المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم - الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌فاتحة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌فاتحة كتاب؛ "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري

- ‌المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري

- ‌المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري

- ‌الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات

- ‌الباب الأول: البناء الفكري للحضارة الإسلامية

- ‌الفصل الأول: الحق والباطل

- ‌الفصل الثاني: الخير والشر

- ‌المقولة الأولى: تعريفات للخير والشر

- ‌المقولة الثانية: من أسس الحضارة الإسلامية "مبدأ فعل الخير والعمل على نشره، وترك الشر والعمل على قمعه

- ‌المقولة الثالثة: مفاهيم عامة تشتمل عليها حدود الخير والشر

- ‌المقولة الرابعة: الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية

- ‌المقولة الخامسة: فلسفة الإسلام في الوسائل والغايات

- ‌المقولة السادسة: فلسفة الإسلام فيما يجري به القضاء والقدر من نعم ومصائب

- ‌الفصل الثالث: العالمية والشمول في رسالة الحضارة الإسلامية

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الحضارة الإسلامية منفتحة الحدود

- ‌انفتاح الحدود الفكرية

- ‌ انفتاح الحدود النفسية:

- ‌ انفتاح الحدود المادية:

- ‌الفصل الرابع: المثالية والواقعية

- ‌المقولة الأولى: تعريفات وبيانات عامة للمثالية والواقعية

- ‌المقولة الثانية: شرح المثاليات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌المقولة الثالثة: شرح الواقعيات في أسس الإسلام الحضارية

- ‌مدخل

- ‌شرح الأمر الأول: التكليف ضمن حدود الطاقة الإنسانية

- ‌شرح الأمر الثاني: رفع التكليف في أحوال النسيان والخطأ والإكراه التي لا يملك الإنسان دفعها

- ‌شرح الأمر الثالث: مراعاة مطالب الفكر والنفس والجسد الإنسانية

- ‌شرح الأمر الرابع: مراعاة حال واقع المجتمعات الإنسانية

- ‌شرح الأمر الخامس: مراعاة واقع حال الضعف البشري

- ‌جدليات حول المثاليات والواقعيات الإسلامية:

- ‌الباب الثاني: وسائل بناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا

- ‌مقدمات عامة:

- ‌الفصل الأول: التعلم والتعليم

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: الدفع الإسلامي إلى التعلم والتعليم

- ‌المقولة الثانية: إجمال طرق تحصيل المعارف المختلفة

- ‌المقولة الثالثة: تكريم الإنسان بأدوات التعلم ومسؤوليته بالنسبة إليها

- ‌المقولة الرابعة: مكافحة الإسلام التقليد الأعمى

- ‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السادسة: نظرات من خلال النصوص الإسلامية حول اكتساب المعارف والعلوم

- ‌المقولة السابعة: منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية

- ‌المقولة الثامنة: البحث العلمي والإيمان

- ‌المقولة التاسعة: مكانة العلماء في الإسلام

- ‌الفصل الثاني: تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: موقف الإسلام من تطبيق العلم بالعمل

- ‌المقولة الثانية: قواعد العمل في الإسلام

- ‌المقولة الثالثة: موقف الإسلام من العمل الصناعي والعمراني والاختراع والابتكار

- ‌المقولة الرابعة: دفع شبهات

- ‌الفصل الثالث: التربية

- ‌الفصل الرابع: الجدال بالتي هي أحسن

- ‌المقولة الأولى: تعريف بالجدال بالتي هي أحسن وبيان لطائفة من قواعده العامة

- ‌المقولة الثانية: أمثلة جدالية من القرآن الكريم

- ‌الفصل الخامس: إقامة الحكم الإسلامي

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الأولى: البيعة وواجبات الحاكم والمحكوم

