المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي: - الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌فاتحة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌فاتحة كتاب؛ "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري

- ‌المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري

- ‌المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري

- ‌الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات

- ‌الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: الحق والباطل

- ‌الفصل الثاني: الخير والشر

- ‌المقولة الأولى: تعريفات للخير والشر

- ‌المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه

- ‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

- ‌المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية

- ‌المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات

- ‌المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب

- ‌الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود

- ‌انفتاح الحدود الفكرية

- ‌ انفتاح الحدود النفسية:

- ‌ انفتاح الحدود المادية:

- ‌الفصل الرابع: المثالية والواقعية

- ‌المقولة الأولى: تعريفات وبيانات عامة للمثالية والواقعية

- ‌المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌مدخل

- ‌شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية

- ‌شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها

- ‌شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية

- ‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

- ‌شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري

- ‌جدليات حول المثاليات والواقعيات الإسلامية:

- ‌الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا

- ‌مقدمات عامة:

- ‌الفصل الأول: التعلم والتعليم

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلى التعلم والتعليم

- ‌المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف المختلفة

- ‌المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسؤوليته بالنسبة إليها

- ‌المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى

- ‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السابعة: منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية

- ‌المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان

- ‌المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام

- ‌المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار

- ‌المقولة الرابعة: دفع شبهات

- ‌الفصل الثالث: التربية

- ‌الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن

- ‌المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة

- ‌المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم

- ‌الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم

- ‌المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي

- ‌المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسؤولياته

- ‌الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال

- ‌المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية

- ‌المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية

- ‌الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية

- ‌الفصل الأول: تلقي القرآن وتدوينه وتدبره

- ‌المقولة الأولى: تلقي القرآن وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم التفسير

- ‌الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة

- ‌المقولة الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة وزواتها

- ‌الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية

- ‌الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية

- ‌الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما

- ‌المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما

- ‌المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الثالثة: الكيمياء

- ‌المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات

- ‌المقولة الخامسة: الحيوان

- ‌الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقا وسلوكا

- ‌النشأة والتأسيس

- ‌ العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في مصر:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي:

- ‌كلمة موجزة عن أندنوسيا

- ‌ تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان:

- ‌الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون

- ‌ مقدمة:

- ‌ الواقع الاقتصادي:

- ‌ المالية العامة:

- ‌ التنظيمات الإدارية:

- ‌ القضاء:

- ‌ نظام الحسبة ووظيفة المحتسب:

- ‌ التدبيرات العسكرية:

- ‌ العمران:

- ‌ الخط العربي

- ‌ الصناعات الخزفية:

- ‌ الصناعات الزجاجية:

- ‌ صناعة النسيج:

- ‌الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى

- ‌ مقدمة:

- ‌ من أقوال المنصفين:

- ‌تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب

- ‌ واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين:

- ‌ أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين:

- ‌خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌خاتمة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌فهرس الكتاب:

- ‌آثار المؤلف

الفصل: ‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي:

15-

ثم تعرض "الأزهر" لتطوير آخر في عهد الرئيس "جمال عبد الناصر" الذي وصل إلى رئيس جمهورية بانقلاب عسكري على الملك "فاروق" فأحدثت في "الأزهر" كليات علمية مختلفة على غرار الجامعات المدنية؛ بغية تحويل المقدار الأكبر من خريجي المعاهدة الأزهرية، عن دراسة علوم الدين وما يتصل بها، إلى دراسة العلوم الأخرى التي لها كليات في الجامعات المدنية.

16-

ولقد مرت حقبة طويلة من الزمن كان الأزهر فيها هو المنبع الضوئي المنير في العالم الإسلامي، وهو المورد الذي يفد إليه طلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية من كل المسلمين من الأرض، وهو القاعدة التي كان يتخرج منها العلماء بالعلوم الإسلامية والعربية، وينتشرون في أرجاء العالم دعاة فقهاء، وهداة معلمين.

وكان ينظر في بلدان العالم الإسلامي إلى من يأتي متخرجًا من الأزهر باحترام وإكبار وتقديم وتكريم.

وبالأزهر كان لمصر مكانتها العظيمة، في أقطار الأرض جميعًا، لتعلق قلوب المسلمين ولا سيما العلماء وطلاب العلوم الإسلامية بأزهرها، الذي استمر يخرج علماء الشريعة الإسلامية، ويخرج الفقهاء، والمتمكنين من اللغة العربية.

ص: 600

5-

‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي:

مع بدء الفتح:

1-

اقترن بالفتح الإسلامي لبلاد المغرب نشر تعليم القرآن الكريم فيها، وتعليم اللغة العربية التي هي لغة القرآن.

وكان جيش الفتح يستصحب معه الخطباء والشعراء والمعلمين، الذين كانوا يعلمون في كل موقع يتهيأ لهم أن يعلموا فيه، ولو في الخيام، وكانت قصور الأمراء، ودور الأغنياء من المراكز المهمة للعلم والتعليم.

2-

ثم بنى المسلمون "جامع الأنصار" في أول موقع جعلوا فيه معسكرهم

ص: 600

في المغرب، وكان ذلك في سنة "31هـ" وكان هذا الجامع للصلاة والتعليم معًا، فكان أول مدرسة للتعليم في بلاد المغرب.

3-

ثم أسس "عقبة بن نافع" في سنة "51هـ" قيروان1 أفريقية، وهو المعسكر الأمامي الرئيسي، وبنى فيه جامعه الكبير، وجعله ثكنة عسكرية، وجامعًا للصلاة، ومدرسة للتعليم.

