الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري
مع نهاية القرن الأول الهجري انطلق فريق من علماء المسلمين إلى طلب الحديث النبوي من حفاظه الثقات، ومن مدونيه في صحفهم، فيتلقونه، ويدونونه، ويحفظونه، ويشدون الرحال في طلبه من حملته.
واتسعت دائرة الحركة العلمية في هذا المجال اتساعًا كبيرًا، في ظاهرة حضارية عديمة النظير، لم تشهد أمة دينية ولا مدينة مثلها.
وأولع المحدثون بالرحلة لطلب الحديث، ولو لحديث يجهلونه، أو لسماعه من راويه التابعي الذي سمعه مباشرة من الصحابي، أو لسماعه من تابع التابعي الذي سمعه مباشرة من التابعي، أو لسماعه من راوٍ ثقة، وإن كان محفوظًا من طريق آخر، أو من طريق طالت فيه سلسلة الرواة.
ووضع علماء الحديث منهجًا رائعًا للتثبت من صحة رواية الأحاديث، ولنبذ ما وضعه الوضاعون الكذابون مما نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا وافتراء، إما تعرضًا واتباعًا للهوى، أو غفلة وجهلًا، ولتصنيف سائر الأحاديث المروية في درجات مناسبات لقوة الوسائل التي تمت بها صلة الخبر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعتمدت أصول هذا المنهج الرائع السوي للتحقق من صحة رواية الأحاديث على عدة عناصر، كل عنصر منها يتطلب جهدًا علميًّا واسعًا.
العنصر الأول: النظر الدقيق في رواة الأحاديث، والبحث عن أحوال عدالتهم وضبطهم وأهليتهم لتحمل العلم وأدائه.
ولتحقيق هذا العنصر انطلق علماء المسلمون الباحثون في تتبع مضمن وفحص دقيق، حتى نشأ ما يُسمى عند المسلمين بعلم الرجال، ونشأ علم الجرح والتعديل، وهو علم لم يكن عند أحد قبل المسلمين، وأما الذين قلدوهم به من بعدهم فإنهم لم يبلغوا ما بلغوه من تحرير ونقد، ومتابعة تامة لأحوال الرواة المحدثين.
العنصر الثاني: النظر في لقاء الراوي لمن روى عنه، وبالتتبع المضني المستند إلى وسائل التحقق التاريخية، تكون محققي الأحاديث مستندات ذوات وزن علمي لنقد ما يرويه الرواة عمن سبقهم، وبالنقد العلمي الدقيق يتمكن المحقق البصير من تقويم درجة رواية الحديث.
العنصر الثالث: النظر في اتصال سلسلة الرواية راويًا فراويًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونشأ من نقد روايات الأحاديث بالاستناد إلى هذا العنصر ما يسمى في "علم مصطلح الحديث" بالحديث المتصل، والحديث المنقطع، والحديث المرسل، والحديث المعضل، والحديث المرفوع، والحديث الموقوف، ونحو ذلك.
العنصر الرابع: النظر في الطريق أو الطرق المختلفة التي روت كل حديث، ونشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر تصنيف الأحاديث مع ذكر عدد طرق الرواة، واتخذ المحدثون لذلك عدة ألقاب في مصطلحهم، وهي "المتواتر، المشهور، المستفيض، العزيز، الآحاد، الغريب".
العنصر الخامس: النظر في متون الأحاديث المروية من طرق مختلفة، بالمقارنة بينها، ولدى المقارنة لا بد أن تظهر وجوه اتفاق ووجوه اختلاف، ولا بد أن تلاحظ مع وجوه الاختلاف طرق الرواية للأحاديث التي حصل اختلاف في متونها.
وقد نشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر ما يُسمى عند علماء الحديث الشاذ، وما يسمى بالمضطرب، وما يسمى بالمنكر.
العنصر السادس: النظر بتحقيق علمي فيما يعرض لمتون الأحاديث وأسانيدها من خلل، كتقديم وتأخير، أو تصحيف في اللفظ، أو تبديل، أو دخول عنصر غريب فيها ونحو ذلك.
وقد نشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر، ما يسمى عند علماء الحديث "المدلس، المقلوب، المدرج".