- ‌المقولة الثانية: فلسفة الحكم الإسلامي

- ‌المقولة الثالثة: الموظف المسلم ومسؤولياته

- ‌الفصل السادس: الجهاد في سبيل الله بالقتال

- ‌المقولة الأولى: مقدمات عامة

- ‌المقولة الثانية: الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال

- ‌المقولة الثالثة: الروح المعنوية لدى المقاتلين من حملة الرسالة الربانية

- ‌المقولة الرابعة: الجهاد بالقتال في تاريخ بناة الحضارة الإسلامية

- ‌الباب الثالث: صور ونماذج من تطبيقات المسلمين الحضارية في مختلف المجالات العلمية والعملية

- ‌الفصل الأول: تلقي القرآن وتدوينه وتدبره

- ‌المقولة الأولى: تلقي القرآن وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم التفسير

- ‌الفصل الثاني: السنة النبوية المطهرة

- ‌المقولة الأولى: السنة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المقولة الثانية: السنة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الثالثة: السنة بعد القرن الأول الهجري

- ‌المقولة الرابعة: حركة التصنيف الكبرى للسنة وزواتها

- ‌الفصل الثالث: أثر القرآن والسنة في ابتكار كثير من العلوم الإسلامية

- ‌الفصل الرابع: تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية

- ‌الفصل الخامس: تأسيس علم الفقه الإسلامي، وعلم أصوله، وتدوينهما

- ‌المقولة الأولى: تأسيس علم الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌المقولة الثانية: تأسيس علم أصول الفقه الإسلامي وتدوينه

- ‌الفصل السادس: نشأة علمي التاريخ والجغرافية والتدوين فيهما

- ‌المقولة الأولى: نشأة علم التاريخ البشري والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌المقولة الثانية: نشأة علم الجغرافية والتدوين فيه لدى المسلمين

- ‌الفصل السابع: اهتمام المسلمين بالعلوم التي تتعلق بآيات الله في الكون وأدواتها العقلية والتجريبية

- ‌المقدمة:

- ‌المقولة الثالثة: الكيمياء

- ‌المقولة الرابعة: الفلاحة والنبات

- ‌المقولة الخامسة: الحيوان

- ‌الفصل الثامن: عناية المسلمين بالعلم والتعليم والتربية على الفضائل الإسلامية خلقا وسلوكا

- ‌النشأة والتأسيس

- ‌ العلم والتعليم والتربية في بلاد الشام:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أيام العباسيين في العراق والأقاليم حوله:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في مصر:

- ‌ العلم والتعليم والتربية في أقاليم المغرب من بلدان العالم الإسلامي:

- ‌كلمة موجزة عن أندنوسيا

- ‌ تعرض حضارة المسلمين لقتل علمائها وإبادة مصنفاتها من قبل همج الشرق ونصارى الإسبان:

- ‌الفصل التاسع: نظرات موجزات حول تطبيقات حضاريات مختلفات قام بها المسلمون

- ‌ مقدمة:

- ‌ الواقع الاقتصادي:

- ‌ المالية العامة:

- ‌ التنظيمات الإدارية:

- ‌ القضاء:

- ‌ نظام الحسبة ووظيفة المحتسب:

- ‌ التدبيرات العسكرية:

- ‌ العمران:

- ‌ الخط العربي

- ‌ الصناعات الخزفية:

- ‌ الصناعات الزجاجية:

- ‌ صناعة النسيج:

- ‌الباب الرابع: لمحات من أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات الإنسانية الأخرى

- ‌ مقدمة:

- ‌ من أقوال المنصفين:

- ‌تتبعات تاريخية مفصلة جاءت في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب

- ‌ واقع حال أوروبة والغرب كله إبان ازدهار حضارة المسلمين:

- ‌ أثر حضارة المسلمين في همج الشرق الفاتحين المدمرين:

- ‌خاتمة كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها

- ‌خاتمة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:

- ‌فهرس الكتاب:

- ‌آثار المؤلف

الفصل: ‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

‌المقولة الخامسة: تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم

لدى تفصيل طرق اكتساب المعارف والعلوم لا بد لنا من أن نُخصي الطرق التي يسلكها الناس بشكل عام، لنعرف ما هو سليم منها ومقبول، وما هو فاسد ومرفوض.

