامة شاملة، منفتحة الحدود النفسية، وليست حكرًا على قوم أو طبقة أو صنف من الناس، وغير منحصرة داخل الدوائر الأنانية الضيقة العنصرية أو القومية أو الطبقية أو غيرها، كان رواد هذه الحضارة، وحملة رسالتها، وطلائع مدها العالمي خيرة من الناس انفتحت حدودهم النفسية انفتاحًا تامًّا للإنسانية جمعاء، وذلك بإرادة الخير والمجد وسعادة الدنيا والآخرة لكل من خلق الله من إنسان، ثم جروا وراء ذلك ذيول الرحمة والإحسان والرفق على جميع ما خلق الله من حيوان.
ولقد يدهش الباحثون ومؤرخو الحضارات الإنسانية لذلك التحول العجيب السريع، الذي تم في المجتمع العربي خلال القرن السابع للميلاد؛ إذ تحول الإنسان العربي بسرعة فائقة من إنسان قبلي عنصري أناني ضيق الحدود النفسية إلى إنسان عربي العرق والبيان، عالمي الفكري والجنان، إنساني النزعة، يحب الخير كل الخير، للناس كل الناس، ينادي وهو قائد الفتح، ورائد الحضارة العالمية:
"لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى أو عمل صالح".
ويقف الرسول صلوات الله عليه يوم فتح مكة فيقول:
"يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب".
ثم تلا قول الله تبارك وتعالى في سورة "الحجرات: 49 مصحف/ 106 نزول":
ولكن سرعان ما ينتهي دهش الباحثين ومؤرخي الحضارات الإنسانية ويزول عجبهم حينما يطلعون على أسس الحضارة الإسلامية، التي ألحت عليها مصادر الدين الجديد، الذي ختم الله به رسالات السماء للأرض، واصطفى لتبليغه النبي
العربي محمدًا صلوات الله عليه، واختار لحمل رسالته إلى الناس جميعًا الأمة العربية، بوصفها طليعة حملة هذه الرسالة الربانية.
فلما تمكن الإيمان بالإسلام في القلوب والنفوس العربية، التي عبث مبادئ الإسلام وأسسه من منابعه الصافية العليا التي لم تكدرها المجاري البعيدة، تخلت هذه القلوب والنفوس عن أنانياتها وعصبياتها وعنصرياتها وطبقياتها الضيقة المقيتة، واتجهت نحو العالم منفتحة للناس جميعًا، حرصًا على إنقاذ المتردين في المهالك، ورد الجانحين إلى سبيل الرشاد، ودفع المجتمع الإنساني كله إلى الترقي في سلم الحضارة المثلى الجامعة لكل عناصر الخير والكمال الإنسانيين.
وكما يتجلى الاتجاه الإنساني غير المحدود بحدود أية دائرة من الدوائر ذات الخصائص الأنانية لدى دراسة أسس الإسلام، ومبادئه، وأحكامه، ونظمه وسائر تعاليمه المختلفة، يتجلى تطبيق هذا الاتجاه بشكل عملي لدى دراسة المجتمع الإسلامي الأول، الذي كان خاضعًا للتوجيه الدقيق، والقيادة المثلى، من قبل الرسول صلوات الله عليه، فلقد كان في سيرته وقيادته وأخلاقه وكل تصرفاته صورة عملية حية للرسالة الإسلامية، التي اصطفاها الله للناس جميعًا.
ثم تبرز للباحثين الأمثلة الرائعة في العصور الذهبية للتاريخ الإسلام بعد عصر الرسول صلوات الله عليه، وهي القرون المطبقة للإسلام، وهذه الأمثلة الرائعة تدل على أن المسلمين قد كانوا في رسالتهم الحضارية للناس جميعًا متمثلين أسس هذه الرسالة تمثلًا سويًّا.
ومن أجل ذلك فتحت لهم الأرض والنفوس والقلوب أبوابها، في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما جعلهم يقودون موكب الحضارة العالمية، الرائدة الصاعدة إلى قمم المجد، وما زالوا كذلك حتى أدركهم الوهم والبعد عن المنهج الإسلامي العظيم.
