الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن
المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة
التعريف:
الأصل في الرسالة الإسلامية أن تكون بعيدة عن الجدال، ولكن قد تدعو الضرورة إلى استخدامه وسيلة من وسائل الإقناع، وإثبات الحق الذي تنادي به أسس الحضارة الإسلامية، والتعريف بالخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وحينما تدعو الضرورة إلى استخدامه يجب أن يكون جدالًا بالتي هي أحسن.
وللجدال بالتي هي أحسن شروط وقواعد وأصول يجب إتباعها، صيانة للجدال بالحق عن أن يتحول إلى مماراة بعيدة عن نشدان الحقيقة، أو إلى مشاحنات أنانية، ومشاتمات، ومغالطات، ونحو ذلك مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس، ويورث التعصب، ولا يوصف إلى حق.
الجدال في الأصل هو حوار كلامي يتفهم فيه كل طرف من الفريقين المتحاورين وجهة نظر الطرف الآخر، ويعرض فيه كل طرف منهما أدلته التي رجحت لديه استمساكه بوجهة نظره، ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التي يوجهها الطرف الآخر على أدلته، أو من خلال الأدلة التي ينير له بها بعض النقاط التي كانت غامضة عليه.
وهدف الجدال بالتي هي أحسن تعاون الفريقين المتناظرين على معرفة الحقيقة بتبصير كل منهما صاحبه بالأماكن المظلمة عليه، والتي خفيت عليه حينما أخذ ينظر باحثًا عن الحقيقة، وذلك حينما لا يكون أحدهما واقفًا على الحقيقة البينة وقوفًا قطعيًّا غير قابل للنقض، أما في هذه الحالة فإن هدف الجدال بالتي هي أحسن إنما هو تبصير الواقف على الحقيقة أخاه المناظر له بها، والأخذ بيده في طرق الاستدلال الصحيح لإبلاغه وجه الحق المشرق، وذلك
باستخدام الحوار البريء من التعصب، الخالي من العنف والانفعال، المتمشي وفق الأصول العامة للحوار، الذي يهدف فيه كل من الفريقين المحاورين إلى الوصول إلى الحقيقة، وكأنه جاهل بها، خالي الذهن والنفس من أي استمساك سابق بوجهة من وجهات النظر المختلفة، وذلك ابتعادًا عن كل أجواء التعصب والأنانية التي تصرف النفوس والأفكار عن تفهم الحقيقة، أو التسليم بها، ولو انكشفت لها واضحة جليلة.
طائفة من القواعد العامة للجدال بالتي هي أحسن:
ويحسن بنا بعد معرفة الهيكل العام للجدال بالتي هي أحسن، ومعرفة الهدف منه أن ننظر في بعض القواعد العامة له، وهي تسع قواعد استنبطناها بالتأمل في نصوص الشريعة، والتطبيقات الجدلية القرآنية، والأصول المنطقية البدهية.
القاعدة الأولى:
تخلي كل من الفريقين المتصديين للمحاورة الجدلية حول موضوع معين عن التعصب لوجهة نظره السابقة، وإعلانهما الاستعداد التام للبحث عن الحقيقة، والأخذ بها عند ظهورها، سواء كانت هي وجهة نظره السابقة أم وجهة نظر من يحاوره، أم وجهة نظر أخرى.
وقد أرشدنا القرآن الكريم في سورة "سبأ: 34 مصحف/ 58 نزول" إلى الأخذ بهذه القاعدة؛ إذ علم الرسول صلوات الله عليه أن يقول للمشركين في مناظرته لهم:
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
وفي هذا غاية التخلي عن التعصب لأمر سابق، وكمال الرغبة في نشدان الحقيقة أنى كانت.
ولما كان موضوع المناظرة الذي وردت هذه الآية في صدده توحيد الخالق أو الإشراك بها، وهما أمران على طرفي نقيض، لا لقاء بينهما بحال من الأحوال
وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة الدينية، كان من الأمور البدهية أن الهداية في أحدهما إذ هو الحق، وأن الضلال المبين في الآخر إذ هو الباطل، ومن أجل ذلك كانت عبارة إعلان التخلي عن التعصب لأمر سابق تتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة.