لا بد لنا من معرفة أن الحضارة الإسلامية لم تقبل من الطرق إلا ما كان منها مؤذيًا إلى يقين أو ظن راجح، ولم تقبل في أسس العقائد إلا ما جاء من طريق اليقين، أما ما يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء فإن الحضارة الإسلامية ترفضه رفضًا باتًّا، ولا تقبل بحال من الأحوال أن يكتسب الناس معارفهم بشيء من ذلك.

وبهذه اللمحة الإجمالية يتضح لنا أن الطرق ثلاثة:

الطريق الأول:

الطريق المنطقي السليم وهو ما يسلك مسالك اليقين الذي لا يقبل احتمال الخطأ.

الطريق الثاني:

الطريق المقبول بوجه عام، مع ملاحظة أنه قد يحتمل الخطأ، وهو ما يسلك مسالك الظنون الراجحة.

ص: 289

الطريق الثالث:

الطريق المزيف المرفوض، وهو ما يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء، وكل فكرة تعبر إلى فكر الإنسان من هذا الطريق إنما هي فكرة مرفوضة وإن كانت قد تحتمل الصواب توهمًا؛ لأن المعارف والعلوم لا يصح أن نثبتها بمجرد التوهم، أو التخيل، أو الشك، أو التقليد، ما لم تدعم ذلك أدلة تثبتها بيقين، أو بظن راجح على أقل تقدير.

وفيما يلي شرح لهذه الطرق:

الطريق المنطقي السليم:

هو الطريق الذي يوصل إلى علم يقيني في أي أمر من الأمور الحسية أو غير الحسية، من عالم الشهادة أو من عالم الغيب. ولهذا الطريق مسالك أهمها المسالك التالية:

الأول: مسلك الإدراك الحسي القاطع الذي يفيد العلم اليقيني.

الثاني: مسلك الاستدلال العقلي الذي يفيد العلم اليقيني.

الثالث: مسلك الخبر الصادق الذي يفيد العلم اليقيني.

وفيما يلي معالجة لهذه المسالك بيان يوضح حقيقتها، ويعرض طائفة من أمثلتها.

أ- أما مسلك الإدراك الحسي القاطع، فهو المسلك الذي يعتمد على ما تنقله الحواس الظاهرة والباطنة فينا، من صور الأشياء والمعاني المنبثة في الوجود، إلى ساحة الإدراك الفكري، وبتكرار نقل هذه الصور مع اليقين بسلامة الحواس من الخلل، وشهادة توافق الناس في الإحساس نفسه، تغدو هذه الصور حقائق ثابتة من خزائن المعارف الفكرية لدينا.

ومن أمثلة ذلك علمنا بذواتنا، وبالأرض وبالسماء من حولنا، وبما نحسه فيهما من أجسام، وأشكال، وحركات، وسكنات، وألوان، وأصوات، وروائح، وطعوم، وحرارة، وبرودة، وخشونة، وملاسة، وصلابة، ولين، وثقل وخفة، وضغط وانفراج، ونحو ذلك مما نجسه بحواسنا الظاهرة.

ص: 290

ومن أمثلة ذلك أيضًا علمنا بما نحس به من لذة وألم، وانشراح وانقياض، وهو وأمل، واستحسان واستقباح، ومسرة وحزن، وحب وكراهية، وميل ونفور، وفرح وغيظ، ورحمة وشفقة وحنان، أو حقد ورغبة بالانتقام، وتفكر وتذكر وتخيل، ونحو ذلك مما نحسه في داخلنا بحواس باطنية فينا.

