الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية
الإيمان بالقرآن والسنة دفع المؤمنين إلى ابتكار علوم كثيرة:
آمن المسلمون الصادقون بأن القرآن المجيد كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن الثابت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر سنته، إما بيان لما جاء في القرآن، أو علم آتاه الله رسوله هو حق وصدق، أو هدي فيه حكمة ورشد وصلاح للعالمين.
وتفرع عن إيمان المسلمين الصادقين بهذا إيمانهم بعدة حقائق كبرى، منها الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: أن الله أنزل كتابه القرآن بلسان عربي مبين، ضمن قواعد لسان العرب، وأساليبهم البيانية، وطرقهم الكلامية التي كانت سائدة بينهم إبان نزول القرآن على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فبها يتخاطبون، وعلى وفق أسالبيها وارقي تعبيراتها البيانية يجودون ويحسنون في شعرهم، ونثرهم، وأمثالهم، وسائر آدابهم، وأن هذا القرآن معجز في بيانه، وقد تحدى الله فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثله في روائع بيانه فعجزوا.
وإيمان المسلمين بهذه الحقيقة، مع تخوفهم على لسان الأمة العربي من الفساد باختلاطهم الكثير بغير العرب، دفع نوابغهم لضبط اللغة العربية، وتقعيد قواعدها، ورسم قوانينها وأساليبها، أخذًا من واقعها العربي الصافي، الذي لم تعكره الشوائب.
ودفع نوابغهم للبحث عن سر إعجاز القرآن البياني، في جانب فصاحته وبلاغته وأدائه للمعاني، وللبحث عن العوامل التي تجعل الكلام فصيحًا بليغًا، وعن درجات السلم التي بها يتفاضل بعض الكلام على بعض، فصاحة وبلاغة وجمالًا ودقة أداء وروعة بيان.
ونجم عن هذين الدافعين تأسيس علوم اللغة العربية:
- فدونت معجمات مفرداتها مقرونة بشواهدها من شعر العرب الذين لم تفسد ألسنتهم بالاختلاط بالأعاجم، ومن نثرها، وأمثالهم الدارجة، وتتبع العلماء الباحثون العرب الأقحاح يأخذون عنهم مباشرة في بواديهم، ومنازلهم، ومضارب خيامهم.
- وتوجه النابغون يضبطون قواعد مفرداتها وجملها فيما عرف بعد ذلك بعلم النحو والصرف، وما تبع هذين العلمين من ذيول.
- واستخرجت ودونت قواعد علوم البلاغة فيما عُرف بعد ذلك بعلم النحو والصرف، وما تبع هذين العلمين في ذيول.
- واستخرجت ودونت قواعد علوم البلاغة فيما عرف بعد بعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
وأحرز المسلمون في هذه العلوم التي أسسوها سبقًا حضاريًّا لم تحظ بمثله أمة من الأمم قبلهم.
الحقيقة الثانية: أن القرآن والسنة مشتملان على أصول العقيدة التي جاء بها الإسلام، وعلى طرق الهداية إليها البيانية والجدالية.
وإيمان المسلمين الصادقين بهذه الحقيقة، مع ظهور مجادلين في بعض مسائل العقائد وأركان الإيمان، دفع أهل العقل والرشد والبحث العلمي الرصين، إلى تأسيس علم يشرح أركان الإيمان ومسائل العقائد، بالاعتماد على الأدلة النصية والعقلية، وقد اشتهر هذا العلم باسم:"علم الكلام" إذا برزت فيه جدليات كثيرة حول "الكلام" الذي هو أحد صفات الله الواردة في القرآن. واشتهر أيضًا باسم: "علم التوحيد" إذا برزت فيه الأدلة التي واجه بها المسلمون المشركين في قضية توحيد الله عز وجل في ربوبيته وفي إلهيته، وتقديم البراهين على أنه لا شريك له فيهما. ثم عرف هذا العلم باسم:"علم العقائد الإسلامية" أو "العقيدة
الإسلامية" وهذه التسميات المتأخرة أكثر مطابقة لمسائل هذا العلم.