واستمر هذا المركز التعليمي يؤدي وظيفته في ديار المغرب والأندلس منذ تأسيسه حتى سنة "555هـ" إذ انتقل التعليم الرسمي إلى "جامع الزيتونة" بعاصمة تونس.

4-

وتوالى بناء المساجد التي هي مساجد ومدارس معًا في كل بلاد المغرب.

5-

وصار "جامع تلمسان" الذي بناه "موسى بن نصير" على الحدود بين المغرب الأوسط والمغرب الأقصى يضاهي بحركته العلمية والتعليمية "جامع القيروان".

6-

ثم ظهرت مرحلة تعليمية ذات ثلاثة خصائص:

الأولى: ظهور المساجد التي اهتمت دولة المسلمين بتأسيسها في بلاد البربر، وضمن قبائلهم، وكانت هذه المساجد مدارس لتعليم القرآن والدين واللغة العربية.

الثانية: قدوم بعثة تعليمية أرسلها الأمويون لغاية تعليم البربر الإسلام واللغة العربية.

الثالثة: ظهور وفرة من المساجد الخاصة التي كان الموسرون من المسلمين يتبرعون ببنائها للصلاة ولنشر التعليم الديني، ولتعليم اللغة العربية، وكان المدرسون يعلمون فيها احتسابًا عند الله عز وجل وابتغاء مرضاته، وقد انتشرت هذه المساجد الخاصة في كل مدن وقرى المغرب، وإليها يرجع الفضل في تعليم

1 القيروان: مدينة بتونس، أنشأها عقبة بن نافع، كانت مقر الحكام المسلمين في غرب أفريقيا.

ص: 601

الإسلام، وتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية، لعموم الطبقات الشعبية الساكنة في السهول والجبال.

7-

وبعد سقوط الدولة الأموية بالمشرق، وظهور الدولة العباسية، وانتقال الحكومة المركزية من دمشق إلى بغداد، أقبل الولاة في المغرب على تأسيس معاهد العلم، وجلب المشتهرين باللغة والنحو والأدب والفقه وغيرها من العلوم من المشرق، وسعوا سعيًا حثيثًا لإنشاء جهازهم العلمي المستقل عن أجهزة التعليم في المشرق.

وبالتدريج صارت القيروان كعبة العلم بالمغرب، وصار "جامع عقبة بن نافع" هو الجامعة الكبرى في بلاد المغرب.

8-

واقترنت بالنهضة التعليمية الواسعة في المغرب حرية فكرية أدت إلى إنشاء مساجد خاصة بالخوارج الصفرية1، وغيرهم من الفرق، وكانت بمثابة مدارس لمذاهبهم.

9-

وأراد الوالي "هرثمة بن أعين تدارك الأمر خشية استفحال الخلاف في المغرب، فأسس في سنة "180هـ" رباطين:

- رباط "طرابلس" وبنى سورها مما يلي البحر.

- رباط "المنستير"2 وبنى فيها القصر الكبير.

وجعل "هرثمة بن أعين" الرباط يقوم بوظيفتين: وظيفة مراقبة وحراسة الساحل، عند الثغر البحري؛ خوفًا من غدر الأعداء ومباغتتهم، ووظيفة العلم والتعليم.

ثم انتشرت فكرة الأربطة في مواقع كثيرة.

الرباط: ثكنة عسكرية تتألف من صحن تحيط به عشرات الغرف، لإقامة

1 الصفرية، ويقال: الأصفرية، فرقة من الخوارج، هم أتباع زياد بن الأصفر.

2 المنستير: مرفأ تونسي على خليج الحمامات في ولاية سوسة.

ص: 602

المرابطين للدفاع الحربي. وتتألف أيضًا من طبقات عليا تعلو جوانبه، وينتهي بجامع كبير وصومعة مستديرة للأذان.

وهو أيضًا بمثابة مستشفى للمرضى الذين يعالجهم المرابطون والمرابطات، وقد ينزل فيه المسافرون.

وهو أيضًا بمثابة مدرسة، يقيم فيه المرابطون المعلمون احتسابًا، وابتغاء لمرضاة الله.

وهو أيضًا دار لاستنساخ المصاحف، ومجامع الحديث، وكتب الفقه، وكان بعض المؤلفين يحسبون تصانيفهم بخطوط أيديهم وقفًا على الأربطة، لتكون النسخة الأم التي يرجع إلى نصها الصحيح، وتقابل عليها النصوص المستنسخة.

وكان بعض المرابطين يتولون نسخها وتوزيعها على طلبة العلم لوجه الله تعالى، واحتسابًا للثواب عنده.

وكان يعلم بالرباط تفسير القرآن، والحديث الشريف وشرحه، وكتب الفقه، وشعر المواعظ والرقائق.

وكان من أشهر مدرسي "رباط المنستير" الفقيه الجليل صاحب المدونة "سحنون بن سعيد التنوخي" الذي كان يقرئ الفقه في رمضان من كل سنة.

وكان منهم أيضًا "أحمد بن الجزار القيرواني" الذي كان يقرئ الطب، ويعالج المرضى في أشهر معلومة من السنة.

الرحلات في طلب العلم:

10-

ومنذ بدء القرن الثالث الهجري ظهرت في بلاد المغرب ظاهرة الرحلات في طلب العلم.

فكان عشاق العلم يرحلون لطلبه من الأندلس وبلدان المغرب إلى القيروان، التي كانت تعج بالعلماء من مختلف الاختصاصات العلمية المعروفة في زمانهم.

ص: 603

ويرحلون من القيروان إلى مصر والمدينة المنورة ودمشق وبغداد.

فكان طالب العلم إذا اجتاز المراحل التعليمية الموجودة في القيروان شد الرحال إلى المشرق، ليؤدي مناسك الحج في مكة، ويزور مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وليطلب العلم عند أهله. وكان ينتقل من مدينة تقصد لمن فيها من العلماء إلى مدينة أخرى متأنيًا في أسفاره بغية الاستزادة من العلم، وكلما سمع بأستاذ مشهور بعلم من العلوم، زاره وحضر حلقته، وأخذ عنه علمًا، وقد يطلب منه إجازة بما تلقاه عنه.