ومتى وصلت صورة الإدراك الحسي إلى درجة القطع والجزم بما أدركناه دخلت هذه الصورة ضمن الحقائق العلمية التي لدينا، بشرط أن تكون أجهزتنا التي أدركتها سليمة من الخلل، ويشهد بسلامتها أن يتفق جمع من الناس سليمي الحواس على هذه الصورة الحسية نفسها.

ب- وأما مسلك الاستدلال العقلي القاطع الذي يفيد العلم اليقيني فهو المسلك الذي يعتمد على العمليات العقلية التحليلية، والتركيبية، والقياسية، والاستنتاجية، مع استفادة العقل في كل ذلك مما نقلته الحواس إليه من صور الأشياء والمعاني المنبثة في الوجود.

وبعد عمليات التخليل والتركيب والقياس والاستنتاج القطعية تتبلور النتائج لدى العقل بصورة علم جديد.

ولا يقبل في هذا المسلك من مسالك الطريق المنطقي السليم إلا العمليات العقلية القطعية التي لا تحتمل الخطأ.

ونستطيع أن نلاحظ أن كثيرًا من علومنا ومعارفنا القطعية إنما اكتسبناها بهذا المسلك العقلي الجازم.

ومن أمثلة ذلك استنتاجنا العقلي بأن عدد الألف أكثر من عدد المائة، وأن كل الشيء أكبر من جزئه، وأن الشيء الواحد بالذات لا يمكن أن يكون في مكانين بآن واحد، وأن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون موجودًا ومعدومًا بشكل فعلي في وقت واحد، وأن حاصل ضرب عدد بعدد أو طرح عدد من عدد أو قسمة عدد على عدد يساوي كذا.

ومن أمثلة ذلك أيضًا كثير مما نستنتجه في حياتنا الدائمة من خلال بعض

ص: 291

الظواهر التي نحسها، كعلمنا بأن طارقًا ما طرق الباب علينا، حينما نسمع حلقة الباب تعطي صوتًا معينًا، وأن سببًا ما قذف الحجر حينما نرى الحجر مر في الفضاء واستقر في فناء الدار، وأن متعمدًا بَيَّت أمرًا ما حينما نرى انفجارًا وقع في مكان محروس لا توجد فيه متفجرات، وتحقق لدينا أنه لا يحتمل أن يكون من سبب آخر.

وظاهر أن هذه الاستنتاجات تعتمد على حقائق فكرية لدينا اكتسبناها من اختبارات طويلة الأمد في الحياة، مع فطرة مركوزة فينا، وهي أن المسببات لا بد لها من أسباب قد أثرت فيها.

ومن أمثلة ذلك أيضًا القوانين والقواعد الرياضية والهندسية، والقوانين والقواعد المنطقية، والقوانين الفلسفية، والسنن الكونية الثابتة، فهذه القوانين والقواعد والسنن قد تم استنتاجها عن طريق العقل، بعد الملاحظة والاختبار والتجربة الكافية لإثبات الحقائق القطعية.

ألسنا نلاحظ أن هذه الاستنتاجات العقلية في حدودها القطعية تفيدنا العلم اليقيني؟

ومن أجل ذلك كان هذا المسلك القاطع من المسالك التي تعتمد عليها الحضارة الإسلامية، وتوجه الناس لاكتساب معارفهم وعلومهم بها.

وهنا نلاحظ أن أصول الحضارة الإسلامية تلح على وجوب تتبع الظواهر الحسية بالملاحظة الدقيقة، وبالتجربة والاختبار، والاستقراء الشامل قدر الإمكان، لاستخلاص الحقائق الكامنة وراء الظواهر، واستنتاج القواعد العامة، والمعارف الكلية منها، إضافة إلى المعارف والعلوم الجزئية التي تقدمها لنا ظواهر الأشياء، بشكل مباشر، أو قريب منه.

ج- وأما مسلك الخبر الصادق القاطع الذي يفيد العلم اليقيني، فهو المسلك الذي يعتمد على شهادة المخبرين الصادقين الذين يستحيل عقلًا اتفاقهم على الكذب، أو يعتمد على شهادة نبي من الأنبياء المؤيدين من عند الله بالمعجزات الباهرات.