وكان لإلغاء الفوارق العرقية والعنصرية والإقليمية والطبقية الذي نادت به
أسس الحضارة الإسلامية أثره العميق في البناء الفكري للمجتمع الإسلامي، الذي وعى الإسلام حقًّا وتأدب بآدابه.
ولم يقف ذلك عند حدود تعاليم مكتوبة أو محفوظة، وشعارت يتاجر بها حملتها، وإنما كان مثالًا حيًّا متحركًا يقدمه المسلمون أفرادًا وجماعات، في مختلف أعمالهم، وشتى أنواع سلوكهم الفردي والجماعي، نظرًا إلى ما أحدثه الإيمان بالإسلام في قلوبهم من قوى فعاله، تتحكم بأنواع سلوكهم، وتجعلهم متقيدين بتعاليم الإسلام وأحكامه تقيدًا تامًّا، ولو خالفت أهواءهم الخاصة، وناقضت المفاهيم التي كانت سائدة فيهم.
أمثلة تطبيقية:
1-
تغاضب أبو ذر وهو عربي من غفار، مع بلال الحبشي مولى أبي بكر رضي الله عنهم، وكان أبو ذر وبلال صحابيين، وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبا ذر الحدة، فقال لبلال: يابن السوداء، فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لأبي ذر:
"طف الكيل، اتعيره بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية"!
قال أبو ذر: على ساعتي هذه من كبر السن؟ ظانًا قصد الرسول بالجاهلية هو ما يغتري الشباب من طيش يخرجهم عن حد الاعتدال، فقال له الرسول صلوات الله عليه:
"نعم هم إخوانكم"، أي: والأخوة تستلزم التحقيق بمعنى إلغاء فوارق العرق واللون واللغة والطبقة الاجتماعية، فندم أبو ذر رضي الله عنه وتاب، حتى إنه أمر بلالًا أن يطأه على وجهه، مبالغة منه في إعلان التوبة والندن، واسترضاء لبلال مما عيره به من سواد أمه.
2-
سرقت امرأة من بني مخزوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو مخزوم قبيلة من قبائل قريش، وهم من أشراف مكة ووجوهها، فجيء بها إلى رسول صلى الله عليه وسلم؛ ليقضي في شأنها، فثبت عنده أنها سارقة، وحكم الله يقضي بإقامة حد السرقة عليها، فأهم ذلك الأمر القرشيين من المسلمين، نظرًا إلى الطبقة
الاجتماعية التي يتمتعون بها بين العرب. وحرصًا على أن لا ينسب إلى واحد منهم أمر شائن يقام عليه فيه الحد الشرعي، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ويشفع لها عنده؟ فقالوا: ومن يجترئ على ذلك إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلم أسامة رسول الله مستشفعًا بها، فغضب عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وقال لأسامة:
"أتشفع في حد من حدود الله"؟.
وعلم رسول الله أن الأمر لم يكن من أسامة، وإنما هو من القرشيين، فجمع المسلمين وخطب فيهم، فقال:
"إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وهكذا أصل الرسول صلوات الله عليه في نفوس المسلمين إلغاء الفوارق الطبقية بين المسلمين، وأعلن أنه لو حصل من ابنته فلذة كبده، ما يوجب عليها حد الله لم يعفها من تنفيذ ذلك، ولم يستجب فيها لعاطفة قلبه نحوها، وهي ابنته، فضلًا عن أن يستجيب لعاطفة قبلية، أو عنجهية طبقية.
3-
جاء قيس بن مطاطية "وكان منافقًا" إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعني محمد صلى الله عليه وسلم" فما نال هؤلاء "يعني سلمان وبلالًا وصهيبًا" فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي في الناس:"الصلاة جامعة" فاجتمع المسلمون فخطب فيهم الرسول فقال:
"يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي". رواه ابن عساكر بسنده إلى الزهري.