المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية - الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌فاتحة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌فاتحة كتاب؛ "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري

- ‌المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري

- ‌المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري

- ‌الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات

- ‌الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: الحق والباطل

- ‌الفصل الثاني: الخير والشر

- ‌المقولة الأولى: تعريفات للخير والشر

- ‌المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه

- ‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

- ‌المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية

- ‌المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات

- ‌المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب

- ‌الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود

- ‌انفتاح الحدود الفكرية

- ‌ انفتاح الحدود النفسية:

- ‌ انفتاح الحدود المادية:

- ‌الفصل الرابع: المثالية والواقعية

- ‌المقولة الأولى: تعريفات وبيانات عامة للمثالية والواقعية

- ‌المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌مدخل

- ‌شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية

- ‌شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها

- ‌شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية

- ‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

- ‌شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري

- ‌جدليات حول المثاليات والواقعيات الإسلامية:

- ‌الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا

- ‌مقدمات عامة:

- ‌الفصل الأول: التعلم والتعليم

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلى التعلم والتعليم

- ‌المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف المختلفة

- ‌المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسؤوليته بالنسبة إليها

- ‌المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى

- ‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السابعة: منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية

- ‌المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان

- ‌المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام

- ‌المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار

- ‌المقولة الرابعة: دفع شبهات

- ‌الفصل الثالث: التربية

- ‌الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن

- ‌المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة

- ‌المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم

- ‌الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم

- ‌المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي

- ‌المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسؤولياته

- ‌الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال

- ‌المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية

- ‌المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية

- ‌الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية

- ‌الفصل الأول: تلقي القرآن وتدوينه وتدبره

- ‌المقولة الأولى: تلقي القرآن وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم التفسير

- ‌الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة

- ‌المقولة الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة وزواتها

- ‌الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية

- ‌الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية

- ‌الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما

- ‌المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما

- ‌المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الثالثة: الكيمياء

- ‌المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات

- ‌المقولة الخامسة: الحيوان

- ‌الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقا وسلوكا

- ‌النشأة والتأسيس

- ‌ العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في مصر:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي:

- ‌كلمة موجزة عن أندنوسيا

- ‌ تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان:

- ‌الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون

- ‌ مقدمة:

- ‌ الواقع الاقتصادي:

- ‌ المالية العامة:

- ‌ التنظيمات الإدارية:

- ‌ القضاء:

- ‌ نظام الحسبة ووظيفة المحتسب:

- ‌ التدبيرات العسكرية:

- ‌ العمران:

- ‌ الخط العربي

- ‌ الصناعات الخزفية:

- ‌ الصناعات الزجاجية:

- ‌ صناعة النسيج:

- ‌الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى

- ‌ مقدمة:

- ‌ من أقوال المنصفين:

- ‌تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب

- ‌ واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين:

- ‌ أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين:

- ‌خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌خاتمة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌فهرس الكتاب:

- ‌آثار المؤلف

الفصل: ‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

منها قول الله تعالى في سورة "التوبة: 9 مصحف/ 113 نزول":

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

ومنها قول الله تعالى موجهًا المؤمنين لكراهية من حاد الله ورسوله في سورة "المجادلة: 58 مصحف/ 105 نزول":

{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

أما نزغات الشيطان فعلى العكس من ذلك؛ إذ تكره الإنسان بالخير ومصادره وأسبابه، وتحببه بالشر ومصادره وأسبابه، وتمتص ما لديه من عاطفه محبة في الموبقات المزينة للأنفس.

ص: 231

‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

وتظهر لنا الواقعية في هذا المجال في مراعاة واقع حال المجتمعات الإنسانية التي يتفاوت أفرادها في استعداداتهم وخصائصهم، وذلك في البيانات الإسلامية، وفي أساليب التربية، وفي الأعمال الجماعية، وفي تحديد مناهج السلوك، وفي أصول المحاسبة والجزاء.

الشرح: لما كان الإسلام هداية للناس جميعًا على اختلاف خصائصهم وقدراتهم الفكرية والنفسية والطبيعية والجسدية، ولم يكن لفئة منهم دون فئة، اقتضت الواقعية في أسسه أن يراعي كل صنف من أصناف الناس بإعطائه ما يناسبه من

ص: 231

بياناته التعليمية، وأساليبه التربوية، وأن يراعي النسبة العامة من الناس في نظمه التي يحدد بها مناهج سلوكهم الواجب، ويراعي فروق الاستعدادات والقدرات والخصائص الفردية لدى محاسبة كل منهم، ومجازاته على ما كسب من صالحات وما اكتسب من سيئات.

واقتضت الواقعية في هذا المجال أن يوجه الإسلام المربين والدعاة وأولي الأمر من المسلمين وكل راع في رعيته منهم لاتباع ما تقتضيه الواقعية في مجالات التربية والرعاية المختلفة.

شرح الواقعية في مجال التعليم والتربية:

في مجال التعليم والتربية نلاحظ تفاوتًا في أصناف الناس يستدعي تفاوتًا في المستويات العلمية التي تقدم لكل صنف منهم، ويستدعي تفاوتًا آخر في وسائل التربية التي تستخدم في تربية كل صنف منهم أيضًا، وذلك لتشمل الهدايتان التعليمية والتربوية جميع أصناف الناس وفئاتهم.

وهذا ما راعاه الإسلام بحكمة بالغة، ولفت إليه أنظار الدعاة والمعلمين والمربين، ضمن أسس الواقعية التي التزم بها.

الواقعية في التعليم:

ولما كان في الناس عباقرة وأذكياء، ومتوسطون في الذكاء وأغبياء، وكانت الواقعية تقتضي أن يخاطب كل صنف من هؤلاء بالأسلوب والطريقة والمستويات العلمية الملائمة له، وأن لا يفترض فيهم جميعًا أنهم عباقرة أو متوسطون في الذكاء أو أغبياء، وجدنا معظم النصوص الإسلامية التعليمية تمتاز بأنها مصوغة بطريقة تصلح لكل المستويات الفكرية من الناس، ولكن كل ذي مستوى يتوسع في إدراك الحقائق التي تضمنتها على مقدار ارتفاع مستوى قدراته الفكرية، واتساع خبراته وتجاربه.