ص: 292

وهنا نلاحظ أنه قد يقوم برهان العقل على أن مخبرًا ما فردًا، كان أم جماعة صادق قطعًا فيما يخبر به، فيمر خبره على مراكز الإدراك، للتأكد من صورة الخبر، وفهم المراد منه، ثم ينتقل مباشرة فيكون علمًا يقينيًَّا.

الخبر المتواتر:

كلنا نعلم علمًا يقينيًّا بوجود بلاد معينة نائية عنا، وبوجود حيوانات معينة غريبة عن بلادنا، دون أن نرى هذه البلاد، وهذه الحيوانات، ودون أن نستطيع بطريق العقل استنتاج وجودها، وإنما وصلت إلينا الأخبار المتواترة بذلك.

وكذلك نعلم علمًا يقينيًّا بقيام الحرب الكونية الأولى ونحن لم نحضر هذا الحرب، ولم نشاهد وقائعها، وإنما علمنا بها عن طريق الأخبار المتواترة.

ولو جاءنا مكذب لهذه الحقائق لكذبناه أو استسخفناه بلا أناة؛ لأنه في نظرنا يكابر في إنكار الحقائق المشهود لها بأدلة لا تحتمل الرفض.

ومن هذا نرى أن الأخبار المتواترة تفيدنا العلم اليقيني بداهة، والأخبار المتواترة هي الأخبار التي ينقلها جمع من المخبرين يستحيل في العقل اتفاقهم على الكذب، ومن المستقر في نفوسنا أنه لا يمكن أن تتفق على صورة كذبة واحدة كثرة كاثرة من المخبرين اختلفت أحوالهم وتباينت أغراضهم، وهم في حالة لا يجمعهم فيها على الكذب جامع.

ولهذا نجد أنفسنا مضطرين عقلًا أن نقبل خبر الذين لا يمكن عقلًا اجتماعهم على الكذب، وأن نعتقد به حقيقة واقعة غير قابلة للشك، وإلا حرمنا أكثر العلوم والمعارف، وحرمنا إدراك أية حقيقة من حقائق التاريخ.

خبر الرسول:

ولقد ثبت لدينا عقلًا صدق خبر النبي فيما أخبر به عن الله تعالى، من أحكام وتشريعات، وفيما أخبر به من أمور الغيب، وثبت لدينا أيضًا أن خبره

ص: 293

يفيدنا العلم اليقيني قطعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشهود له من قبل الله بلسان حال المعجزة التي أجراها الله على يديه أنه صادق فيما أخبر به عن ربه؛ لأنه أخبر عن وحي، وكل ما يأتي به الوحي حق لا شك فيه؛ لأن الله تعالى منزه عن الكذب، ولا يمكن أن يأذن لملك من ملائكته بأن يكذب عليه جل وعلا.

وبهذا يتبين لنا أنه يجب عقلًا تصديق الرسول في كل ما أخبر به من أحكام الشريعة، ومن أمور الغيب؛ لأنه يفيد العلم اليقيني، سواء أخبر به في نص آية من كتاب الله أم أخبر به بكلام من عنده، لا فرق في ذلك مطلقًا.

فأصحاب الرسول الذين عاصروه ما كانوا يفرقون قط في التسليم بما يبلغه الرسول إليهم من أحكام وغيوب، بين آية قرآنية يرويها وبين حديث يقوله من عنده.

وأما بالنسبة إلينا فإذا لم نسمع من الرسول مباشرة بل سمعنا ممن رووا عنه -والذين رووا عنه ليسوا بمعصومين- وجدنا أنفسنا بحاجة إلى أن نفرق بين ما نقل إلينا عن الرسول بطريق متواتر يفيد العلم اليقيني، وبين ما نقل إلينا بطريق غير متواتر لا يفيد العلم اليقيني.