نظرات فيها شيء من التفصيل عن الحركة العلمية في عموم المغرب:

أولًا: في تونس

1-

منذ القرن الأول الهجري كانت "تونس" من المراكز المهمة في بلدان العالم الإسلامي للعلم والتعليم، وكانت مدينة "القيروان" التي أسسها "عقبة بن نافع" في تونس، وجامعه الكبير فيها منتجعًا لطلاب العلم، ومحط أنظار العلماء والأدباء والشعراء.

وكان طلاب العلم من أهل الأندلس يفدون إليه لينهلوا من مناهل العلم فيه.

وتكاثرت الرحلات العلمية من الأندلس إلى تونس في عهد الحفصيين، وكانت كلما سقطت مدينة من مدائن المسلمين في الأندلس بيد الإسبان هاجر أهلها المسلمون إلى تونس، حتى صار البلاط الحفصي بلاطًا أندلسيًّا بطرق معاشه، وموظفيه وجنده وضباطه وشعرائه، وصار معظم القائمين بالتعليم في "القيروان" من أهل الأندلس المهاجرين.

12-

ثم انتقل التعليم العالي في تونس من جامع القيروان بمدينة "القيروان" إلى "جامع الزيتونة" بتونس، وأعيد نظامه، واتجهت الأنظار لجلب الشيوخ والأساتذة والمعلمين من ليبيا أو الأندلس إليه.

ص: 604

وكانت المواد الدراسية تشتمل على "علوم الدين الإسلامي، وعلوم اللغة العربية، والعلوم الأخرى، كالرياضيات، والطب والهندسة، والفلسفة.

13-

وانتشر في تونس التعليم العام بالكتاتيب التي أنشئت بوفرة، في المدن والقرى، وكان من الكتاتيب ما هو خاص بالذكور، ومنها ما هو خاص بالإناث.

وكان منهاج التعليم في الكتاتيب دينيًّا وأدبيًّا وفنيًّا.

والتعلم الفني يتعلم فيه الطالب تحسين الخط، والزخرفة بالألوان والأشكال الخطية والهندسية والنباتية.

وكان الطالب يعمل أيضًا في بستان الكُتَّاب، ليتعلم البستنة تحت إشراف بستاني يجيد هذه الصنعة.

14-

وكانت توجد بالإضافة إلى الكتاتيب مراكز أخرى للتعليم تُسمى الزوايا، وهي مدارس داخلية مجهزة بما يحتاج الطلبة فيها.

15-

وحين سقطت دولة "الحفصيين" بدأ الضعف في "جامع الزيتونة".

ثم استرد عافيته بعد زمن لم يطل كثيرًا.

16-

وخلف الحفصيين "المراديون" فاعتنوا بإنشاء الجوامع على غرار "الجامع الزيتونة" وكانت هذه الجوامع بمثابة جامعات بحسب مصطلحاتنا المعاصرة.

17-

تم تلاشى حكم المراديين، وجاء الحكم "الحسيني" الذي استمر من سنة "1117هـ" إلى سنة "1230هـ" فوجه أول حاكم حسيني، وهو "حسين بن علي التركي" همته لإصلاح التعليم. ونهض التعليم في عهد الحسينيين نهضة حسنة.

ثانيًا: في ليبيا

الحديث عن التربية والتعليم في ليبيا مشابه للحديث عنهما في تونس.

ص: 605

18-

فالتعليم العالي قد كان بجامع فاتح ليبيا "عمرو بن العاص" المعروف باسم "جامع الناقة" في "طرابلس الغرب".

19-

ثم بنى الحكام الأغالبة في القرن الثالث الهجري الجامع الكبير في المكان الذي يوجد فيه الآن جامع "أحمد القارامللي" وصار هذا الجامع فرعًا مهمًّا للجامع الأعظم بالقيروان، عدا الإرساليات العلمية المتوالية إلى القيروان.

20-

وفي العهد التركي بنى "أحمد باشا القرامللي" جامعه الكبير على أنقاض الجامع الأغلبي، وأضاف إليه مدرسة.

ثم أضيفت أيضًا مدارس إلى "جامع القرجي" و"جامع شايب العين" و"جامع درغوث باشا" و"جامع مراد باشا" بتاجورة قرب "طرابلس" وكانت هذه المدارس مدارس داخلية، فيها العلم وفيها الإقامة وفيها حاجات العيش، وبذلك ازدهر العلم.

وهذه الجوامع تمثل التعليم العالي، كالجامعات في مصطلح عصرنا الحاضر.

21-

أما مراكز التعليم الأخرى التي كانت منتشرة في البلاد، فقد كانت كالتالي:

- الرباطات: ومن أشهرها رباط "قصر طرابلس" الذي أسسه الوالي "هرثمة بن أعين" سنة "171هـ".

- المدارس: وهي تمثل المرحلة الثانوية في مصطلحاتنا المعاصرة.

- الزوايا: وهي نظير الزوايا التي كانت منتشرة في سائر بلدان المغرب، وهي تمثل المرحلة الإعدادية.

- الكتاتيب: وهي نظير الكتاتيب المماثلة في سائر بلدان المغرب، وهي تمثل المرحلة الابتدائية.

ص: 606

22-

ولم تكن "طرابلس الغرب" هي العاصمة الثقافية الوحيدة، فقد كانت "مصراته" و"أجدابية" وغيرها مراكز إشعاع علمي في ليبيا.

23-

وقد رصد المسلمون أوقافًا كثيرة جدًّا للعلم والتعليم في الجوامع، والمدارس، والزوايا، والكتاتيب، بغية تأمين عيش الطالب من كل جوانب حياته.