كما وجدنا طائفة من النصوص الإسلامية تخاطب بأسلوبها ومضمونها العلمي فئة العباقرة والأذكياء من الناس؛ إذ تعتمد على المناقشات والبراهين

ص: 232

المنطقية البحت، مع إيجاز بديع، ونعتمد على الاكتفاء بعرض المجردات الفكرية، دون استخدام وسائل حسية، ودون مرور في طرق المشاعر الوجدانية.

ووجدنا طائفة أخرى من النصوص تخاطب بأسلوبها ومضمونها العلمي فئة متوسطي الذكاء؛ إذ تمزج المناقشات والأدلة العقلية باللمسات الوجدانية، والخطابيات المثيرة للمشاعر الإنسانية، كمشاعر الطمع والخوف، مع استخدام الوسائل الحسية لذلك.

ووجدنا طائفة ثالثة منها تخاطب بأسلوبها ومضونها العلمي الفئة الدنيا من الناس، وذلك إذ تبتعد قدر الإمكان عن عرض المجردات الفكرية، وإذ تجعل معظم اعتمادها على ما يثير المخاوف والمطامع من جهة، وعلى ما يلفت النظر إلى الوسائل الحسية والتجريبية من جهة أخرى.

والخطة العامة لكل ذلك يشير إليها قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .

فالفئة الممتازة من الناس الذين تكفيهم الهداية للتي هي أقوم في الحقائق العلمية، والحكام الشرعية، يجدون هذه الهداية في القرآن، والفئة الأخرى من الناس المحكومة لسلطان المطامع يجدون البشريات بالأجر العظيم في القرآن تجذبهم إلى سبيل الرشاد، والفئة الثالثة من الناس المحكومة لسلطان المخاوف يجدون في القرآن المنذرات بالعذاب الأليم تردهم عن سبل الضلالة.

ومن الجدير بالملاحظة أن القرآن لفت أنظار الدهماء من الناس إلى معرفة الحقائق الدينية عن طريق دلائلها الكونية القريبة، التي لا تحتاج أكثر من تذكير بها، وراعى حالتهم الفكرية، غير العاملة في تصيد الدلائل وعقلها، وإدراك الحقائق بها، فهم بحاجة إلى من يذكرهم وينبههم عن طريق أسماعهم، ويكشف لهم اقتران الحقائق الدينية بأدلتها الكونية التي يشاهدونها، في أنفسهم وفيما حولهم من الأدلة القريبة التي لا تتطلب جهدًا فكريًّا فوق استطاعتهم المعتادة.

ص: 233

أما الفئة المتعلقة من الناس، وهم الذين تعمل أفكارهم عادة في تصيد الدلائل التي يشاهدونها، وفي عقلها وربطها بما تدل عليه من حقائق، فقد لفت القرآن أنظارهم إلى إدراك الحقائق التي تحتاج إلى شيء من التعقل والتأمل، ووضع أمامهم مجالات فكرية أرقى مستوى من المجالات التي وضعها أمام الدهماء.

ثم ارتقى القرآن إلى مستوى ثالث من مستويات الناس، ألا وهو مستوى العلماء الباحثين عن دقائق الأمور، القادرين على الغوص إلى أعماق من المعرفة، لا يغوص إليها غيرهم في الأحوال العادية، فوضع أمام هؤلاء مجالات فكرية واسعة، تحتاج إلى بحث عميق، وتتبع دقيق، ليصلوا عن طريق البحث والتتبع إلى إدراك الحقائق الدينية إدراكًا يتناسب مع ما وهبهم الله من قدرات بحث، وتفكر دائم، واستنباط.

ونستطيع أن نستدل لذلك بأدلة قرآنية كثيرة:

ففي لفت نظر الدهماء من الناس بشكل عام إلى آيات الله في الكون عرض القرآن أدلة واضحة، لا تحتاج إلى تفكير كثير، وبين أن فيها دلائل لقوم يسمعون، إشارة إلى أن لفت نظرهم إليها بالقول كاف لأن يجعلهم يفهمونها، فليست هي من القضايا الصعبة حتى تحتاج إلى جهد عقلي، وليست من العويصات حتى تحتاج إلى تفكر وبحث متتابعين، مما لا يصبر عليه إلا العلماء الباحثون، وإنما هي من البدهيات، أو دلائل قريبة منها.

فمن ذلك قول الله تعالى في سورة "الروم: 30 مصحف/ 84 نزول":

{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .

وقول الله تعالى في سورة "يونس: 10 مصحف/ 51 نزول":

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .

ص: 234

فنوم الناس بالليل والنهار، وحاجتهم إليه، وعمل الناس لاكتساب الرزق، يبتغونه من فضل الله، وحاجتهم إليه من الأمور البدهية التي يشترك في إدراكها الناس جميعًا، مهما تنازلت مستوياتهم الفكرية، فلا يحتاج التبصر فيها إلى أكثر من لفت النظر بالقول، وذلك كاف في أن يشعروا بعجزهم، ويشعروا بقدرة الله وحكمته، الذي خلق فيهم الحاجة، ويسر لهم وسائل قضائها.

وكون الليل نعمة من الله ليسكن الناس فيه، وكون النهار مضيئًا ليعمل الناس فيه، ويعملوا في كسب أرزاقهم أمران واضحان بدهيان، لا يحتاج إدراكهما إلا إلى لفت النظر إليهما بالقول.

فالذين يسمعون ممن توافرت فيهم شروط التكليف سيدركون ذلك، دون إجهاد عقلي، ولذلك ذيل الله الآيتين السابقتين بقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .

وفي لفت أنظار الفئة الوسطى من الناس، وهي فئة المتعقلين، الذين يهتمون عادة بتصيد الأدلة وعقلها، وربطها بما تدل عليه، عرض القرآن أدلة تحتاج إلى قدر مناسب من عقل الأمور، وفهم ارتباطاتها.

ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول":

{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

فمستوى إدراك القطع المتجاورات من الأرض، والجنات، وما فيها من أشجار مختلفة الصفات، ومختلفة الثمرات إذ بعضها أفضل من بعض في الأكل، مع أنها تستقي بماء واحد، أمر يحتاج إلى تأمل وراء البديهة، وإلى تعقل مناسب، ولا يكفي فيه مجرد لفت النظر إليه بالقول، بل لا بد فيه من التأمل والتعقل، بضبط شرود النفس مع الأهواء، ولذلك ذيل الله الآية بقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} .

