الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا
مقدمات عامة:
تبين لنا مما سلف أن البناء الفكري للحضارة الإسلامية قائم على أسس عظيمة أهمها الأسس التالية التي سبق شرحها في الباب الأول بشكل مستفيض:
الأساس الأول: الالتزام بمبدأ الاستمساك بالحق، ومحبته والعمل على نشره، والتبرؤ من الباطل وكراهيته ومصارعته والعمل على قمعه وإزهاقه.
الأساس الثاني: الالتزام بمبدأ فعل الخير، والعمل على نصره ونشره، وترك الشر والعمل على خذله وقمعه.
الأساس الثالث: العالمية والشمول.
الأساس الرابع: المثالية في العقائد والأهداف والغايات، والواقعية في الأعمال ومناهج الحياة.
وبعد أن اتضحت لنا أهم الأسس التي يقوم عليها البناء الفكري للحضارة الإسلامية فإن البحث الواعي المتدبر يستدعينا أن نلاحظ أن البناء الفكري حقائق مجردة تتصورها الأفكار، وتتعشقها الأنفس، وتطمئن بها القلوب، لكن لا بد لها من بناء واقعي تتجسد فيه على الطبية، لتظهر بشكل مادي مثمر، يُؤتي أكله كل حين بإذن ربه، وإلا كان البناء الفكري رسمًا من الرسوم يثير إعجاب العلماء والفلاسفة والباحثين المنصفين، ويقف عند حد إثارة الإعجاب فقط، وليس قوة فعالة تمد الحياة بصنوف السعادة وأنواع الخيرات.
وبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيًّا يحتاج إلى وسائل عملية تقيم أركان هذه الحضارة على أسس بنائها الفكري.
وبالتأمل الدقيق والإحصاء تنكشف لنا مجموعة من الوسائل التي يتوقف عليها رفع قواعد هذه الحضارة، وإقامة بنائها الصاعد، في تكامل مستمر إلى قمم رفيعة جدًّا من المجد الإنساني، مع العلم بأن الغايات القصوى لهذا المجد -وهي الغايات التي تدفع إليها أسس الحضارة الإسلامية- لا يستطيع الناس في أية حقبة من تاريخ الإنسان أن يقدروها حق قدرها وذلك لأنهم لا يحيطون علمًا إلا بما يتبوؤه المسلمون منها في الواقع التطبيبقي، ولا بد لنا هنا من ملاحظة تقصيرات المسلمين الكثيرة، وانحرافاتهم عن صراطها السوي لدى التطبيق العملي، في زوايا تكثر درجاتها أو تقل.
ولو تهيأ لبناة الحضارة الإسلامية أن يستمروا في رفع بنائها وصيانته على أسسها الفكرية الراسخة، التي لا يمكن أن تنهار مهما ارتفع البناء، وثقلت أحماله، وكثر ساكنوه، وتنوعوا شعوبًا وأممًا، لكانت حضارتهم التطبيقية ومنجزاتها هي الحضارة المثلى، ذات الوجه الإنساني الجميل المشرق، المتدفق حياة وشبابًا مدى الدهر.
ونستطيع قبل شرح الوسائل التي يتوقف عليها البناء الواقعي المادي، للحضارة الإسلامية بحسب السنن الكونية، أن نلخصها تلخيصًا إجماليًّا بما يلي:
الوسيلة الأولى: السعي إلى معرفة حقائق الأمور وخصائص الأشياء، وسائر صفاتها والأعمال ونتائجها عن طريق التعلم والتعليم، وتجمع هذه الوسيلة طائفة من عناصر البحث، منها الشغف بالعلم، وحب البحث والمتابعة لإدراك حقائق الأمور، ومنها حث أسس الحضارة الإسلامية على العلم، وتمجيدها للعلماء والمتعلمين، ومنها بيان طرق اكتساب المعارف والعلوم، وموقف الإسلام منها.
الوسيلة الثانية: تطبيق العلم بالعمل، وذلك عن طريق الاستفادة المباشرة من المعارف، وعن طريق الاختراع والابتكار والتحسين.
الوسيلة الثالثة: التربية، وتكون بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمالة الأنفس بترغيبها بمحابها الخيرة، وبترهيبها مما تكره من شر أو ضر أو أذى.
الوسيلة الرابعة: الجدال بالتي هي أحسن.
الوسيلة الخامسة: إقامة الحكم الإسلامي المتقيد بأسس الإسلام وتعاليمه وإرشاداته ووصاياه، والذي يستخدم في السياسة الداخلية وسائله المادية والمعنوية للنهوض بالمسلمين، وتقويم سلوكهم، ورد المنحرفين فيهم إلى صراط الحق والخير، والأخذ على أيدي الظالمين وردعهم، وكل ذلك ضمن حدود الإسلام، ولهذه الوسيلة أثرها العظيم في الإصلاحات التاريخية للأمم، وفيما تبلغه من رقي سامق.
وهي المأثور عن عثمان رضي الله عنه قوله: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
الوسيلة السادسة: الجهاد في سبيل الله بالقتال، ويكون بإعداد واستخدام وسائل القوة المادية؛ لإرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين، ومقاومة شرورهم، ضمن قواعد السياسة الخارجية الإسلامية.
وفي الفصول التالية شرح لهذه الوسائل، وكان نصيب كل وسيلة منها فصلًا خاصًّا.
وبالله التوفيق والتسديد، وعليه التوكل، ولا حول ولا قوة إلا به.