وبعد البحث والاستقرار رأينا أن كتاب الله تعالى الذي وصل إلينا بروايات القراء العشرة بكل ما فيه منقول إلينا بطريق التواتر الذي يفيد صدق النقل عن الرسول قطعًا، وهذا يفيدنا العلم اليقيني بأنه كلام الله تعالى قطعًا.

وأما أحاديث الرسول صلوات الله عليه فبضعها منقول بالتواتر الذي يفيد العلم اليقيني، وأكثرها منقول بما دونه، لهذا وجب علينا أن نفرق بينها، نظرًا لاحتمال الخطأ أو الكذب، فيما لا يتضمن منها إفادة العلم اليقيني بصدق الخبر، أي: لم ينقل إلينا بالتواتر اللفظي أو المعنوي.

المتواتر من الأخبار:

ما يرويه جمع عن جمع حتى مصدر الخبر يستحيل عقلًا تواطؤهم على الكذب في كل حلقات سلسلة الإسناد.

ص: 294

وسيأتي إن شاء الله تأييد هذا الكلام عن الأخبار، بالنصوص والشواهد القرآنية عند الكلام عن منهج الإسلام في الاعتماد على المستندات الإخبارية.

الطريق المقبول بوجه عام:

هو الطريق الذي يفيدنا ظنًّا راجحًا بتحقق ما توصلنا إليه من معارف بسببه، ولا يفيدنا علمًا يقينيًّا مقطوعًا به، بل تظل النتائج قابلة في عقولنا لاحتمال الخطأ ولو كان الاحتمال ضعيفًا.

ومسالك هذا الطريق المقبول مشابهة لمسالك الطريق المنطقي السليم، إلا أنها دونها في قوة إثبات الحقائق العلمية، وبما أننا لا نستطيع أن نثبت حقيقة علمية إلا بأدلتها، فإن المدركات الفكرية مهما كانت محببة لنا منوطة بأدلتها قوة وضعفًا، فإذا كان الطريق إليها طريقًا يقينيًّا، والدليل عليها دليلًا قاطعًا كانت حقائق يقينية في عقولنا، وإذا كان الطريق إليها طريقًا ظنيًّا، والدليل عليها دليلًا غير قاطع، لكنه قوي، كانت معارف ظنية مقبولة، إلا أنها تحتمل الخطأ نظرًا إلى دليلها غير القاطع. وقد تكون في واقع حالها من الحقائق الثابتة، إلا أنه ليس في أيدينا دليل على ذلك، وربما تكون أمرًا باطلًا، إلا أن عذرنا في الأخذ بها واعتمادها اعتمادًا غير قطعي، أن دليلها جعلها راجحة على الاحتمالات المضادة لها، ونحن مكلفون عقلًا وشرعًا أن نعمل بالراجح.

أما إذا كان الطريق إليها طريقًا ضعيفًا والدليل عليها دليلًا وهميًّا أو تخيليًّا أو تقليديًّا فإنها يجب أن تبقى في حدود الوهميات والتخيليات التي لا دليل عليها، وأن تظل قيد البحث والتتبع ما لم تقم الأدلة اليقينية على رفضها، فإنها عند ذلك يجب أن تنسخ من التوهم والتخيل نسخًا نهائيًّا، وتوضع مع أكوام المقطوع بنفيها.

وفي تفصيل مسالك الطريق المقبول الذي يفيدنا الظن الراجح، وتظل النتائج المدلل عليها به عرضة لاحتمال الخطأ، نلاحظ أن أهمها المسالك التالية:

ص: 295

المسلك الأول: مسلك الإدراك الحسي الذي لم يبلغ مبلغ التحقق الكامل، وذلك لنقص بعض شروط الإدراك الحسي التام، ولكنه يغلب على الظن صدقه. كأن تحصل رؤية سريعة لا تسمح بالتحقق الكامل، وكأن تكون الرؤية في ضوء غير كاف للتحقق الكامل، وكأن تكون مع الرؤية زوغان في البصر، إلى غير ذلك من أحوال، لا تستكمل فيها شروط الرؤية التامة.