ص: 235

وفي لفت أنظار الفئة العليا من الناس، وهي فئة المتفكرين، الباحثين العلميين، للحقائق، واستنباطها من الأعماق، عن طريق أدلتها الدقيقة، عرض القرآن أدلة يحتاج استقصاؤها واستيعاب دقائقها إلى بحث وتتبع، وجهد فكري كثير، ونسب عالية من القدرات الفكرية.

ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول":

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

فمستوى البحث في الأرض، وكيفية تكوينها، وفي الجبال وسر وجودها، وفي الأنهار ومسالك ينابيعها ومصادرها ومواردها، وفي الثمرات وكون كل منها مؤلفًا من زوجين اثنين مذكر ومؤنث، وفي النظام الدقيق الذي يغشي الله فيه الليل النهار، مستوى دقيق لا يحسنه ولا يستطيعه إلا الباحثون العلميون الذين يتابعون البحث والتفكر والاستنباط، ولذلك ذيل الله الآية بقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

ومن أمثلة مراعاة الإسلام مستويات الناس الفكرية في بياناته التعليمية، نص قرآني في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول"، جمع الله فيه طائفة من الأدلة الكونية، ذات مستويات ثلاثة، تناسب مستويات فئات الناس الثلاث، وهي فئة الدهماء بشكل عام، ثم فئة المتعلقين، ثم فئة المتفكرين الباحثين العلميين، المتتبعين دقائق المعرفة.

وختمت المجموعة الأولى منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وهم الذين يناسبهم أن توضع أمامهم أدلة قريبة، لا يحتاج إدراكها وفهمها إلى جهد فكري، بل يكفي لإدراكها التذكير القولي بها لبداهتها، أو لكونها قريبة من الأمور البدهية.

وختمت المجموعة الثانية منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} . وهم الذين تعمل أفكارهم عادة في تصيد الأدلة وعقلها، وربطها بما تدل عليه من حقائق، وهؤلاء يناسبهم أن تلفت أنظارهم إلى أدلة ذات مستوى

ص: 236

متوسط، مما يتنبه إليه عادة المتعلقون، الذين يلذ لهم فهم ارتباط الأمور بعضها ببعض، ويحلو لهم ربط الأدلة بما تدل عليه من حقائق.

وحتمت المجموعة الثالثة منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهم الباحثون العلميون، الذين يتفكرون باستمرار في ظواهر الأشياء، ويغوضون إلى بواطنها، ويستنبطون من أعماق المباحث الفكرية حقائق المعرفة.

أما النص القرآني من سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول" الذي جمع هذه المستويات الثلاثة، مع التدرج فيها من الأدنى إلى الأعلى فهو قول الله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

ففي المستوى الأول يلفت النص أنظار قوم يسمعون إلى الأدلة الكونية التي يحتوي عليها، إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، ويلاحظ أن إدراك هذه الظاهرة الكونية من الأمور التي لا يحتاج البحث فيها إلى جهد عقلي، بل يكفي فيها التذكير بالقول، حتى يدرك السامعون ما تحتوي عليه من أدلة كونية تدل على قدرة الخالق العظيم وحكمته.

وفي المستوى الأوسط يلفت النص أنظار قوم يعقلون إلى الأدلة الكونية التي يحتوي عليها ما يخلقه الله في بطون النعام من اللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين صنفين مختلفين اختلافًا شديدًا هما الفرث والدم المستقذران اللذان يحرم أكلهما، وإلى الأدلة التي يحتوي عليها خروج صنفين مختلفين اختلافًا شديدًا هما السكر الذي يحرم شربه، والرزق الحسن الطيب، وكل منهما يخرج من مصدر واحد، هو ثمرات كل من النخيل والأعناب،

ص: 237

ويلاحظ أن إدراك هذه الظواهر الكونية من الأمور التي تحتاج إلى تعقل وتبصر، لما فيها من حاجة إلى فهم الأصناف المختلفة المتباينة في خصائصها، وكيفية استخلاص صنف آخر منها، كاستخلاص اللبن السائغ من بين فرث ودم، أو استخلاصها من صنف آخر، كاستخلاص السكر والرزق الحسن من ثمرات كل من النخيل والأعناب.

وفي المستوى الأعلى يلفت النص أنظار قوم يتفكرون إلى الأدلة الكونية التي لا يدركها إدراكًا تامًّا إلا الباحثون العلميون؛ إذ يلفت أنظارهم إلى دراسة مملكة النحل، دراسة مستفيضة، تتناول بحث سر الغريزة التي خلقها الله في النخل، وسر الإلهام الرباني الذي ألقاه الله إليها، فطفقت تتخذ بيوتها ذات الهندسة الرائعة، في الجبال والشجر وما يعرش الناس. وتتناول أيضًا بحث رحلاتها اليومية، لتأكل من كل الثمرات، وتمتص رحيق الأزهار المختلفة، وتسلك السبل التي ذللها الله لها. ثم بحث صناعة العسل في بطونها، وبحث أصنافه وألوانه، وبحث خصائصه التي فيها شفاء للناس. وبدهي أن إدراك هذه الآيات الكونية في مملكة النحل مما يحتاج إلى بحث عملي دقيق، وتفكر دائب. واختبارات وتجارب متتابعة، وهذه إنما يقوم بها الباحثون العلميون المتفكرون.

رد الأمور إلى أهل الكفايات:

ولما كان في الناس متفكرون باحثون عن الحقائق في المجالات العلمية البحت، ومتفكرون قادرون على تدبير الأمور، وتخطيط الخطط الحكيمة الرشيدة، في الأمور الإدارية، أو الأمور العسكرية، أو الشئون السياسية، في الأمن أو الخوف، في السلم أو الحرب، كان من مقتضيات الواقعية إرشاد الجماهير العامة إلى رد أمورهم ذات الوجوه المختلفة التي تحتاج تأملًا دقيقًا وبصرًا نافذًا إلى جماعة أولي الأمر منهم، القادرين على حل المشكلات، والتبصر السديد في المعضلات، والتوجيه إلى أرشد الآراء وأسدها، وذلك ليهتدي بعض هؤلاء إلى وجه الصواب عن طريق البحث والتفكر والاستنباط، قال الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":

ص: 238

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَاّ قَلِيلا} .

