الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية
أولًا: المثالية في العقائد
إن المثالية في جانب الإيمان المطلوب من كل مسلم قضية لا مندوحة عنها، ولا اعتراض عليها؛ لأن المثالية ليست بالأمر الصعب العسير الوقوع حتى تتنافى مع الواقعية، وإنما هي بعض الاحتمالات الواقعية الممكنة، ولكن مطابقة صورة المعتقدات الإيمانية في الإسلام للحقيقة مطابقة تامة جعلها مثالية، وكذلك وجوب كونها في قلب المؤمن تامة غير منقوصة جعلها مثالية أيضًا، فهي لدى التحقيق مثالية لأنها الصورة المثلى، وواقعية لأن فهمها والأخذ بها ممكن الوقوع لدى كل ذي عقل وإرادة.
وفي إيضاح ذلك أقول:
لما كان الإيمان الذي هو الإقرار والإذعان القلبي بشكلهما الكامل التام أمرًا ميسورًا لكل ذي عقل وإرادة كانت المثالية فيه مطلوبة.
ومن أجل هذا لا تقبل عند الله معرفة بالحقيقة لا إقرار ولا إذعان معها، ولا يقبل إيمان يخالطه تردد وشك؛ لأنه متى خالطه شيء من ذلك لم يكن إيمانًا.
وتتضح هذه الحقيقة حينما نلاحظ أن مفهوم الإيمان يتضمن العلم اليقيني، والاعتقاد الراسخ المقرون بالإقرار والإذعان، وأن الإيمان يجب أن يتناول كل جزء من أجزاء ما يجب الإيمان به، مما هو ثابت بيقين، فمن تردد أو شك ببعض ما ثبت منها بيقين، أو اكتفى باعتقاد أنه الأصوب والأرجح لم يصح إيمانه، ولن تسلم عقيدته، وبهذا نلاحظ أن الإيمان وحتدة لا تتجزأ، ولا تقبل التجزئة، فمن آمن ببعض أركان الإيمان، وكفر ببعضها لم يكن مؤمنًا؛ إذ الجزء الذي كفر به يعود أثره على الجزء الذي آمن به فينقضه.
وذلك لأن عقيدة الإسلام بدأت من الإيمان بالله، والإيمان بالله يستلزم الإيمان بكمال صفاته، وذلك يستلزم تصديقه في ملائكته وكتبه ورسله وأخبار
الغيوب التي أخبر بها، فمن أنكر شيئًا من ذلك فقد أنكر كمال صفات الله، ومن فعل ذلك لم يكن بالله عارفًا، ولم يكن به مؤمنًا.
وقد أبان القرآن كفر اليهود إذ آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، قال تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول" مخاطبًا اليهود:
ولما كانت العبادة مظهرًا من مظاهر الإيمان لم يقبل الله المساومة فيها، وذلك حينما عرض كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا إلهه، على أن يعبد آلهتهم، ويتذبذب معهم بين الإيمان والكفر، وإذ كانت هذه المساومة مرفوضة شكلًا وموضوعًا أنزل الله على رسوله قوله في سورة "الكافرون: 109 مصحف/ 18 نزول":
ولا يعني اشتراط التزام المثالية في جانب الإيمان وكل ما يتصل به أن هذه المثالية متماثلة بين الأفراد، ولا تقبل التفاوت، فالحقيقة أن هذه المثالية مرتبة عظمى ذات درجات بعضها أرقى من بعض، ولكن أدنى هذه الدرجات لا تخرج عن دائرة المثالية.
ومن أجل هذه قررت النصوص الإسلامية أن الإيمان يزيد وينقص، وسأعالج هذه النقطة بمزيد من الشرح إن شاء الله.
ثانيًا: المثالية في النيات
وتتجلى هذه المثالية كما سبق بابتغاء مرضاة الله في فعل الأعمال الحسنة،
وفي ترك الأعمال السيئة، وفي ملاحظة طاعته سبحانه، لدى فعل ما أمر به أو ترك ما نهى عنه، أو فعل وترك ما أذن بفعله وتركه على السواء.