القاعدة الثانية:
تقيد كل من الفريقين المتحاورين بالقول المهذب، البعيد عن كل طعن أو تجريح، أو هزء أو سخرية، أو احتقار لوجهة النظر التي يدعيها أو يدافع عنها من يحاوره.
وقد أرشدنا الإسلام إلى التقيد بهذه القاعدة في نصوص كثيرة، منها النصوص التالية:
1-
قول الله تعالى لنبيه في سورة "النحل: 16 مصحف/ 70 نزول":
{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
2-
وقول الله تعالى للمؤمنين في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول":
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
أي: فإن سلك مجادلوكم مسالك غير مهذبة القول فتقيدوا أنتم بكل قول مهذب، واسلكوا كل طريقة هي أحسن وأفضل، فعبارة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} تشمل بعمومها الأساليب الفكرية والقولية، وبهذا يتبين لنا أن المطلوب من المسلم أن يكون في مجادلته على حالة هي أرقى وأحسن باستمرار من الحالة التي يكون عليها من يجادله، أدبًا وتهذيبًا، أو قولًا وفكرًا.
3-
وقول الله تعالى في سورة "الأنعام: 6 مصحف/ 55 نزول":
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
4-
وفي الحديث الشريف:
"ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".
5-
وقد حكم الله بالويل "وهو العذاب الشديد" على الهمازين اللمازين، فقال الله تعالى في سورة "الهمزة: 104 مصحف/ 32 نزول":
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} .
القاعدة الثالثة:
التزام الطرق المنطقية السليمة لدى المناظرة والحوار.
ومن التزام الطرق المنطقية السليمة التزام الأمرين التاليين:
أولًا: تقديم الأدلة المثبتة أو المرجحة للأمور المدعاة.
ثانيًا: إثبات صحة النقل للأمور المنقولة المروية.
وهذان الأمران هما المقصودان بالقاعدة المعروفة عند علماء أدب البحث والمناظرة؛ إذ يقولون: "إن كنت ناقلًا فالصحة، أو مدعيًا فالدليل".
وقد أرشد القرآن الكريم إلى مضمون هذه القاعدة في نصوص كثيرة، ومنها النصوص التالية:
1-
قول الله تعالى في سورة "النمل: 27 مصحف/ 48 نزول":
2-
وقول الله تعالى في سورة "الأنبياء: 21 مصحف/ 73 نزول":
ففي هذين النصين يأمر الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن يطالب المشركين بتقديم برهانهم على ما يدعون، ويشمل البرهان في مثل هذا الإدعاء البرهان العقلي، والبرهان النقلي الصادق عن رسول من رسل الله، وآية الأنبياء تُشير إلى مطالبتهم بالبرهان النقلي، أما آية النمل فتطالب بتقديم البرهان بشكل عام عقليًّا كان أم نقليًّا.
3-
وقوله الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
وفي هذه الآية يأمر الله رسوله بأن يطالب الذين ادعوا أنه لن يدخل الجنة إلا من كان من اليهود أو من النصارى بتقديم برهانهم على ما يدعون.
4-
وقول الله تعالى في سورة "آل عمران: 3 مصحف/ 89 نزول":
وذلك أن اليهود أخذوا يعترضون على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في أكلة لحوم الإبل وشربه ألبانها، مع إعلانه أنه على دين إبراهيم عليه السلام، مدعين بأنها كانت محرمة في ملة إبراهيم، فقال لهم الرسول: كان ذلك حلالًا لإبراهيم فنحن نحله، فقال اليهود: إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام، فنزل قول الله يأمر رسوله بأن يطالبهم بتقديم الدليل على ما يدعون من نقل صحيح، وذلك في قوله تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
القاعدة الرابعة:
ألا يكون المناظر ملتزمًا في أمر من أموره بضد الدعوى التي يحاول أن يثبتها، فإذا كان ملتزمًا بشيء من ذلك كان حاكمًا على نفسه بأن دعواه مرفوضة من وجهة نظره.
