الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما
المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه
1-
مقدمة:
نشأ الفقه الإسلامي، وهو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمدة من أدلتها التفصيلية" نشأة إسلامية فذة، بدءًا بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فعصر الخلفاء الراشدين، فمن بعدهم، حتى ظهور الأئمة المجتهدين الذين قيض الله لهم من تلاميذهم من دون آراءهم الفقهية، ومذاهبهم ومن توسعوا في الاجتهاد ضمن أصول ومناهج الأئمة للتوصل إلى استنباط حكم شرعي لكل ما يتطلب حكمًا شرعيًّا من سلوك الناس الإرادي في الحياة.
حتى كانت للأمة الإسلامية ثروة فقهية عظيمة، في مدونات جليلات مدهشات، منها الموسع المفصل المبسوط والمقرون بالأدلة، ومنها المتوسط، ومنها الموجز المختصر، ومنها الشروح والتعليقات والتقريرات والحواشي، ومنها الجامع لآراء المذاهب ومناقشاتهم وجدلياتهم وأدلتهم في آرائهم الفقهية المختلفة.
ولم يؤسس المسلمون هذا العلم العظيم، المبين لأحكام السلوك الإنساني الإرادي، مستفيدين ولا معتمدين على أحد ممن سبقهم من الأمم، بل كانت عمدتهم فيه استنباط الأحكام من مصادر التشريع الإسلامي.
ومن المعلوم المتداول عند العلماء بالقوانين الواضعية في العالم، أن الفقه الإسلامي قد كان هو القاعدة المنهجية التي اعتمد عليها واستفاد منها المقننون الفرنسيون، مع العلم بأن فرنسا هي أم القانون المدني الغربي، فقد جاءت لجان التقنين الفرنسي إلى بعض عواصم العالم الإسلامي، لدراسة الفقه الإسلامي والاستفادة من طرائق الفقهاء المسلمين في النظر إلى القضايا الإنسانية، وعلاقات
الناس في معاملاتهم، وإدراك الحقوق والمصالح الإنسانية، واستنباط الأحكام الشرعية الملائمة لها. ولما درسوا أحكام فقه المعاملات ودرسوا علم أصول الفقه الإسلامي، وعرفوا من الإسلام مناهج التقنين، واكتسبوا ملكة وضع القوانين، رجعوا إلى بلادهم يضعون بآرائهم قواعد الحقوق، وأصول التقنين، ملاحظين المصالح التي يهمهم ملاحظتها لدى وضع المواد القانونية، ثم أخذوا بالاستناد إلى ذلك يضعون القوانين المدنية.
وقد مر الفقه الإسلامي في عدة مراحل، أذكر منها فيما يلي بإيجاز:"الفقه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، الفقه في عصر الصحابة، الفقه في عصر التابعين، الفقه في عصر تابعي التابعين وتكون المذاهب الفقهية".
2-
الفقه الإسلامي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:
1-
كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته هو المرجع الأول للفتاوى في أحكام الفقه الإسلامي، وكان يعتمد فيما يفتي فيه على ما يوحى إليه، وعلى ما يفهمه من كتاب الله عز وجل، وكل ما أذن الله له به من تشريع، أو اجتهاد يجتهده، فإذا كان اجتهاده مطابقًا لما هو الأكمل والأحسن في علم الله أقره الله عز وجل عليه، ولم يتابعه فيه معدلًا ولا معاتبًا، وإن كان اجتهاده في القضية دون ذلك أرشده الله إلى ما هو الأهدى والأقوم والأكثر صوابًا، وربما عاتبه؛ إذ لم يأخذ بما هو الأكمل والأحسن.
2-
وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على بعض ما فهموا من كتاب الله من أحكام، وهذا يتضمن الإذن للمؤهلين منهم بفهم الأحكام من القرآن واستنباطها، والإذن لهم باستنباط الأحكام من أقوال الرسول التي حفظوها منه، مع العمل بما جاء فيها صريحًا واضحًا لا يحتاج إلى استخراج واستنباط.