فهذا النص يرشد إلى رد الأمور إلى جماعة أولي الأمر من المسلمين وهم:

العلماء المجتهدون القادرون على استنباط الأحكام الشرعية، في شئون الفقه الإسلامي.

والإداريون القادرون على استنباط أفضل الأعمال والنظم في الشئون الإدارية.

والمهرة في السياسة الشريعة القادرون على استنباط أسد الخطط وأحكامها في الشئون السياسية السليمة والحربية.

والقادة العسكريون المخططون القادرون على استنباط أنجح الخطط في شئون القتال والحرب.

وهكذا في كل مجال يبرز فيه متخصصون ذوو مهارات أو قدرات فطرية أو مكتسبة، فإن الإسلام يوصي بأن يرد السواد الأعظم من الناس كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه.

حتى الأمور التي يعتمد العلم بها على الحفظ والذاكرة فإن الإسلام يوصي بالرجوع فيها إلى أهل الذكر، وهم حفاظ النصوص، ورواه التاريخ، العالمون بهذا الأمور.

ومن أمثلة ذلك: لما اعترض المشركون على إنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يتوهمون أن الرسالة الربانية من شأنها أن تنزل على ملك لا يأكل الطعام، ولا يمشي في الأسواق، ولا يتزوج النساء، واستبعدوا أن يصطفي الله بها رجلًا من الناس، أنزل الله تعالى قوله في سورة "الأنبياء: 241 مصحف/ 73 نزول":

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

وقوله في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول":

ص: 239

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} .

أي فاسألوا أهل العلم الحافظين لتواريخ الأنبياء والرسل السابقين، إن كنتم لا تعلمون بالبينات من الأدلة، ولا تعلمون بما في كتب الأولين، من مستحفظات تاريخية صحيحة، وهذا يتضمن تذكيرهم بأنهم يعترفون لبعض من سبق بأنهم كانوا رسلًا يُوحى إليهم، مع أنهم رجال من الناس، فإن كان لديهم مسكة من عقل فما هذه التفرقة.

وهكذا يوصي الإسلام بالرجوع إلى أولي الأمر، وبسؤال أهل الذكر، ويقاس على ذلك إحالة كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه، العالمين به، بغية الوصول إلى أرشد ما في الفكر، وأسد ما في العمل.

الواقعية في التربية:

للتربية الإسلامية التي تهدف إلى صلاح الناس جميعًا، وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، وسائل تربوية تناسب في النظرة إلى الأفراد الجوانب الإنسانية المختلفة، وهي الجوانب الفكرية، والجوانب النفسية، وتناسب في النظرة إلى الجماعات أحوال الناس المختلفة، وطبائعهم المتفاوتة.

وتتلخص خطة الوسائل التربوية في الإسلام بثلاثة عناصر كبرى، تنضوي تحتها فروع كثيرة:

العنصر الأول: الهداية للتي هي أقوم.

العنصر الثاني: الترغيب.

العنصر الثالث: الترهيب.

وفيما يلي شرح لهذه العناصر الثلاثة:

شرح العنصر الأول: "وهو الهداية للتي هي أقوم"

إن عنصر الهداية للتي هي أقوم عنصر يتضمن استخدام كل الوسائل المتصلة اتصالًا مباشرًا بالإرشاد إلى الكمالات المختلفات التي هدى إليها الإسلام، ومن هذه الوسائل ما يلي.

ص: 240

1-

التدريب العملي.

2-

القدوة الحسنة.

وقد سبق بيان هاتين الوسيليتن عند الكلام على الكمال السلوكي.

3-

الإقناع الفكري من شتى طرقه الحكيمة، التي تستخدم فيها الحجج والبراهين العقلية والحسية والوجدانية، وتستخدم فيها المؤثرات على الأنفس، كالخطابة، والشعر، والحكم المأثورة، والأمثال، والتشبيه والتمثيل، والقصص التاريخية، وعرض النماذج الحسية من الواقع الكوني، ونحو ذلك.

وفي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الشيء الكثير من استخدام هذه الطرق الحكيمة للوصول إلى الإقناع الفكري.

ولا بد من ملاحظة أن بعض طرق الإقناع الفكري قد يجدي مع فريق من الناس، في حين أنه قد لا يجدي مع فريق آخر، والمربي الحكيم هو الذي يحسن معرفة خصائص الفرد الفكرية والنفسية، فيستخدم معه طرق الإقناع الملائمة له.

ولما كان القرآن هداية خالدة للناس جميعًا، كان محتويًا على كل الطرق التي من شأنها أن توصل الناس إلى قناعة فكرية، بكمال ما يدعو إليه من خير، يضاف إلى هذا أنه كان إبان نزوله منجمًا على رسول الله صلوات الله عليه قد كان ينزل موافقًا للحكمة التربوية التي تقتضيها مناسبة النزول لطائفة الآيات المنزلة، سواء كانت التربية للرسول، أم للمؤمنين، أم للمنافقين، أم للمشركين، أم لأهل الكتاب، أم للناس بشكل عام.

وقد بين الله جل وعلا أنه اتخذ كل وسائل التربية ذات الأثر الحسن، وأنزل في كتابه مثلًا من كل وسيلة منها، قال الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} .

وقال فيها أيضًا:

ص: 241

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} .

وقال سبحانه وتعالى في سورة "الكهف: 18 مصحف/ 69 نزول":

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} .

وهذا التصريف هو التنويع في وسائل الإقناع وأساليبه، وفي سائر وسائل الهداية، والتحويل فيها من وجه إلى وجه آخر بحسب مقتضيات أحوال المخاطبين، الفكرية والنسية، الفردية أو الاجتماعية.

فمن عرض لعناصر الهداية بشكل خال من العنف والجدال، إلى أسلوب آخر مقرون بالحجج، إلى أسلوب ثالث فيه شيء من الجدال بالتي هي أحسن، ثم إلى أسلوب رابع فيه شيء من العنف الجدلي، وهكذا ترتقي الأساليب، ومع كل أسلوب منها صور بيانية مناسبة له، ذات أثر صالح في النفوس البشرية، وهكذا يستجمع القرآن المجيد كل أساليب الإقناع الفكري، فيما صرف الله فيه من آيات بينات.