واقترن بتأسيس هذا العلم اصطفاء أهم الحقائق العقلية والفلسفية التي تخدم مسائله، من الفلسفة التي أسستها أمم سابقة للأمة الإسلامية، وأبرزهم الإغريق، لكن كان للراشدين من المسلمين ميزة اصطفاء وتحرير وتنقيح وإضافة، واستبعاد ونقد لكل ما لا تثبته الأدلة والبراهين العقلية الصحيحة.
واقترن بتأسيس هذا العلم ابتكار علم آداب الجدل، فيما يعرف بعلم "آداب البحث والمناظرة".
الحقيقة الثالثة: أن القرآن والسنة مشتملان على أصول الشريعة التي جاء بها الإسلام، الشاملة للعبادات والمعاملات والأخلاق، وسائر أنواع السلوك الفردي والجماعي الديني والدنيوي.
وإيمان المسلمين الصادقين بهذه الحقيقة، دفع علماءهم وفقهاءهم إلى استنباط أحكام الشريعة الإسلامية ووصاياها في مختلف أنواع السلوك الإنساني، فنجم عن ذلك ما يلي:
أولًا: تأسيس "الفقه الإسلامي" وهو علم يشتمل على الأحكام الشرعية العملية، المستمدة من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة، والأدلة التي هديا إلى الاعتماد عليها.
وظهرت المذاهب الفقهية المتعددة، ودونت فيها المدونات العظيمة والكثيرة جدًّا، واستنبط الفقهاء المسلمون الأحكام الكثيرة لمختلف أنواع السلوك الإنساني في العبادات والمعاملات والعلاقات والأحوال الشخصية والاجتماعية، المادية والمعنوية، والسياسية الداخلية والدولية، ولم يفتهم من ذلك إلا ما لم يكن قد استجد بعد في حياة الناس.
وملأت كتب الفقه المشتملة على الأحكام التي استنبطها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، خزائن تشهد بعظمة الثروة الفقهية التي توصل إليها علماء المسلمين، باجتهادهم الخاص الذي لم تسبقهم إليه ولا إلى مثله أمة من الأمم.
واكتسب علماء المسلمين قدرة عظيمة جدًّا على ضبط أنواع السلوك وتنظيمه، واستخراج الأحكام القائمة على الحق والعدل ومصالح الناس، مع ابتغاء رضوان الله، من خلال مصادر التشريع الإسلامي.
أما الأحكام التي توصلوا إليها فقد كان بعضها من الأحكام القطعية التي دلت عليها المصادر، وهذه يندر الخلاف فيها عند الفقهاء، وكان الكثير منها اجتهادًا يعتمد على الترجيح بالدليل لرأي من الآراء الاجتهادية على ما يخالفه من الأراء، وهنا نلاحظ ظاهرة اختلاف الفقهاء في كثير من الأحكام الاجتهادية.
على أن ما توصلوا إليه في اختلافهم يعتبر ثورة علمية عظيمة صالحة للاستمداد منها، وظاهرة حضارية انفردوا بها، ولم تسبقهم إلى مثلها أمة من الأمم.
ثانيًا: تأسيس علم "أصول الفقه" وهذا العلم هو من مبتكرات الأمة الإسلامية، وهو علم يشتمل على القواعد الضابطة لاستنباط أحكام الشريعة من أدلتها التفصيلية.
ثالثًا: تأسيس علم "الأخلاق والآداب" الإسلامية، فهمًا أو استنباطًا من مصادر التشريع الإسلامي.
رابعًا: تدوين السيرة النبوية، وسير الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين، لما في هذه السير من خدمة للكتاب والسنة وما يستنبط منهما.
خامسًا: تدوين التاريخ الإسلامي والإنساني تأسيًا بقصص القرآن والسنة.
سادسًا: ضبط وتدوين الروايات الصحيحة الثابتة للقرآن الكريم في ألفاظه وتلاوته وأدائه، فيما يعرف بعلم "القراءات".
سابعًا: وابتكرت فروع علوم كثيرة انطلاقًا من هذه الحقيقة الثالثة، ولا تزال هذه الحقيقة منبعًا ثرًّا لإضافة مبتكرات من العلوم في النفس والتربية والاجتماع البشري، والظاهرات الكونية، وكلما جد في البحوث الإنسانية جديد.