وليس بالعسير علينا أن ندرك أن المثالية في هدف الإنسان من عمله تتحقق حينما يبتغي به وجه الله تعالى، حتى ولو كان له في هذا العمل مصلحة مقصودة، كالطعام والشراب والكسب وتناول الشهوات، فإلى جانب المصالح التي تتحقق له بهذه الأمور يستطيع أن يضم إليها ابتغاء وجه الله، ويحقق الجانب المثالي، وأدنى ما في ذلك مع ملاحظة أن الله أباحها له، ولو أنه حرمها عليه لم يأت شيئًا منها.
ويتضح لنا بجلاء أن ابتغاء وجه الله هو الهدف المثالي إذا وضعنا احتمالات النيات التي تمثل أهداف الناس المختلفة، ضمن سلم ذي مراتب، ورتبناها بحسب درجة كمالها.
فلنضرب مثلًا على ذلك عملًا من الأعمال الإنسانية، ثم لنضع احتمالات النيات التي تمثل أهداف الناس في ذلك العمل، ثم لنجر فيما بينها المقارنة لنرتبها بحسب درجة كمالها، ثم لننظر بعد المقارنة المنصفة ما هو المثالي منها.
المثال: من الأعمال الحسنة بذل المال لذوي الحاجات.
فلنفرض أننا جمعنا في مدينة كبرى عددًا كبيرًا من ذوي المال، ودعوناهم إلى البذل، فبذل كل منهم ما جادت به نفسه بطريقة علنية، ثم سألناهم عن طريق الأوراق السرية ما هو هدف كل منهم فيما بذل، وطلبنا منهم الصدق في الإجابة لغرض الدراسة العلمية، فوضع كل منهم إجابته في الصندوق المقفل المعد لتلقي أوراق الإجابات، بعد أن حررها بصدق، لعلمه بأنه لن يعرف بحال من الأحوال أنه صاحب الإجابة.
وبعد قراءة الأوراق التي لا يعرف كاتب كل منها استطعنا أن نجمع الإجابات التاليات بعد حذف المكررات:
1-
حب الشهرة والرغبة بأن يلهج الناس بالثناء عليه.
2-
مخافة أن يذمه الناس ويصفوه بالبخل فتنحط مكانته بينهم.
3-
الخوف من نقمة القائمين على الجباية لأنهم أصحاب قوة وسلطان.
4-
الرغبة باسترضاء المشرفين على الجباية: واستدرار المنافع المادية أو المعنوية التي تأتي عن طريقهم.
5-
الطمع بربح مادي يأتي عن طريق الشهرة العامة.
6-
الرغبة بسد حاجات من يجبي لهم المال، وذلك بغية درء الأخطار التي قد تأتي من قبلهم، إذا اشتدت بهم الحاجة، وعظم فيهم البؤس.
7-
تلبية عاطفة إنسانية أثارها في نفس الباذل بؤس ذوي الحاجات.
8-
ابتغاء مرضاة الله لأنه يأمر بالخير وينهى عن الشر.
ولدى ترتيب هذه الإجابات التي تمثل أهداف هؤلاء الباذلين لأموالهم ترقى الإجابتان الأخيرتان عن الإجابات كلها، فتحتلان في سلم الأهداف درجة عالية.
ثم لدى البحث والمناقشة ترقي الإجابة الأخيرة التي فيها ابتغاء مرضاة الله فتحتل أسمى الدرجات، وتنزل عنها كثيرًا درجة الإجابة التي تتضمن تلبية عاطفة إنسانية نبيلة فقط.
وبذلك تكون نية ابتغاء مرضاة الله صاحبة المثالية العظمى.
والدليل على هذا أن نية ابتغاء مرضاة الله تتضمن كل عاطفة نبيلة، مع ملاحظة أنها تتضمن معنى عبادة الله، ثم لا يكون إلا في الخير.
وكون نية ابتغاء مرضاة الله تتضمن كل عاطفة نبيلة يظهر لنا حينما نلاحظ أن أوامر الله ونواهيه تربي فينا دائمًا كل العواطف النبيلة، مع صيانتنا عن الانزلاق في عواطف تقضي بنا إلى الوقوع في الشر، أو المساعدة عليه.
بخلاف العواطف الإنسانية المجردة عن ملاحظة مرضاة الله فإنها ربما تكون في الخير، وربما تكون في الشر، أو تساعد عليه، وهي أيضًا خالية من معنى عبادة الله، التي هي فضيلة بنفسها.