أمثلة قرآنية:

وفيما يلي طائفة من أمثلة أساليب الإقناع الفكري التي استخدمها القرآن الكريم:

أ- فمن أمثلة الإقناع عن طريق عرض الحقائق المقرونة بحججها قول الله تعالى لرسوله محمد صلوات الله عليه في سورة "الأعراف: 7 مصحف/ 39 نزول":

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

فظاهر في هذا النص أن الله جل وعلا يأمر رسوله بأن يعرض نفسه على الناس داعيًا إلى الإيمان والتوحيد، وفي الأسلوب المتبع في هذا العرض منتهى.

ص: 242

الهدوء والأناة، ونلاحظ أن الدعوة إلى توحيد الآلهية مقرونة بالدليل عليها، ألا وهو انفراد الله بالربوبية، فهو الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الذي يحيي ويميت.

ومما لا ريب فيه أن أسلوب الدعوة في مراحلها الأولى ينبغي أن يكون مملوءًا بالهدوء والأناة، خاليًا من كل عنف وجدال، وهذا ما أرشد الله رسوله إليه.

ب- ومن أمثلة الإقناع بالأدلة ما فعله الله تعالى بالعزير الرجل الصالح من بني إسرائيل، إذا مر على قرية أموات، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه وبعث حماره وهو يشاهد بعثه، فبين له بالدليل الحسي كيف يحيي الله الموتى، كما رأى بنو إسرائيل من أهل قريته هذا الحديث التاريخي العجيب، قال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

ج- ومن أمثلة الإقناع عن طريق تقريب الحقائق بالأشباه والنظائر والمساويات طائفة من الأدلة، عرضها القرآن لتقريب فكرة البعث لعقول المنكرين.

رُوي أن جماعة من كفار قريش، منهم أبي بن خلف الجمحي، وأبو جهل، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، تكلموا في شأن الإسلام، فقال لهم أبي بن خلف: ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظمًا باليًا فجعل يفته بيده، ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم، قال: "نعم، ويبعثك

ص: 243

ويدخلك جهنم"، فأنزل الله تعالى في إقامة الحجة على هؤلاء قوله في سورة "يس: 36 مصحف/ 41 نزول":

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .

فقد بين الله جل وعلا في هذا الرد القوي التسوية بين الإنشاء الأول وبين الإحياء مرة ثانية، وأنه لا تفاوت بينهما مطلقًا، وأكد ذلك بقوله تعالى في سورة "مريم: 19 مصحف/ 44 نزول":

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} .

وقرب الله هذه الحقيقة أيضًا عن طريق إيراد أشباه محسة لها، فقال تعالى في سورة "الحج: 22 مصحف/ 103 نزول":

{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وذلك لأن جفاف الزرع وانقطاع تغذيته من الأرض وحصاده يشبه حالة الموت في الأحياء، ثم إن السنة الكونية الدائمة المشاهدة في انشقاق الحبوب، في بطن الأرض ونباتها، بعدما سبق من حالتها التي تشبه حالة الموت، وعودتها إلى الحياة والنضرة كَرَّة أخرى، وذلك عند وجود البيئة الملائمة، من ماء ممتزج بالتراب الصالح، لتعطي تقريبًا حسيًّا مشاهدًا باستمرار، في الظواهر الكونية، لقصة بعث الأحياء بعد موتها، وتفرق أجزاء أجسامها في تراب الأرض.

د- ومن أمثلة الإقناع بالأدلة والبراهين العقلية الآيات القرآنية التي قدمت البراهين على وحدانية الله تعالى.

منها قول الله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول":

{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} .

ص: 244

ومنها قول الله تعالى في سورة "الإسراء: 17 مصحف/ 50 نزول":

{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} .

ومنها قول الله تعالى في سورة "المؤمنون: 23 مصحف/ 74 نزول":

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .

فمضمون البرهان العقلي في قوله تعالى قل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، أنه لو تعددت الآلهة الأرباب في الكون لفسد نظام السماوات والأرض، ولأختل تماسكهما القائم على وحدة نظام، ووحدة تسيير، وهذا من الأمور المسلم بها؛ لأن الإرادات الحرة إذا توجهت شطر مخلوق فلا بد أن تتعارض، ومتى تعارضت تنازعت، ومتى تنازعت فسد نظام المخلوق، والكون كله مخلوق مترابط بوحدة نظام وتسيير كما هو مشاهد، فلو كان فيه آلهة أرباب غير الله لفسد نظامه واختل وجوده وبقاؤه، وقد تضمنت هذه الآية في استدلالها برهانًا قاطعًا على نفي فكرة تعدد الآلهة الأرباب، وهذا البرهان هو ما يسمى ببرهان التمانع، كما يعرف ذلك المنطقيون.

ومضمون الدليل في قوله تعالى في آية "الإسراء": {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أنه لو كان مع الله آلهة أرباب تحكم في الكون وتتصرف، وتحيي وتميت، وترزق وتشفي، ومن أجل ذلك تستحق أن تعبد كما يقول المشركون، للزم أن تتخذ هذه الآلهة الأرباب سبيلًا إلى منافسة ومنازعة ومقاتلة رب العرش، الذي يعترفون به ربًّا خالقًا له، ولا ينكرون وجوده وقدرته، ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى، وإنما يلزم أن تتخذ سبيلًا إلى هذه الأمور لأن الإلهية المتضمنة كمال التصرف وكمال القدرة لا تقبل الخضوع والاستسلام لرب هو إله معبود فوقها.

أما وإنها لم تتخذ هذا السبيل لرب العرش، ورضيت بضعفها وإلهيتها

ص: 245

المزعومة في نطاق الأرض، فإن ضعفها هذا من الأدلة القاطعة على أنها مخلوقة كسائر المخلوقات، وقد انتحلت لها الإلهية انتحالًا باطلًا، لا يصاحبه دليل تقبله العقول السليمة.

ومضمون الدليل في قوله تعالى في سورة "المؤمنون": {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أنه لو كان مع الله إله آخر له حق الإلهية بربوبيته لكان من أبسط النتائج البدهية أن يجمع كل إله رب مخلوقاته، ويذهب بها، متصرفًا فيها تصرفًا مستقلًّا، ثم لعلا بعض الآلهة الأرباب المتعدد على بعض، بمقتضى سيادة الربوبية واستقلالها، وأن كل واحد لا بد أن ينفذ مراداته ولو تعارضت مع إرادة غيره، ومن ذلك ينشأ التنازع، وغلبة الأقوى للأضعف، وعندها يقال: إن الأضعف لا يصلح للإلهية فهو ليس بإله، ولكن كل ذلك غير واقع؛ لأن الله واحد لا شريك له، فسبحان الله عما يشركون وسبحانه وتعالى عما يصفون.