وفي هذا اهتمام عظيم من المسلمين بالعلم والتعليم ونشر الفكر الإسلامي وثقافته في كل موقع من الأرض فيه مجتمع بشري.

ثالثًا: في الجزائر

اهتمام المسلمين حكامًا وشعبًا بالعلم والتعليم ونشر الإسلام، قد كان متشابهًا في جميع بلدانهم، وعصورهم التي كان فيها الحكم للمسلمين.

24-

وقد كان التعليم في الجزائر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: التعليم الابتدائي.

القسم الثاني: التعليم الثانوي.

القسم الثالث: التعليم العالي.

وكانت مراكز التعليم تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: مراكز التعليم البدوية، والتعليم فيها يكون في خيمة تعد للمؤدب، وفيها يعلم الأحداث.

القسم الثاني: مراكز التعليم الحضرية، ويسمى معهد التعليم الابتدائي عند الحضر "مسيدًا" أو "مكتبًا" ولفظ "مسيد" تحريف لكلمة "مسجد".

ولم يرتق التعليم في الجزائر إلى مستوى التعليم في سائر بلدان المغرب إلا متأخرًا.

ص: 607

رابعًا: في الأندلس

25-

في أواسط القرن الثاني للهجرة تأسست في الأندلس خلافة أموية جديدة، فاهتمت بالعلم اهتمامًا بالغًا.

وبعناية هذه الخلافة صار معهد طليطلة أكبر معهد يتعلم به المسلمون وغير المسلمين ما وصل إليه المسلمون من علوم مختلفة في ذلك العصر.

وكان الغربيون يترجمون من الكتب المكتوبة باللسان العربي ما يرغبون في ترجمته إلى اللاتينية، وكان هذا هو العامل الأساسي في ظهور النهضة العلمية والأدبية والفنية وغيرها في أوروبة.

وبعناية هذه الخلافة الأموية الإسلامية صار "جامع قرطبة" وما ألحق به من مكتبة ومعهد يضاهي "القيروان" في تونس، والفسطاط في مصر، ودمشق وبغداد وغيرها من مراكز العلم في بلدان المسلمين وعواصمهم.

عهد دولة الأدارسة في المغرب الأقصى:

26-

وفي هذه الحقبة من الزمن أسس الأدارسة دولة استقلوا بها في المغرب الأقصى، وجعلوا مدينة "فاس" عاصمة لهم.

وفي عدوة القرويين من نهر فاس بنت "فاطمة أم البنين القيروانية" جامع القرويين.

ولم يلبث أن صار "جامع القرويين" هذه جامعة تدرس مختلف العلوم، ومنها الطب والهندسة والفلك والميقات.

ونقل الفقيه المالكي "إسماعيل بن دراس" إلى جامع القرويين الفقه المالكي.

ثم استقل "جامع القرويين" بعلومه عن "جامع القيروان" بعد أن كان بمثابة فرع من فروعه، وبلغ أوج رقيه العلمي في عهد "المرينيين".

عهد الدولة الأغلبية:

27-

وفي هذه الحقبة من الزمن أيضًا أسس "إبراهيم بن الأغلب" الدولة الأغلبية في القيروان وأفريقية.

ص: 608

وبعناية الأغالبة صار "جامع القيروان" كعبة العلم بالديار المغربية، والأندلسية، وصقلية، وسردانية، ومالطة، وقوصرة

العهد الفاطمي:

28-

نشر العبيديون الذين سموا أنفسهم "فاطميين" دعوتهم في المغرب قبل أن يؤسسوا دولتهم، ثم تغلبوا على الأغالبة بتونس، وعلى الرستميين بالجزائر، وعلى الأدارسة بالمغرب الأقصى، وأقاموا دولتهم.

وأكثروا من فتح المدارس التي رتبوا فيها الدعوة لمذهبهم الباطني ترتيبًا منسقًا، وجعلوا على رأسها "النعسان المغربي" الذي كان على مذهبهم.

وفي هذا العهد نشط اتباع المذهب المالكي في عقد حلقات الدروس بالجوامع والمساجد والأربعة، للوقوف في وجه تيار الفكر الفاطمي الباطني.

وفي هذا العهد زادت حركة البربر في إحياء جوامع الإباضية بالجبال والصحاري.

وفيه ضاعف أهل صقلية جهودهم في تدعيم ونشر المذهب الحنفي وتكثير أتباعه.

ثم انتقل الفاطميون إلى مصر، وحلت محلهم في المغرب دول ذوات أعراق بربرية، مع نزعة غربية.

ولم يظفر الفاطميون بنشر مذهبهم الباطني في بلاد المغرب.

عهد دولة المرابطين:

29-

قامت دولة المرابطين بعد انتقال الفاطميين إلى مصر، فاهتم المرابطيون بالتعليم القائم على الدعاية إلى الإسلام، ونشره بصورة مبسطة، ولا تعقيد فيها ولا فلسفة، وعلى مقاومة البدع، وتنقية العقيدة مما دخل عليها من شوائب.

ورأت دولة المرابطين أن جامعة القرويين مائلة إلى الانحطاط، فأسسوا جامعة جديدة في مراكش.

ص: 609

واعتنى "يوسف بن تاشفين" بعد أن تمكن من الحكم، بجمعه لعلماء الأندلس وأدبائها، ونقلهم إلى مراكش عاصمته المغربية.

ولكن لم تكن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وحدها كافية للقيام بشئون الدولة، وقد أدرك هذه الحقيقة "علي بن يوسف بن تاشفين" فأسس في سنة "514هـ" جامعة عرفت باسم "الجامعة اليوسفية" نسبة إلى اسم أبيه "يوسف" وكان الغرض من تأسيسها تخريج الأطباء والصيادلة والمهندسين والمعماريين والرياضيين، ليجاري الأندلس والحركة العلمية العامة.

