الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها ـ معارضته لفتوى ابن عباس، فإنه كان يفتي من سأله عن حكم الطلاق بلفظ الثلاث بأنه يقع ثلاثاً. ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه.
ومنها ـ أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما تقدم لدينا. ويمكن أن يكون من روى «ثلاثاً» حمل «البتة» على معنى الثلاث، وفيه مخالفة للظاهر، والحديث نص في محل النزاع.
أدلة الجمهور
القائلين بوقوع ثلاث طلقات:
استدل فقهاء المذاهب الأربعة وموافقوهم على وقوع ثلاث طلقات بما يأتي من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس:
1ً - الكتاب: منه قوله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] فهو يدل على وقوع الثلاث معاً مع كونه منهياً عنه؛ لأن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] تنبيه إلى الحكمة من التفريق، ليتمكن من المراجعة، فإذا خالف الرجل الحكمة، وطلق اثنتين معاً، صح وقوعهما إذ لا تفريق بينهما، ثم إن قوله تعالى:{فلا تحل له من بعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] يدل على تحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين، ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار.
ومنه {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] إلى قوله تعالى: {وتلك حدود الله، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/ 65] والطلاق المشروع ما يعقبه عدة، وهو منتف في إيقاع الثلاث في العدة، وفيها دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ومن لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلاً، فقد ظلم نفسه.
ومنه آية {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] وغيرها من آيات الطلاق. تدل ظواهر هذه الآيات على ألا فرق بين إيقاع الطلقة الواحدة والثنتين والثلاث.
وأجيب: بأن هذه عمومات مخصصة، وإطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة الدالة على المنع من وقوع ما فوق الطلقة الواحدة.
2ً - السنة: منها حديث سهل بن سعد في الصحيحين في قصة لعان عويمر العجلاني، وفيه:«فلما فرغا قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم. وأجيب: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف محلاً مملوكاً له ولا نفوذاً.
ومنها ـ حديث محمود بن لبيد عند النسائي السابق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال:«أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟» هذا يدل على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً، ويلزم المطلّق بها، وإن كان عاصياً في إيقاع الطلاق بدليل غضب النبي عليه الصلاة والسلام.
وأجيب بأنه حديث مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت ولادته في عهده عليه السلام. وهذا مردود؛ لأن مرسل الصحابي مقبول.
ومنها ـ حديث ركانة بن عبد يزيد المتقدم أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والله ما أردتَ إلا واحدة؟» قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
(1) رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
وهو من أصرح الأدلة وأوضحها على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لقول ركانة واستحلاف النبي له على أنه لم يرد بلفظ (البتة) إلا واحدة، فهو يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت.
ونوقش الحديث بأنه حديث ضعَّف الإمام أحمد جميع طرقه، كما ذكر المنذري، وكذلك ضعفه البخاري، وأن قصة ركانة أنه طلقها البتة لا ثلاثاً.
ومنها ـ ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عبادة بن الصامت قال: «طلَّق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وتسعون، فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له» وأجيب بأن راويه ضعيف، وبأن والد عبادة بن الصامت لم يدرك الإسلام، فكيف بجدِّه؟
3ً - الإجماع: أجمع السلف على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً. وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة واحدة: أبو بكر الرازي والباجي وابن العربي وابن رجب.
وأجيب بأنه لم يثبت الإجماع، فقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه يجعل الثلاث واحدة، وبأن طاوساً وعطاء قالا:«إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، فهي واحدة» .
4ً -الآثار: نقل عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوقعوا الطلاق الثلاث ثلاثاً، منها ما روى أبو داود عن مجاهد، قال:«كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه ردها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، وإن الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق:2/ 65]، وإنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك» .
ومنها ـ ما روى مالك في الموطأ أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود، فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات، فقال: ما قيل لك؟ فقال: قيل لي: بانت منك، قال: هو مثل ما يقولون.
ومنها ـ ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: «أن رجلاً جاء إلى عثمان بن عفان، فقال: إني طلقت امرأتي مئة، فقال: ثلاث تحرمها عليك، وسبع وتسعون عدوان» .
وروى أيضاً: «أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: بانت منك بثلاث» .
وثبت مثله عن صحابة آخرين، وعن التابعين ومن بعدهم.
5ً - القياس: قال ابن قدامة (1): إن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً، فصح مجتمعاً كسائر الأملاك. وناقشه ابن القيم بأن المُطلّق إذا جمع ما أمر بتفريقه، فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه.
وقال القرطبي (2): وحجة الجمهور من جهة اللزوم ظاهرة جداً: وهو أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجاً غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعاً. ونوقش بأن من قال:(أحلف بالله ثلاثاً) لا يعد حلفه إلا يميناً واحدة، فليكن المطلق مثله. ورد عليه باختلاف الصيغتين، فإن عدد الطلاق ثلاث، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا.
والذي يظهر لي رجحان رأي الجمهور: وهو وقوع الطلاق ثلاثاً إذا طلق
(1) المغني: 105/ 7.
(2)
فتح الباري: 365/ 9.