وعلى هذا النسق تسير الاستدلالات العقلية في القرآن الكريم، موجهة مناقشاتها لفئتي المتعقلين، الباحثين العلميين المفكرين.

هـ- ومن أمثلة الإقناع بالأساليب الخطابية المؤثرة في النفوس، لما فيها من روائع أدبية، قول الله تعالى في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول":

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .

إن هذا النص الرائع الذي جاء على صيغة مثل ليملأ الأنفس قناعة بأن الظفر في آخر الأمر للحق، وأن البقاء له، وأما الباطل فيضمحل ويزهق مهما ظهر له بروز في الأرض، ومهما طفا على السطوح، وبأن الظفر أيضًا لأنصار الحق على جنود الباطل مهما علا شأن المبطلين في أول الأمر.

ولكن هذا الإقناع جاء على صورة خطابية ذات وقع شديد على مشاعر

ص: 246

الأنفس التي تعشق بطبعها الصور البيانية الجميلة، وذلك لأن المقام ليس بحاجة إلى حجج عقلية جدلية، ولكن يتطلب مثيرات مشاعر الشجاعة والإقدام في قلوب المؤمنين لمصارعة المبطلين، والثبات على ما هم عليه من حق، ويتطلب أيضًا مثيرات مشاعر الجبن، والإحساس بالخيبة والفشل في قلوب الكافرين الذين يتخذون الحق بالمظاهر التي لا وزن لها، ولا استقرار ولا ثبات.

وذلك إذ وصل الأمر بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين إلى مرحلة الصراع بين حق يغالب ليظهر ويظفر وليبسط في الأرض عدله ونوره وخيره الكثير، وباطل يدافع عن وجوده غير المشروع، ومبطلين يصارعون الحق المبين، ليحافظوا على مكاسب ظالمة، ما كانوا ليصلوا إليها لولا ظلمات الباطل الذي يدعمونه، ويعلنون أنه حق كذبًا وبهتانًا.

لكن هذا الصراع مهما طالت مدته فلا بد أن يظهر فيه الحق على الباطل، ويكون له الاستقرار والاستمرار في الأرض، وإن بدا للباطل ظهور فارغ في أول الأمر، وانتفاخ طاف على السطح، حتى يغتر به الجاهلون، وينخدع بزيفه المغفلون إلا أنه لا يلبث أن يقذف به إلى جوانب الحياة مهملًا مستقذرًا لا قيمة له.

وما مثله إلا كمثل الزبد الحقير الذي يصارع المادة النافعة، في عنفوان حركتها، فيطفو عليها مدة تسيرة، ثم لا يلبث أن يذهب جفاء، وأما المادة النافعة فإنها تمكث وتستقر بثقلها ورجاحتها؛ لينتفع بها الناس.

هذا ما صورته الآية بأسلوبها البديع المفاجئ.

أما موقف الصراع فقد أوردته الآية على صورة مثلين ماديين مشاهدين، جميعًا في صورة مثل واحد؛ لتشابههما في الشكل، وفي النتيجة.

أما المثل الأول: فهو مشهد من المشاهد الكونية يلاحظه الذين يعيشون في متقلب الأحوال الجوية، في البوادي بين السهول والجبال والوذيان، إنه مشهد مياه غزيرة، تنزل من السماء بقضاء الله، فتعم السهل والوعر والجبل، فتجتمع منحصرة بين الجبال، هابطة من كل مرتفع، حتى تملأ الأودية، وتسيل فيها سيلًا

ص: 247

عنيفًا مخيفًا، يخيل للناظر إليه أن الأودية تسيل أيضًا مع تدفق الماء، ويصطرع الماء في مجراه مع أشواك وأعواد يابسة، وأكوام قمامات، كان لها بروز وظهور في الوديان وعلى السفوح وفي المرتفعات، فيقتلعها ويحتملها، فيكون لها بروز وظهور آخر على سطوح المياه، لخفتها وطيشها، وترغي وتزيد، فيغتر بها الجاهلون، ثم تستفر المعركة عن قذف هذا الجفاء الطافي، وطرحه إلى الشاطئين، حقيرًا مستقذرًا ينتظر البلى، وأما الماء الطهور الذي ينفع الناس، فيمكث في مجاريه ومساربه من الأرض.

وأما المثل الثاني: فهو مشهد آخر من المشاهد التي يلاحظها أرباب الصناعات داخل مصانعهم، مهما كانوا بعيدين عن أجواء البوادي وتقلباتها الكونية، إنه مشهد المعادن وأشباهها، التي يصهرونها بوساطة النار الموقدة عليها، إنهم يلاحظون زبدًا آخر يطفو على سطوح منصهراتهم، بعد أن يشتد صراع الغليان بين الجوهر النافع، وبين الشوائب المفسدة، فالجاهل ربما يظن أن الزبد هو الشيء الثمين، لبروزه، أو لتلامع ألوانه لكن الخبير العارف يسرع إليه، فيقذف به خارجًا، لينقي معدنة من أخلاطه الدنيئة، ويصفي جوهره من خبثه، وأما ما يمكث من دون السطح فيحتفظ به؛ لأنه هو الجوهر النافع الثمين.

وكذلك مثل الصراع بين الحق والباطل، قال الله تعالى في الآية:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} .

وكذلك مثل الصراع بين المحقين والمبطلين، قال الله تعالى في الآية:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال} .

والنتيجة مثل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} .

ويناظر هذه النتيجة في المثل نتيجة في الممثل له، وذلك بأن نقول: فأما الباطل فيضمحل ويتلاشى ويزهق، وأما الحق فيستقر ويثبت ويكون له السلطان.

شرح العنصر الثاني: "وهو الترغيب"

عرفنا أن العنصر الثاني من العناصر الكبرى لخطة الوسائل التربوية الواقعية في الإسلام هو عنصر الترغيب.

ص: 248

إن الترغيب هو العنصر الذي يمثل القوة المحرضة والجاذبة الواقعة على جوانب وفي آخر طريق الخير، الذي يدعو إليه الإسلام، ووظيفة الترغيب دغدغة المطامع الإنسانية، فدغدغة هذه المطامع في اتجاه طريق الخير قد تدفع عن الإنسان الصوارف النفسية التي تصرفه عنه؛ إذ تستعطف شهواته مغريات أخرى، واقفة في اتجاهات سبل الشر المختلفة.

