الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري
بدراسة موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري تبين لنا أن الإسلام قد تولى تحديد المرتبة العظمى، وإقامة معالمها، وإنارة سبيلها، ودعا الناس جميعًا إلى الأخذ بها، والانتفاع من ثمراتها العاجلات والآجلات.
ورسم للناس المنهاج القويم الذي يكفل لهم سبقًا عظيمًا في درجات المرتبة الوسطى، فأنزل لهم الشرائع والأحكام الكفيلة بأن تقيم لهم مجتمعًاإنسانيًّا فاضلًا، إذا التزموا بتطبيقها، وترك لهم مجالًا واسعًا للاستزادة من النظم الحضارية التي أذن لهم بأن يتابعوا تطويرها وتحسينها بحسب ما تقضي به مصالح معاشهم ورفاهيتهم، أما المرتبة الدنيا التي تحتوي على ما يخدم الجسد ويمتعه فقد أطلق الإسلام للناس مجالات الابتكار فيها والتحسين والتنافس، استجابة لدوافع غرائزهم وشهواتهم، ومختلف أنواع ميلهم النفسي إلى زينة الحياة الدنيا ما لم يتجاوزوا في شيء من ذلك بالاستعمال جانب الخير إلى جانب الشر. وحثهم في جانب كل ذلك على العمل والإتقان، والانتفاع من كل ما جعل بين أيديهم من كنوز وطاقات في الأرض وفي السماء.
وبذلك تكون الحضارة الإسلامية معنية بالبدء من القمة نظرًا إلى شرف الغاية التي توصل إليها المرتبة العليا من مراتب الحضارة الإنسانية، ثم توجه عنايتها البالغة إلى المرتبة الوسطى، ثم تنتقل بالناس إلى المرتبة الدنيا، وتأخذ بأيديهم، وتدفعهم للارتقاء في درجاتها بكل ما يستطيعون من قوة ابتكار وتحسين من التقدم الحضاري أوفى نصيب وأسماه، وذلك لأن الإسلام قد أحب للناس كل أنواع التقدم والرقي الحضاريين، إلا أنه باشر بنفسه الأهم فتولاه تداركًا لبني آدم حتى لا يطول أمدهم في الهمجية والانحراف والشتات، وتحقيقًا لحكمة الابتلاء التي يكمن فيها سر خلق الله الإنسان كائنًا ذا عقل وإرادة ومقدار من القدرة على التنفيذ، وهذه هي الشروط اللازمة للابتلاء.
أما المهم فقد تركه الإسلام للعمل الإنساني الذي يقوم على التطوير والتحسين والابتكار والتنافس، لإحراز السبق في شتى الميادين الحضارية.
وربما نلاحظ في أمم الأرض صورًا حضارية كثيرة، لكنها في معظم أحوالها لا تعدو درجات المرتبة الدنيا، وبعض درجات المرتبة الوسطى من مراتب الرقي الحضاري، وكثيرًا ما تصاب الإنسانية بويلات جسام نتيجة لسبق حضاري مادي مجرد عن حضارة خلقية ونفسية ذات سلوك فاضل، فيكون هذا
السبق المادي وسيلة للطغيان وخراب العمران، والإفساد في الأرض، وحلول الشر المستطير.
وبذلك تنقلب الصورة الحضارية المادية إلى وجه همجي متجهم كالح، مقعم بالخشية واللؤم والشر والفساد. وذلك لأن الغرائز النفسية في الناس إذا بقيت على حالتها الهمجية، ووجدت بين يديها الوسائل المادية المتقدمة، فإنها ستحرض الناس على استخدام هذه الوسائل المتقدمة في السطو والظلم والعدوان والتكالب على الشهوات واللذات، استخدامًا مفرطًا في الهمجية بعيدًا عن كل معنى حضاري كريم.
وحينئذ يكون التقدم الحضاري في تحسين الوسائل المادية فقط سببًا من أسباب الإمعان في البعد عن المنهج الحضاري الأمثل للإنسانية الفضلى، وسببًا من أسباب الإغراق في الهمجية المفرطة، التي لا تعرف إلا الأنانية المادية، والتكالب على الشهوات، وتناهب اللذات، والرغبة بالسطو والظلم والعدوان.
وقد كان من الخير لهذه الهمجية المفرطة المنصرفة عن كل رقي في المفاهيم الفكرية والعقائد والأخلاق والعلاقات الاجتماعية أن تظل على وسائلها البدائية، حتى لا تجد بين يديها ما توسع به دائرة الإثم والشر والإفساد والضر، والفتك بالآخرين، إرضاء للغرائز المتوحشة التي لا تحد أنانياتها ومطامعها وغضبها وكراهيتها وحقدها حدود من الغريزة.
وإن إنسانًا من هذا النوع لا بد أن يكون أضل سبيلًا من الأنعام، بل أضل سبيلًا من الوحوش المفترسة العقورة.
وذلك لأن هذه الأحياء المتوحشة ذات غرائز محدودة المطامع والآمال بحدود حاجاتها العضوية، فإذا أخذت حاجاتها كفت واستغنت، ريثما تتجدد حاجاتها مرة أخرى.