فعززت هذه الجامعة الجديدة "جامعة القرويين" الإدريسية بمدينة "فاس" وجامعة "سبتة" الأندلسية.

عهد دولة الموحدين:

30-

ولما قامت دولة الموحدين البربرية أسست مؤسسات تعليمية كثيرة، وقد اعتمد الموحدون على هذه المؤسسات التعليمية في إقامة دولتهم، ونشر العلم بين طبقات الشعب، من أهل المدن والبواطي، والبربر وغير البربر.

فكان من مؤسساتهم التعليمية ما يلي:

- الكتاتيب: وقد كثرت هذه من الجهات البربرية، وقد أقبل عليها الناس، يعلمون فيها أولادهم، وهذه الكتاتيب هي بمثابة مدارس ابتدائية.

- الزوايا: وقد كانت هذه الزوايا بمثابة مرحلة تعليمية متوسطة.

- المدارس: وقد قام الموحدون بتأسيس المدارس التي هي أعلى درجة من الزوايا، وكانت مدارسهم هذه على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: المدرسة العامة، والغرض منها تخريج موظفي الدولة، وتهتم بتدريس النظام الإداري الذي يتمشى مع سياسة دولتهم.

النوع الثاني: المدرسة الملكية، وهي خاصة بتعليم أبناء الأمراء.

النوع الثالث: المدرسة الخاصة بتعليم الملاحة البحرية وتخريج الملاحين، وقد أقامها الموحدون بمدينة الرباط.

ص: 610

31-

وأسس "يعقوب المنصور" مدارس في المغرب والأندلس وتونس، ومنها مدرسة أحدثها في المدينة التي اختطها خارج مراكش، في مكان كبير.

32-

واعتنى الخواص من الشعب بتأسيس المدارس، ومنهم "أبو الحسن الشاري الغافقي السبتي" فقد ابتنى المدرسة المنسوبة إليه بمدينة "سبتة".

33-

وأسست دولة الموحدين بيت الطلبة في "مراكش" وهو شبه مدرسة عليا، وحياة الطلبة في هذا البيت تنقضي بين المدرسة ومكتبتها والنادي الذي تجري فيه المناظرات العلمية والأدبية، ودار المبيت، وكانت دار مبيت الطلبة أنيقة البناء على الطراز الأندلسي، وكانت مزخرفة بالنقوش العربية، وكانت تتوافر فيها كل أسباب الراحة والمعيشة الحسنة.

خامسًا: في صقلية

صقلية هي أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، تقع بين بحر الروم والبحر التيراني، وتبعد حوالي "165كم" شرق أفريقيا.

34-

فتحها المسلمون بقيادة القاضي "أسد بن الفرات" فكان فتحها مقدمة إشراق النور الإسلامي في ربوع أوروبة، لولا النكسات التي أصابت المسلمين بعد ذلك.

وبنى المسلمون في عاصمتها "بلرمو" جامعًا للصلاة والعلم والتعليم، وفق منهجهم المتبع في الفتوح.

35-

ثم أسس المسلمون التونسيون في مدينة "سالرنو" من المدن الإيطالية جامعة، كان أساتذتها من العرب المسلمين أول الأمر، وكانت كتب التدريس فيها من تصانيف المسلمين المكتوبة باللسان العربي، ثم ترجمت إلى اللاتينية.

وقد شجع المسلمون خلال حكمهم لصقلية أهل البلاد على الزراعة والتجارة والفنون المختلفة، مع نشرهم للإسلام وعلومه، وللغة العربية.

36-

وصارت المعاهد العربية الإسلامية في هذه الجزيرة موارد يقصدها

ص: 611

كثيرون من العلماء وطلاب العلم الأوروبيين، وكانت مع عموم الأندلس، أهم مراكز العلم التي تبث الإشعاع العلمي المسلط على ذوي العقول النيرة المتعشقة للعلم في أوروبة.

خلاصة الظواهر العلمية الكبرى في بلاد المغرب:

14-

بنظرة كلية جامعة لبلدان المغرب، يلاحظ المؤرخ أن الحركة العلمية والتعليمية والتربوية كانت تقتبس من بلدان المشرق وتحذو حذوها، ثم صارت ذات استقلال ذاتي، تختط لنفسها، وتنهج مناهج خاصة بها.

ولدى رصد الظواهر تتجلى للباحث الظواهر التالية:

الأولى: النهضة العلمية الفائقة بجامع القيروان، وقد كان فيه جناحان: جناح للرجال، وجناح للنساء.

الثانية: تحقق الاكتفاء الذاتي العلمي، إذا التقت الأندلس، والمغرب، والجزائر، وطرابلس، وبرقة، وصقلية، وغيرها من مراكز العلم حول "جامع القيروان" وقلت الهجرة إلى طلب العلم في بلاد المشرق.

الثالثة: استقلال التعليم باعتماد كتب الأفريقيين، دون كتب علماء المشرق، فكان طلاب العلم يرجعون في التفسير مثلًا إلى تفسير محمد بن عبد السلام القيرواني، ويرجعون في الفقه إلى مدونة "سحنون" ويرجعون في الطب إلى كتب "ابن الجزار القيرواني".

الرابعة: ظهور التصانيف التربوية المستقلة في التأليف، بعد أن كانت ضمن أبواب الفقه، ومنها كتاب "أدب المعلمين" لمحمد بن سحنون.

الخامسة: استقلال أفريقية بعلومها الفقهية والتاريخية والجغرافية والطبية.

السادسة: ظهور التعليم العالي بالأقاليم الإفريقية.

السابعة: إنشاء معاهد لتعليم الطب، والهندسة، والحساب، والصيدلة، والفلك، والنحو.

ص: 612

والحق بها مدارس للترجمة عن اللغات البربرية واللاتينية واليونانية والعبرانية، ومدارس أخرى لترجمة أمهات الكتب من اللسان العربي إلى اللاتينة، التي كانت لغة العلم يومئذ عند الأوروبيين.

