الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى
لما اعتمدت الحضارة الإسلامية على المعارف الحق واكتسابها عن طريق التعلم والتعليم، بالوسائل والطرق المنطقية السليمة، كان من الطبيعي فيها أن تذم طريقة التقليد الأعمى، وتنفر منها، وتوبخ ملتزميها، وتعلن أن هذه الطريقة هي طريقة الجاهلين، وطريقة الذين لا يعقلون، وأنى لهؤلاء أن يكونوا من المهتدين.
وللتقليد في حياة الإنسان قصة ذات وجهين:
الوجه الأول: وجه بصير، فيه منفعة للإنسان وخير.
الوجه الثاني: وجه أعمى تقوده العصبية المقيتة، أو تسوقه الرعونة الحمقاء.
أما البصير منهما فيختصر لصاحبه الزمن، إذ يعمل على امتصاص المعارف والعلوم الحق، التي سبقه إليها الكادحون في قرنه، أو في القرون الأولى، ويعمل على تقليدهم فيما توصلوا إليه من فضائل وخيرات حسان، وذلك بعد تمحيصها، والتبصر فيها، ونقدها نقدًا فكريًّا وتجريبيًّا. ومثلهم في ذلك كمثل تجار الجواهر الذين تتجمع لديهم أكوام مختلفة من كنوز البر والبحر، وهذه الأكوام قد عمل في جمعها واكتشافها ألوف مؤلفة من الغواصين والمنقبين الكادحين، فيضعون هذه الأكوام، ويمنحنونها حبة فحبة، فما وجدوه منها جوهرًا شريفًا حرصوا عليه واشتروه، وما وجدوه منها حسيسًا وضيعًا نفوه ورفضوا وتركوه لصاحبه.
فإذا كان التقليد على مثل هذه الصورة فهو تقليد بصير حكيم، وسبيل قريب من سبل جمع المعارف والفضائل والخيرات، ولئن كان هذا النوع من الاقتباس تليدًا في أول طريق البحث فإنه ليس تقليد بعد البحث والنقد والاختبار والتمحيص؛ لأنه التزام بالحق بعد معرفته، سواء كان ملتزمه صاحب ابتكار له أم اكتشاف، أم كان غيره هو المبتكر أو المكتشف له، ولكنه نظر فيه فاستحسنه ووجده حقًّا فالتزمه.
وأما الوجه الأعمى للتقليد، فهو إحدى المصائب الكبرى التي تنحرف بها عن الحق معظم المجتمعات الإنسانية، وذلك لأن الإنسان حينما ينشأ في بيئة من البيئات الاجتماعية لا بد أن يكتسب منها عن طريق التقليد معارف ومهارات
وعادات وأخلاقًا كثيرة، ومن هذه المكتسبات ما هو حق، ومنها ما هو باطل، ومنها ما هو صالح، ومنها ما هو فاسد، ومنها ما هو خير ومنها ما هو شر، وبمقتضى نشوئه في هذه البيئة يتكون في نفسه إلف لها مهما كان وضعها؛ إذ يعتبر نفسه جزءًا من هذه البيئة الاجتماعية يتكون لديه بدافع الأنانية الذاتية خلق التعصب لأهله وعشيرته وقومه، وسائر من هم في بيئته، وجميع ما هو في بيئته من مفاهيم وعادات وأخلاق؛ لأنه بتعصبه هذا يحاول أن يدافع عن كيانه الذاتي من وجهة نظره المنحرفة عن منهج التفكير السليم، دون أن يسمح لعقله المتجرد عن مؤثرات البيئة أن يبحث ويناقش، ويميز بين الحق والباطل، والصالح والفاسد، والخير والشر.
وقد يفتتن بعض الناشئين بالمظاهر المادية المغرية التي يأتي بها الغزاة الأقوياء، فيتعلقون بهم، مقلدين لهم، في كل ما يجدونهم عليه، ولو كان معظمه ضلالة وشرًّا.
فإذا نوقش المقلدون تقليدًا أعمى لتعديل اتجاههم:
فإن كانوا من المبهورين بالغزاة قالوا: إننا نجاري الركب الحضاري المتقدم. ولدى التبصر في حقيقة أحوالهم نجدهم يتساقطون وهم عمي في شباك الصيد التي وضعها عدوهم وعدو أمتهم وحضارتهم في طريقهم، ليزيد من تخلفهم وتخلف أمتهم، ولكن في لباس تقدمي، ثم ليستخدمهم أجراء عنده، ويضمهم إلى جنوده المغفلين. وإن كانوا من المقلدين تعصبًا لما كان عليه آباؤهم وقومهم قالوا: إنا وجدنا آباءنا على طريقة وإنا على آثارهم مقتدون.
وهذا النوع الأخير من التقليد هو الذي كان عليه الجاهليون لما أشرق عليهم الإسلام بنوره المبين، وهنا وجدنا الإسلام قد وقف صارخًا بشدة وعنف وتبكيت في وجه هؤلاء، قال الله تعالى في سورة "المائدة: 5 مصحف/ 112 نزول": {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} .
وقال الله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
أي: فكيف يقتفون آثار آبائهم دون تبصر بما كانوا عليه؟ أو ليس من المحتمل أن آباءهم كانوا لا يعملون شيئًا، ولا يعقلون شيئًا، ولا يهتدون؟
وهل يجوز للعاقل الذي يملك أدوات المعرفة أن يتبع الجاهلين الضالين.