الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والرأي، وغلا غلوًّا نفر من العلماء وتلاميذهم، فأقصته الملوك، فرحل إلى بادية "لبله" من بلاد الأندلس، وتوفي فيها.
وأصل فقهاء المذاهب الأصول، وقعدوا القواعد، وبلغوا في استخراج أحكام الفقه وتأصيل أصوله وتقعيد قواعده ذروة حضارية عظيمة، وكانوا بهذا أمة فذة لم يسبقهم فيه سابق في تاريخ الأمم.
وهذه كتب الفقه الإسلامي التي دُونت وحُررت فيها مذاهب الفقهاء التي تكاد تفوق كل تصور شاهدة على هذا العمل الحضاري النابع من منابع القرآن المجيد، والسنة النبوية المطهرة المبينة له.
المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه
ظهرت جدليات حول اعتماد بعض الفقهاء في تقرير الأحكام الفقهية أو استنباطها، على بعض مناهج وأصول خالفهم فيها آخرون، فدعت الحاجة إلى إقامة البراهين والأدلة المقبولة شرعًا على صحة ما هو صحيح منها، وعدم صحة ما هو غير صحيح منها، وعلى ترجيح ما هو الأرجح منها على غيره، مع بعض اختلاف في وجهات النظر.
فظهرت مكتوبات أولى على شكل رسائل تتضمن قواعد تأصيلية لما يجب الاعتماد عليه، ولما يجوز الاعتماد عليه، ولما لا يجوز الاعتماد عليه.
ويعتبر أتباع المذهب الحنفي أن أول من صنف في علم أصول الفقه "أبو حنيفة النعمان" إمام المذهب في كتاب له اسمه "كتاب الرأي" قالوا: وقد بين فيه طرق الاستنباط.
ويرى الآخرون أن أول من وضع "علم أصول الفقه" هو الإمام الشافعي،
في الرسالة التي كتبها لعبد الرحمن بن مهدي الإمام الحافظ، وأعاد تصنيفها لما رحل إلى مصر، والموجود الآن هي الرسالة الجديدة.
قال بدر الدين الزركشي في كتاب البحر المحيط في الأصول1: "الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القرآن، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس".
وقال ابن حجر عنه: فكان بحق أول من أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف.
وقال فخر الدين الرازي2: "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية ترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع".
ثم اجتهد علماء المسلمين من كل المذاهب الفقهية يستخرجون القواعد التأصيلية التي تحدد منهاج الفقه الذي يتوجه لاستنباط أحكام السلوك الإنساني الإرادي، من مصادر التشريع الإسلامي، لئلا يكون عمل المجتهدين الذين يستنبطون أحكام الفروع عملًا فوضويًّا، لا يخضع لقواعد مبينة محررة.
ونجم عن هذا التوجه السديد ابتكار علم غاية في عمق النظر العقلي، وغاية في تحرير القواعد الأصول، وبيان المنهاج الذي يجب على مستنبط أحكام الفروع الفقهية أن يسير عليه.
هذا العلم هو "علم أصول الفقه" الذي لم يوجد نظيره لدى أمة من الأمم السابقة.
وتبارى العلماء الأذكياء والعباقرة من الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، في كتابة المؤلفات المحررة الدقيقة في هذا العلم، الذي اقترنت قضاياه ومسائله
1 انظر مقدمة "الرسالة" لمحققها وشارحها "أحمد محمد شاكر".
2 انظر كتاب "مناقب الشافعي" له ص57.
بالبراهين والحجج المؤيدة لأمهاتها، والناصرة لمسائل الخلاف فيها، حتى توافر منها في المكتبة الإسلامية ذخائر تعتبر بحق مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية.
والغرض من تأسيس هذا العلم العظيم خدمة الإسلام وأحكامه الضابطة لسلوك العباد الاختياري.
أما واضعو القوانين التي تعتمد على الآراء البشرية، وعلى أهوائهم ومصالحهم أو مصالح من هم منحازون إليهم من فئات أو طبقات، فلم يجدوا مندوحة عن أن يعترفوا بمجد "علم أصول الفقه" عند المسلمين، وأن يستفيدوا من بعض قواعده في بحوث الألفاظ، وبعض مسائله في القياس، وفي المصالح المرسلة، وفي الاهتمام ببعض الكليات الخمس، التي تعتبر المحافظة عليها من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي "الدين، النفس، العقل، النسل، المال".
فكل ما يحفظ هذه الكليات أو شيئًا منها فهو مصلحة، وكل ما يخل بواحد منها فهو مفسدة، على اختلاف المراتب والدرجات فيما بينها، فمنها ما هو من مرتبة الضروريات، وهي المرتبة العليا ولها درجات متعددات، ومنها ما هو من مرتبة الحاجيات، وهي المرتبة الوسطى ولها درجات متعددات، ومنها ما هو من مرتبة التحسينيات، وهي المرتبة الدنيا ولها أيضًا درجات متعددات.
فعلم "أصول الفقه" ظاهرة حضارية عظمى، وهو من ابتكار واستخراج الأمة الإسلامية.