ولما كانت سبل الشر في الحياة محفوفة بمغريات الأنفس كانت أصول التربية تستدعي إيجاد قوة محرضة وجاذبة في طريق الهداية، زائدة على الإقناع الفكري المجرد، وذلك لتنضم إلى قوة القناعة الفكرية -ذات الأثر في الأنفس بنسب تتفاوت بحسب تفاوت الناس- قوة أخرى هي قوة اندفاع نفسي، تحركها مطامعها الذاتية، وبهاتين القوتين يستطيع الإنسان أن يستهين بالمغريات الأخرى، الواقعة في سبل الشر، ويكف بصره ونفسه عنها، ويتجه اتجاهًا سويًّا في فكره وسلوكه.

ومن الملاحظ أن النسبة العظمى من الناس أسراء أنفسهم ومطامعهم وشهواتهم، فهم يستجيبون لها أكثر من استجابتهم لعقولهم وأفكارهم.

ومن الناس من تكون مطامعهم النفسية غلابة على تفكيرهم، فتحجب عنهم سبل التفكير السديد.

فإذا لاحت لهؤلاء أو هؤلاء رغائب في طريق للخير نفسه تهيأت لهم الظروف الملائمة كلها، كيما تتجه مطامعهم لطريق الخير الذي يتجه له التفكير السديد، وتكون لهم هذه المطامع بمثابة القوة الإضافية للفكر، بما فيها من تحريض له على السعي الحثيث، والبحث لاستبانة غوامض الأمور، والإحاطة بجوانب المشكلات، وتكوين القناعة في النفس، المصحوبة بإرادة التنفيذ لما توجب القناعة عمله.

وبهذا يتبين لنا أن الترغيب بشكل عام يمثل وسيلة استرضاء واستعطاف لما لدى الإنسان من طمع بمنافع ولذات وخيرات معجلة أو مؤجلة، فمتى استرضيت النفس بشيء من ذلك سكتت عن الإنسان الصوارف له عن طريق

ص: 249

الخير، وغدا سهل الأنقياد فيه، وانفتحت نفسه للاقتناع به، والتعلق الشديد بأسبابه.

ولما كان الإسلام هداية للناس جميعًا، وواقعيًّا في جوانبه العملية، كانت الواقعية فيه تتطلب إيجاد عنصر الترغيب في وسائله التربوية للناس، وذلك في كل ما يهديهم إليه من خير، ويدعوهم إليه من فضيلة.

ومن أجل هذا نجد نصوص القرآن والسنة مليئة بإعلان ما أعد الله للذين آمنوا ويعملون الصالحات من أجر عظيم، وثواب جزيل، ترغيبًا للناس بسلوك صراط الله المستقيم، وذلك إضافة إلى النصوص المشحونة بالإقناع الفكري.

شرح العنصر الثالث: "وهو الترهيب"

أما العنصر الثالث من العناصر الكبرى لخطة الوسائل التربوية الواقعية في الإسلام فهو عنصر الترهيب.

إن الترهيب هو العنصر الذي يمثل القوة الصادة عن الانحراف إلى سبل الشر، التي ينهى عنها الإسلام، وذلك لأن إثارة المخاوف من سلوك سبيل ما، أو القيام بعمل ما، من شأنها أن تقلل من اندفاع الإنسان نحو ذلك السبيل أو ذلك العمل، وأن تضعف من قوته، وتجعله قلقًا حذرًا، حتى ولو غامر في الأمر، واستهان بالمخاوف، إلا أن محاذير سلوك سبل الشر عواقب وخيمة لا تستهين بها العقلاء بحال من الأحوال، متى تبصروا بها حقًّا، وعلى مقدار نمو الحذر من جهة من الجهات تخبو جذوة الأطماع والأهواء المتأججة نحوها، وبالتكرار والمعالجة المتابعة تنصرف النفس انصرافًا نهائيًّا. وتكتسب خلق الزهد والعفة عن المحارم، مهما كانت إغراءاتها آسرة للنفس، مثيرة لرغباتها وأهوائها.

ولما كانت سبل الشر في الحياة محفوفة بمغريات الأنفس، وفواتن الأهواء والأفكار، كانت أصول التربية الواقعية تستدعي إيجاد قوة صادة عنها، زائدة على قوة الإقناع الفكري المجرد، ومضافة إلى وسيلة الترغيب، وهذه القوة الصادة إنما هي وسيلة الترهيب.

ص: 250

وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الإنسان متى خاف من الأخطار الرابضة في جهة من الجهات خنست أطماعه واستخذت، وكفت حذرًا وإن لم تكن عفت، لكنها بالتدريب والتمرس تكسب العفة المطلوبة.

وتستفيد التربية الواقعية لدى استخدام هذه الوسيلة مما لدى الإنسان من خوف وحذر من العواقب المؤلمة القريبة أو البعيدة.

ومن الملاحظ أن طائفة من الناس لا يصلحهم الإقناع الفكري، ولا تكفي لإصلاحهم وسيلة الترغيب، وأن أنجع علاجات الإصلاح بالنسبة إليهم إنما هي وسيلة الترهيب، فهم يتأثرون بالمخاوف أكثر من تأثرهم بالمرغبات، وذلك لأنهم قد يكونون ممن يؤثرون اللذات العاجلات مهما كانت ضئيلة على الخيرات الآجلات مهما كانت جليلة، ومن أجل ذلك يضعف لديهم أثر الترغيبات بالثواب الجزيل على فعل الخير، وترك الشر، لكنهم إذا مثلت المخاوف المحققة في نفوسهم تيقظوا وحذروا واستقاموا.

ولما كان الإسلام واقعيًّا في جوانبه العملية، وكان هداية للناس جميعًا، اقتضى ذلك منه أن يستفيد في هداية الناس من استخدام وسيلة الترهيب من العقاب العاجل والآجل، ليصدهم عن سلوك سبل الشر، وذلك بإثارة مخاوفهم من سلوك هذا السبل.

يضاف إلى ذلك أن حكمة الابتلاء الرباني للناس اقتضت أن يقضي الله بتنفيذ قانون العدل، الذي قرره في محاسبة المكلفين من عباده، ومجازاتهم على ما يكسبون، إن خيرًا فخير، أو شرًّا فشر، وبعض ما يجازي به الله معجل في الدنيا، وبعضه الآخر مؤجل لما بعد الموت، والجزاء الأوفى قد أدخره الله إلى يوم الجزاء الأكبر.