وأذن الرسول للمؤهلين من أصحابه بأن يجتهدوا لاستنباط الأحكام الشرعية برأيهم، قياسًا على الأشباه والنظائر، أو استبصارًا بمقاصد الشريعة وأحكامها، كلما اضطرهم الأمر إلى الاجتهاد؛ إذ يكونون بعيدين عنه، ولا يستطيعون التريث لمعرفة الحكم منه مباشرة.
يضاف إلى هذا تدريبهم على الاجتهاد، واستعمال ما لديهم من قدرات الفهم واستنباط الأحكام.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوب من أصاب باجتهاده من أصحابه، ويرد من أخطأ إلى وجه الصواب؛ إذ كانوا يعرضون عليه فتاواهم أو تصرفاتهم التي اعتمدوا فيها على اجتهاداتهم الخاصة بعد مرور الحوادث التي اجتهدوا فيها.
وقد برز طائفة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في علوم الدين وحفظ مسائله، وفي فهم نصوص القرآن والسنة، وفي معرفة مقاصد الشريعة، وفي استنباط الأحكام الفقهية، واثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على بعضهم في حياته.
3-
الفقه الإسلامي في عصر الصحابة رضوان الله عليهم:
كان الذين برزوا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في علوم الدين ومعرفة مسائل الفقه، وأحكام الشريعة وفي استنباط الأحكام، هم الذين يرجع إليهم في الفتاوى التي تختلف فيها وجهات النظر، مما لم يكن معلومًا عند جمهور الصحابة حكمه.
وكانوا يرجعون إلى صريح القرآن، أو إلى الفهم منه استنباطًا، وإلى صريح أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أو الفهم منها استنباطًا، أو إلى الاجتهاد بالرأي الذي سبق بيانه.
وقد بلغ الذين حفظت عنهم الفتوى من الأصحاب والصحابيات قاربة نيف وثلاثين ومائة، كما ذكر ابن القيم.
وكان منهم المكثرون في الفتوى، وكان منهم المتوسطون، فيها، وكان منهم المقلون.
- فالمكثرون منهم في الفتاوى سبعة وهم:
1-
عمر بن الخطاب رضي الله عنه "40ق. هـ-23هـ".
2-
علي بن أبي طالب رضي الله عنه "23ق. هـ-40هـ".
3-
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "000-32هـ".
4-
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها "9ق. هـ-58هـ".
5-
زيد بن ثابت رضي الله عنه "11ق. هـ-45 هـ".
6-
عبد الله بن عباس رضي الله عنه "3ق. هـ-68هـ".
7-
عبد الله بن عمر رضي الله عنه "10ق. هـ-73هـ".
- والمتوسطون منهم في الفتاوى، وهم:
1-
أبو بكر الصديق رضي الله عنه "51ق. هـ-13هـ".
2-
أم سلمة "هند بنت سهيل" أم المؤمنين رضي الله عنها "28ق. هـ-62هـ".
3-
أنس بن مالك رضي الله عنه "10ق. هـ-93 هـ".
4-
أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك رضي الله عنه "10ق. هـ-74هـ".
5-
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه "21ق. هـ-59هـ".
6-
عثمان بن عفان رضي الله عنه "47ق. هـ-35 هـ".
7-
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه "7ق. هـ-65 هـ".
8-
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه "1هـ-73هـ".
9-
أبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس رضي الله عنه "21ق. هـ-44هـ".
10-
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "23ق. هـ-55هـ".
11-
سلمان الفارسي رضي الله عنه "000-36 هـ".
12 جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه "16ق. هـ-78هـ".
13 معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنه "20ق. هـ-18 هـ".
- والمقلون منهم في الفتاوى هم الباققون؛ إذ لم يرد عن الواحد منهم إلا الفتيا في بعض المسائل، وقد لا تتجاوز مسألة أو مسألتين.
4-
الفقه الإسلامي في عصر التابعين:
تورع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الفتوحات الإسلامية، في كثير من أقاليم العالم الإسلامي يومئذ، وقد تتلمذ على علماء الصحابة وفقائهم كثير من عشاق المعرفة والعلم الإسلامي من التابعين لهم بإحسان.