بيد أن الإنسان مفطور على غرائز ترافقها آمال ومطامع نفسية غير ذات حدود، فهي لا تكف عن الطلب والمتابعة، والرغبة بالحيازة والتملك، أو السطو والتسلط، مهما نالت ما يكفيها ويغنيها، ومهما جمعت ما يكفي ذرياتها ويغنيهم، ولو إلى ألوف الأجيال من وارئها، فلو أوتي ابن آدم واديًا من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو أتى لابتغى إليه ثالثًا، وهكذا تتجدد مطامعه إلى ما لا نهاية له، وكم أدى الحقد ببعض المتسلطين إلى أن يدمروا مدنًا، ويقوضوا حضارات، ويقتلوا مئات الألوف من الناس.
ولما جعل الخالق العظيم غرائز الإنسان منفتحة الحدود وهبه العقل والإرادة ليكبح جماح غرائزه وشهواته ومطامعه، ويحدها في الحدود النافعة، ويكفها عن التجاوز الضار به أو بالمجتمع الإنساني المشارك له في سكنى الأرض، والعيش في هذه الحياة الدنيا، وأنزل له الشرائع السماوية تعليمًا وتربية، وترغيبًا وترهيبًا، وذلك ليبلوه في ظروف الحياة الدنيا، ثم ليحاسبه ويجازيه يوم الدين.
وحينما يعطل الإنسان عقله وإرادته عما خلقا من أجله، فإنه سيهوي حتمًا إلى همجية سحيقة، أحسن مرتبة من همجية الأنعام، بل أخس مرتبة من همجية الوحوش المفترسة.
إذن فلا يصح أن تقاس حضارة الإنسان المثلى على وجه العموم بمقدار ما يتوصل إليه من تقدم في ابتكار الوسائل المادية، التي تخدم الجسد الفاني، وتحقق لذاته، ومتعه وراحته وقوته، واختصاره الزمن له، وتقريب المسافات وإنما هي لون حضاري يتناول جانبًا من جوانب النشاط الإنساني، وهو الجانب المادي.
ولا يرتقي هذا النشاط المادي في سلم الخير ما لم يرافقه تقدم حضاري اجتماعي ونفسي وفكري ضمن الأسس الدينية الربانية، وإلا كان تدنيا في درك الشر، وسببًا للإفراط في الهمجية، والبعد عن كل مرتقى حضاري كريم.
وهنا نلاحظ أنه يعسر على كثير من قصيري النظر أن يفهموا الرقي الحضاري إلا في مجال التقدم المادي، القائم على إمتاع الجسد ورفاهيته، واختصار الزمن، وتنمية وسائل القوة، وهؤلاء هم الذين يقعون في الغالب فريسة تضليلات أعداء الإسلام.
مع أن الرقي الحضاري في جانب الوسائل المادية فقط، والمقرون بالتخلف الحضاري في جوانب المفاهيم الفكرية الراقية، عن الكون والإنسان والحياة والوجود بأسره، والمقرون بالتخلف الحضاري، في العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والعلاقات الاجتماعية الخيرة، والمراقي النفسية والروحية المشرقة، لا بد كما أوضحنا آنفًا من أن يسوق الإنسانية إلى شر مستطير، تقوض فيه بنفسها أركان حضارتها، التي تصنعها في أجيال وقرون، وتذمر فيه بنفسها أبنية مجدها المادي الذي بلغته، مهما تكن درجته تبهر الناظرين، وتدهش الأنفس، فيأخذ بتمجيدها قصار النظر الذين ينظرون إلى السطوح فقط، ولا يتفكرون فيما وراء هذه السطوح من شرور كمينة، سيصيبها الانفجار، الذي يحدث به الدمار، متى لامستها شرارة من الغضب أو الحقد أو الطمع أو الحسد، أو الأنانية الضيقة، أو التعصب الذميم، أو الجنوح الفكري عن منهج الحق والعدل والخير للإنسانية جمعاء.
وذلك لأن التقدم في تحسين وسائل الرفاهية وقوى الفتك، مع همجية المفاهيم الفكرية، والمعتقدات الفاسدات، ومع الأخلاق الشرسة، والغرائز المتوحشة، والشهوات العارمات، والرغبة بالتسلط والانتقام، والاستئثار بكل خيرات الدنيا، أشد خطرًا على الإنسانية ومعالم حضارة القرون الزاهرة من التخلف في هذا المجال، مهما يكن تخلفًا قبيحًا.
فالوسائل المتقدمة ستغري الغرائز المتوحشة الهمجية بالفتك والعدوان والظلم، كما تثير نزوات الغضب، وحفائظ الحقد والتعصب في طبائع الإنسان الهمجي، وذلك بما تشعره من قدرة على تلبية نزواته وأهوائه، ورعوناته، دون أن يكون عرضة لانتقام الآخرين منه بشكل مؤكد.
أما الإسلام فإن مثله -إذا يسير بالإنسانية في جوانب التقدم المختلفة، ومنها جانب التقدم المادي- كمثل الذي يصنع القنبلة الذرية، ويصنع معها صمام الأمان، الذي يحمي من خطر انفجارها في غير الوقت والمكان اللذين يحسن أن تنفجر فيهما.
وقنبلة التقدم المادي إنما يحسن انفجارها في نظر الإسلام حينما يكون ذلك وسيلة خير للإنسانية جمعاء، ودرء لضر مردة الشياطين من الإنس، وصمام الأمان لكل أنواع التقدم المادي لا يكون إلا بالتزام ما جاءت به الشرائع السماوية الصحيحة من عقائد وأخلاق وفضائل وأنظمة اجتماعية وفردية.