ومن الأمثلة على سقوط دعوى المناظر بسب التزامه بضد دعواه، وقبوله له، استدلال بعض من أنكر رسالة محمد صلوات الله عليه بأنه بشر، وزعم هؤلاء أن الاصطفاء بالرسالة لا يكونو للبشر، وإنما يكون للملائكة، أو مشروط بأن يكون مع الرسول من البشر ملك يرى، وفي اعتراضهم على بشريته قالوا:"ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" مع أنهم يعتقدون برسالة كثير
من الرسل السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء في نظرهم بشر وليسوا بملائكة.
ولذلك أسقط الله دعواهم بقوله في سورة "الفرقان: 25 مصحف/ 42 نزول":
القاعدة الخامسة:
ألا يكون في الدعوى أو في الدليل الذي يقدمه المناظر تعارض، أي: ألا يكون بعض كلامه ينقض بعضه الآخر، فإذا كان كذلك كان كلامه ساقطًا بداهة.
ومن أمثلة ذلك قول الكافرين حينما كانوا يرون الآيات الباهرات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سحر مستمر قال تعالى في سورة "القمر: 54 مصحف/ نزول": {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} .
ففي قولهم هذا تعارض وتهافت ظاهر لا يستحق ردًّا، وذلك لأن من شأن السحر كما يعلمون أن لا يكون مستمرًا، ومن شأن الأمور المستمرة أن لا تكون سحرًا، أما أن يكون الشيء الواحد سحرًا ومستمرًا معًا فذلك جمع عجيب بين أمرين متضادين لا يجتمعان، هذا إذا كان مرادهم من عبارة:{مُسْتَمِر} معنى الدوام، أما إذا كان المقصود معنى شدة القوة فالعبارة لا تدمغهم بالتناقض.
ونظير ذلك قول فرعون عن موسى عليه السلام حينما جاءه بسلطان مبين من الحجج الدامعة والآيات الباهرات: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} قال الله تعالى في سورة "الذاريات: 51 مصحف/ 67 نزول":
وهذا أمران متضادان، فمن غير المقبول منطقيًّا أن يكون الشخص الواحد ذو الصفات الواحدة مترددًا بين كونه ساحرًا وكونه مجنونًا، وذلك لأن من شأن
الساحر أن يكون كثير الذكاء والدهاء، وهذا أمر يتنافى مع الجنون تنافيًا كليًَّا، فكيف صح في فكر فرعون هذا الترديد، إن في كلامه هذا لتهافتًا ظاهرًا يسقطه من الاعتبار لدى المناظرة، فهو لا يستحق عليه جوابًا.
القاعدة السادسة:
ألا يكون الدليل الذي يقدمه المناظر ترديدًا لأصل الدعوى، فإذا كان كذلك لم يكن دليلًا، وإنما هو إعادة للدعوى بصيغة ثانية.
القاعدة السابعة:
عدم الطعن بأدلة المناظر إلا ضمن الأصول المنطقية، أو القواعد المسلم بها لدى الفريقين المتناظرين.
القاعدة الثامنة:
إعلان التسليم بالقضايا والأمور التي هي من المسلمات الأولى، أو من الأمور المتفق بين الفريقين المتناظرين على التسليم بها، أما الإصرار على إنكار المسلمات فهو مماراة منحرفة عن أصول المناظرة والمحاورة الجدلية السليمة، وليست من شأن طالبي الحق.
القاعدة التاسعة:
قبول النتائج التي توصل إليها الأدلة القاطعة، أو الأدلة المرجحة، إذا كان الموضوع مما يكفي فيه الدليل المرجح.
وإلا كانت المناظرة من العبث الذي لا يليق بالعقلاء أن يمارسوه.