الثامنة: تأسيس جامعة بمدينة "سالرنو" من المدن اللإيطالية، وكان أساتذتها من المسلمين، وكانت الكتب المقررة فيها والمراجع من التصانيف التي صنفها المسلمون باللسان العربي.

التاسعة: ظهور بداية تفرغ بعض العلوم الجامعة، إلى علوم متعددة ذوات بحوث تخصصية.

العاشرة: كثرة دور الكتب بالأربطة والجوامع، وكانت مكتبة القيروان أكبرها وأجمعها.

الحادية عشرة: ازدهار الأدوات المساعدة على حركة العلم ونشاطه، مثل ازدهار صناعة "الرق" بالقيروان، وهي الجلود الرقيقة التي تصنع للكتابة عليها، وأجودها ما يصنع من جلود الغزلان لكتابة المصاحف، والكتب النفيسة والمراسلات السلطانية. وازدهار صناعة الورق التي نقلت من بغداد ومنبج والفسطاط. وازدهار صناعة الحبر.

ص: 613

6-

العلم والتعليم والتربية في شبه القارة الهندي ة 1

1-

اهتم المسلمون كعادتهم منذ بدء فتح بلاد "السند" و"الملتان" بتعليم القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وتعليم أصول الدين، وأحكام الفقه الإسلامي، وتعليم ونشر اللغة العربية، في الجوامع التي ينشئونها في كل بلد يخضع لسلطانهم.

1 أكثر المعلومات التاريخية في هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية وحضارتهم" تأليف "د. أحمد محمود الساداتي" ومن كتاب "موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية لبلاد السند والبنجاب باكستان الحالية" تأليف: "د. عبد الله مبشر الطرازي".

ص: 613

أما العلوم الأخرى كالطب والرياضيات والكيمياء والفلك والفلسفة والطبيعيات، فقد كانت موجودة، ولكن عمل المسلمون على الاستفادة منها، وعلى دفعها شطر التقدم الارتقائي، مع الاهتمام بتنقيتها من الأخطار والأغاليط والأوهام، ولا سيما ما يخالف منها الحقائق الدينية.

وهذا شأن المسلمين في كل بلدان الفتح الإسلامي.

2-

في سنة "89هـ" فتح القائد الشاب "محمد بن القاسم الثقفي" ابن أخي "الحجاج" الذي اختاره أميرًا لبدء الفتح في "السند" مدينة "ديبل" وأول ما فعله "محمد بن القاسم" بناء مجسد جامع في المدينة، لأداء الصلوات المفروضة، ولنشر العلم، وقيام العلماء بالتعليم.

وكان كلما فتح مدينة في بلاد "السند" و"الملتان" أنشأ فيها مسجدًا جامعًا للقيام بالوظيفتين الآنفتي الذكر.

3-

وظلت الجوامع في العصر الأموي وفي عصور المسلمين التاليات هي المراكز الأولى لبث ضياء العلم، وأنوار الهداية.

وكان الأئمة والعلماء فيها يشرفون على أداء الشعائر الدينية فيها، ويقومون بتدريس أولاد المسلمين، ونشر العلوم الإسلامية بين أهالي البلاد، مع الدعوة إلى الإسلام وتعليم اللغة العربية.

4-

وفي سنة "93هـ" عين الأمير الشاب "محمد بن القاسم الثقفي" العالم الفقيه "موسى بن يعقوب الثقفي" قاضيًا على مدينة "الور" التي كانت عاصمة لبلاد "السند" قبل الفتح الإسلامي.

5-

ومع توالي السنين وتزايد الفتوح الإسلامية، وامتلاك المسلمين القيادة الإدارية في شبه القارة الهندية، كانت الحركة العلمية والتعليمية تزداد، وكانت مراكزها الجوامع، والحلقات التي يعقدها العلماء فيها، أو في دورهم، أو في دور أهل اليسار والغنى والأعيان ذوي الحرص على ابتغاء مرضاة الله من المسلمين.

ص: 614

فقد جاء في التاريخ أن الشيخ "أحمد بن محمد المنصوري" الذي كان قاضيًا في "المنصورة" قد كانت له جلسة علمية منتظمة يقوم بالتدريس فيها، وأن قاضي مدينة "الور" الذي هو من أحفاد الشيخ "موسى بن يعقوب الثقفي" قد كانت له جلسات علمية يقوم بالتدريس فيها، وكذلك كان قاضي "سيوستان" المعروف بـ"الشيباني".

وجاء عند المؤرخين ذكر لبعض مدن العلم والمعرفة في "السند" خلال القرن الرابع الهجري، مثل مدينة "المنصورة" التي كان جميع سكانها من المسلمين، ومدينة "الملتان" التي كان سكانها من المسلمين وغير المسملين، ومدينة "الديبل" التي كانت اللغة العربية رائجة بين أهلها بفضل جهود العلماء العرب المسلمين فيها، ومدينة "القنوج" في أقصى بلاد السند، التي تشتهر بكثرة العلماء الكبار من علماء المسلمين ومدينة "البيلمان" ومدينة "سرست" في وسط "السند" ومدينة "بوقان" في إقليم "مكران" وكان أهلها بوذيين، وصاروا في القرن الرابع الهجري مسلمين.

6-

وبرز من أهل البلاد الأصليين علماء فضلاء، وأدباء، وشعراء، فمنهم على سبيل المثال:

- "أبو ضلع السندي" وقد كان أديبًا وشاعرًا.

- "كشاجم بن السندي بن الشاهك".

- "السند بن محمد الديبلي" وقد كان عالمًا محدثًا.

- "إسماعيل بن السندي" وقد كان عالمًا جليلًا، ومحدثًا كبيرًا.

- "أحمد بن عبد الله الديبلي" وقد كان محدثًا.