- فمن علماء الصحابة وفقهائهم الذين استقروا في المدينة المنورة: "عمر بن الخطاب، وابنة عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت" رضي الله عنهم. وقد أخذ عنهم من التابعين المقيمين في المدينة المنورة، أو الزائرين لها عدد وفير، تلقوا منهم علمًا غزيرًا، وفقهًا كثيرًا.
- ومن علماء الصحابة وفقهائهم الذين أقاموا بالكوفة: "علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود" رضي الله عنهما، وقد أخذ عنهما من طلاب العلم الإسلامي من سكان الكوفة أو زوارها تابعيون كثيرون.
- ومن علماء الصحابة وفقهائهم الذين أقاموا في الشام: "معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما، وقد أخذ عنهما من طلاب العلم الإسلامي من أهل الشام أو زوارها، تابعيون كثيرون.
- ومن علماء الصحابة وفقهائهم الذين أقاموا في مصر: "عبد الله بن عمرو بن العاص" وقد أخذ عنه من طلاب العلم الإسلامي من أهل مصر أو زوارها تابعيون كثيرون.
ومعظم الفقه الإسلامي انتشر في الأمة الإسلامية بعد عصر الصحابة، عن أصحاب عبد الله بن مسعود في العراق، وعن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر في المدينة، وعن أصحاب عبد الله بن عباس في مكة وما حولها.
وكثرت أسئلة المسلمين حول قضايا لم يجد فقهاء التابعين إجابة صريحة عليها، فيما أخذوه من علم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطروا أن يتوسعوا في الاستنباط والاجتهاد؛ عملًا بما فهموه من نصوص القرآن والسنة من وجوب قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، وإعطائها مثل الأحكام المنصوص عليها، ومن ضرورة العمل لاستنباط الأحكام التي يهدي إليها الرأي السديد لإحقاق الحق والعدل، ولتحقيق مصالح العباد على أحسن وجه وأكمله، استهداء بمقاصد الشريعة الإسلامية التي دلت عليها الأحكام المنصوص عليها، في القضايا التي جاء بيان أحكامها في القرآن الكريم، أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واجتهد الفقهاء الباحثون في استخراج الأحكام الفقهية واستنباطها، وقامت بينهم المناظرات حول الأدلة التي استندوا إليها، في المسائل التي اختلفت آراء المجتهدين في أحكامها.
وكان هذا العمل العلمي الاجتهادي ظاهرة حضارية عظيمة، في حدود مفهومات الشريعة الإسلامية، واستنباط الأحكام للقضايا المستجدة التي لم ينص عليها القرآن، ولم تنص عليها السنة ببيان صريح واضح، وإنما يمكن استنباط حكمها بالقياس على ما جاء فيهما، أو بإدراك مقاصد الشريعة التي دلت عليها الأحكام المبينة في الكتاب والسنة.
وقد برز بالفتيا في قضايا الفقه الإسلامي من أعلام التابعين، الملتزمين منهج الصحابة، عدد جم في مختلف بلدان العالم الإسلامي، في المدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، وفي الكوفة، وفي البصرة، وفي غيرها من الأمصار.
أولًا: من برز في المدينة
أما من برز في المدينة من التابعين الذين كانوا يفتون في مسائل الفقه الإسلامي فكثيرون، أشهرهم الفقهاء السبعة، وهم:
1-
"سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي 13-94هـ" كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، لم يدركه الإمام مالك، ولكنه أخذ عن تلميذه "ابن شهاب".
2-
"عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي 22-93هـ" كان أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وهو ابن أسماء أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وشقيق عبد الله بن الزبير.
3-
"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي القرشي 000-94هـ" كان من سادات التابعين، وكان يلقب براهب قريش، ولد في خلافة عمر، وكان مكفوفًا، وقد أخذ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتوفي في المدينة.
4-
"عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي 000-98هـ" روى عن عائشة وابن عباس وغيرهما، كان أستاذًا لعمر بن عبد العزيز، وكان له أثر في تفكيره واتجاهه.