ويقال نظير ذلك في حواس السمع والشم والذوق واللمس، وكذلك في الحواس الباطنة، فقد لا يكون الإنسان في حالة نفسية مستكملة شروط التحقق من إحساساته الوجدانية، فلا يستطيع أن يجزم جزمًا كاملًا بما أدرك منها، ولكنه قد يصل إلى درجة الظن الراجح، وهذا الظن الراجح كاف للعمل، إلا أنه يحتمل النقص ولو بنسبة ضعيفة، وذلك نظرًا إلى أنه قد كان منذ حصول الإدراك عرضة لاحتمال الخطأ.

المسلك الثاني: مسلك الاستدلال العقلي الذي لا يبلغ مبلغ التحقق الكامل من النتائج التي تحصلت به، ولكن فيه من القوة ما يفيد غلبة الظن بصحة ما تحصل به، وذلك نظرًا إلى الأدلة والأمارات التي أرشدت العقل إلى هذه النتائج.

ومن أمثلة ذلك ما تدل عليه الآثار والكتابات من أحوال الأمم السابقة وما تدل عليه آثار الجريمة التي تشير إلى شخص بعينه، وما تدل عليه ظواهر الأشياء من قوانين تتحكم بها، فإن مثل هذه الأدلة لا توصل العقل إلى درجة اليقين في كل ما تدل عليه، ولكنها قد توصله إلى درجة غلبة الظن.

ومن أمثلة ذلك في العلوم استخلاص القواعد الكلية من الاستقراءات الناقصات، والاختبارات والتجارب المحدودة، واستخلاص الأحكام الفقهية من الاستنباطات الاجتهادية، التي هي عرضة لاحتمال الخطأ، فإن مثل هذه الأدلة لا توصل في الغالب إلى درجة اليقين، ولكنها قد توصل إلى درجة غلبة الظن، ونتائج هذا المسلك مقبول في العمل، ما لم يأت ما هو أقوى منها، نظرًا إلى الاستدلال.

ص: 296

المسلك الثالث: مسلك الخبر الذي لا يبلغ مبلغ القطيعة، إلا أن احتمال الصدق فيه أقوى وأرجح من احتمال الكذب، كأن يروي الخبر رجل واحد صادق أو رجلان أو أكثر دون الحد الذي يفيد القطع والجزم بيقين، والخبر من هذا القبيل يفيد غلبة الظن بأنه حق وصدق، إلا أن غلبة الظن هذه لا تنفي احتمال الخطأ أو الكذب في الخبر نفيًا كليًّا، بل تجعله احتمالًا ضعيفًا.

ومن أمثلة ذلك شهادة شاهدين عدلين بحق من الحقوق المالية، فإن هذه الشهادة لا تفيد علمًا يقينيًّا قاطعًا بثبوت الحق المشهود به، ولكنها تفيد غلبة الظن، وغلبة الظن كافية لإثبات الحقوق بين الناس.

وبهذا البيان رأينا أن مسالك الظنون الراجحة لا توصل الإنسان إلى علم يقيني، وإنما قد توصله إلى ظن راجح.

الطريق المزيف المرفوض:

وهو الطريق الذي يسلك مسالك الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء، وهذا الطريق بكل مسالكه لا يفيد علمًا يقينيًَّا ولا ظنًّا راجحًا، ولكنه طريق يطرح بين يدي العقل فروضًا واحتمالات قابلة للبحث والتتبع وتجميع الأدلة حولها، وللعقل بعد البحث أن يجزم برفضها رفضًا نهائيًّا، أو يحكم بترجيح غيرها عليها، أو يتركها قيد البحث والمتابعة، ولن ترقى هذه الفروض والاحتمالات عن واقعها هذا ما لم تدعمها أدلة من مسالك اليقين، أو أدلة من مسالك الظن الراجح.