- "أحمد بن إبراهيم الديبلي" وقد كان عالمًا مفسرًا.

- "إبراهيم الديبلي السندي" وقد كان عالمًا فقيهًا ومحدثًا كبيرًا.

7-

وكانت اللغة العربية في بلاد "السند" حتى أوائل القرن الخامس الهجري هي اللغة الرسمية المستعملة في الدواوين الحكومية، ودور القضاء،

ص: 615

والمدارس، والمعاهد والأسواق التجارية الكبيرة، وكانت لغة الطبقة العالية من الوجهاء والعلماء والخواص من أهل "السند" و"الملتان".

ولما انتقل الحكم إلى الغرنويين المسلمين الذين يتكلمون الفارسية، روجوا اللغة الفارسية، وبذلك صارت الفارسية في تلك البلاد هي لغة العلم والتعليم والثقافة طوال عدة قرون.

8-

وكان من مرافقي جيوش الفتح الإسلامي في شبه القارة الهندية علماء أعلام، ومنهم "الربيع بن صبيح البصري" وهو من كبار المحدثين.

9-

ومع أوائل القرن الخامس الهجري بدأ "الغزنويون"1 فتح "كابل" وبلاد الأفغان، والامتداد إلى شبه القارة الهندية.

والسلطان "محمد بن سبستكين الغزنوي" قد بدأ فتوحه مع أواخر القرن الرابع الهجري، وبقي مجاهدًا في سبيل الله وفاتحًا ومصلحًا حتى وافته منيته سنة "421هـ".

ويذكر المؤرخون أنه هو الفاتح الحقيقي الشامل لشبه القارة الهندية، وأنه كان من أعاظم سلاطين المسلمين، وقد امتدت سلطنته من "بهار" في شرق الهند، إلى "فارس".

يقول بشأنه "لين بول":

"إن ذلك السلطان الذي أقام تلك المنشآت الفخمة في "غزنة" وأقام دور العلم، ودعا العلماء حتى كان يجود عليهم بما لا يقل عما يعادل مائتي ألف من الجنيهات كل عام، فضلًا عما كان يجري على طلبة العلم من الأرزاق، لا يمكن أن يسلك في زمرة الطغاة البرابرة".

- فالسلطان "محمود الغزنوي" قد كان إلى جانب شهرته الحربية العظيمة، ذا شهرة أيضًا برعايته للعلوم والآداب، وبذله العظيم لأربابها والمشتغلين بها،

1 الغزنويون: نسبة إلى "غزنة" من أفغانستان، والأسرة الغزنوية ذات أصول تركية، ترجع إلى "ألف تكين" الذي كان قائدًا تركيًّا في جيش ملوك السامانيين في خراسان وما وراء النهر.

والسلطان "محمود بن سبستكين" هو الفاتح الحقيقي الشامل لشبه القارة الهندية.

ص: 616

حتى صار بلاطه مقصودًا من مختلف الأقاليم الإسلامية، وكان من بين الذين وفدوا إليه:"أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني" العلامة الرياضي، والفلكي الفيلسوف، والعالم بلغات الهند وثقافاتها، "العتبي الوزير" و"أبو الفضل محمد بن حسي البيهقي" صاحب تاريخ سلاطين غزنة الذي يقع في ثلاثين مجلدًا، فُقِدَ أكثرها، وهو المعروف بتاريخ البيهقي، و"أبو نصر محمد الفارابي" الفيلسوف الذي لقب بالمعلم الثاني، بعد الفيلسوف اليوناني الملقب بالمعلم الأول.

- والسلطان "مسعود بن محمود الغزنوي" الذي تولى السلطنة خلفًا عن أبيه من سنة "421هـ" إلى سنة "433هـ" قد كان شغوفًا بالعلم والعلماء، وبإنشاء مؤسسات التعليم، فأنشأ في بلاده كثيرًا من المساجد والمدارس والرباطات لنشر علم القرآن والسنة، والثقافة الإسلامية، وسائر العلوم الكونية المعروفة في زمانه.

10-

وفي أواخر القرن السادس الهجري سقطت دولة الغزنويين، وجاءت بعدها دولة الغوريين، وهم من أمراء الغور الأفغان، وزعيمهم "محمد الغوري".

- وقد اضطر السلطان "محمد الغوري" أن يواجه قتالًا عنيفًا يدفع به شر الأمراء الراجبونيين الهندوس في الهند، الذين تجمعوا وحشدوا جيوشهم لإسقاط دولة المسلمين في شبه القارة الهندية.

وفي المواجهة الأولى اضطر المسلمون بقيادة "محمد الغوري" إلى التراجع طلبًا للسلامة.

ثم حشد جيشًا أكبر من فرسان المسلمين الأفغانيين والأتراك قوامه مائة وعشرون ألفًا، وكان على هذا الجيش أن يواجه ثلاثمائة ألف من فرسان الهنادكة، ومعهم ثلاثة آلاف من فيلة الحرب.

وأعد السلطان خطة حربية بارعة تعتمد على الكر والفر، مع تجزئة الكارِّين والفارين إلى وحدات من عدة جهات، وبهذه الخطة أرهق السلطان قوى الهنادكة إرهاقًا شديدًا، وشتت بها جموعهم، ثم كان الانتصار العظيم للمسلمين، وبهذه الموقعة انتهى سلطان الأمراء الهنادكة في شمال الهند.

ص: 617

-وحين استقر السلطان "محمد الغوري" أنشأ المساجد والمدارس، على غرار الطريقة المعروفة في مختلف البلدان التي تخضع لسلطان المسلمين؛ إذ كانوا يوجهون اهتمامهم الأكبر للعلم والتعليم ونشر تعليمات الإسلام، ودعوة الناس إلى الدخول في دين الله الحق.