5-
"خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري 29-99هـ" وقد تلقى علم أبيه، واشتهر بالرأي كما اشتهر أبوه، وكان على علم بالفرائض كأبيه.
6-
"القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه 37-107هـ" وهو ابن اخي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد نقل علمها، وقد كان فقيهًا راويًا للحديث، وكان فيه همة وكياسة.
7-
"سليمان بن يسار 34-107هـ" مولى ميمونة أم المؤمنين روى عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وأم المؤمنين ميمونة، وأم المؤمنين أم سلمة، وكان سعيد بن المسيب إذا أتاه مستفت يقول له: اذهب إلى سليمان، فإنه أعلم من بقي اليوم.
وقد نقل علم هؤلاء السبعة وغيرهم عالمان من صغار التابعين هما:
- ابن شهاب الزهري، وهو "محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي 58-124هـ".
- ربيعة الرأي، وهو "ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء 000-136هـ" كان إمامًا حافظًا فقيهًا مجتهدًا وكان بصيرًا بالرأي.
وقد أخذ الإمام مالك إمام دار الهجرة، العلم عن هذين الرجلين في المدينة.
ومن غير الذين عرفوا بالفقهاء السبعة في المدينة من التابعين، أتوه بالفقهاء التالية أسماؤهم:
1-
"سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب 000-106هـ".
2-
"عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب 000-147هـ".
3-
"أبان بن عثمان بن عفان 000-105هـ".
4-
"نافع المدني مولى عبد الله بن عمر 000-117هـ".
ثانيًا: من برز في مكة المكرمة
وأما أشهر من برز في مكة المكرمة من فقهاء التابعين فهم:
1-
عطاء بن أبي رباح، وهو "عطاء بن أسلم بن صفوان 27-114هـ" كان عبدًا أسود، ولد باليمن، ونشأ في مكة، فكان مفتي أهلها ومحدثهم.
2-
"طاوس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء 33-106هـ" من أكابر التابعين فقهًا في الدين ورواية للحديث، وجرأة في موعظة الخلفاء والملوك.
3-
"مجاهد بن جبير 21-104هـ" مولى بني مخزوم.
4-
"عمرو بن دينار الجمحي بالولاء 46-126هـ" كان مفتي أهل مكة.
ثالثًا: من برز في الكوفة
وأما أشهر من برز في الكوفة من فقهاء التابعين فهم:
1-
"علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الهمداني 000-62هـ" كان فقيه العراق، ويشبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هديه وسمته وفضله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث عن الصحابة، وقد سكن الكوفة وتوفي بها.
2-
"الأسود بن يزيد بن قيس النخعي 000-75هـ" كان عالم الكوفة وفقيهها في عصره.
3-
"مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني 000-63هـ" وهو تابعي ثقة فقيه، كان أعلم بالفتيا من شريح القاضي، من أهل اليمن وسكن الكوفة.
4-
"عبيدة بن عمرو "أو قيس" السلماني المرادي 000-72هـ" أسلم باليمن، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر، وسكن الكوفة، وتفقه روى الحديث، وكان يوازي شريحًا في القضاء.
5-
"شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي 000-78هـ" أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة "77هـ". كان ثقة في الحديث مأمونًا في القضاء، عمر طويلًا، ومات بالكوفة.
وبعد أعلام الطبقة الثانية أمثال: "حماد بن أبي سليمان، منصور السلمي، المغيرة الضبي، سليمان الأعمش" انتهت رياسة مدرسة الكوفة إلى أربعة أعلام، وهم:
1-
ابن أبي ليلى، وهو "محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى من بلال الأنصاري الكوفي 74-148هـ" قاض فقيه من أصحاب الرأي، ولي القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبني العباس، مات بالكوفة.
2-
شريك القاضي، وهو "شريك بن عبد الله بن الحارث النخعي الكوفي 95-177هـ" كان عالمًا بالحديث، وفقيهًا، اشتهر بقوة ذكائه وسرعة بديهته، استقضاه المنصور العباسي على الكوفة. كان عادلًا في قضائه، مولده في بخارى، ووفاته بالكوفة.
