الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي: لكان إيمانهم خيرًا لهم، والإيمان مما يكسبه الإنسان بإرادته، وهو من أعمال القلوب.
هـ- وقول الله تعالى في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} .
وما يوعظون به شامل لكل مواعظ الشريعة الإسلامية، وتعاليمها، وفعل ما يوعظون به خير؛ لأنه سبب في جلب الثواب الحسن لهم، واستحقاقهم له عند الله تعالى، ولأنه سبب في تحقيق أكبر نسبة يمكن تحقيقها من الخير في الحياة الدنيا، ودفع أكبر نسبة يمكن دفعها من الشر في الحياة الدنيا.
ونظرًا إلى أن هذا الوجه الثالث هو الوجه المقصود من الخير والشر في أسس الحضارة الإسلامية، فهو الوجه الذي يعنينا التركيز عليه فيما يأتي من بحوث تنضوي تحت عنوان "الخير والشر".
المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه
"
توضيح لمعاني الخير والشر:
سنعالج في الفقرات التاليات توضيح معاني الخير والشر وفق الوجه الثالث الذي سبق بيانه في التعريفات، وهو الوجه المقصود في أسس الحضارة الإسلامية، ويستدعينا هذا التوضيح أن نلمح إلى نظرات الباحثين من الفلاسفة وعلماء الأخلاق في هذا المضمار، وأن نمر بشكل تفصيلي على المفاهيم العامة التي تشتمل عليها معاني الخير والشر، والنظرات الدقيقات التي تهدف إليها هذه المفاهيم، وفق المدركات الإسلامية الشاملة، وعندئذ يتبين لنا المستوى الرفيع الذي ارتقى إليه الإسلام؛ إذ جعل مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه" أساسًا راسخًا من أسس حضارته المجيدة التي رفع لواءها، ودعا الناس إليها.
نظرات الباحثين:
يختلف الباحثون من الفلاسفة وعلماء الأخلاق في تحديد معنى الخير، وتحديد معنى الشر؛ إذ يرجعهما بعضهم إلى مبدأي المنفعة والمضرة، ضمن حدود المنافع والمضار الدنيوية العاجلة، التي لا يرافقها نظرة شاملة للزمن والإنسانية والكون والحياة على وجه العموم، ويرجعهما بعضهم إلى مبدأي اللذة والألم ضمن حدود الإحساسات الجسدية والنفسية التي يحسها الإنسان، ويرجعهما بعضهم إلى مبدأي المصلحة والمفسدة في حدود النظرات الضيقات التي ينظر بها فرد أو مجموعة من الناس، ويلاحظ بعضهم جانب الفرد مهملًا حق الجماعة الإنسانية كله أو بعضه، ويلاحظ بعضهم جانب الجماعة مهملًا حق الفرد كله أو بعضه، ويجعلهما بعضهم من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الحقيقة، فهي تختلف باختلاف الأزمنة والأوضاع الاجتماعية والعادات والتقاليد، ويخضعها بعضهم إلى المؤثرات الاقتصادية أو السياسية أو غيرهما.
وهكذا اضطربت مفاهيم الناس لحدود الخير والشر.
نظرة الإسلام:
أما الإسلام فإن له نظرته الخاصة الفاذة العامة الشاملة، فهو يشرق على العالم بتحديد رائع للخير والشر، ذي مستويين:
1-
مستوى قريب يفهمه كل إنسان مهما ضعفت مداركه وقل تتبعه وبحثه.
2-
ومستوى رفيع يرتقي إليه ذوو الأفهام الرفيعة، وأصحاب الهمم الغالية في التتبع، والبحث العلمي.
المستوى القريب:
أما المستوى القريب الذي يفهمه كل إنسان ويريح به نفسه من عناء التأمل والبحث، فهو المفهوم الذي سبق أن عرفنا به "الخير والشر" وفق الوجه الثالث من وجوه استعمال هذين اللفظين؛ ونعيد ذلك فيما يلي مع بعض توضحيات:
الخير: هو ما يكسب الإنسان بإرادته في الحياة الدنيا من عمل قلبي أو نفسي أو جسدي يحقق له عند الله خيرًا باقيًا، وسعادة خالدة، وثوابًا حسنًا، ولو كان ذلك العمل شاقًّا أو مضنيًا أو مؤلمًا، أو فيه تعرض للضر والأذى في الحياة الدنيا.