ومن أمثلة العاطفة الإنسانية التي ربما تكون في الشر بذل المال لمدمن خمر أو قمار، ألحت عليه الحاجة الجانحة عن طريق الفضيلة أن يأخذ المال ليصرفه في الخمر أو في القمار، وربما تصل به الحاجة إلى مرحلة تستدر عطف الناس عليه، فيبذلون له المال، ويساعدونه على ما هو فيه من شر.
أما الذي يعمل وهو يلاحظ ابتغاء مرضاة الله فإنه لا يمكن أن تضعف عاطفته فتستدرج للمساعدة فيما فيه شر، وبذلك يكون مصونًا عن الانزلاق، ويكون عمله منحصرًا في طريق الخير.
وبهذا التحليل يتبين لنا أن ابتغاء مرضاة الله هي المثالية العظمى من كل الأهداف المحتملة، التي تحددها النيات في القلوب.
حرص الإسلام على الالتزام بمثالية ابتغاء مرضاة الله تعالى:
في المرتبة الثانية التي تلي مرتبة الالتزام بالمثالية في أركان الإيمان حرص الإسلام أشد الحرص، وأهتم أبلغ اهتمام بالالتزام بمثالية ابتغاء مرضاة الله تعالى في الأعمال.
ولا حاجة بنا إلى إعادة أن هذه المثالية مطلب ميسور لكل عاقل مريد، فهي مثالية في ذاتها، واقعية في إمكان تطبيقها.
ومن أجل هذا ربط الإسلام ثواب الأعمال الصالحة، وصحة العبادات بالنيات المقارنة لها، التي تعزم عليها القلوب.
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنما الأعمال بالنيا وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وإلزامًا بهذه المثالية تأمر الآيات القرآنية في مجال الأعمال الصالحة بأن تكون الغاية منها ابتغاء مرضاة الله حتى يتحقق للإنسان كمال المثوبة عند الله
تعالى، ويقاس على هذا ترك الأعمال السيئة، فينبغي للإنسان أن يلاحظ أنه يتركها ابتغاء مرضاة الله تعالى:
فمن النصوص القرآنية في هذا المجال النصوص التالية:
1-
قوله تعالى في موضوع الصدقات في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
فهذا النص يبين أن الذي ينفق ماله رئاء الناس ضائع الثواب، محروم الثمرة عند الله.
2-
وقوله تعالى في موضوع التناجي بين الناس في سورة "النساء: 4 مصحف/ 92 نزول":
وهذا النص يبين أن الأمر بالصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس من أعمال الخير لا محالة، ولكن استحقاق الأجر العظيم عند الله مرهون بأن تكون الغاية من هذا العمل ابتغاء مرضاة الله.
3-
وقوله تعالى في موضوع الصبر على الطاعات في سورة "الرعد: 13 مصحف/ 96 نزول":
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً
وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
وفي هذا النص أيضًا توجيه قرآني إلى الالتزام بالمثالية في تحديد الغاية من الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته، والمثالية في هذا هي ابتغاء مرضاة الله.
وتصعيدًا للإرادة الإنسانية لدى طلب حظوظ النفس، وتلبية رغائبها المادية أو المعنوية، والاستجابة لغرائزها تأتي المثالية فيها بعدة أمور، منها أن يكون طلبها من فضل الله، ولا يتم ذلك إلا مع صحة الإيمان بالله، وصدق التوكل عليه، والتقيد بما أذن به.
وحينما يلاحظ الإنسان هذه الحقائق لا بد أن يجد نفسه مشدودًا إلى طاعة الله، مدفوعًا عن معصيته.
ونستدل على توجيه الإسلام لهذه المثالية لدى طلب الحظوظ النفسية وتلبية رغائبها، والاستجابة لغرائزها بقوله تعالى في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
فهنا نلاحظ أن الله تعالى قد أخذ بناصية الإرادة الإنسانية، ووجهها لما هو أسمى من مجرد الاستجابة لمطالب الغريزة الشهوية فقال:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وهذا الابتغاء في الإرادة القلبية لا ينقص من أثر تلبية الغريزة شيئًا، فالإرادة يكفي أن تكون سابقة للعمل، على أن لكل منهما مكانًا قد يمكن معه التوزيع، فالغريزة مكانها الجسد وما يصاحبه من تصورات نفسية، والإرادة العليا مكانها القلب.