3-
ابن شبرمة، وهو "عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن حسان الضبي
…
-144هـ" كان فقيه العراق، وكان قاضي الكوفة.
4-
أبو حنيفة، وهو "النعمان بن ثابت، التيمي الكوفي 80-150هـ"
الفقيه المجتهد العبقري، إمام المذهب الحنفي المنسوب إليه، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، ولد ونشأ بالكوفة، رفض تولي القضاء ورعًا، فحبسه المنصور لرفضه تولي القضاء.
رابعًا: من برز في البصرة
وأما أشهر من برز في البصرة من فقهاء التابعين فهم:
1-
"الحسن بن يسار البصري 21-110هـ" كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك، ولد بالمدينة، وشب في كنف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسكن البصرة.
2-
"محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء 33-110هـ" تفقه وروى الحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا.
3-
"كعب بن سور الأزدي" قاضي البصرة، وليها لعمر وعثمان، كان من نبلاء الرجال وعلمائهم، قام يوم الجمل يعظ الناس ويذكرهم، فجاءه سهم غرب1 فقتله.
خامسًا: بعض البارزين في الأمصار الأخرى
وبرز في الأمصار الأخرى من الفقهاء آخرون، ومنهم:
1-
"الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء 94-175هـ" كان إمام أهل مصر في عصره حديثًا وفقهًا، أخباره كثيرة، وله تصانيف.
قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.
5-
الفقه الإسلامي في عصر ظهور الأئمة المجتهدين وتكون المذاهب الفقهية:
بعد عصر فقهاء التابعين ظهر في العالم الإسلامي تلاميذهم وهم فقهاء تابعي التابعين، وقد بدأ في هذا العصر ظهور الأئمة المجتهدين الكبار، وتكون
1 السهم الغرب هو السهم الذي لا يُدرى راميه.
المذاهب الفقهية المؤيدة بالأتباع من تلاميذهم الفقهاء، والمصحوبة بتدوين فقه هذه المذاهب.
- فتكونت بالعراق مدرسة فقهية ذات منهاج تستهدي به للتعرف على الأحكام الشرعية للسلوك الإرادي الإنساني في مختلف شئون الحياة وقضاياها.
وقد برز في الكوفة شيخ القياس الإمام العبقري أبو حنيفة النعمان بن ثابت "80-150هـ إمام المذهب الحنفي، أحد المذاهب الفقهية المعتمدة عند أهل السنة.
- ثم تكونت بالحجاز مدرسة فقهية ذات منهاج قد يلتقي وقد يفترق مع مدرسة العراق، وهي مدرسة تستهدي بمنهاجها للتعرف على الأحكام الشرعية للسلوك الإرادي الإنساني في مختلف شئون الحياة وقضاياها.
وقد برز في المدينة المنورة إمام دار الهجرة "مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري 93-179هـ" أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب المالكي.
طلب منه المنصور أن يضع كتابًا للناس يحملهم على العمل به فصنف كتابه المشهور: "الموطأ" وله مصنفات أخرى.
وقد أفردت ترجمته في مصنفات للسيوطي، ولأبي زهرة، ولأمين الخولي.
وقد قيض الله له تلاميذ دونوا آراءه في مسائل الفقه حتى كانت مذهبًا منفصلًا.
- ثم تكونت بالشام مدرسة ثالثة قد تلتقي وقد تفترق في منهاجها مع مدرسة العراق.
وقد برز في الشام الإمام الأوزاعي، وهو "عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع 88-157هـ" إمام الديار الشامية في الفقه، نشأ في البقاع، وسكن ببيروت وتوفي بها.
له كتاب "السنن" في الفقه، وكتاب "المسائل".
إلا أن الله عز وجل لم يقيض لمذهبه من يقوم به وينشره، ويدونه.
- وكان للشيعة مدارسهم الفقهية المنفصلة بمناهجها عن مناهج فقهاء أهل السنة، ودون تلاميذ كل إمام من أئمتهم آراءه الفقهية، حتى كانت مذهبًا مدونًا.