ومن أجل هذا نجد نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف مشحونة بإعلان ما اعتد الله للذين كفروا ويعملون السيئات من عذاب أليم، ترهيبًا للناس من سلوك سبل الضلالة، وذلك إضافة إلى نصوص الإقناع الفكري، ونصوص الترغيب.

ص: 251

نظرة عامة:

فإذا نظرنا نظرة عامة إلى وسيلتي الترغيب والترهيب، معًا، وجدناهما قوتين كبيرتين، أولاهما تجذب النفس الإنسانية إلى طريق الخير، وتستعطفها نحوه، بما أعد الله لسالكيه من منافع، ولذات، وخيرات عظيمات، معجلات ومؤجلات، والثانية تصد النفس الإنسانية عن سلوك سبل الشر؛ إذ تملؤها بالخوف مما أعتد الله لسالكها من عقوبات معجلات ومؤجلات.

وباستخدام التربية الإسلامية وسيلة الإقناع الفكري على أكمل صورها، ووسيلتي الترغيب والترهيب على أحكم صورهما، تمت للإسلام خطة الوسائل التربوية المثلى.

ولهذه العناصر الكبرى الثلاثة فروع وتفصيلات كثيرات، ولدى التبصر نلاحظ أن كل الوسائل التربوية التي يتصورها الفكر، والتي يتوصل إليها المربون بالتجربة تندرج في هذه العناصر الكبرى، وتنضوي تحتها.

شرح الواقعية في الأعمال الجماعية:

ومن مظاهر الواقعية في الإسلام الواقعية في مجال الأعمال الجماعية، التي يشارك فيها الضعفاء من المسلمين، والمرضى، وذوو الحاجات.

وتتجلى الواقعية في هذا المجال بمراعاة أحوال هؤلاء؛ إذ نلاحظ أن الإسلام يوجه أولي الأمر من المسلمين، وكل راع في رعيته منهم لمراعاة جانب التخفيف في الأعمال الجماعية العامة، وذلك حتى لا ينقطع الضعفاء والمرضى وذوو الحاجات عن المشاركة فيها، ولئلا يحصل لهم بها أذى.

فمن الهدي النبوي أن الرسول صلوات الله عليه كان حينما يكون في سفر ومعه المسلمون يأمرهم بأن يسيروا بسير ضعفائهم، فيقول لهم:"سيروا بسير ضعفائكم" وذلك لئلا ينقطع هؤلاء عن الركب.

ومن الهدي النبوي في هذا المجال أن يخفف الإمام في صلاته؛ لأنه يؤم أصنافًا من الناس مختلفين، ففي الحديث عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري

ص: 252

رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتاخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال:"يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة". رواه البخاري ومسلم.

وفي صحيح مسلم عن أبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا" أي: كانت متوسطة بين الطول والقصر.

شرح الواقعية في تحديد مناهج السلوك:

ومن مظاهر الواقعية في الإسلام الواقعية في تحديد مناهج السلوك للناس.

هذه الواقعية أمر يشهد له كل ما في الإسلام من مناهج ونظم عملية، في العبادات، والمعاملات، والأخلاق، وسائر ميادين العلم والعمل. إذ هي مناهج ونظم لا تزيد حدودها المفروضة عن استطاعة النسبة الوسطى من الناس.

وأما من هم دون هذه النسبة الوسطى فإن الإسلام يقرر لهم استثناءات خاصة بهم، كالاستثناءات الخاصة بالأعمى، والأعرج والمريض، والمسافر، والحائض، والنفساء، ونحو هؤلاء وذلك بحسب نوع التكاليف، ومقدار ما تتطلب من جهد واستطاعة.

وأما من هم فوق النسبة الوسطى من الناس فإن الإسلام يفتح لهم مجالات التسابق في اغتنام الخيرات، والعمل لبلوغ الدرجات العليا من درجات المقربين ذوي المجد عند الله، ولكن دون إلزام تكليفي بها، يجعلهم من المؤاخذين المذنبين إذا قصروا فيها، وذلك ما لم يكونوا في موضع المسئولية بالنسبة إلى أعمال خاصة تتطلبها جماعة المسلمين بشكل عام، وهم الأكفياء للقيام بها، فعند ذلك تكون واجبة عليهم، بنسبة كفايتهم، وبنسبة حاجة العمل الإسلامي العام إليه.

ص: 253

ومن أمثلة ذلك تكليف العلماء الأكفياء المختصين مقارغة أهل الباطل بالحجج والبارهين الدامغة، وتكليف ذوي المال بذل أموالهم إذا دعا داعي الجهاد الواجب، وتكليف الأشداء الأقوياء المدربين الوقوف في الصفوف الأولى عند لقاء العدو، وهكذا.

شرح الواقعية في أصول المحاسبة والجزاء:

ومن مظاهر الواقعية في الإسلام الواقعية في أصول المحاسبة والجزاء.

إن الواقعية في هذا المجال تحددها في الإسلام جملة من القواعد العامة، التي جعلها الله تبارك وتعالى أساسًا لمحاسبة عباده ومجازاتهم على أعمالهم، ومن هذه القواعد ما يلي:

القاعدة الأولى:

المسئولية عند الله تعالى تناسب زيادة ونقصًا مع نسبة الخصائص والهبات الربانية للإنسان، والظروف المحاط بها.

القاعدة الثانية:

لا تزر وازرة وزر أخرى، فلا يحاسب الإنسان إلا على ما اكتسبه من إثم، ومما يكتسبه من آثام أن يسن سنة سيئة يتبعه فيها آخرون، فهو يحمل وزر عمله المباشر، ووزر إضلاله لمن اتبعه، دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا؛ لأنهم مسئولون أيضًا عما يعملون، ويدخل فيما يكتسبه من آثام أيضًا آثار أعماله السيئة الجارية ولو بعد موته، كنشر علم ضار، أو تأسيس دار لمعصية الله.

القاعدة الثالثة:

ليس للإنسان إلا ما سعى، فلا يثاب إلا على ما كسبه من أعمال صالحة، ومما يكسبه من أعمال صالحة أن يسن سنة حسنة، فله بذلك أجر عمله، وأجر مثل أجر من اتبعه، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا؛ لأن هذه الثمرات الطيبات كانت من آثار عمله وسعيه، فهو ينال منها أجرًا، ويدخل فيها يكسبه من

ص: 254