ومن ذلك قول إبراهيم عليه السلام لقومه فيما حكى الله عنه في سورة "العنكبوت: 29 مصحف/ 85 نزول":
فالرزق مطلب من مطالب الجسد، وابتغاؤه عند الله الفعال لما يريد عمل قلبي لا يؤثر على النشاط الجسدي المادي أي تأثير سلبي، وهذا الابتغاء صورة من صور المثاليات المطلوبة لأنها يسيرة التنفيذ.
ثالثًا: المثالية في نشدان الكمال في الأعمال
أما المثالية في نشدان الكمال في الأعمال، فهي القوة المحرضة في داخل الإنسان، التي تجعله يتطلع باستمرار إلى الانتقال من واقع النقص الذي هو فيه إلى ما هو أفضل منه وأحسن وأدنى إلى الكمال.
ومع هذا التطلع تنمو حوافز الترقية والتحسين، ومن راء ذلك تأتي المحاولات التنفيذية.
وفي أجواء التنافس بين الأفراد مع التحريض الإسلامي على التحسين تتنامى الصورة الحضارية العامة، التي تعذيها باستمرار قوى الدفع الإسلامي إلى القمم الحضارية المثلى.
ولما كان الناس يختلفون في تصوراتهم لأعمال الخير المثالية، وربما يحصرون المثالية في مجال منها، غافلين أو متغافلين عن المجالات الأخرى، وربما يرفعون الأعمال الناقصة أو غير ذات الشأن الكبير إلى مرتبة المثالية كان من روائع الإسلام أنه قدم في تعاليمه الصورة المثالية لأعمال الخير، وعرض في حياة الرسول صلوات الله عليه نموذجًا حيًّا لهذه المثالية.
ثم لم يجعل الإسلام هذه الصورة المثالية أمرًا مفروضًا على كل إنسان، وإنما جعلها هدفًا أسمى، يتنافس المتنافسون في التسابق إليه، أما الصورة
المفروضة على كل إنسان فهي الصورة التي يحملها بيسر معظم الأفراد من الناس، وتلك هي الواقعية بكل معانيها المقبولة.
ومن أمثلة الخطأ في تصور المثالية ما حصل لبعض أصحاب الرسول صلوات الله عليه وبعض الصحابيات من تصورات أدت بهم إلى مبالغات في العبادة نهاهم رسول الله عنها، وأرشدهم إلى ما هو أفضل وأدنى إلى الكمال.
ففي صحيحي البخاري ومسلم من عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال:"من هذه"؟ قال: هذه فلانة تذكر من صلاتها. قال: "مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا".
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر فلا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله إليهم فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس أيضًا قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: "ما هذا الحبل"؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"حُلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد" رواه البخاري ومسلم.
وبهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم صورة المثالية الصحيحة في العبادات، وأنها ليست بالمبالغة، ولا بالزيادة عن المقدار الذي شرعه الإسلام، وأعطى مثله العملي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سمى الرسول المبالغين في العبادات والمتشددين في الدين متنطعين، وحكم عليهم بالهلاك فقال فيما رواه مسلم عن ابن مسعود:
"هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون".
المتنطعون: هم المشددون في غير موضع التشديد.
ملاحظات عامة حول المثاليات:
بعد أن عالجنا المثاليات بشرح مناسب يجمل بنا أن ننظر في بعض الملاحظات العامة حولها.
الملاحظة الأولى:
لدى التأمل الدقيق نلاحظ أن المثالية في الأهداف والغايات والعقائد أمر ميسور وليس بمعسور في الواقع، بالنسبة إلى مستطاع الإنسان بوجه عام، وبذلك تعدو هذه المثالية مثالية واقعية معًا.
أما مثاليتها فلكونها الصورة المثلى في مجال التصور، وأما واقعيتها فلكونها ممكنة التحقيق بيسر، بالنسبة إلى استطاعة معظم الناس، أو بالنسبة إلى استطاعة كل المكلفين منهم.
إذ ليس عسيرًا على الإنسان أن يقوم بعمل من أعماله الخيرة الواقعية، وأن يبتغي منها في الجانب المثالي القلبي مرضاة الله.
فالواقعية في العمل من الناحية المادية تتسع لتقصيرات كثيرات عن صورة الكمال المنشود، تملي هذه التقصيرات ظروف الإنسان المادية والنفسية والاجتماعية.