- وكان للخوارج مدرستهم الفقهية التي تهيأ لها من يدونها مذهبًا منفصلًا.
- وبرز في مصر الليث بن سعد، وقد سبقت ترجمته آنفًا، ولكن لم يدون أتباعه مذهبه.
- ثم برز الإمام الشافعي، وهو "محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي 150-204هـ" أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب الشافعي.
برز أولًا في العراق، ثم انتقل إلى مصر وبرز فيها، وقد قيض الله له تلاميذ دونوا آراءه في مسائل الفقه، حتى كانت مذهبًا منفصلًا، وتوفي بمصر.
برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث، وأفتى وهو ابن عشرين سنة، وقد كان ذا ذكاء فذ، وحافظة نادرة. وله تصانيف كثيرة، أشهرها كتاب "الأم" في سبع مجلدات، جمعه تلميذه البويطي.
وقد أفردت كتب كثيرة لترجمته وتفصيل سيرة حياته.
- ثم برز الإمام أحمد بن حنبل في العراق، وهو "أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني الوائيل 164-241هـ" أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه يُنسب المذهب الحنبلي. ولد ببغداد، وطلب العمل وحفظ الحديث، ورحل رحلات كثيرة في طلب العلم، له مصنفات كثيرة أشهرها كتابه "المسند" في ستة مجلدات مضغوطة.
وقد قيض الله له تلاميذ دونوا آراءه في مسائل الفقه، حتى كانت مذهبًا منفصلًا.
وتميزت مذاهب الأئمة الثلاثة "مالك، والشافعي، وأحمد" بشدة التحري
بحثًا عن السنة النبوية، لاستنباط الأحكام الفقهية منها ومن القرآن، دون إهمال القياس وسواء في الاجتهاد الذي يعتمد على الرأي المستهدي بهدي القرآن والسنة في الأصول التي يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام.
وتميز مذهب الإمام أبي حنيفة -مع اعتماده على استنباط الأحكام من القرآن وما بغله من السنة- بشدة إعمال الرأي في قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، وإعطاء المقيس حكم المقيس عليه، وبشدة التعمق الفكري بغية إدراك الحق وتحقيق العدل، وبغية إدراك المصالح والمفاسد التي اقتضت حكمة الشارع أن تجعلها هي الأساس فيما يأمر به أو ينهى عنه أو يضع له من أحكام، ولا شك أن هذا المنهج له مستند من القرآن والسنة، وربما كان أكمل لو أضيفت إليه الأدلة التي لم تبلغ الإمام أبا حنيفة وأصحابه من السنة النبوية.
أما التكاليف التعبدية التي قد يستوي في مدارك الناس المأمور به منها ونظيره، وقد يستوي في مدارك الناس المنهي عنه منها ونظيره، والغرض من هذه التكاليف مجرد امتحان الطاعة وتدريب المؤمنين عليها، مع اقتران ما اختاره الشارع من تكليف بالفعل أو بالترك بحكم معقولة، قابلة للاستخراج والاستنباط من قبل أهل الفكر والرأي، الذين يبحثون بعمق وبصيرة، فالحق فيها اتباع السنة على ما صح من بيانها، أو كان كافيًا للاحتجاج به، سواء أدركنا الحكمة أم لم ندركها.
- وانفر داود الظاهري، وهو "أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني 201-270هـ" الملقب بالظاهري، وإليه تنسب الفرقة الظاهرية بالإعراض عن الرأي والقياس، والأخذ بظاهر الكتاب والسنة، وكان أول من جهر بهذا القول، وهو أصبهاني الأصل من أهل قاشان، ولد في الكوفة، وسكن بغداد، وتوفي بها.
وتبعه في ظاهريته الإمام ابن حزم، وهو "علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري 384-456هـ" عالم الأندلس في عصره، وكان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه، يقال لهم:"الحزمية". ولد بقرطبة، له مصنفات كثيرة، وقد حمل حملة شعواء على أهل الرأي والقياس، وكتب كتبًا في إبطال القياس