الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود
انفتاح الحدود الفكرية
…
المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود
لدى المقارنة بين الحضارة الإسلامية وبين معظم الحضارات البشرية وجدنا أن أسس الحضارة الإسلامية تتميز عما سواها بأنها منفتحة الحدود الفكرية، والنفسية والمادية.
ولنتبين هذه الحقيقة لا بد أن نتناول كل انفتاح من هذه الانفتاحات الثلاثة؛ الفكرية، والنفسية، والمادية، بالشرح المناسب، ليتأكد الناظر في أسس هذه الحضارة المجيدة من صحة هذه الحقيقة التي نثبتها بقوة.
أ- انفتاح الحدود الفكرية:
إن القوة المزدوجة الدافعة إلى قمة مجد حضاري فذ، والمؤلفة من عنصري العالمية والشمول، لا نجدها إلا في أسس الحضارة الإسلامية.
وتتجلى هذه الحقيقة في المجال الفكري بما يلي:
أولًا: بتقلبها للحق من أي مصدر ظهر حتى ولو جاء من قبل عدوها.
ثانيًا: بشغفها بامتصاص العلوم والمعارف من أي المنابع تدفقت.
ثالثًا: بحثِّها على اكتساب الكمالات الفكرية، في كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل ميدان من ميادينها.
والنصوص الإسلامية التي تدل على هذه الحقيقة الشاملة لكل هذه العناصر كثيرة في القرآن والسنة.
وقد سبق عرض كثر منها في موضوعات متنوعة، ونضيف إليها هنا طائفة أخرى.
فمنها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
وعن ابن مسعوزد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". متفق عليه.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان، وقد جمع السيوطي طرق هذا الحديث حتى أوصلها إلى خمسين طريقًا، وحكم من أجل ذلك على الحديث بالصحة، وإن كان في كل منها ضعف، وحكى العراقي صحته عن بعض الأئمة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها" رواه الترمذي وابن ماجه1.
1 سند هذا الحديث ضعيف، وقال الترمذي فيه: حديث غريب، إلا أن معناه صحيح فيما دلت عليه النصوص القرآنية والحديثية.
وقد جعل الرسول صلوات الله عليه فداء الأسرى من المشركين أن يعلموا فريقًا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، فلم ير صلوات الله عليه حرجًا في أن يتعلم أبناء المسلمين هذا النوع من العلم على أيدي المشركين، وذلك حرصًا منه على دفع المجتمع الإسلامي في المدينة إلى الترقي في معارج الحضارة.
وسيرًا في حدود هذا المنهج الإسلامي العام وجدنا العصور الذهبية للمسلمين تفتح صدرها لامتصاص المعارف الإنسانية المادية التي خلفتها في الأمم والشعوب حضارات سالفات منقرضات.
وقد امتص المسلمون بسرعة فائقة ما خلفه اليونان الإغريق من علوم فلسفية وعقلية، وما خلفه الفرس من حكم وآداب وخبرات سياسية، وما كان لدى مختلف الأمم التي التفت مع المسلمين لقاء مودة أو لقاء خصام.
ثم أخذوا بتحرير هذه العلوم، وتنقيتها من الشوائب، وتطويرها وتنميتها، وصقلها، وإصلاح فاسدها، مسترشدين بالمنهج العلمي العام الذي رسمه للمسلمين مصدرا التشريع الإسلامي العظيمان القرآن والسنة، كل ذلك فيما لم يكن من خصائص الشريعة الإسلامية بيانه، وتحديد أصوله وفروعه، كأصول الاعتقاد وأحكام العبادات، وأحكام المعاملات، ونظم الحياة الفردية والاجتماعية التي رسم الإسلام للناس طريقها، وأوضح لهم صراطها المستقيم.
يقول المؤرخ الدمشقي المرحوم "محمد كرد علي"1:
"وعمر بن عبد العزيز هو الذي أمر بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى اللغة العربية، وهو الذي أمر عاصم بن عمر الأنصاري وكان عالمًا ثقة كثير الحديث أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي، ومناقب الصحابة، وقال له: إن بني مروان كانوا يكرهون هذا وينهون عنه، فاجلس فحدث الناس بذلك. وسبق حكيم آل مروان وعالم قريش خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان المتوفى سنة "85هـ" إلى ترجمة كتب الفلاسفة والنجوم
1 في كتابه الإسلام والحضارة العربية ج1 ص165.