ويلحق بالخير المباحات الشرعية الممتعة النافعة التي لا ضرر فيها، ولا أذى يأتي من قبلها، فإن اقترنت بنية تستحق ثوابًا عند الله كانت خيرًا أصليًّا لا محالة. ويرادف الخير على هذا المعنى الطاعة لله والبر ونحوهما.
الشر: هو ما يكتسبه الإنسان بإرادته في الحياة الدنيا من عمل قلبي أو نفسي أو جسدي يستحق عليه عند الله جزءًا سيئًا، ولو جلب له في الدنيا متعة أو منفعة أو لذة.
ويلحق بالشر المباحات الشرعية إذا اقترنت اقترانًا ملازمًا بما يفضي إلى معصية الله تعالى.
أما الأعمال الإرادية التي لا تشملها أوامر الله أو نواهيه نصًّا ولا قياسًا فهي متروكة للإنسان يفعلها أو يتركها بحسب مشيئته التي توجهها حكمته في تصريف الأمور المباحة له.
المستوى الرفيع:
وأما المستوى الرفيع الذي يرتقي إليه ذوو الأفهام الراقية، وأصحاب الهمم العالية في التتبع والبحث العلمي، فقائم على نظرة شاملة للحياتين الفانية والخالدة، وشاملة للفرد والجماعة، وللروح والفكر، وللنفس والجسد، وللغرائز والطبائع، وشاملة للحياة كلها، بل وشاملة للوجود كله مع العدل والحكمة، وإعطاء كل شيء في الوجود حقه بحسب التوزيع العام المقترن بالموازنات الدقيقات العادلات؛ وهذه النظرة الشاملة لا يستطيع الإحاطة بها إلا خالق الوجود والحياة، وهو منزل الشراع السماوية، والذي جعل رسالة محمد خاتمة رسالاته للناس.
وضمن هذه النظرة الشاملة العادلة الحكيمة أنزل الله للناس أحكام الشريعة
الإسلامية، فأعطي كل ذي حق في الوجود حقه بالعدل، دون أن يطغى بعض ذلك على بعض. وبعد أن منح الله جل وعلا الإنسان في هذه الحياة الدنيا العقل والإدارة ومقدارًا من القدرة على تنفيذ بعض ما يريد، وزوده إلى جانب ذلك بالغرائز والشهوات والأهواء النفسية، ودفعه إلى محيط مشحون بكل وسائل الامتحان الدقيق، وظروفه المحكمة، وضعه موضع السيادة على دونه من جهة، وموضع الابتلاء بين يدي خالقه من جهة أخرى، وحدد له معالم طريق الخير والشر، وكلفه أن يسلك في حياته طريق الخير على مقدار استطاعته، وأن يتجب طريق الشر ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
تفصيلات تحدد معالم هذا المستوى الرفيع:
وفي محاولة تفصيل موجز لمفهوم الخير والشر انطلاقًا في آفاق المستوى الرفيع الذي ألمحنا إليه في الفقرة السابقة نجد أنفسنا مضطرين إلى تحليل عناصره، وتمييز خصائصه، وتوضيح حدوده، وعرض طائفة من أمثلته، وبيان كيف جعل الإسلام مبدأ "فعل الخير والعمل على نشره وترك الشر والعمل على قمعه" أساسًا راسخًا من أسس حضارته المجيدة.
وهذا العمل يتطلب منا أن نضع أيدينا على المفاهيم العامة التي يشتمل عليها الخير والشر، لتساعدنا على تحليل العناصر، وتمييز الخصائص، وتوضيح الحدود، فهي المفاتيح التي تفتح لنا أبواب التبصر الصحيح.
وفي المقولة التالية بيان لهذه المفاهيم العامة.