- واستطاع السلطان "محمد الغوري" بجهاده وحكمته وقوة عزيمته أن يثبت أقدام المسلمين في شمال الهند كله، واستطاع أن يقيم للمسلمين حكمًا عادلًا ذا قاعدة إسلامية، وأن يوطد دعائم هذا الحكم، ويثبت أركانه وبنيانه.

- وعلى أيدي رجال السلطان "محمد الغوري" بدأ الحكم الحقيقي للمسلمين في الهند؛ إذ تحول الفاتحون إلى الاستقرار والإقامة الدائمة في البلاد التي فتحوها، وأخذ الإسلام ينتشر بين شعوب شبه القارة الهندية.

وكان سلطان "محمد الغوري" قد امتد من "البنغال" شرقًا، إلى آخر حدود البنجاب غربًا.

وأذن الله جل جلاله أن يقع هذا المجاهد البطل الحكيم صريعًا شهيدًا؛ إذ اغتاله أحد الهنادكة عند نهر "جهلم" وهو في طريقه من "لاهور" إلى "غزنة" في شهر شعبان سنة "602هـ".

- وخلفه في الحكم مماليكه الذين جعلهم قواد جيشه وخاصته، وفي مقدمتهم "قطب الدين أيبك" الذي نصب نفسه سلطانًا على الهندستان سنة "602هـ" عقب وفاة مولاه السلطان "محمد الغوري" وكان هذا مملوكًا لقاضي "نيسابور" وقد تعلم مع أولاده علوم القرآن الكريم والسنة المطهرة، ونبغ في ركوب الخيل والفروسية، واشتهر بالشجاعة والمروءة والوفاء، ثم بيع هذا المملوك إلى أحد التجار بعد وفاة سيده القاضي، فعرضه التاجر على السلطان "محمد الغوري" فاشتراه. وأعجب به السلطان حتى جعله من مقدمي قواده، وكان وفيًّا للسلطان في أشد أزماته، فكافأه السلطان بتثبيته نائبًا له على سلطانه في شبه القارة الهندية.

11-

وبحكم "قطب الدين أيبك" بدأ عهد المماليك، واشتهر "قطب

ص: 618

الدين" بإقرار الأمن في جميع البلاد، وبحسن سياسته، وحرصه على إقامة العدل بين الناس.

- واهتمامًا منه بتأسيس مراكز نشر الإسلام وعلومه بنى مسجدين جامعين كبيرين، أحدهما في مدينة "دهلي" والآخر في مدينة "آجمير".

ولكن لم يطل عهد سلطانه؛ إذ سقط عن جواده سنة "607هـ" فوافته منيته.

12-

فخلفه أحد قواده "شمس الدين التمش" وكان من مماليكه وأصهاره.

- واستقل قائده "قباحة" بـ"الملتان" و"السند" وتولى "الخلجيون" الأمر في "بهار" و"البنغال" وكانوا من رجال السلطان "محمد الغوري".

13-

ثم تولى سلطنة الهند "فيروز تغلق" من سنة "752هـ" إلى سنة "790هـ".

وكان هذا السلطان عادلًا رحيمًا شغوفًا بالإصلاح الحضاري، وإعمار المنشآت الحضارية، كالمستشفيات، ودور العلم، وتيسير سبيل قدوم علماء المسلمين إلى بلاده للتعليم، وكان من بينهم "جلال الدين الرومي".

- وقد أقام هذا السلطان الحكيم العادل ثلاثين مدرسة جامعة، لدراسة العلوم الإسلامية والكونية، بغية نشر العلم وتخريج العلماء، والدعوة إلى الإسلام.

وبلغت منشآت هذا السلطان الحضارية قرابة "900" ما بين مدارس ومستشفيات، ورباطات، وقصور، وحمامات.

وأنشأ ثلاث مدن كبيرة بالقرب من "دهلي" وهي: مدينة "فيروز آباد" ومدينة "فتح آباد" ومدينة "جونبور". اعتنى بإنشاء الحدائق الكثيرة التي بلغت قرابة ألف حديقة.

14-

وأذكر أخيرًا أن الرحالة "ابن بطوطة" ذكر عن الهند أنه وجد بمدينة "هناور" ثلاثة عشرة مدرسة للبنات، وثلاثًا وعشرين مدرسة للصبيان.

ص: 619

- وأذكر أيضًا أن المبشرين بالنصرانية، وضعوا في حسبانهم مع بدء أعمال التنصير في بلدان العالم الإسلامي الهند هدفًا عظيمًا، ونظروا إلى الجامعة الإسلامية في مدينة "عليكرة" باهتمام بالغ، لإحاطتها بأعمال التنصير.

- وأذكر أيضًا اهتمام المسلمين في الهند بإنشاء المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية التي تمول من أيدي المحسنين، ومن كبريات هذه الجماعات "ندوة العلماء" التي يرأسها اليوم العلامة الداعية والكاتب الإسلامي الشهير "الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي" وهذه الجامعة مهتمة بالعلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية، وهي تعقد بين حين وآخر مؤتمرات وندوات، وتدعو إليها كبار علماء العالم الإسلامي، وكبار ذوي الفكر والقلم، ومن الندوات المهمة التي عقدتها ندوة خاصة بالأدب الإسلامي، ونتج عنها تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وندوة خاصة بالدعوة إلى الله.

- وظهر في شبه القارة الهندية جمهور كبير من العلماء الأجلاء الفضلاء، الذين حملوا راية العلم الإسلامي، وراية اللغة العربية، وعملوا على نشرهما، وكانوا هم الذين قادوا حركات الجهاد الإسلامي ضد الكفر والكافرين، وبهم ظهرت في الهند نهضة علمية كبيرة، ولا سيما في الحديث النبوي الشريف.

- ولا أنسى أن أنوه بجماعة "التبليغ" التي قامت في الهند بفضل توجيه علماء المسلمين واهتماماتهم البالغات بشئون الدعوة إلى الله.

ص: 620