والكيمياء والطب والحروب والآلات والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والشرياني، وكانت الترجمة أحيانًا من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية.
وخالد بن يزيد هذا أول من جمعت له الكتب، وجعلها في خزانة في الإسلام، والأرجح أنها كانت في دمشق.
وقال أيضًا: "والعلوم تسربت إلى العرب من بقايا علوم القبط واليونان والسريان بعد أن توطد أمر الخلافة، وأخذت الجيوش تتقدم في أفريقية إلى الأندلس، وفي الشرق إلى ما وراء السند وسمرقند، وكانت في إنطاكية والرها ونصيبين وحران أول الفتح مدارس عامرة، تشبع أساتذتها بالثقافة اليونانية، وفلسفة أرسطو والعلوم والطب المعروفة عند القدماء.
قال دييل: "وراجع خلفاء الأمويين هؤلاء الأساتيذ لينقلوا إلى السريانية وإلى العربية أهم كتب العلم والأدب عند اليونان وبيزنطية، وجاء العباسيون بعد الأمويين فكان همهم أن يجمعوا المخطوطات اليونانية، وأن ينقلوا إلى العربية أهم كتب العلم والطلب والفلسفة اليونانية.
وقال: فبواسطة تراجمة شاميين عرف العرب العلم والفلسفة اليونانية، وبفضلهم نشأت في الإسلام من إسبانيا إلى الهند حركة عقلية عظيمة أتت بأينع الثمرات، وبفضل المدارس العربية في قرطبة عرف العرب النصراني نفسه فلسفة أرسطو. ا. هـ".
ونحو نقول: إنه لجدير بالإعجار والإكبار تلك الثمرات الباهرات العلمية والعملية التي أنتجها للمسلمين في العصور الذهبية الراقية انفتاح الحدود الفكرية لديهم لتقبل الحق من أي مصدر ظهر، وللشغف بامتصاص العلوم والمعارف من أي المنابع تدفقت، وللسعي الحثيث لاكتساب الكمالات الإنسانية، في كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل ميدان من ميادين العمل، وهو الأمر الذي أملته عليهم أسس الإسلام الحضارية.
ولو أن حدودهم الفكرية كانت مغلقة، وعقولهم كانت منطوية على نفسها
لا تتقبل الحقائق العلمية التي تأتيها من الأمم والشعوب الأخرى، غابرة كانت أم حاضرة، لما بلغوا ما بلغوه من مجد عظيم، في أقصر حقبة عرفها تاريخ الحضارات الإنسانية.
لكن الأسس الإسلامية علمت المسلمين أن يفتحوا عقولهم للناس جميعًا، بالأخذ والعطاء، وذلك لأن الحقيقة جوهرة عالمية، فهي ملك مشاع للناس جميعًا، لا تقبل استئثارًا ولا تتحمل قسمة ولا نزاعًا، فمن عرفها ابتكارًا أو اقتباسًا واعترف بها واهتدى بهديها فهو أحق بها، تنسب إليه وينسب إليها، ويدخل في زمرة أنصار الحقيقة، كما أن الحقيقة تتبرأ ممن لا يعترف بها، ولا يهتدي بهديها، وإن كان ممن ساهم باستنباطها، أو ابتكارها، أو انفرد بذلك.
وكم حرمت أمم نفسها من التقدم والارتقاء بدافع الأنانية الذاتية، والعصبية القومية المقيتة، وبسبب عزوفها عن اقتباس معارف الآخرين وعلومهم الصحيحة.
ولقد هيأ للمسلمين الأولين هذا الانفتاح الفكري لتلقف المعارف الحقة واقتباسها، واكتساب الكمالات الإنسانية سبقًا حضاريًّا فذا، لم يضارعه تقدم حضاري لأية أمة من الأمم السالفة.