وكثير من الجهلة بطرق اكتساب المعارف والعلوم يسمحون لعقولهم بأن تتقبل الشكوك والأوهام والتخيلات والتقاليد العمياء، وتدخلها ضمن معارفها وعلومها الثابتة.

ولهذا الطريق مسالك مشابهة لمسالك طريقي اليقين والظن الراجح، وأنواع أخرى زائدة عليها تأتي من التوهم والتخيل المحضين، لكنها جميعًا لا تفيد علمًا

ص: 297

ولا معرفة مقبولة، ولو في أدنى حدود القبول، وذلك لأنها لا تحتوي على أدلة مرجحة، فضلًا عن أنها تحتوي على أدلة تفيد العلم اليقيني.

ومن أمثلة ذلك الفكرة التي كانت شائعة عند الفلاسفة في تعليل كيفية رؤية الأشياء بالأبصار؛ إذ إنهم كانوا يتوهمون أن الشعاع يتجه من الأبصار إلى الأشياء القابلة للرؤية، فإذا مسها ذلك الشعاع رأتها الأعين، فهذه الفكرة عند الفلاسفة ليس لها مستند من الدليل إلا مجرد التوهم والتخيل وترجيح أحد الاحتمالين المتساويين من دون مرجح، ولما جاء المسلمون صححوا هذه الفكرة بالدليل المرجح، فأثبتوا أن أشعة الأضواء الكونية هي التي تصطدم بالأشياء فتنعكس عنها فتراها الأعين، وجاءت العلوم الحديثة فأيدت ما أثبته المسلمون.

ومن أمثلة ذلك أيضًا ما يحدث لي ويحدث لغيري كثيرًا، نكون في محطة من محطات قطارات السكة الحديدية، فنركب أحد القطارات الواقفة، وفي جواره قطار آخر واقف أيضًا، فيسير القطار المجاور فنتوهم أن قطارنا هو الذي مشى، وقد يسير قطارنا فنتوهم أن القطار المجاور لنا هو الذي سار، فالذي يسمح لتوهماته أن تسيطر عليه دون أن يمتحنها بالدليل سيسجل ضمن معارفه الثابتة أوهامًا كثيرة يظنها علومًا، بيد أن المنطق السليم الذي رسم الإسلام لنا منهجه لا يقبل ذلك بحال من الأحوال.

وإذا استعرضنا معارف الأمم والشعوب القديمة والحديثة وجدنا فيها خرافات كثيرات، وأوهامًا لا حصر لها، وإذا تتبعنا أصول هذه الخرافات والأوهام وجدنا أن مصدرها مستند إلى توهم أو تخيل أو تزوير من مضلل ذي مصلحة، أو مستند إلى انحراف عن أصل صحيح، أو نحو ذلك، ثم استمرت هذه الخرافات والأوهام في أجيال تلك الأمم والشعوب بعامل التعصب المقيت، والتقليد الأعمى.

وأكثر الخرافات والأوهام انتشارًا في الشعوب تلك التي تدعمها نزعات سياسية معينة، سواء ظهرت بثوب معتقدات دينية، أم روايات تاريخية، أم أفكار واتجاهات إلحادية، أم مذاهب اجتماعية أم اقتصادية، وشياطين المصالح الخاصة هم الذين يزينون الأوهام والخرافات للناس، ويلبسونها الشعارات المحببة، بوساوسهم ودسائسهم، وذلك كي يسلموا بها ويعتقدوها، ويندفعوا لتأييدها جنودًا مطيعين، وبتأييدها والاندفاع وراءها ينال شياطين المصالح الخاصة ما يأملون من مال أو سلطان أو شهوات.

وحرصًا على سلامة الناس من الزيغ الفكري وضع الإسلام المنهج السليم لاكتساب المعارف والعلوم وحذر تحذيرًا شديدًا من اتباع الأوهام والخرافات، وأمر باجتناب كثير من الظن، وأثبت أن بعض الظن إثم.

ص: 298