أما الجانب القلبي الذي يتيسر فيه تحقيق المثالية في العمل، وذلك عن طريق تحديد الغاية منه بالنية المثالية، فلا يتسع هذا الجانب في نظر الإسلام لأي تقصير عن أدنى درجات الكمال فيه، وذلك بأن يلاحظ في نيته ابتغاء مرضاة الله، وبهذه المثالية في النية يستحق الإنسان رضا الله وثوابه.
كما أنه ليس عسيرًا على الإنسان أن يتطلع إلى الكمال في الأعمال، وينشده مترقيًا إليه قدر استطاعته في حين أنه واقع في تقصيرات كثيرات لدى
التطبيق العملي، وذلك بتأثير من عوامله النفسية المختلفة، أو لعجز في قدراته الحالية عن التنفيذ، وهو يأمل أن يكتسب مهارات جديدة، وقدرات جديدة تمكنه من الزيادة على ما هو فيه.
وقد سبق بيان أن تحقيق المثالية في جانب العقائد أمر ميسور لكل ذي عقل وإرادة، وإن كان ذلك في حدود أدنى درجات المثالية، فليس عسيرًا على أي إنسان أن يؤمن بالله وبسائر أركان الإيمان، وبكل الأمور التي جاء بها الإسلام.
الملاحظة الثانية: ولدى التأمل الدقيق نلاحظ أن المثاليات ذوات درجات، بعضها أرقى من بعض، والواجب المفروض منها أدناها، وما زاد على ذلك فهو زيادة في الارتقاء المثالي.
فالمثالية في الإيمان تتم بالإقرار والإذعان في القلب، ولكن هذا الإيمان قابل لأن ينمو في القلب ويعظم كما ينمو الوليد الجديد التام الخلقة، حتى يغدو رجلًا قويًّا كامل الرجولة، ويستمر الإيمان في القلب قابلًا لأن ينمو ويعظم، حتى يملأ القلب طمأنينة، ويزيل عنه كل أثر من آثار النفس، ويطرد عنه كل وسوسة من وساوسها ووساوس الشيطان، ويصبح لو انكشفت عنه فيها كل الأغطية عن الغيوب لم يزدد يقينًا.
وفي درجات هذه المثالية ارتقى إبراهيم عليه السلام حينما قال لربه: كما حكى الله ذلك عنه في سورة "البقرة: 2 مصحف/ 87 نزول":
ومعنى صرهن إليك: أملهن إليك وقطعهن واخلط لحمهن وريشهن.
فلما فعل إبراهيم عليه السلام ذلك زاد قلبه اطمئنانًا بالإيمان، وذلك لأن الشهود المادي لحادثة إحياء الموتى عظم حجم الإيمان في قلبه حتى طرد عنه
كل الوساوس التي قد تمر على قلوب المؤمنين الصادقين، دون أن تخلف فيها أثرًا من شك.
والمثالية في النيات تتم بابتغاء مرضاة الله، تعظيمًا له، وطمعًا بثوابه، وخوفًا من عقابه، ولكن هذا الشيء المثالي ذو درجات أيضًا بعضها أرقى من بعض.
فعبادة الله تعظيمًا له لأنه إله من حقه على عبيده أن يعبدوه، أرقى من عبادته طمعًا بالأجر، أو خوفًا من العقاب، مع أن كلا منهما لا ينزل عن مرتبة المثالية في النيات.
وعبادات الرسول صلوات الله عليه بعد أن علم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعد له في الجنة أرفع مكانة، هي من أرفع درجات المثالية، ويشهد لهذا أنه لما تعجب بعض أصحابه من اجتهاده في عبادته وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر أجابهم بقوله:
"أفلا أكون عبدًا شكورًا". رواه البخاري ومسلم.
وما يروى عن المرأة الصالحة "رابعة العدوية" من قولها: "إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك وإنما علمت أنك إله تستحق أن تعبد فعبدتك".
ونظر عمر بن الخطاب إلى صهيب رضي الله عنهما فرأى إحسانه في عبادته فقال:
"نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه".
أي: فكيف به إذا خاف الله.
إنما ذلك درجة عليا من درجات مرتبة المثالية، التي يشهد فيها الإنسان عظيم صفات الله تعالى، وينسى مع هذا الشهود مطامع نفسه ومخاوفها، فلا يشهد مع ذلك إلا استحقاق الله لأن يعبد فهو يعبده لذلك، غير ناظر إلى حظوظ نفسه من هذه العبادة.