ويدهش المؤرخ الفرنسي العلامة "غوستاف لوبون" فيقول1:
"إن حماسة المسلمين في دراسة المدنية اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقة.
والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدموا بها على البحث، وإذا كانت هناك أمم قد تساوت هي والعرب في ذلك فإنه لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل".
ويقول لوبون أيضًا:
"كانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسًا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب
1 في كتابه "حضارة العرب".
المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوروبا في القرون الوسطى، فلم يلبثوا أن تحرروا من ذلك الدور الأول.
ولم يلبث العرب بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان أن أدركوا أن التجربة والترصد خير من أفضل الكتب.
ويُعزى إلى "بيكن" على العموم أنه أول من أقام التجربة والترصد اللذين هما ركن المنهاج العلمية الحديثة مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم.
ويقول أيضًا:
وقد منح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقة وإبداعًا لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب.
ونشأ عن منهاج العرب التجريبي وصولهم إلى اكتشافات مهمة.
ولما آل العلم إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه، فتلقاه ورثتهم مخلوقًا خلقًا آخر.
وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها.
ويتكلم لوبون عن المسلمين في الأندلس فيقول: لم يكد العرب يتمون فتح إسبانية حتى بدءوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحييوا ميت الأرضين، ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشئون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوروبة زمنًا طويلًا". ا. هـ.
ونقل الأستاذ "محمد فريد وجدي" في كتابه "الإسلام دين عام خالد" ما يلي:
يقول "دريبر" الأستاذ بجامعة "نيويورك" في كتابه "النزاع بين العلم والدين":
"تحقق علماء المسلمين من أن الأسلوب العقلي النظري لا يؤدي إلى التقدم، وأن الأمل في وجدان الحقيقة يجب أن يكون معقودًا بمشاهدة الحوادث ذاتها، ومن هنا كان شعارهم في أبحاثهم الأسلوب التجريبي، والدستور العملي الحسي.
إن نتائج هذه الحركة العملية تظهر جلية في التقدم الباهر الذي نالته الصنائع في عصرهم، وإننا لندهش حين نرى في مؤلفاتهم من الآراء العلمية ما كنا نظنه من نتائج العلم في هذا العصر.
وقد استخدموا علم الكيمياء في الطب، ووصلوا في علم الميكانيكا إلى أنهم عرفوا وحددوا قوانين سقوط الأجسام، وكانوا عارفين كل المعرفة بعلم الحركة، ووصلوا في نظريات الضوء والإبصار إلى أن غيروا الرأي اليوناني القائل بأن الإبصار يحصل بوصول شعاع من البصر إلى الجسم المرئي، وقالوا: بالعكس. وكانوا يعرفون نظريات انعكاس الأشعة وانكسارها، وقد اكتشف الحسن بن الهيثم الشكل المنحنى الذي يأخذه الشعاع في سيره في الجو، وأثبت بذلك أننا نرى القمر والشمس قبل أن يظهرا حقيقة في الأفق، وكذلك نراهما في المغرب بعد أن يغيبا بقليل".
ونقل الفيلسوف الشاعر الباكستاني "محمد إقبال" في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" ما يلي:
يقول "بريفولت" مؤلف كتاب "بناء الإنسانية":
"لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام، ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوروبا الحياة، بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى
الحياة الأوروبية، فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الأزدهار الأوروبي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره، أي: في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي".
ويستطرد فيقول:
"إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم للثقافة العربية بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم -كما رأينا- لم يكن للعلم فيه وجود. وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علومًا أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجًا كليًّا بالثقافة اليونانية.
وقد نظم اليونان المذاهب، وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجميع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، أما ما ندعوه العلم فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان، وهذا الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربي".
ويقول أيضًا:
إن "روجر بيكون" درس اللغة العربية، والعلم العربي في مدرسة "إكسفورد" على خلفاء معلميه العرب في الأندلس، وليس لـ"روجر بيكون" ولا لسميه "فرنسيس بيكون" الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن "روجر بيكون" إلا رسولًا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة.